مجلة المقتبس/العدد 10/وفاة عالم

مجلة المقتبس/العدد 10/وفاة عالم

ملاحظات: بتاريخ: 17 - 11 - 1906



فجع العلم هذا الشهر بفقد أحد أساطينه الحجة الثبت الشيخ أحمد أبو خطوة رجل العلم الراجح والفضل الجم. ولد طاب ثراه في بلدة كفر ربيع من أعمال المنوفية وكان والده من أوساط الناس وحفظة الكتاب العزيز فلما ترعرع تعلم ما أمكنه تعلمه في بلده وحفظ القرآن ثم أتى إلى القاهرة سنة 1279 وعمره قرابة خمس عشرة سنة لتلقي العلم في أزهرها فأخذ الفقه الحنفي عن الشيخ عبد الرحمن البحراوي والشيخ عبد الله الدرستاوي وحضر لأول أمره في مذهب المالكية على الشيخ الشعبوني وأخذ المعقولات عن الشيخ محمد البسيوني البيباني والشيخ أحمد الرفاعي الفيومي والشيخ حسن الطويل ولازم الأخير ملازمة متصلة فقرأ عليه المنطق والتوحيد والهندسة والأخلاق والتصوف والحكمة العالية القديمة وغيرها من العلوم التي لم تعهد قراءتها في الأزهر. واستمر على الاتصال بالشيخ الطويل وهو من أعظم فلاسفة المسلمين في هذا القرن بمصر حتى مضى هذا لسبيله كما استمر ملازماً الشيخ الدرستاوي حتى أتم عليه دراسة مذهب بأجمعه. هؤلاء هم مشايخ الفقيد الذين تخرج بهم ومنهم الشيخ الشربيني أيضاً.

وفي سنة 92 جاز الامتحان لنيل شهادة العالمية من الأزهر فحاز الدرجة الأولى وعد من نوابغ الأزهريين المتمكنين من الفروع والأصول الجامعين إلى المنقول والمعقول. ولقد أسعده الحظ بملازمة الشيخ الطويل فجاء منه رجل لم يجمد جمود الفقهاء ولم يطش طيش السفسطائيين من المتفلسفين. وكان متضلعاً من علمي الفقه والأصول يمزجهما معاً في درسه. وأكد لي عليم بأحواله أنه كان كنزاً مخفياً في هذين العلمين لم يعهد له فيهما قرين في علماء زمانه. درس زمناً طويلاً في الأزهر فانتفع الطلاب بعلمه وسعة مداركه وكثرة تحقيقه وكان مفتياً لديوان الأوقاف زمناً ثم عين قاضياً في المحكمة الشرعية في هذه العاصمة.

حدثني صديق له أنشأ معه وراقب سيره وسيرته أنه كان سريع الفهم سريع القراءة سريع الكتابة قوي العارضة متين الحجة بليغ القول حاد الذاكرة بيد أنه لم يكتب إلا نادراً لاشتغاله بمهام القضاء لما نضج علمه واشتد ساعده ولأنه كان بعيداً عن الظهور ولعل ذلك كان منه لحكمة اقتضتها التقية التي يضطر أكثر الموظفين في الحكومات الشرقية إلى اتخاذها شعارهم. ومن الأسف أن 99 في المائة من النوابغ في الشرق ينصرفون جملة واحدة إلى التوظف فلا يعود في وسعهم خدمة أمتهم وبلادهم الخدمة المتوقعة منهم وهم في إبان قوتهم وشرخ شبابهم ودور كهولتهم. والموظفون في معظم الأمم كالآلات بيد رؤسائهم لا يهمهم إلا رضاهم ويعدون ما وراء ذلك من الواجبات الاجتماعية.

كان يعد المرحوم من أخلص أصدقاء فقيد الإسلام الشيخ محمد عبده ونصيره في آرائه الإصلاحية سراً لا جهراً. ولما لغط بعضهم في مسألة الفتوى التي أفتى بها مفتي الديار المصرية المشار إليه جواباً على سؤال ورد إليه من الترنسفال في جواز لبس المسلم القبعات وضرب البقر بالبلط والذبح بدون تسمية وجواز صلاة الشافعية خلف الحنفية كان الفقيد في مقدمة من أيدوا الشيخ المفتي في فتواه وألف رسالة (إرشاد الأمة الإسلامية إلى أقوال الأئمة في الفتوى الترنسفالية) التي جمع بها من نصوص كتب المذاهب الأربعة ما دحض به آراء المخالفين المشاغبين فكانت من الأدلة على بعد غوره في الاطلاع على المذاهب وقد عرض ما جمعه على غير واحد من علماء كل مذهب فأجازوها فعزيت إلى جماعة مبهمين. وقيل أنه كتب في بعض الصحف اليومية مقالات لم تعز إليه لغرض اقتضى ذلك.

وعلى الجملة فقد كان الفقيد على شرط العلماء الأقدمين من الإلمام بأحوال زمانه فهو علمَ علم وحجة حكم وفهم ولو أتيح له أن يهتم بالعموميات لواد الانتفاع به. ومن أخلاقه أنه كان رزيناً وقوراً لين الجانب فكان إذا اجتمع بأكبر أعدائه يحسن لقاءه والتأدب معه ولم يجد له المنتقدون ما يتطرقون منه إلى انتقاده بما يشينه إلا ما كان من قبوله شفاعات أصدقائه مدفوعاً إلى قضاء حوائجهم بعامل المروءة العظيمة الناشئة عن شدة ثقته بهم واعتقاده الصدق في أقوالهم وما يقصدون إليه. فلا عجب بعد هذا إذا عد فقده خسارة كبرى على القضاء والعلم في هذه الديار. رحمه الله.