مجلة المقتبس/العدد 11/التعريب والترجمة

مجلة المقتبس/العدد 11/التعريب والترجمة

ملاحظات: بتاريخ: 16 - 12 - 1906



لا أصعب من تقييد الإنسان بأقوال غيره وأفعاله خصوصاً إذا كانت تخالف ما لقنه وألفه. وهذا مما يصح إطلاقه في الترجمة والنقل كما يصح في غيره. وذلك جاء في المثل الطلياني المترجم خائن لأنه لا يخلو في الجملة من الحياد عن الأصل وترك معان ربما كانت المقصودة بالذات من كاتبها الأول. ولقد انقسمت طرق التراجمة في الإسلام إلى قسمين فارتأى فريق أن التعريب وهو نقل المعاني المرادة بقالب عربي بحسب ما يقضي به ذوق الكاتب ويساعد عليه اللسان ولهجته خيرٌ من الترجمة أي النقل بالحرف والتزام ما قاله الكاتب الأصلي ولو لم ينطبق كل الانطباق مع ذوق اللغة المنقول إليها. والطريقة الأولى ألطف وأعذب والثانية أصدق وأمتن.

فالأولى طريقة يوحنا بن البطريق وابن الناعمة الحمصي وغيرهما والطريقة الثانية في التعريب طريقة حنين بن اسحق والجوهري وغيرهما وأقل ما في الأولى من الجهد أن بعض الألفاظ ليس لها ما يرادفها في لغة ثانية وأقل ما في الثانية من الراحة أنها لا تقيد الكاتب بالألفاظ. قال الصفدي وهذا الطريق أي الثاني أجود ولهذا لم تحتج كتب حنين بن اسحق إلى تهذيب إلا في العلوم الرياضية لأنه لم يكن قيماً بها بخلاف كتب الطب والمنطق والطبيعي والإلهي فإن الذي عربه منها لم يحتج إلى إصلاح.

ولقد رأيت معربات كثيرة ومترجمات نقل بعضها قديماً عن السريانية والرومية والفارسية والهندية والنبطية واللاتينية وحديثاً عن الإنكليزية والفرنسية والألمانية والتركية والروسية فاستنتجت منها أن بني لغتنا يستفيدون من التعريب بالمعنى والتحصيل أكثر من النقل بالحرف. وانتفع الناس بما لخصه الحكيم ابن رشد من كتب فلاسفة اليونان أكثر من انتفاعهم من الأصل وقد اعتمد الإفرنج نقله ولم يحاولوا تطبيق ما لخصه على الأصل حتى بعد أن ظفروا بالكتب المنقول عنها بحسب ما انتهى إليه عملنا. ولا يعفى معاني هذين الطريقتين في النقل من أن يكون ضليعاً من العلم الذي يكتب فيه آخذاً بقياد اللغة المنقول عنها وإليها.

وكلما تباينت آداب أمة عن أخرى وانفسح ما بينهما مجال الاختلاف في العادات والاجتماع صعب نقل شيءٍ من لغة إلى لغة ثانية. والفرق بين لغة شرقية ولغة غربية أكثر من الفرق بين لغتين شرقيتين أو لغتين غربيتين لما في تحكك المتجاورين من المجانسة في الأفك والمناحي. وعندي أنه لا غنية للناقل من لغة أوربية عن التلخيص مهما حاول أن يطبق مفاصل اللغة العربية على لغته فإن للغربية اصطلاحات قلما توافق ذوق لغتنا ولهم معان لا يفهمها من عرف أولئك الأقوام وتاريخهم ومجتمعهم. وهذا غير ميسور لكل الناس.

وبعد فقد ضعف القائمون بأمر الكتابة والتعريب ودامت الأمة العربية زهاء خمسة قرون وقد انقطعت منها الترجمة والنقل بانقطاع العلوم وضعف أهل العربية وارتقت اللغات الأخرى ونمت ألفاظها العلمية ومعانيها المدنية حتى أدت الحال بالكاتب العربي اليوم إذا أراد وصف منضدة عمله وردهة مجلسه وما يقع نظره عليه كل حين من أنواع الآنية والماعون وكليات الأمور وجزئياتها أن لا يجد في حافظته من الألفاظ ما يسد هذه الثلمة اللهم إلا كليات ألفاظ لا تتعدى الأغراض اليومية الشائعة من المؤاكلة والمعاشرة حتى بين أبعد الناس عن مذاهب الحضارة وما ذلك لقصر اللغة عن بلوغ هذه الغاية ففيها لو تصفحنا ما انتهى إلينا من كتب القوم مادة تكفينا ولو بعض الكفاية دون أن نلجأ في التعريب إلى اللفظ العامي أو المبتذل أو الأعجمي أما الألفاظ العلمية فالأحرى بنا أن ننحتها أو ننقلها على أصلها إذا لم تخالف الأوضاع العربية أو نجد لها ما ينطبق عليها من اللغة ولو ببعض تكلف كما فعل المترجمون في القديم.

فسر ابن جلجل الأندلسي أسماء الأدوية المفردة من كتاب ديسقوريدس العين زربى وكان ترجم ببغداد في أيام جعفر المتوكل ترجمه اصطفن بن بسيل من اليوناني إلى العربي وتصفح ذلك حنين بن اسحق فصحح الترجمة وأجازها فما علم اصطفن من تلك الأسماء اليونانية في وقته له اسماً في اللسان العربي فسره بالعربية وما لم يعلم له اسماً تركه على اسمه اليوناني اتكالاً منه على أن يبعث الله بعده من يعرف ذلك ويفسره باللسان العربي إذ التسمية لا تكون بالتواطؤ من أهل كل بلد على أعيان الأدوية بما رأوا أن يسموا ذلك إما باشتقاق وإما بغير ذلك من تواطئهم على التسمية وبقي الكتاب على الترجمة البغدادية بالأندلس إلى أيام الناصر عبد الرحمن بن محمد فكاتبه أرمانيوس ملك القسطنطينية وهاداه بهدايا منها كتاب ديسقوريدس مصور الحشائش بالتصوير الرومي العجيب وكان الكتاب مكتوباً بالإغريقي الذي هو اليوناني وبعث معه كتاب هروسيس (؟ هيرودتس) صاحب القصص وهو تاريخ للروم عجيب فيه أخبار الدهور وقصص الملوك الأول وفوائد عظيمة.

ثم بعث ملك الروم براهب اسمه نقولا فوصل إلى قرطبة سنة 340 وكان بها جماعة من الأطباء يبحثون عن تصحيح أسماء عقاقير الكتاب وتعيين أشخاصه فأنشؤوا يبحثون عنها بحيث زال الشك فيها عن القلوب وأوجب المعرفة بها بالوقوف على أشخاصها وتصحيح النطق بأسمائها بلا تصحيف إلا القليل منها الذي لا بال به ولا خطر له وذلك يكون في مثل عشرة أدوية.

هكذا عربوا الألفاظ الطبية بالأندلس وهكذا كان تعريب غيرها من المصطلحات اليونانية وغيرها في بغداد وهكذا يجري علماء الإنكليز في ضم ما يحدث من الألفاظ العلمية إلى لغتهم كلما ست الحاجة إلى ذلك ووكل الفرنسيين وضع الكلمات اللازمة إلى مجمعهم العلمي. ولو أن نفراً من أهل الأخصاء في اللغة العربية عنوا كل على حدته بإيجاد بعض ألفاظ لتناولتها أقلام الكتاب ولسرت على الألسن وانتشرت في الكتب والأوراق ويبقى منها الأنسب بطبيعة الزمن وينسى ما لا غناء فيه. فقد وضع بعض أرباب الجرائد والمجلات ألفاظاً لبعض المستحدثات العصرية فكادت تكون كالألفاظ المألوفة لنا ولو وفقنا إلى تكثير سوادها إذاً لسهلت الترجمة والتعريب على من تمحضوا لهما ووقفوا نفوسهم على إغناء لغتنا بكنوز عظيمة مباحة لمن يحسن تناولها وفيها قيام جامعتنا وكفاء نهضتنا.