مجلة المقتبس/العدد 14/العالم شعر

مجلة المقتبس/العدد 14/العالم شعر

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 3 - 1907



قرأت وما غير الطبيعة من سفر ... صحائف تحوي كل فن من الشعر

أرى غرر الأشعار تبدو نضيدةً ... على صفحات الكون سطراً على سطر

وما حادثات الدهر إلا قصائد ... يفوه بها للسامعين فم الدهر

وما المرء إلا بيت شعر عروضه ... مصائب لكن ضربه حفرة القبر

تنظّمنا الأيام شعراً وإنما ... ترد المنايا ما نظمن إلى النثر

فمنّا طويل مسهب بحر عمره ... ومنّا قصير البحر مختصر العمر

وهذا مديح صيغ من أطيب الثنا ... وذاك هجاء صيغ من منطق هُجر

  • * *

ورب نيام في المقابر زرتهم ... بمنهلّ دمع لا ينهنه بالزجر

وقفت على الأجداث وقفة عاشق ... بقفراء يدعو دراس الطلل القفر

فما سال فيض الدمع حتى قرنته ... إلى زفرات قد تصاعدن من صدري

أسكان بطن الأرض هلا ذكرتم ... عهوداً مضت منكم وأنتم على الظهر

رضيتم بأكفان البلى حللاً لكم ... وكنتم أولي الديباج والحلل الحمر

وقد كنتم تؤذي الحشايا جنوبكم ... فكيف رقدتم والجنوب على العفر

ألا يا قبوراً زرتها غير عارف ... بها ساكن الصحراء من ساكن القصر

لقد حار فكري في ذويك وأنه ... ليحتار في مثوى ذويك أولو الفكر

فقلت وللأجداث كفي مشيرة ... ألا إن هذا الشعر من أفجع الشعر

  • * *

وليل غُدا في الجناحين بتّه ... أسامر في ظلمائه واقع النسر

وأقلع من سفن الخيال مراسياً ... فتجري من الظلماء في لجج خضر

أرى القبة الزرقاء فوقي كأنها ... رواق من الديباج رصّع بالدر

ولولا خروق في الدجى من نجومه ... قبضت على الظلماء بالأنمل العشر

خليلي ما أبهى وأبهج في الرؤى ... نجوماً بأجواز الدجى لم تزل تسري

إذا ما نجوم الغرب ليلاً تغورت ... بدت أنجم في الشرق أخرى على الإثر

تجولت من حسن الكواكب في الدجى ... وقبح ظلام الليل في العرف والنك إلى أن رأيت الليل ولت جنوده ... على الدعم يقفو أثرها الصبح بالشقر

فيا لك من ليل قرأت بوجهه ... نظيم البها في نثر أنجمه الزُّهر

وقلت وطرفي شاخص لنجومه ... ألا إن هذا الشعر من أحسن الشعر

  • * *

ويوم به استيقظت من هجعة الكرى ... وقد قدَّ درع الليل صمصامة الفجر

فأطربني والديك مشجٍ صياحه ... ترنم عصفور يزقزق في وكر

ومما ازدهى نفسي وزاد ارتياحها ... هبوب نسيم سَجْسَج طيّب النشر

فقمت وقام الناس كلٌّ لشأنه ... كأنّا حجيج البيت في ساعة النفر

وقد طلعت شمس النهار كأنها ... مليك من الأضواء في عسكر مجر

بدت من وراء الأفق ترفل للعلى ... رويداً رويداً في غلائلها الحمر

غدت ترسل الأنوار حتى كأنها ... تسيل على وجه الثرى ذائب التبر

إلى أن جلت في نورها رونق الضحى ... صقيلاً وفي بحر الفضاء غدت تجري

وأهدت حياة في الشعاع جديدة ... إلى حيوان الأرض والنبت والزهر

فقلت مشيراً نحوها بحفاوة ... ألا إن هذا الشعر من أبدع الشعر

  • * *

وبيضة خدر أن دعت نازح الهوى ... أجاب ألا لبيكِ يا بيضة الخدر

من اللاء يملكن القلوب بكلمة ... ويحيين ميت الوجد بالنظر الشزر

تهادت تريني البدر محدقةً بها ... أوانس أحداق الكواكب بالبدر

قلله ما قد هجن لي من صبابة ... ألف بها طيّ الضلوع على الجمر

تصافح إحداهن في المشي ترابها ... فنحر إلى نحر وخصر إلى خصر

مررت وقد أقصرت خطوي تأدباً ... وأجمعت أمري في محافظة الصبر

فطأطأنَ للتسليم منهن أرؤسا ... عليها أكاليل ضفرن من الشعر

فألقيت كفي فوق صدري مسلّما ... وأطرقت نحو الأرض منحني الظهر

وأرسلت قلبي خلفهن مشيّعا ... فراح ولم يرجع إلى حيث لا أدري

وقلت وكفي نحوهن مشيرة ... ألا أن هذا الشعر من أجل الشعر * * *

ومائدة نسْجُ الدمقس غطاؤها ... بمجلس شبان هم أنجم العصر

رقى من أعاليها الفنغراف منبراً ... محاطاً بأصحاب غطارفة غُر

وفي وسط النادي سراج منور ... فتسحبه بدراً وهم هالة البدر

فراح بإذن العلم يُنطق مقولاً ... عرفنا به أن البيان من السحر

فطوراً خطيباً يحزن القلب وعظه ... وطوراً يسرّ السمع بالعزف والزمر

يفوه فصيحاً باللُّغا وهو أبكم ... ويسمع ألحان الغنا وهو ذو وقر

أمين أبى التدليس في القول حاكياً ... فتسمعه يروي الحديث كما يجري

تراه إذا لقنته القول حافظاً ... تمر الليالي وهو منه على ذُكر

فيا لك من صنع به كل عاقل ... أقر لآديسون بالفضل والفخر

فقلت وقد تمت شقائق هدره ... ألا إن هذا الشعر من أعجب الشعر

  • * *

وأصيد مأثور المكارم في الورى ... يريك إذا يلقاك وجه فتى حر

يروح ويغدو في طيالسة الغنى ... ويقضي حقوق المجد من ماله الوفر

تخونه ريب الزمان فأولعت ... بأخلاقها ديباجتيه يد الفقر

فأصبح في طرق التصعلك حائراً ... يجول من الإملاق في سَمَلٍ طمر

كأن لم يرح في موكب العز راكباً ... عتاق المذاكي مالك النهى والأمر

ولم تزدحم صيد الرجال ببابه ... ولم يغمر العافين بالنائل الغمر

فظلَّ كئيب النفس ينظر للغنى ... بعين مقلّ كان في عيشة المثري

إلى أن قضى في علة العدم نحبه ... فجهزه من مالهم طالبو الأجر

فرحتُ ولم يحفل بتشييع نعشه ... أشيعه في حامليه إلى القبر

وقلت وأيدي الناس تحثو ترابه ... ألا أن هذا الشعر من أحزن الشعر

  • * *

ونائحة تبكي الغداة وحيدها ... بشجو وقد نالته ظلماً يد القهر

عزاه إلى إحدى الجنايات حاكم ... عليه قضى بطلاً بها وهو لا يدري فويل له من حاكم صُبَّ قلبه ... من الجور مطبوعاً على قالب الغدر

من الروم أما وجهه فمشوّه ... وقاح وأما قلبه فمن الصخر

أضرَّ بعف الذيل حتى أمضَّه ... ولم يلتفت منه إلى واضح العذر

تخطفه في مخلب الجور غيلةً ... فزجًّ به من مظلم السجن في القعر

تنوء به الأقياد إن رام نهضة ... فيشكو الأذى والدمع من عينه يجري

تناديه والسجان يكثر زجرها ... عجوز له من خلف عالية الجُدْر

بُنيَّ أظن السجن مسَّك ضره ... بُنيَّ بنفسي حلَّ ما بك من ضر

بنيَّ استعن بالصبر ما أنت جانياً ... وهل يخذل الله البريء من الوزر

فجئت أعاطيها العزاء وادمعي ... كأدمعها تنهلّ مني على النحر

وقلت وقد جاشت غوارب عبرتي ... ألا إن هذا الشعر من أقتل الشعر

بغداد

معروف الرصافي