مجلة المقتبس/العدد 15/التربية والتعليم

مجلة المقتبس/العدد 15/التربية والتعليم

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 4 - 1907



تربية السكسونيين

قامت منذ بضع سنين حركة في الأفكار في معظم بلاد أوروبا للمفاضلة بين التربية التوتونية واللاتينية أي بين تربية الإنكليزي والألمان والأمريكان المعروفين بالإنكليز السكسونيين وبين تربية الفرنسيين والطليان والإسبان ولقد أطلعنا على مقالة في إحدى المجلات الكبرى الفرنسوية أفاض كاتبها في تأثير المسابقات بين طلبة الطب في الأخلاق. ومما جاء فيها أن هذه المباراة في الفحوص قد تؤدي إلى ضعف ملكة الذكاء وإن نفعت في تمرين الذاكرة بما يضطرون أن يودعوه ألواح محفوظهم من القوانين والصور وقد يستظهرونها استظهاراً نظرياً ولا تكون عندهم من العمليات في شيء بمعنى أنهم مهما جعلوا دراستها دينهم وديدنهم لا يخرجون من الامتحان إلا وقد غربت تلك المواد عن أذهانهم. سئل أحد التلاميذ يوماً عن حرب السبعين وكان قد درسها من قبل بالطبع فلم يحر فيها جواباً. وسئل عن التلفون فانقطع ولم ينبس ببنت شفة. مع أنه بعيد عن الظن أن يكون في الغرب اليوم ناهيك بفرنسا من لم يسمع بحرب السبعين وأخبارها والتلفون وآثاره.

وبعد هذا لا يسعنا إلا التصريح بان الطريقة العقيمة في التربية التي اتخذتها فرنسا من نحو مئة سنة ما زادتها إلا الرجوع القهقري وسبق الأمم السكسونية. تربية تسقم العقل وتضعف الجسم. تربية تحبب إلى المرء الراحة والسكينة والاقتصاد والترف والسرف.

تربية كأنها ملصقة بغراء لا تلبث أن تتزعزع إذا أمطرتها سماء الدنيا بوبلة فما بالك لو هبت عليها أعاصيرها وعواصفها وسحت فوقها وابلها ومدرارها.

قال بعض علمائنا إن فرنسا مستنبت الأوسمة والمراتب وميدان المسابقات والمناوشات وإذا أردنا على أن لا ننقد هذا الخُلُق نكتفي بأن نقول إنه دليل الأنانية والشعور بالحاجة إلى العدل ونحن لا نزال شعب تلاميذ أي إننا محتاجون في تربيتنا أن نربى تربية الصغار من مهدنا إلى لحدنا فنساق منذ نعومة أظفارنا في المدرسة والبيت بقوة الأيقونات والأنواط والعلامات والصفوف والقوانين ومن نشأ على هذه الطريقة في التربية يحتاج إذا بلغ مبلغ الرجال أن يظل متطلباً للأوسمة والجوائز وأن تنظم حاله بنظام الاستحقاق والأهلية.

وقال غستاف لبون مؤلف كتاب حضارة العرب وغيره من الكتب الممتعة: إن كليتنا معاش الفرنسيس لا تنشئ إلا أهل أوهام وأرباب أكثار وثرثرة ممن بعدت نفوسهم عن الحقيقة بعدها عن معرفة العالم الذي يقضي عليهم أن يعيشوا فيه. من كل وُكَلة تكلة لا يعمل بدون يدٍ تدفعه وعون يقوده وعين تلاحظه. ففي بيته تقوده أمه ويأخذ بيده أبوه، وفي المدرسة يشتد ساعده بزند معلمه ومربيه حتى إذا دخل في غمرة الحياة يظل حائراً لا يعرف مصيره ما لم تأخذ الحكومة بيده وتصرفه فيما تشاء وتهوى.

وقال غيره: أين نجد في فرنسا مثل أولئك الأولاد الذين رأيتهم خارج هذه البلاد يسافر احدهم وحده وهو في سن العاشرة من لندن إلى بطرسبرج في فئة من أطفال الكتاتيب تختلف سنهم بين الثامنة والعاشرة فيقضون تحت الخيام نصف العطلة المدرسية في جزيرة من سان لوران يعيشون من صيدهم وقنصهم فيكف لا يتأتى لهؤلاء الأطفال من الإنكليزي أن يستعمروا حيث شاؤوا من الأرض ويكونوا من أنفع الطوارئ متى بلغوا الخامسة والعشرين. وقال احدهم: لا شيء أذل على النفس من رؤية الفرنسوي خارج بلاده فكأنه ميت انقطع عمله أو مدنف يتلجلج لسانه فلا يجيب عما يسأل.

وقال غيره: من الرعونة أن يعتقد الفرنسيس بعلو كعبهم في كل شيء ولو ذهب إلى ألمانيا ودرس أحوالها عن أمم لرأى شعباً كان يشكو مما نشكو منه. داء أصيب به زمناً فشفى نفسه منه. يرى السكسونية مجسمة بأبهى مظاهرها فيقدس كارالايل ظهيرها ونصيرها ويقيس حاله بالإنكليز فيراهم سباق غايات. ثم إذا رأى في تينك المملكتين ما رأى وقاسه بحاله يركب بحر الظلمات ليتبصر فيما تورثه جدد الفضائل في هذا القرن الحديث وينجلي له الفرق بين رغائبه ورغائب الأمريكان.

لفرنسا نظارة للمعارف، ولأمريكا مدرسة للتربية. فالأولى تعلم والثانية تربي. الأولى تلقن أبناءها كلمات يحفظونها، والثانية تعلم مبادئ يسيرون عليها. تعد فرنسا أدمغة لحفظ قانون، وتهيئ أمريكا أذرهاً للعمل. يغرس الأمريكان في عقول ناشئتهم شهامة الإرادة التي لا تنفع بدونها المواهب وتضيع القوى بدداً وإذا فقدت يكون العلم نفسه قليل النفع. وهذا القانون الذي سنه لهم فيلسوفهم أميرسون تلميذ هيكل الألماني القائل في فلسفته: ليست الحياة شغلاً عقلياً ولا مناقشة ومهاوشة بل الحياة هي العمل. ولقد علق في أعلى باب كل مدرسة بأمريكا شعار معناه: إن تهذيب الخلق أسمى غاية للمدرسة وعلى الشبان أن يحسنوا معرفة الحياة بإرادة ثابتة.