مجلة المقتبس/العدد 15/رأي في الشعر

مجلة المقتبس/العدد 15/رأي في الشعر

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 4 - 1907



الشعر لغة الشعور وقد أخرج عن معناه الأصلي فأصبح يفهم منه الآن الكلام الموزون المقفى الذي يتوخى صاحبه إيداع خياله وشعوره فيه بصورة تستفز العواطف وتأخذ بمجامع القلوب وابتذله الأكثرون فأضحى حرفة يتغنى بها أحدهم ويعمد إلى اكتسابها على طريقة علمية كأن يقرأ العروض والقوافي ثم يقبض على اليراع ويحاول صف كلام ملفق ليس من الشهر في شيء طمعاً في أن يقال عنه إنه شاعر وما أحراه أن يدعى ضفافاً فهو أشبه بمنضد الحروف في المطابع إلا أن هذا يصف الحروف بقياس معلوم وطريقة مصطلح عليها وذلك يصف الكلمات حسب تفاعيل الخليل.

الشعر شعور لا كلام والشاعر صاحب هذا الشعور يشعر بما لا يشعر به غيره ويسمع ما لا يسمعه غيره فعينه تخترق السحب وتسرح في فضاء العوالم وتأتي إليه بما لم يخطر على بال، وخاطره يفترع أبكار المعاني التي لم يسبقه إليها أحد، ووجدانه يختلف عن وجدان سائر الناس، والنظرة التي ينظر بها إلى العمران ليست كنظرة الناس. فكل نظم خالٍ من الخيال ليس حقيقاً أن يدعى شعراً ولا يمكن أن يعيش بعد صاحبه وربما مات قبله. وكم من شعر نُظم وكم من شاعر نظم فوارتهما أيدي الزمان في مدافن النسيان.

فالشعر لا يعيش إلا إذا استوفى شرطين: أولهما أن يكون فيه شعور فائق وخيال بالغ، وثانيهما أن يكون مسبوكاً في قالب متين المبنى موضح المعنى فالشرط الأول لا يتنازع فيه أحد ضرورة أنه من مقتضيات الشعر وشرائطه الكبرى. نعم إن الشعر الذي لا شعور فيه ليس شعراً كما أن العلم الذي ليس فيه العلم الصحيح لا يعد علماً. وما أحسن لفظة شعر تفصح عن المراد من الشعر وهي لفظة حسن وضعها لما يقصد منها تفضل لفظة بوتري الأعجمية لأن هذه تعني الفعل وليس فيها ما يستشف منه المعنى المرغوب والشيء المقصود. أما الشرط الثاني فلأن اللغة واسطة لنقل خيال الشاعر إلى الناس. وأحرى بهذه الواسطة أن تكون ممحصة من شوائب التعقيد ومعائب الالتباس. وكلما كانت اللغة صحيحة كان فهم الشعر سهلاً. فهي كالوعاء تودع فيها سوامي الفكر وسوانح الفطن. وإذا كان الوعاء ناقصاً في شيء يوجب تمامه كان المودَع فيه خليقاً أن تذهب بحسنه عوامل الأيام. وكم من نظم طوته صحف الدهر لغير علة سوى أنه أنشئ بعبارة تافهة تخالف القياس المألوف.

ومن الناس من لا يذعن لهذا الشرط فيحسبون أن مراعاة اللغة في الكتابة سواء كانت نظماً أو نثراً ليست ذات شان فيقولون أن الغرض من اللغة ليس إلا التفاهم فلا ينبغي أن يعنى بها كثيراً فيجوزون لأنفسهم ارتكاب أغلاط فادحة في النحو واللغة وسائر العلوم اللغوية ناسين أن التغاضي عن الاهتمام باللغة يؤدي بهم إلى فوضى لا يرأب صدعها ولاسيما أن اللغة العربية ضوابط تقيدها وقواعد تضبطها فإذا فسد التركيب فسد المعنى وبفساد التركيب تضيع اللغة وبفساد المعنى يغلط في فهم الأفكار التي يقصد الشاعر نقلها إلى قارئ شعره فينتج إذاً أنه كلما كانت لغة الشعر ركيكة كان فناء الشعر المودع فيها سريعاً.

يتضمن الخيال في الشعر وصف الانفعال الذي يطرأ على النفس إذا أدرك صاحبها في عالم الحس شيئاً يدعو إلى الانفعال وباعثاً ينزع به إلى التأثر بحيث لا يستطاع معه إلا الالتجاء إلى الشعر للإفصاح عما يكنه الفؤاد في صور كلامية يتجلى بها الخيال ويتجسم الشعور متنقلاً من عالم الخيال إلى عالم المنظور ولا يتوخى في هذا الانتقال إلا دفع ألم وسد مطلب من مطالب النفس تتقاضى صاحبها إتمامه كما قد تقتضيه تأديتها مطالب أخرى.

ليس الشعر عملاً من الأعمال العادية التي يتكلفها الإنسان ويضطره المعاش إليها فيسعى لنيلها. الشعر ينظم لنفسه لا لغاية أخرى ولا يكون شعراً إلا إذا نظم أثر انفعال من حادث أو شعور وأما إذا نظم على سبيل التفكهة وبدون داعٍ فيكون متكلفاً فيه والنفس مقسورة على إبرازه على حين يجب أن يكون منبعثاً من النفس باختيارها وقبولها فالشاعر الذي ينظم محمولاً على النظم بتيار الرغبة في الشهرة والنزوع إلى الصيت لا يكون شعره شعراً. الشاعر كما قال بعض الأعاجم مخلوق لا مصنوع وحسبك عليه من حجة دامغة أن الشاعر المطبوع ينظم الشعر وهو صبي لا لغرض وإنما يشعر بشيء فينطق بالشعر عفواً مستخدماً ألفاظ الصبيان للتعبير عن خياله ثم يرتقي فيصبح أقدر على إظهار شعوره وينمو شعوره بنمو مركزه في الدماغ كما تنمو سائر القوى العقلية كلما تقدم الإنسان في العمر وقد تبطئ سجية الشعر في ظهورها لعلة خارجية فتتأخر إلى سن العشرين أو بعدها كما جرى لملتون الشاعر الشهير ولكنها ظهرت في أغلب الشعراء في سن الصبا وأعلى درجات الشعر وصف الطبيعة ففيه تظهر قريحة الشاعر بأعظم مظاهرها. يرى الشاعر في الوجود أموراً يتعذر على غيره رؤيتها ينظر إلى سيار كأنه هبط عليه وحيٌّ من العلى فينظم فيه المعاني الحسان على حين لو سئل غيره أن يصف السيار لما قال غير نجم منير. وفي أساطير الأولين إن بعض الأمم اعتقدوا بوجود قوة غيبية تلهم الشعراء وتوحي إليه الشعر ولا توحيه لسائر الناس. وما يراه الشاعر في ظواهر الطبيعة يكون مخبوءاً تحت حجاب كثيف لا يرى الناس من ورائه شيئاً على أنه يصبح شفافاً إذا نظر إليه الشاعر فيرى وراءه كنوزاً وركازاً. وقد عني الإفرنج بالشعر الوصفي فأجادوه ويتلوه في الحسن الشعر الذي يمثل الطبع البشري وما في الإنسان من العواطف والأميال وما يتنازعه من الأشواق والشعور الذي يطرأ على الشاعر عند حدوث نكبة عامة وما شاكل ذلك وكل وصف بعث عليه انفعال عظيم.

أما الشعر الرثائي فأحسنه ما نظم عن انفعال شديد كما وقع لشاعر الانكتار العظيم تنيسون حين نكب بفقد صديقه الحميم حلام المؤرخ المشهور فرثاه بقصيدة طويلة رنانة وصف فيها العواطف البشرية وصفاً دقيقاً واستحوذ عليه من الغم في ذلك الخطب المؤلم. على أن الرثاء مبتذل الآن، وكم من شاعر يرثي ميتاً لا يعرف سوى اسمه فيأتي شعره وأمارات التكلف بادية عليه ليس فيه إلا معانٍ تافهة سيقت النفس إلى إبرازها سوقاً. والمدح أسقط الشعر لما فيه من الاختلاق ولاسيما إذا قصد منه جر مغنم أو دفع مغرم فيضطر الناظم أن يبتدع المعالي والمكارم وينسبها إلى ممدوحه.

ويبلغ الشعر المدحي أعلى درجة في عصر البداوة ويأفل نجمه في عصر الحضارة حتى يكاد يكون معدوماً. وكان الشعراء يتخذون هذا النوع من الشعر وسيلة للزلفى من الأمراء واستدرار العطايا من العظماء. والشعر الهجائي أرفع في نظري إن صح أن يكون لي نظر من الشعر المدحي وأقرب منه للغرض المبدئي من الشعر خصوصاً إذا نظم عقيب تهيج حاسة الاشمئزاز من إدراك شوائب ونقائص في الهجو تبعث الشاعر على الهجاء اضطراراً. وأما إذا تكلف له فيكون من أعمال العقل لا من أعمال الشعور والعواطف. وقد علمت مما مر بك أن الشعر من خصائص العواطف وليس للعقل علاقة به، ولذلك لا يعد من الشعر كل ما نظم من المعقولات والمنقولات، ويدخل تحت هذا الأراجيز على تفاوت أنواعها وآراء الفلاسفة التي أودعت في الشعر وآي الحكماء وعلماء الأخلاق. وبالجملة فإن كل ما ليس له اتصال بالعواطف ليس شعراً وإنما هو نظم ولا يتعذر على النبيه التمييز بين الشعر والنظم إن هو تذكر معنى كلمة شعر. والله أعلم.

يافا

خليل الخوري