مجلة المقتبس/العدد 15/مقاومة الالكحول
مجلة المقتبس/العدد 15/مقاومة الالكحول
ثبت للباحثين في أدواء المجتمع الأوروبي منذ أوائل القرن التاسع عشر أن الالكحول على اختلاف أجناسها تحدث المضار الجسيمة فتهلك الأنفس وتبيد الأموال وتشوه الخلقة وتؤثر في النسل والعقل وأن أقل ما يصيب المدمن جنون مطبق وسبة يلحقه عارها أبد الدهر فقام الصالحون من أهل ذاك المجتمع يناهضون الالكحول دفاً لغوائلها ولاسيما ف البلاد التي يزعم بعضهم أنها وقاية لهم من برودة الجو كروسيا والسويد وشمالي فرنسا ونورمنديا وإيرلاندا.
توفر المقامون على مناهضة المسكرات فأثمرت أعمالهم على تواليا لأيام ثمرات غضة نافعة جناها أهل بلادهم فكان من السويد بفضل وعظ الواعظين أن أصبح يصيب الفرد من أهلها في السنة ستة لترات من المسكرات بعد أن كان يصيبه سنة 1830 أربعون لتراً وكان بدأ لإفراط في تعاطي المسكرات ببلاد السويد منذ أواخر القرن الثامن عشر. وقد جاهد بطرس ويزلكران عميد مدينة غوتمبورغ ثلاثين سنة جهداً حسناً فوفق عام 1855 إلى وضع حد للألكحول وكانت أفكاره في هذا المعنى أساساً للقوانين التي سنتها حكومة السويد وجرى العلم بها. وهذه الأعمال ترمي إلى شدة في معاملة بائعي المسكرات وصانعيها.
قالت الطان ضربت الحكومة السويدية على صانعي المسكرات ضرائب فاحشة وأخذت تزيدها الحين بعد الآخر بلغت سنة 1888 - 138 فرنكاً على كل هكتولتر (مئة لتر) فعجزت المعامل الصغيرة عن صنع المشروبات إذ قضي على كل معمل أن يخرج في اليوم أربعة هكتولترات من الالكحول الخالص أو يغلق أبوابه ولم تسمح الحكومة بتنزيل هذا المعدل إلى هتكولترين ونصف إلا سنة 1871 وحظرت عمل الالكحول إلا في شهرين من السنة ثم تسامحت ورخصت على توالي السنين بأن تصنع سبعة أشهر في السنة. فكان من ذلك أن قل في السويد عاصروا الخمر فبعد أن كان فيها سنة 1829 - 124، 172 معملاً نزل عددها سنة 1898 إلى 128 معملاً.
وجعلت السويد ببيع المسكرات حراً في الجملة إلا أنها جعلت معدل ما يباع منه بالجملة 250 لتراً وأن لا يباع بالمفرق أقل من لتر واحد ليأخذها المبتاع معه ولا يشربها في محل ابتياعه لها. وعاملت الحانات بأقصى الشدة فأمرت أهلها أن يغلقوا محالهم الساعة الثامن مساء في القرى والساعة العاشرة في المدن ولم تسمح لبائع المسكر أن يتقاضى مالاً من غريم له باعه خمراً بالنسيئة. وضربت اثنين وأربعين فركناً ضريبة على كل هكتولتر من الالكحول الصافي فأصبحت تمر في أربع ولايات من تلك البلاد فلا ترى فيها محلاً واحداً لبيع المسكرات.
وقامت جمعيات تنشئ مطاعم لا يقدم فيها الشراب إلا بأثمان فاحشة وأنشئت في أنحاء كثيرة من البلاد غرف للمطالعة ليلهو فيها العامة عن الاختلاف إلى الحانات فنزل معدل تناول المشروبات الروحية في العشرين سنة الأخيرة إلى أربعين في المئة بمدينة استوكهولم وإلى خمسة وأربعين في مدينة غوتمتبورغ وسنت سنة 1892 قانوناً إجبارياً يقضي فيه على جميع المدارس أن تلقي دروساً في طبيعة الالكحول وتأثيراته المضرة.
وقد حذت سويسرا حذو السويد في مقاومة المسكرات فقامت في كل ناحية من أنحائها جمعيات تدعو إلى الإقلاع عن المسكرات وجمعيات لمقاومة الالكحول ومؤتمرات للدعوة إلى مقاومة لابسنت لأنه ثبت أنه من أضر المشروبات الروحية. ولما قتل أحد السكيرين في مقاطعة فود زوجته وابنتيه منذ سنتين هاج أهالي تلك المقاطعة وقدموا للحكومة محضراً فيه زهاء 75 ألف توقيع وهو ربع عدد السكان. فاضطر مجلس النظام هناك إلى إصدار قانون شديد في منع المسكرات وحصرها حتى كان ربح تلك المقاطعة وحدها من احتكار الابسنت نحو ستة ملايين فرنك هذه السنة وقد أضر هذا الاحتكار بكثير من أرباب معامل الابسنت وأقفلت بيوت كثيرة كان أهلها يرتزقون منه فآثرت الحكومة مصلحة البلاد على مصلحة الأفراد. وهكذا كل حين تنشأ المجامع وتعقد الجمعيات لمقاومة المسكرات في الجمهورية السويسرية.
وكذلك فعلت أيرلندا فنادى رجالها سنة 1838 بالإقلاع عن المسكرات وكان بلغ إذ ذاك عدد محال بيعها 21326 وما برحوا يكافحونها وأهلها حتى نزل عددها إلى نصف ذلك بعد عشر سنين وأغلقوا الباقي ويقل اليوم في أيرلندا عدد السكيرين واحداً في المئة كل سنة فقد كان يصيب الفرد من الأيرلنديين سنة 1903 سبعة وثمانون فركناً في السنة ثمن المشروبات فأصبح معدل ما يصيبه سنة 1905 خمسة وسبعين فرناً ولا يزالون يسعون إلى تقليل هذا المعدل. ويؤخذ من الإحصاءات الأخيرة أن في نيويورك وسكانها نحو ثلاثة ملايين ونصف 10820 محلاً لبيع المسكرات بالمفرق وفي باريس وسكانها مليونان ونصف 20. 000 وفي لندن وسكانها أربعة ملايين ونصف 5860 محلاً.
هذه خلاصة ما تلوناه بالإفرنجية في هذا الشهر وكنا كلما تلونا إحصاء أو فكراً نافعاً في هذا الباب نذكر ما قاله بنتام المشرع الإنكليزي (1748 - 1832) في كتابه أصول الشرائع من أن الخمر في الأقاليم الشمالية يجعل المرء كالأبله وفي الأقاليم الجنوبية يصبح به كالمجنون ففي الأولى يكتفى بالمعاقبة على السكر لأنه عمل فظيع وفي الثانية يجب منعه بطرق أشد لأنه أشبه بالتشرر ولقد حرمت ديانة محمد جميع المشروبات الروحية وهذا التحريم من محاسنها. فإذا رددناه ذكرنا أن هذا التحريم لم ينفذ بالفعل في الممالك الإسلامية إلا على عهد نور الدين محمد بن زنكي صاحب مصر والشام وديار الجزيرة فإنه أبطل صنع المسكرات في أيامه من البلاد وأقفل الحانات وعاقب الشريب الخمير بأقصى العقوبات فانتفعت البلاد من هذا المنع الشديد فوائد حسن أثرها على عهد خلفه صلاح الدين يوسف ومن بعده.