مجلة المقتبس/العدد 16/تبذير الكبراء

مجلة المقتبس/العدد 16/تبذير الكبراء

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 5 - 1907


الإسراف الغالب آفة من آفات الحضارة ولا إسراف إذا لم توجد حضارة وعلى نسبة حضارة الأمة وغناها يكون في الأكثر بذخها وإسرافها وإن شئت فقل إسراف أهل البسطة والغنى. مثاله ما نسمعه لهذا العهد عن ديار الغرب وإيغال الموسرين من أهله في الإنفاق على كل ما طاب وحلا وبهرج وزخرف فينفق الفرد في الشهوات والتبرج ما يكف لإعالة عشرات الألوف أعواماً. وتأتينا عنهم أنباء لا تكاد تصدق لولا تناصرها واتفاق المشاهدين لها عياناً على إثبات ما يقال ويروى. ولو استقريت تاريخ الأمم لرأيت الشيء الكثير من ذلك قبل ألوف من السنين وآخر من انتهت إلينا أخبار ترفهم الرومان واليونان لما بلغت الحضارة بينهم حدها.

وهذا الشرق أيضاً ما خلا في كل دور من أدواره من مسرفين كانوا إخوان الشياطين وإسراف اليوم يختلف عن إسراف أمس فإنه كان في غابر الأحقاب مقصوراً على رجال الدول والكلمة النافذة عند الملوك والسلاطين أما اليوم فالإسراف يكون من الرعاة والرعاية معاً خصوصاً بعد أن انتقلت الثروة إلى الأفراد. وتاريخ العرب لم ينقل إلينا سوى أخبار الأمراء والملوك وما عني المؤرخون بنقل أخبار الأفراد من الأغنياء ولذلك كان علينا إذا رغبنا أن نستشهد تاريخنا ونبحث في حالتنا الاجتماعية في القرون العابرة أن نقتصر على إيراد ما انتهى إلينا علمه من أخبار أولئك العظماء وهي لا تخلو من عبرة وتسلية.

خذ لك أمثلة لا تستغرب بعدها زوال الممالك الشرقية وتقرأ فيها نموذجاً من تفننهم في دورهم وقصورهم وأفراحم ومجتمعاتهم. فقد رأت الرميكية زوج المعتمد بن عباد الأندلسي الناس يمشون في الطين فاشتهت المشي فيه فأمر المعتمد فسحقت أشياء من الطيب وذرت في ساحة القصر حتى عمته ثم نصبت الغرابيل وصب فيها ماء الورد على أخلاط الطيب وعجنت بالأيدي حتى عادت كالطين وخاضتها مع جواريها وغاضبها في بعض الأيام فأقسمت أنها لم تر منه خيراً قط قال ولا يوم الطين فاستحت واعتذرت.

ولما اقتعد ابن أبي عامر الذروة في أيام الحكم الأندلسي صنع قصراً من فضة لصبح أم هشام وحمله على رؤوس الرجال فجلب حبها بذلك وقامت بأمره عند سيدها الحكم وحدث الحكم خواصه بذلك وقال إن هذا الفتى قد جلب عقول حرمنا بما يتحفهم به.

وكان في دار القاهر بالله عشرة آلاف خادم من الخصيان ويفرق الضحية من الإبل والبق أربعين ألف رأس ومن الغنم خمسين ألف رأس. وكان عز الدولة بن بويه متوسعاً في الإخراجات والكلف وكان يتناول أحد الموظفين بإيقاد الشمع أمامه ألف من في كل شهر.

ولما بعث ملك الروم يتوعد المستكفي بالله بالقتال استعرض عسكره فكان جملة العسكرة المصفوفة مائة ألف وستين ألفاً ووقف الغلمان بالزينة والمناطق الذهبية وكذلك الخدم والخصيان ووقف الحجاب وكانوا سبعمائة وزينت دار الخليفة بالمستور والبسط فكانت جملة الستور المعلقة ثمانية وثلاثين ألف ستر من الديباج المذهب وكانت جملة البسط اثنين وعشرين ألف بساط وكان في جملة الزينة شجرة من ذهب وفضة تشتمل على ثمانية عشرة غصناً وأوراقها من ذهب وفضة وأغصانها تتمايل بحركات موضوعة وعلى الأغصان طيور خضر من ذهب وفضة ينفخ الريح بها فيصفر كل طير بلغته.

وحكى الصابي عن بعض الرسل قال: دعينا إلى باب مسعود يعني ابن محمود بن سبكتكنين بغزنة فشاهدنا بالباب أصناف العساكر وملوك جرجان وطبرستان وخراسان والهند والسند والترك وقد أقيمت الفيلة عليها الأسرة والعماريات الملبسة بالذهب مرصعة بأنواع الجواهر وإذا بأربعة آلاف غلام مرد وقوف سماطين وفي أوساطم مناطق الذهب وبأيديهم أعمدة الذهب ومسعود جالس في سرير من الذهب لم يوضع على أرض مثله وعليه الفرش الفاخرة وعلى رأسه تاج مرصع بالجواهر واليواقيت وقد أحاط به الغلمان الخواص بأكمل زينة ثم قام مسعود إلى سماط من فضة عليه خمسون خواناً من الذهب على كل خوان خمسة أطباق من ذهب فيها أنواع من الأشربة فساقهم الغلمان ثم قام مسعود إلى مجلس عظيم الأقطار فيه ألف دست من الذهب وأطباق كبار خسروانية فيها الكيزان وعلى كل طبق زرافة ذهب وأطباق ذهب فيها المسك والعنبر والكافور وأشجار الذهب مرصعة بالجواهر واليواقيت وشموع من ذهب في رأس كل شمعة قطعة من الياقوت الأحمر تلمع لمعان النار وأشجار العود قائمة بين ذلك وفي آخر المجلس رحى من ذهب تطحن المسك والكافور والعنبر وفي جوانب المجلس بحيرة في جوانبها من الجواهر والعنبر والفصوص شيء بقصر الوصف عنها وذكر أشياء أخر تحير الأسماء والأسماع - قاله ابن فضل الله العمري في مسالك الأبصار.

ومما يعد في باب ترف الكبراء وسرفهم ما رواة المقريزي من أعذار (طعام الختان) بني ذي النون ملوك طليطلة من الثغر الجوفي في الأندلس وكانت لهم دولة كبيرة وبلغوا في البذخ والترف إلى الغاية ولهم الأعذار المشهور الذي يقال هل الأعذار الذنوبي وبه يضرب المثل عند أهل المغرب وهو عندهم بمثابة عرس بوران عند أهل المشرق. وبوران هي ابنة الحسن بن سهل امرأة المأمون قالوا لما دخل إليها نثرت عليه جدتها ألف لؤلؤة من أنف ما يكون فأمر المأمون بجمعه فأعطاه بوران ثم أوقد تلك الليلة شمعة عنبر فيها أربعون مناً (رطلاً) وقالوا أن المأمون لم يرقه هذا الإسراف وقال فيه. وأقام المأمون في معسكر الحسن سبعة عشرة يوماً يعد له كل يوم ولجميع من معه ما يحتاج إليه وخلع الحسن على القواد مراتبهم وحملهم ووصلهم وكان مبلغ ما لزمه خمسين ألف ألف درهم وكتب الحسن أسماء ضياعه في رقاع ونثرها على القواد فمن وقعت بيده رقعة منها فيها اسم ضيعة بعث فتسلمها وأوعز إلى النوتية بإحضار السفن لإجازة الخواص من الناس بدجلة من بغداد إلى قصور الملك بمدينة المأمون لحضور الوليمة فكانت الحراقات المعدة لذلك ثلاثين ألفاً أجازوا الناس بها أخريات نهارهم.

والمتتبع لهذه الأخبار يعثر منها على الكثير ولاسيما في أيام مباهاتهم وولائمهم وأعراسهم فقد روى المؤرخون أن أبا الجيش خمارويه بن طولون صاحب مصر لما زوّج ابنته أسماء للمعتضد بالله العباسي على صداق قدره ألف ألف درهم جهزها أبوها بجهاز لم يمل مثله حتى قيل كان لها ألف هارون ذهب وشرط عليه المعتضد أن يحمل كل سنة بعد القيام بجميع وطائف مصر وأرزاق جنودها مائتي ألف دينار ويقال إن المعتضد أراد بزواجها افتقار الطولونية وكذا كان. وذكر ابن الأثير في حوادث سنة ثمانين وأربعمائة كيف نقل جهاز ابنة السلطان ملهشاه السلجوقي إلى دار الخلافة على مائة وثلاثين جملاً مجللة بالديباج الرومي وكان أكثر الأحمال الذهب والفضة وثلاث عماريات وعلى أربعة وسبعين بغلاً مجللة بأنواع الديباج الملكي وأجراسها وقلائها من الذهب والفضة وكان على ستة منها اثنا عشر صندوقاً من فضة لا بقدر ما فيها من الجواهر والحلي وبين يدي البغال ثلاثة وثلاثون فرساً من الخيل الرائقة عليها مراكب الذهب مرصعة بأنواع الجواهر ومهد عظيم كثير الذهب وسار بين يدي الجهاز سعد الدولة كوهرائين والأمير برسق وغيرهما ونثر أهل نهر مغلى عليهم الدنانير والثياب وكان السلطان قد خرج عن بغداد متصيداً ثم أرسل الخليفة - المقتدي بأمر الله - الوزير أبا شجاع إلى تركان خاتون زوجة السلطان وبين يديه نحو ثلثمائة موكبية ومثلها مشاعل ولم يبق في الحريم دكان إلا وقد أشعل فيها الشمعة والاثنتان وأكثر من ذلك وأرسل الخليفة مع ظفر خادمه محفة لم ير مثلها حسناً وقال الوزير لتركان خاتون سيدنا ومولانا أمير المؤمنين يقول إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وقد أذن في نقل الوديعة إلى داره فأجابت بالسمع والطاعة وحضر نظام الملك فمن دونه من أعيان دولة السلطان وكل منهم معه من الشمع والمشاعل الكثير وجاء نساء الأمراء الكبار ومن دونهم كل واحدة منهن منفردة في جماعتها وتجملها وبين أيديهن الشمع الموكبيات والمشاعل يحمل ذلك جميعه الفرسان ثم جاءت الخاتون ابنة السلطان يعد الجميع في محفة مجللة عليها من الذهب والجواهر أكثر شيء وقد أحاط بالمحفة مائتا جارية من الأتراك بالمراكب العجيبة وسارت إلى دار الخليفة وكانت ليلة مشهودة لم ير ببغداد مثلها فلما كان الغد أحضر الخليفة أمراء السلطان لسماط أمر بعمله حي أن فيه ألف منّ من السكر وخلع عليهم كلهم وعلى كل من له ذكر في العسكر وأرسل إلى الخاتون زوجة السلطان وإلى جميع الخواتين وعاد السلطان من الصيد بعد ذلك.

وهكذا كانت أعمال أولئك الرجال تصدر عنهم بلا روية ولا حساب لأن الرعايا والبلاد والثروة كانت لهم يتصرفون فيها بما يشاؤون وأين هذا الترف من ذاك الاقتصاد الذي أثر عن عمر بن عبد العزيز وقد أمر جليسه رجاء بن حيوة أن يشتري له ثوباً بستة دراهم فأتاه به فجسه وقال هو على ما أحب لولا أن فيه ليناً قال رجاء: فبكيت قال: فما يبكيك قال: أتيتك وأنت أمير بثوب بستمائة درهم فجسسته وقلت هو على ما أحب لولا أن فيه خشونة وأتيتك وأنت أمير المؤمنين بثوب بستة دراهم فجسسته وقلت هو على ما أحب لولا أن فيه ليناً فقال: يا رجاء إن لي نفساً تواقة تاقت إلى فاطمة ابنة عبد الملك فتزوجها وتاقت إلى الإمارة فوليتها وتاقت إلى الخلافة فأدركتها وقد تاقت إلى الجنة فأرجو أن أدركها. وقال: قوّمت ثياب عمر بن عبد العزيز وهو يخطب باثني عشر درهما وكانت قباءً وعمامة وقميصاً وسراويل ورداءً وخفين وقلنسوة.

بل أين ذاك الإسراف من زهد نور الدين محمود بن زنكي صاحب الشام وديار الجزيرة ومصر فإنه كان لا يأكل ولا يلبس ولا يتصرف إلا في الذي يخصه من ملك كان له قد اشتراه من سهمه من الغنيمة ومن الأموال المرصدة لمصالح المسلمين ولقد شكت إليه زوجته الضائقة فأعطاها ثلاث دكاكين في حمص كانت له يحصل لها منها في السنة نحو العشرين ديناراً فلما استقلتها قال: ليس لي إلا هذا وجميع ما بيدي أنا فيه خازن للمسلمين لا أخونهم فيه ولا أخوض نار جهنم لأجلك. وكذلك كان خليفته صلاح الدين يوسف بن أيوب فإن كان على كثرة فتوحه وبسط يده على ذخائر وكنوز عظيمة لم يدخر منها شيئاً وفرقه في وجوه المبرات وإقامة المعالم الخيرية حتى إذا لحق بربه لم يخلف في خزائنه غير دينار واحد صوري وأربعين درهماً ناصرية ولما بنى له أحد رجاله في دمشق قصراً مشرفاً بهجاً وبخه على عمله ولم يرض أن يسكنه لما أنفق عليه من النفقات الفاحشة.

وبالجملة فتاريخ الأمة ينعي على المسرفين أعماله كما ينادي بالثناء على المقتصدين من رجالها فإن جاء مثل ابن عباد وابن أبي عامر والقاهر والمستكفي والحسن بن سهل فقد جاء أمثال عمر بن عبد العزيز ونور الدين وصلاح الدين وكل منهم ذكر بعمله ولقي جزاءه في قصده وإسرافه.

الانتحار

سلامٌ على الدنيا سلام مودع ... رأى في ظلام القبر أنساً ومغنما