مجلة المقتبس/العدد 16/نظام الأكل

مجلة المقتبس/العدد 16/نظام الأكل

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 5 - 1907



معربة عن مبحث للدكتور فلوري في المجلة الفرنسوية

سوء الهضم أكثر الأمراض انتشارا ولاسيما في الطبقة المستنيرة من الناس ومسبباته كثيرة فليست أسبابه الأخلاقية هي الغمم والملل فقط بل الاهتمام بالأشغال والأعمال.

وإذا تيسر للمصاب به أن يسلي نفسه ويبدل محيطه الذي يعيش فيه وأن يستحم في حمامات البحر والنهر وأن يصرف زمناً في الخلاء يزول هذا المرض مؤقتاً ثم يعود إلى حالته عند عودة صاحبه إلى معاطاة أعماله.

ولطالما نصح الطبيب للمصاب بسوء الهضم أن يتخلى عن أفكاره ويتناسى ما يشغل ذهنه ولكن هذه النصيحة قلما عمل بها إلا إذا كان في خلال الطعام. ولقد أبان بافلوف الفسيولوجي الروسي المشهور أنه ينبغي تنأول الطعام بسرور ليجود الهضم. فإذا كان صاحب المرض مشتت البال وقضي عليه أن يتناول طعاماً لا طعم له ولا لذة فيه لا يسيل اللعاب وعصارة المعدة ولا يعمل الهضم عمله وعلى العكس إذا استحسن المصاب به صحفه من الطعام فإنه يسيل لعابه في فمه وتحسن عصارة المعدة ويتم الهضم بسهولة.

يقولون أن الطاهي إذا أجاد الطبخ يحمل الآكل على أن يتناول من الطعام فوق حد الكفاية وهذا غلط فإن الناس لا يفكرون بأن أمثال هذا الطاهي ينتفع بغفلة المصاب بسوء الهضم ويستدعي سيلأن اللعاب والعصارة. وينبغي أن يكون تام النضج على أن ذلك لا يكفي إذ الواجب على الآكل أن يتنأوله كما ينبغي على الوجه الذي ينبغي. وإن معاشر الناس بأسرنا نأكل أكلاً رديئاً أي أن طريقتنا في تعاطي الطعام ليست صحية فلا نرى حرجاً في الإسراع بتنأول كمية من الطعام على المائدة.

وجوب التمهل في تنأول الطعام

من الآفات المنتشرة كثيراً تنأول الطعام بسرعة فإن الوقت يقضي على بعض الناس أن يسرعوا في خضمهم وقضمهم لأن دواعي أعمالهم تبعثهم على ذلك وبعضهم وهم أهل المزاج العصبي يعجلون في جميع الأعمال ويستحيل عليهم أن يقوموا بالتأني في معاطاة عمل لهم فترأهم يقضون أعمالهم كلها بسرعة ويصدم حركاتهم بعضها بعضاً وتأخذ أفكارهم بعضها برقاب بعض ترى كثيرين منهم من إذا حفزتهم الشهوة للطعام وجلسوا إلى الخو يشعرون بحاجة شديدة لتنأول الأكل فيزدرونه ازدراداً دون أن يجعلوا في وقتهم متسعاً للمضغ وقصارا هم أن يخضموا طعامهم مسرعين. كانهم يرون الغذاء ضرباً من ضروب السخرة فيأبون التريث والتلكؤ فلا يكاد يفرغ ما بين أيديهم من الصحاف حتى يطلبوا غيرها بإلحاح وسرعة.

وقد أطلقت اللغة ألفاظاً منوعة على الأكولين من مثل الاشتراط والنهم والشره أما الطبيب فإن هذه الأسماء تتساوى في نظره ويراها كلها بنتائجها فإن النهم وسرعة تنأول الغذاء على اختلاف حالاتها تؤول إلى نتيجة واحدة من تشويش الصحة. ذلك أن العصارات الهاضمة لا تؤثر التأثير الحسن في الأطعمة التي لم يحسن مضغها فإن الغذاء يتخمر ويحدث اضطرابات وبروزاً فاسداً وهي من الأسباب الفعالة في حدوث داء المفأصل.

تزول هذه الاضطرابات بأسرها إذا عقد المرء العزم على أن يحسن المضغ بالتدريج وقد نصح الدكتور فلتشر الأمريكي بإجادة المضغ على مهل وبتقليب اللقمة بحيث تستحيل كالمرق وتنعم وتمتزج باللعاب أي امتزاج ومن رأيه أن يبقى اللبن والحساء والخمر وكل شراب مغذ مدة في الفم قبل البلع. واللقمة إذا جزئت وطحنت على هذا النحو تصبح كالمادة القلوية باللعاب السائل. وقد قال فلتشر أن هذه القلويات ضرورية لهضم الطعام ومما ينفع في هذا الاستعمال الفواكه الحامضة مثل التوت الإفرنجي (فريز) والريباس (عنب الثعلب). وقد تبين له أن الهضم سهل بهذه الطريقة فقلت جراثيم الأمعاء ولم يبق فيها غازات ولا فساد وقلت رائحة المواد البرازية وبقيت في الأمعاء مدة أطول وقل مقدارها وتقلصت الأمعاء. والمتمهل في طعامه يشعر بزيادة المسرة عند الغذاء وتطيب نفسه لتنأول طعام بسيط ويتبدل سير صحته فلا تعب في الجسم ولا في الفكر غب الطعام ولا وجع في ولا أوجاعا مجهولة وتقل أعراض الرثية والنقرس بل تزول وهكذا الحال في ضعف المجموع العصبي فإنه يتبدل ويبتهج صاحبه ويحسن نظره في المستقبل. لأن جميع هذه الأعراض السيئة وكثيراً غيرها هي ولا جرم ناشئة من تسمم الإنسان بيده من الطعام فوق طاقته على طريقة مختلة. وأن كثيراً من الأمراض المزعجة لتحدث من ذلك فإذا جاد المضغ وحسن تنأول الطعام لا يحدث من سواء أثرها ما يحدث. فليس من الضرورة لمن أراد الاحتفاظ بشبابه أن يملأ معدته كما قال الأستاذ متشنكوف باللبن الرائب أو بحسب رأي القائلين بالتغذية بالنباتات أنت يمتنع الإنسان عن أكل اللحم بل يكتفي المرء بأن يحتاط لنفسه احتياطاً وأحداً وذلك بأن يمضغ بتأن فإذا فعل ذلك يسعده الحظ فيعمر مئة سنة.

نعم أن تحمس أتباع فلتشر لا يخلو من غلو فقد أبان جأن فينوفي كتاب فلسفة طول الأعمار أن أحسن ما يداوي به المرء ليبلغ أقصى حدود الشيخوخة أن لا يكون فقط معتدلاً في كل شيء بل أن يكون من أسرة معمرة يبلغ أفرادها المئة سنة. وقد اعترف الأطباء في كل عصر بضرورة أطالة المضغ ليكون الهضم أصوله. وأنت ترى أن فلتشر لم يأت أمراً جديداً بل جعل من هذه الوصية الشائقة لجميع المصأبين بسوء الهضم قاعدة يسيرون علها وسنة يتبعونها.

وقد أثبت المستر ستيدان أستاذ الفسيولوجيا في كلية بال الأميركية قدر هذه الوصية فأخذ ينظر بالدقة في طعام الأساتذة والتلاميذ والجند وقسم جراية كل إلى نصفين وجرب ذلك بالدقة وأخذ يسجل على وجه الصحة ما يدخل الجوف وما يخرج منه. فتوصل أقوياء البنية بمجرد تنأولهم الطعام بتأن أن يهضموا هنيئاً مريئاً نصف الطعام وأحياناً ثلثيه وقللوا خصوصاً من معدل لأنه هو الغذاء الذي يهيج بالأكثر تركيب التو كسين فقويت أجسامهم ونشطت وحالفتها البهجة وأخذوا يتمتعون بصحة أجود من صحة أخوانهم الذين لم يسيروا على سيرتهم.

ينبغي تقليل كمية الغذاء

أن لا نسرع في تنأول الطعام بل نكثر أيضاً من تنأوله فإن هذين النقصين متلازمين بالضرورة. ولا بد لمن يسرع في تنأول أكله أن يتناول كمية كبيرة من الطعام لأن جزءاً من طعامه لا يهضم وكلما أكل زادت شهوته ونهمه ولا تنتهي به الحال إلى الشبع. ولقد عرف القدماء مضار الإكثار من الطعام فضربوا لذلك الأمثال فاشتهرت عنهم وكان أول مؤلف أشاع ذلك بين الملأ ودعا إلى عدم الإكثار من الطعام لويجي كورنا رو (1467_1566) فإن هذا الشريف البندقي (نسبة لمدينة البندقية) بعد أن قضى سبابه في الفسق طفق في الأربعين من عمره عقيب مرض شديد عراه يجري على ترتيب مدقق في معيشته على نحو ما يجري الرهبأن النساك فأخذ يقلل كل يوم كمية طعامه شيئاً فشيئاً بحيث أنزله إلى 340 غرأما من الطعام الجامد و400 غرام من الخمر ونصب له ميزاناً يتحقق به ما يدخل معدته وما يخرج منها. وهكذا تقدم هذا السري غيره يقرون في الأقلال من الطعام ولكنه لم يذكر الطريقة التي كان يمضغ بها فقويت بذلك صحته كثيراً وفي السبعين من سنة حدث له حادث مربع من عربة فقضقضت أعضاؤه وتهشمت جمجمته فحكم الأطباء بأنه هالك لا محالة ولكنه لم يلبث أن شفي. ولقد أراد أن يزيد طعامه بعض الشيء فمرض وعاد إلى التقشف في أكله ولم يعد يغضب ووجد راحة في فكره وأصبحت أخلاقه دمثة وحالته إلى النشاط والبهجة. وفي الثالثة والثمانين من عمره وضع كتاب ذكر فيه الطريقة التي ينبغي الجري عليها لتطول الحياة بلا أسقام ونشر أيضاً ثلاثة مصنفات في هذا الموضوع ومات في السابعة والتسعين وقال بعضهم في الثامنة بعد المئة.

ومن عهد هذا الرجل كثرت الأمثلة المشابهة لحاله وأنا اقتصر على إيراد حدثها فأقول أن الرحالة يوحنا شاركو الذي نزل من السفينة في رحلته الأخيرة إلى القطب الجنوبي في جماعة من رفاقه ليتوغل في الجنوب لما كان توزيع الطعام موكولاً إليه أخذ يعطي كل فرد من رفاقه نصف جرايته بدون أن يقول لهم أنه نقصهم من طعامهم فلم يشك أحدهم جوعاً وكانوا على ما ينالهم من التعب مسرورين ولم يمرضوا وبذلك تيسر له أن يطيل أمد هذه الرحلة حتى إذا كانوا في العودة وقد بقي معه قسم عظيم من المؤن أنشأ يعطيهم الجراية تامة أي الجراية المظنون أنها ضرورية للإنسأن فأصيبوا كلهم إذ ذاك بسوء الهضم.

وهنا سؤال وهو كم يقتضي للمرء من الجراية ليعيش على أقل تقدير. فأقول أن ذلك يرجع إلى أمور منها قامة الإنسان ووزنه ثم البلاد التي يعيش بها والجنس الذي ينسب إليه والعمل الذي يتعاطاه. وقد قام التواتر بتجارب مدققة للغاية في هذا الباب فأخذ رجلاً زنته 60 إلى 70 كيلو غراماً وكان يعيش في حرارة 17 درجة ويمتنع من كل عمل لا جدوى فيه وجعله في غرفة ووزن ما يدخل إليه وما يخرج منه بأدوات كثيرة منوعة كما وزن تنفسه وقدر جميع أعماله وأعطاه من الغذاء ما يولد فيه الحرارة اللأزمة إذا كان لا عمل له فرأى أنه في حاجة إلى 2250 من الكالوري في كل ساعة هذا إذا كان لا عمل له أي إلى 33 من الكالوري في الكيلو غرام فالشبان يحتملون الإفراط في التغذية فلا يحدث من ذلك فيهم سوى زيادة في حرارة الجسم وعرق غير اعتيادي وحاجة غير معتدل وليس كذلك في الشيخ والرجل الذي بلغ أشده وفي جميع من لم تكن بنيتهم على حالة حسنة فإن الإفراط في تنأول الأغذية يحمل المعدة فوق طاقتها فيشق عليها ويرهقها من أمرها عسراً. فإذا لم يتأت الهضم تخمر وتسمم ذاتي فتكثر الأملاح والحامض البولي الحامضة ويصاب المرء على الزمن باحتقأن الكبد وتغير الكلى والتحول إلى شحم فيكون بذلك مصاباً يوجع الأعصاب والمفأصل والسويداء وغيرها.

كيف يتمكن المرء من الأقلال من الطعام ومن تنأوله بتأن

تبين لك مما تقدم أن من مصلحة الإنسان أن يعدل عن طريقة عيشه ولا يقتضي ذلك كبير عناء ويكفي في هذا الباب إقناع المرء بذلك ليتحول إليه. على أنه من المحقق صعوبة التغلب على عادة سيئة حتى أن المصاب بسوء الهضم ليعترف بأنه يسرع في طعامه ويود إصلاح نفسه ولكن أرادته وحدها لا تكفي في مغالبة هواه فتراه يحتاط في أول جلوسه إلى المائدة ولكنه لا يلبث أن يعود إلى طبيعته فتتغلب عليه فيأخذ في القطع والبلع. ونظن أن مداواة هذا النقص تكون بإعطاء أطعمة منوعة كثيراً تتقدمها توابل مطبوخة كحساء الجلبان أو العدس والخذيعة (طعام من لحم أو سمك مخردل) وربما نصحوا باستعمال العلك فيهجم اللعاب والعصارة المعدية على الغذاء إلا أنه يلزم للعاب من الوقت ما يتمكن معه من البسيلان. ولذلك اقتضت الضرورة أن تكون البداءة بالأكل لقماً صغيرة وأن يمضغ بتأن حتى اللحم والحساء بل السوائل من اللبن والمرق والشراب.

ويرجو بعضهم أن يعالجوا قلة سيلأن اللعاب بأن يمضغ بعد الأكل قطعة من الصمغ مضغاً طويلاً. فقد اعتاد الأمريكيون هذه الطريقة وما هي إلا ملطفة وملينة مؤقتاً فإن اللعاب يسيل متأخراً كثيراً فإذا وصل إلى المعدة يمتزج مع السوائل وعصارة المعدة فيفقد جزءاً من قوته.

وهناك حيل يحتال بها لإصلاح حال الأكولين وزحزحتهم عن الشره فإذا كان الأكول يملأ معدته ليشبع فوق طاقته ونصح له أولا أن يقطع اللحم والخبز قطعاً صغيرة كما تقطع للأطفال وأن لا يتناول منها سوى لقمة دفعة واحدة وأن يتناول الحساء والبقول الناشفة بملعقة صغيرة وأن لا يأخذ إلى فمه شيئاً منها إلا إذا بلغ المعلقة الأولى برمتها. وتتيسر معالجة سوء الهضم بتحريض صاحبه على الأقلال من أنواع الأطعمة كثيراً كان يراد على أن يتناول فطيراً فيأكل منه على وتيرة واحدة وهو طعام قليل اللذة ولكنه من أكثر الأطعمة هضماً ولا نرى هنا تعداد الطرق المختلفة التي يعمد إليها بعض الأمريكان فإن بعضهم يتنأولون غذاء مقتصرين فيه على الحبوب وبعضهم على الثمار وبعضهم يأبون أن يتنأولوا طعاماً دخل النار.

ومما يرتاب فيه أن تكون أمثال هذه التدأبير في الأكل صالحة في ذاتها وعلى كل فهي تقلل من الشراهة. ولهذه التدأبير في نظر الفسيولوجيين عائق عظيم وهو أن المرء يتنأولها بدون لذة على حين قد قلنا آنفاً ينبغي لجودة الهضم أن يستحسن الإنسان ما يتنأوله من الطعام. يقتضي أن يكون طعام المصاب بسوء الهضم بسيطاً ولكن ينبغي أن يكون لذيذاً محضراً أحسن تحضير فإذا استحسنه المريض تنتهي به الحال أن يتلمظه ببطء وإذا رضي بأن يقدم له الطعام على مهل وأن يفصل بين كل صحفه بحديث مفرح فيكون ذلك من حسن طالع المصاب بسوء الهضم إذ يغدو معتدلاً في شرهه.

وإذا لم يصلح المعمود نفسه على الرغم مما تقدم فله طريقة أخرى ينصح بها فليتشر قال: إذا بلغ الإنسأن الطعام وفيه بضعة أجزاء لم تستحق كل السحق تقف بعد الحلق أما الجزء السائل من اللقمة فإنه ينزل إلى البلعوم وعندها يستدعي ذلك عملاً جديداً من البلع لتسييرها إلى مقرها. خذ مثالاً لذلك طلمة (قرصاً) من الفاكهة فامضغها وأبلعها فإن التفل يستحيل باللعاب إلى مواد نشائية (هيدرات الكربون) نصف سائلة فتمر بعد ذلك في البلعوم أما قشر الثمار وبزها فإنه يقف قليلاً في الحلقوم وليس أسهل عند ذلك من إبداء حركة يعاد بها الطعام إلى الفم بدون قيء وأن تتعاور وهذه الأجزاء التي لم يحسن المرء سحقها ويعاد مضغها حتى لا يعود يحس بطعمها أصلاً فإن هذه الطريقة التي ارتآها وتحققها بذاته هي أسهل على الأجزاء من إبقاء الطعام ريثما يمضغ بتمامه. وهكذا ينبغي استعمال الحيل على العادات القبيحة فإن الأرادة مهما بلغ من قوتها لا تكفي إذا لم يساعدها الذكاء.

الأطعمة السهلة الهضم

يقول فلتشر أن كل من بلغت به الحال أن يأكل قليلاً بتأن لا تأتي عليه بضعة أشهر حتى يتمكن من تنأول كل شيء ويستطيع أن يهضم فينبغي له ريثما يسعده الحظ بهذه النتيجة أن يعنى كل العناية باختيار الأطعمة السريعة الهضم. وقد اختلف المؤلفون في معنى سريع الهضم على طرق شتى فقالت فئة: هو كل طعام يجري بسرعة إلى الأحشاء وعلى هذا النظر قرروا لكل طعام الوقت الذي يصرفه في المعدة بيد أنه يمكن أن يمر في الأحشاء وهو غير مهضوم وغير قابل للتعديل. ويفضل أن ينظر كل طعام سريع على الهضم لأنه يستحيل في الحال إلى كيموس متشابه وأن من الصعب تحقيق أمر هذه الكيموسة. والأفضل أن يعمد في ذلك إلى أن يعمد في ذلك إلى التعريف العامي وهو أن كل طعام سريع الهضم إذا هضم بدون أن يدركه الإنسان وكل طعام لا يهضم هو الذي يحدث ثقلاً وانتفاخاً وتجشؤاً. وقد وضع الكيماويون والفسيولوجيين في كل زمان طبقات للطعام على قابليتها للهضم وعدمه فلم يكن بحثهم إلا تقرير الرأي الشائع. وإنا لا نذكر هنا ما وضعوه من القوائم والفهارس لأنك تجدها في جميع المعمودين بدون تمييز. بيد أن بعض الناس على لطافة معدهم يهضمون بعض الأطعمة الصعبة الهضم. دع عنك الاستعداد الشخصي الذي لا يحسن الأطباء تفسيره ويزخرفونه ستراً لجهلهم باسم مفخم فيدعونه (الأديوسأنكرازيا) وهو الميل أو الكراهة لبعض الأمور وينشأ من استعداد خاص بالمزاج. ثم أني أرى من الأشبه أن يقال أن هذه الأطعمة قابلة للهضم لأنه يلذ المرء تنأولها ولا ينبغي أن يستنتج من هذا أن كل طعام يروق في الذوق يكون سهلاً على الهضم فإن عكس ذلك هو المألوف وأحسن ما يجدر في هذا الباب تعاطيه أن يثق المرء باختباره الخاص. وعلى كل فإن بعض الأصناف من الغذاء سيئة الأثر في جميع المعمودين وهي الأطعمة المهيجة والأطعمة الدسمة. فإن الفلفل الأحمر والبهار والخردل والتوابل المصنوعة في الخل والطرطور الإنكليزي تهيج شهوة الطعام وليس سوى تهيج المخاطيات فينبغي الإمتاع عنها وكذلك الحال في الأدوية المفتحة (كالمياه المعدنية وغيرها) والإبسنت والخمر فإنها كلها تقاس على ما تقاس عليه تلك المشهيات أما الأطعمة الدسمة فإن فيها عائقاً أخر لأن الدهن يتحد مع مخاط المعدة فيمنع عنها البروز ويقاوم هجوم الأطعمة بالعصير المعدي.

ومن المبادئ المقررة التي ينبغي للمعمود الجري عليها أن يكون طعامه لا دسم فيه ولحمه لا دهن فيه وسمكه كذلك وأن تكون الثمار التي يتنأولها غير زيتية. وهنا اعتراض وهوانه كيف يتأتى تحضير الأطعمة إذا منع الطاهي من وضع شجم الخنزير والدهن و (السلسات) الدسمة فإن معنى ذلك على أيدي الطاهي بحيث يتعذر عليه أن يحسن طبخ الطعام فيكون من ذلك على المعمود أشق من مرضه على أنه يمكن استخدام مادتين دسمتين سهلتين على الهضم ألا وهما زيت الزيتون والسمن فإن زيت الزيتون الخالص يحسن أكله ولكن ينبغي ترغيب النفس في طعام الزيت. وسكان الجنوب من فرنسا عرفوا بهذه الميزة. وكذلك السمن فإنه الغذاء الدسم السريع الأنهضام على شرط أن لا يكون مطبوخاً فإذا كان السمن نيئاً يكون مستحلب وقطيرات دقيقة تعوق العصارات الهاضمة عن عملها كثيراً وإذا كان مطبوخاً يسوء هضمه كشحم الخنزير.

فلا يضاف السمن على الأطعمة المختلفة إلا إذا رفعت هذه عن النار وتم طبخها وهذه الطريقة التي اعتادها مهرة الطهاة لأن السمن إذا أذيت على الوجه يحفظ طعمه. أما السمن النباتي المستخرج من الجوز الهند الذي أخذ يدخل المطابخ تحت أسماء متنوعة فإنه يهضم كالسمن الحيواني.

وأراني في الختام قد مرنت على الكلام في فن الطبخ بكتابة هذه المقالة على أنها ليست فصلاً في الفسيولوجيا بل هي درس في الطبخ أردت أن أبن ببساطة أن لعناية المصأبين بسوء الهضم علاقة بهذا الفن ولو كنت أشكو من هذا المرض لعمدت إلى طبيب ممن عرف بشرهه وأخذت رأيه فيما يقتضي لي الجري عليه فإنه يكون ولا جرم ابن بجدة هذا المرض ولكن من الغلو أن يطلب مجموع هذه الصفات من رجل فرد.