مجلة المقتبس/العدد 25/مطبخ الفقير
مجلة المقتبس/العدد 25/مطبخ الفقير
من مبحث للدكتور فيليكس رينيول في المجلة الباريزية
طعام المتوحش غليظ كبنيته
أصبح أفقر البائسين لعدنا في مأمن من الجوع على أن المتوحش لا يزال عرضة للمجاعة لا لأن الطعام المدخور عنده قليل بل لأنه يجهل الزراعة وتربية الماشية وتختلف موارد عيشة من الصيد والقنص كثيراً إذ ليست أبداً منه على طرق الثمام. وما مثل المتوحش إلا كالجوارح الكبيرة من النمر والفهد يصيد الصيد تلذذاً بالقتل وهو لا يحسب للغد حسابه ولما كان على جهل بطريقة تجفيف اللحم والتقديد أصبح من الصعب عليه أن يدخر اللحوم لأوقات القلة. وهناك أمورمن الخرافات المضحكة تزيده بلاء وذلك أنه يرى بعض الحيوانات مقدسة ويعتقد أنها اجداد قبيلته فإذا رآها اتخذها طوتمه وحاميه ويعد نفسه إذا قتلها كلها بأنه خرق الحرمة وعبث بأقدس المقدسات. يتقزز المتوحش من جميع الأطعمة التي لم يعتد تناولها قد فإن تغذى بلحوم الصيد تأنف نفسه من تناول السمك وإن اغتذى من السمك يعاف اللحم. ومع هذا تراه يعمد إلى اختيار الأطعمة الغليظة. إن جاع عمد إلى الحبوب البرية والجذوع الخشبية واسترط الحشرات والديدان وأخذ القمل عن أخيه يقضمه. ومعلوم أن لا شيء يخلو من صوالة مغذية حتى التربة الصلصالية التي تغتدي منها ديدان الأرض أحسن تغذية والإنسان يسير على مثالها فيكون من أكلة التراب ولكن أمعاءه لا تهضمها فينتفخ بطنه ويحدث التهاب في الأحشاء يكون منه الموت.
إذا أسعد المتوحشين الحظ فقتلوا حيواناً كبيراً أو صادوا سمكة ضخمة يقعون عليها كالحيوانات الجائعة. فقد وصف لنا أرباب الرحلات شراهتهم الحيوانية فإن الصانيين من قبائل الهوتنوت في أفريقية الشرقية إذا ضربوا فرس بحر يفتحون جثته وهو حار ويأكلون أحشاؤه كما تأكلها الكلاب. وإذا سقط حوت على الشاطئ يخف سكان أوستراليا الجياع عراة كيوم خلقوا وينغمسون في الدهن ويبلعون قطع الحوت الكبير بلعاً ولا يرجعون عنه إلا وقد امتلأت كراشهم وشبعوا وانتفخت بطونهم فينامون بعد ذلك طويلاً. بيد أنه لا يجب علينا أن نسخط مما يبلغنا عن أولئك المنحطين في سلم المدنية فإن فلاحينا يأتون في ولائمهم من الإكثار من الطعام والشراب ما لا يقفون فيه عند حد ولولا أن أنواع الأطعمة تختلف لقلنا أنهم المتوحشون بعينهم.
المتوحش إذا لم يتخير رديء الأطعمة فهو لا يعرف الطبخ ولا أعني بذلك أنه لا يجيد طبخ طعامه بل أنه لا يعرف كيف ينضجه ولا شك أنه لم يعهد إلى الآن قوم مهما انحطوا في دركات التقهقر يجهلون إيقاد النار. ولكن من القبائل من لا تحسن الانتفاع بها وهي توقد جذوة على الدوام لتظل النار عندها بلا انقطاع. ولا عهد لهم بأواني الطبخ لما ثبت من أن بعضهم يجهلون صنع الفخار فيلقون حجراً محمى في الماء إذا أرادوا تسخينه وهم على جانب من الكسل بحيث يؤثرون أن يأكلوا معظم المآكل النيئة كالديدان والهوام والأسماك ويقضمون بفكوكهم القوية الجذوع القاسية والأثمار الليفية.
قال المترفه بيريللا سافارين الفرنسوي مؤلف كتاب فسيولوجيا الذوق (1755 ـ 1826) قل لي ماذا تأكل أقل لك من أنت. وهذه الحكمة يتيسر لعلماء الإنسان أن يطبقوا عليها أبحاثهم وذلك أن طعامه قلما يكون صالحاً للأكل وأن للمتوحش فكوكاً ضخمة مستطيلة وأضراساً غليظة وأعصاباً للمضغ قوية. وعندما يتحضر تتحسن أطعمته وتخف قوة شدقيه وأسنانه.
يقول المسيو حنا فينو أنه ليس بين الأجناس المتمدنة من البشر فروق كثيرة وعلى العكس في الأجناس المتوحشة فإن بينها وبين المتمدنة اختلافاً كثيراً في الصور الظاهرة والحواس الباطنة وظن بعض علماء الإنسان بأن هذه الاختلافات هي على إطلاقها على أنها مما يمكن تعديله وبذلك يتسنى لنا تعليلها. ولقد كانت أول الاكتشافات في أول عهد الحضارة هي اكتشافات الطبخ فقد رفع القدماء إلى مصاف الأرباب الأذكياء الذين علموهم زراعة الأرض وتدجين الحيوان وصنع الخبز وتخمير المشروبات.
إفراط المتمدنين في المآكل الأطعمة التي يتقزز منها والتر يرغب عنها:
قلنا أن المرء اليوم يكاد يكون في مأمن من الجوع ولكن الشر الذي عجز الوجود أن يسومه إياه أصبح خاضعاً له بواسطة الحروب مختاراً. فإذا حوصرت مدينة يعمد الجياع من أهلها إلى تناول الأطعمة القذةر كالكلاب والقطط وجرذان المجاري وسائر أصناف الحيوان ويذكرون أن الجلد والعشب والخشب لها بعض الخصائص في التغذية وللضرورة أحكام.
تجد مائدة الفقير في الأوقات المعتادة مغشاة بالأطعمة التي هي أكثر تغذية والطف طعوماً مما يقنع به أخوه الفقير الحقير ولذلك يستهين بالأغذية التي تطيب بها نفس أخيه المتوحش فتعاف نفسه الحبوب وجذوع الأشجار والحشرات والديدان وكل ما يدب ويطير علماً منه بأن مثل هذا الغذاء لم يخلق له. على أن جودة التحضير قضت على الفرنسيس أن يتناولوا أفخاد الضفادع والحلزون. والإنكليز يتقززون من الفرنسيس مع أنهم لا يستنكفون من تناول فطير الغراب.
الفقير كالمتوحش عدو التجديد في كل ما له علاقة بغذائه يأبى تناوله أحسن طعام لم يعتده منذ طفولته. ولم ننس ما قاساه بارمانتيه في القرن الثامن عشر حتى صير البطاطا مألوفة بالاستعمال بين الناس. وقد مضت أعوام قبل أن يقبل الفقير باستعمال لحوم الخيل مع أنها مغذية جداً ولا نزال إلى الآن في جهاد حتى يألف الناس استعمال السمن النباتي المستخرج من الجوز الهندي على أن في استعماله اقتصاداً وهو سهل الهضم لذيذ الطعم يأبى العملة الاعتماد عليه وبعض أهل الطبقات الوسطى تقبل عليه.
نحن كالمتوحش نسرف في الطعام ويصعب تقدير كمية الطعام التي تلقى كل يوم في علبة الفضلات وليتنا نحسب الأرغفة البائتة التي تطرح طرح الزوائد وليت جمعيات الإحسان تتمكن من جمعها لتعمل بها ثريداً أو حساءً لألوف الفقراء. ولا يخلو واحد فينا من الإسراف في الطعام حتى الجند في ثكنهم فإنهم يلقون بفتات الخبز الأسمر. أما سائر الأطعمة فلا ينتفع بها لكثافتها على أن فيها ما لا يزدري به وينفع كل النفع. تملأ كل صباح في أسواق باريز عجلات الصوالات والفضلات بمواد يسهل استعمالها وذلك أن القوم يطرحون رؤوس الأسماك ولا سيما (الكابيلو) و (الكولين) ولو أخذت لصنع بها حساء لطيف.
وربما اعترض معترض فقال إن هذه الفضلات قليلة وإذا صارت تباع ترتفع أثمانها على أننا لو فرضنا أن رأس سمكة الكولين بيع بخمسة وعشرين سنتيماً وصرف في الرز والطماطم والبصل والبقدونس والصعتر والملح والثوم والنار فرنك يكفي الحساء المستخرج من هذه الصورة بفرنك واحد لإطعام ثمانية أشخاص.
نعمل سلاطة مقبلة بأوراق القضبارون (سفورجنة) وإن سفير (الأوراق الذابلة) الفجل إذا استعملت كما يستعمل السبانخ تطيب وتلذ وإن الجزء الأخضر من الكراث الذي يطرح في العادة يمكن الانتفاع به في الحساء حتى أن الأوراق الخارجية وبقايا (قرمية) الملفوف تحتوي على مواد مغذية. نعم إن الناس يخشون من أليافها الصلبة ولكن إذا أجيد طبخها وأطيل الإطالة اللازمة وسحق سحقاً كافياً لا يخشى منها. والناس يلقون أيضاً فضلات رؤوس البقر على حين تستخدم في زيادة طعم حساء البقول ولكن العامل يصنع منها مرقاً بالخضر وهو لا يعرف إلا المرق المطبوخ بالبقول الناشفة المقسمة أحسن تقسيم ويأبى إباؤه أن يغتذي بمثل هذه الفضلات.
وهناك بعض المواد يمكن الانتفاع بها في الغذاء على شرط أن تحضر تحضيراً خاصاً ولطالما بحث الباحثون من أجل الانتفاع بالألياف العظمية فإن الكلب يأكلها جيداً وإذا لم يستطع الإنسان أن يجري على مثاله فذلك لأن ماضغيه وأحشاؤه ضعيفة. ولقد حاول كثيرون منذ قرون أن ينتفعوا بالعظام أو بالهلام (الجلاتين) المستخرج منها ليطعمها الفقير واستعملت طريقة الكيماوي (أبرت) في استخراج الهلام من العظام لحفظ المأكولات ولكن الجلاتين أقل تغذية مما كان يذهب إليه الناس من قبل فهو يزيد الحرارة في الجسم ولكنه لا يقوى على تقوية أنسجتنا ولا تجد فيه خاصية اللحم والألبومنيد وإذا تغذى الكلب بالجلاتين خاصة يموت لساعته.
جمود الفقراء وغيرهم على أحسية واحدة
يقول علماء الاقتصاد حيثما يخرج رغيف يولد إنسان. يريدون بذلك أن سكان كل بلد على نسبة غناها في غذائها وإذا كان الجمهور يزهدون في جميع هذه المواد النافعة في التغذية التي تكثر سواد الناس أما في طاقة دور الإحسان أن تستخدمها وتحسن استعمالها كانت العقيلة روبرت أول من فكر سنة 1840 في تحضير وجبة طعام لفقراء باريز لقاء أربعة فلوس وطعامها مؤلف من حساء بالملفوف وقطعة من الثريد والخبز وقدح من الحمر. ثم كان عقيب ذلك أن صار يقد حساء بلا مقابل للفقراء وكان بريبان أول رجل من أصحاب مطاعم الفقراء أخذ يوزع الطعام على المساكين. ومع ما دخل هذه المطاعم من الأدوات التي تهيئ الأطعمة أسرع من ذي قبل وعلى صورة أحسن مثل أدوات القطع والفرم والسحق فإن هذه المطاعم لم ترتق الارتقاء المطلوب وأمثال هذه الأدوات تستخدم للانتفاع بالمواد التي تطرح ولا تستعمل بالنظر لصلابتها وذلك بأن تحيلها إلى ثريد يسهل تشبيهه بالثريد المعروف وهكذا الحال في أنواع الأطعمة فإن مطاعم الشعب لا تبحث لصنع حسائها عن الحبوب التي تكثر تغذيتها وتقل قيمتها كالأرز والشعير والقرطمان.
ولعل هذا ناتج من أن للفقير من عزة النفس ما يجعله يأنف من بعض الأطعمة حتى أنك لو قدمت له طعاماً مؤلف من الفضلات اللذيذة لرأى في المسألة نظراً. وكثير من الفنادق توزع بقايا الطعام على الفقراء. وقد قال أحدهم يوماً وخدام أحد الفنادق يريدون أن يطعموه: إنهم أكلوا الأطايب ولم يتركوا إلا الأخابث. وأظهر من هذا صراحة ما قاله الدكتور فيرون: أريد أن أعرف ماذا جرى للكمأة فإنني لا أجدها قط.
إلا وأن كل اختراع في هذا السبيل ليصعب ويسوء قبوله بين هؤلاء الزبن وما أظن أنه لو قام أحد المحسنين في هذا القرن وأنشأ يطعم الفقراء من الفضلات التي تطرح في الأزقة على طريقة علمية إلا ويكون شأنه شأن سويه الفرنسوي منذ ستين سنة. وهذا الرجل كان من أعظم الطهاة اشتهر في وقته وله شراب منسوب إليه كما له مرق اشتهر به فقد كان مديراً لمطابخ ريفورم كلوب في لندن فزعم أنه اكتشف طريقة لمكافحة القحظ في إيرلاندا وأسس في أحد شوارع دوبلين بأمر الحكومة مطعماً للشعب واحتفل بافتتاحه فحضر الاحتفال جمهور كبير من الناس ومنهم رئيس أساقفة دوبلين ونائب ملك إيرلاندا وقدم للناس سبعة أنواع من الطعام على أخونة لطيفة وفي أوان حسنة وكانت نكهة أنواع الحساء تنبعث كالعطر واستطاب الناس تلك الأحسية وأقبلوا على محله إقبالاً غريباً يفدون خماصاً ويروحون بطاناً. دام الحال على هذا المنوال شهراً وأولمت الولائم لسويه في المدينة حتى أن نائب الملك دعاه لتناول الطعام على مائدته. وأخذ الفقراء يباركون اسمه لأنه كان لهم بمثابة المسيح الذي أنقذهم من مخالب الجوع والمخمصة وفي خلال ذلك عزمت دار الندوة أن تقرر إنشاء مطابخ للشعب تشبه مطاعم سويه في بلاد الأقاليم إنقاذاً للناس من فتكات الجوع وعندما خطر لسوئه أن ينشر كراسه يكتب فيها كيفية تحضيره هذه الأنواع من الأحسية قائلاً أن لحومها قليلة وكثير منها خال من اللحم بالمرة فقامت الجرائد المعارضة تشهر عليه حرباً عواناً قائلة أن أنواع هذا الحساء لا تغذي طاعمها وتفسد بنية الإنسان وينشأ عنها أمراض شديدة بل مهلكة وذهبوا إلى أن انكلترا رأت في هذا الطعام القتال أحسن واسطة لإلقاء السلام في إيرلاندا للتخلص بصور شريفة من ألوف البائسين المعربدين لأن وجودهم كان على الدوام سبب القلق على سياستها وحملاً ثقيلاً على الميزانية، فاضطر صاحبنا سويه إلى السفر خلسة توقياً مما يلحقه من الأذى وربما كان صلب.
تعليم العامل كيف يحسن ابتياع طعامه وإجادة طبخه
لسنا ندعو المحاويج وحدهم إلى الانتفاع من علم التغذية بل أن العامل والمتوسط على اختلاف طبقاتها بل جميع أبناء الوطن يتيسر لهم أن يستفيدوتن منه فقد أجاد لاسال أحد زعماء الاشتراكية في ألمانيا (1825 ـ 1864) بقوله أن المسألة الاجتماعية هي أولاً مسألة طعام وأكل. وقد أثبت الأطباء لاندوري ولابي وروم هذه النظرية التي قال بها ذاك الاشتراكي فإذا كان السل منتشراً في المدن الكبرى فهو ناشئ في الأكثر من قلة التغذية ويضاف إليها أسباب أخرى من البؤس كالتعب والإدمان على الشراب والعادات الرديئة.
والذي يظهر لمن ينظر في الأمور نظراًُ سطحياً أن العامل يغتذي أحسن تغذية ويختار أجود أنواعها وأن امرأته تبتاع للبيت يوم يقبض زوجها أجرته أحسن الحاجات البيتية فيكثر أهل البيت من الأكل ومن الغد تنقلب وليس عندها شيء فتحمل زوجها على الاقتراض ريثما يقبض عمالته ومن أجل هذا تجد في حي الفقراء في باريز أجود أنواع البطاطا وأحلاها وأحسن أجناس السمن والسمك فتبتاع زوجته ما شاءت منها بدون حساب وكيفما اتفق لها على حين لو اشترت بالجملة ودققت في حسابها لكان ما يكلفها بالمفرق فرنكاً وربعاً لا يكلفها أكثر من خمسة وثمانين سانتيماً في الجملة.
ثم أن العامل معتقد بأن كل طعام رخيص الثمن فيه ربح له وهو لا يحسب تلك الفضلات التي لا تؤكل. فمن وزن اللحم يجب إسقاط العظام والجلود الجلاميط والعراقيب ومن السمكة أحشاءها وحسكها ومن البيض فشره ومن الجبن قشرته ولكل خضرة نفاية ولكل ثمرة قشرة أو بزرة أو ساق عقب ثم ينبغي أن تلاحظ كمية الماء الموجودة في المواد وأن لا ينسى أن البقول الناشفة ولو كان ثمنها أغلى فإنها خير من الطرية لقلة المائية فيها ولحم العجل وإن كان أرخص من لحم البقر فليس هو أحسن منه لما فيه من المائية وقلة التغذية وهكذا لكل بقل ولحم فضلات وحثالات وعندي أن تجمع هذه المعلومات في شكل قائمة تنشر في كراسة ليعرف الناس أن مئة غرام من أضلاع العجل تعادل في تغذيتها 129 غراماً من صدره ولا يفوت الناظر قيمة التتبيل والوقود. على أن علماء الاقتصاد لا يحسبون في العادة حساب هذه النفقات ويعدونها طفيفة مع أن لها شأناً في تحضير الطعام.
وهناك شيء آخر لا يحفل به عيال العملة وأعني به الوقت وذلك أن نساء العملة يشتغلن أيضاً في المعامل حتى إذا جاء المساء يضررن لأن يسرعن في تحضير الطعام فلا يجدن أيسر من البفتيك والأضلاع والمشوي ولذلك يكثر استعمال هذه الأنواع في أحياء العملة وربما ابتعن اللحم المقدد والثريد المصنوع والبقول المطبوخة الحاضرة. أما وإنه يصعب فصل النساء الفقيرات عن معاطاة الأعمال فمن العبث أن يعلمن أساليب الطبخ والتفنن فيه فما أجدر أن يعنى الطباخون بتحضير أطعمة خاصة بالطبقات النازلة بثمن بخس ومؤلفة من مواد جيدة.
من المتبلات اللذيذة التي ذقتها واستطبتها وهي من تحضير المسيو مونتانيه ولا تكلف الإنسان أكثر من عشرة سانتيمات مربب التفاح وكيفية صنعه أن تأخذ 500 غرام من التفاح من الجنس المعروف برينت و200 غرام من الخبز البائت و25 غراماً من السمن و50 غراماً من السكر و3 ديسلترات من الماء. وهذه الماء لا تكلف أكثر من خسيم سانتيماً بالجملة وتكفي لطعام ستة أشخاص. وكيفية تحضيرها أن تقشر التفاح وتقطعه قطعاً كبيرة وتقع الخبز قطعاً ناعمة وتلت أسفل الصفحة الطبق أو الصحن بعشرة غرامات من السمن وترش ملعقة صغيرة من السكر ثم تضع سافاً من الخبز وسافاً من التفاح وهكذا إلى أن تأتي عليهم ثم تضيف إليهما ما بقي من السكر والسمن وتقسمه إلى قطع وتبله بالماء وتضع الصفحة عشرين دقيقة في الفرن وتتناول ما فيها في الحال. ثم أنه يمكن أن يجود هذا المريب أكثر من ذلك بزيادة نفقة قليلة وأن يجعل دسيلتران من اللبن بدل الماء ويضاف إليه بيضة محلولة ويمكن زيادة كمية السكر وأن تحسن رائحته بأن يوضع فيه قشرة من الليمون أو البرتقال أو القرفة.
يجب تغيير الطعام بحسب العمل وما يجب على العامل معرفته
هب أن العامل يعرف أن يبتاع طعامه ويطبخه فإن المسائل الاقتصادية والصحية ليست وحدها هي التي تطلب حلها بل أن الأهم منها هي المسألة الفيزيولوجية التي يجب أن يكون لها مبدأ صريح إذا أراد العامل أن يضمن صحته وعمله. فإن الفيزيولوجي يعلمنا بأن الطعام يجب تنويعه بحسب نوع العمل بحيث يكون منه ثلاث منافع: إصلاح الأنسجة التي تبليها أعمال الحياة وإعطاء الحرارة التي تحفظ على الجسم حرارته وإيراث القوة اللازمة لكل عمل عضلي. فنحتاج للقيام بهذه الحاجيات الثلاث إلى ثلاث عناصر أولية الألبومنيد من اللحم والبيض والبقول والدهن الحيواني أو النباتي وهيدرات الكربون أو الدقيق الذي يكثر في البقول فالألبومنيد يصلح من أنسجتنا والدهن يعطي الكالوري والدقيق يعين على العمل ويعطي المرء كمية من الحرارة. ولجعل التغذية على نظام مخصوص يجب أن يوضع موضع العناية لا المناخ والفصل (إذ من البين أن في الشتاء يحتاج الجسم إلى كمية من الكالوري أكثر من الصيف) ولا اختلاف أحوال الأحياء (إذا أن المرأة الحبلى أو التي ترضع والولد الذي ينمو يحتاجان إلى إنشاء أنسجة جديده فيهما) بل ينبغي أن ينظر إلى نوع العمل.
ومنذ مدة بحث الدكاترة لاندوزي وهنري ومارسل لابي في تغذية مئة من العملة والمستخدمين في باريز فكان لبحثهم رنة كبرى وذلك أنهم قسموا العملة إلى أربع طبقات جعلوا في الأولى جميع العملة الذين يعملون أعمالاً بدنية كالنجارين والحفارين والنقالين والحمالين وصناع الحديد الخ. هؤلاء العاملون يكثرون من تناول اللحم فيأكلون مئتي غرام في اليوم وقلما يتناولون المعجنات المغذية والبقول ونصف لتر من الحساء ولا يتناولون سكراً مكعباً من الإنسنت و40 سانتمتراً مكعباً من الكحول على درجات مختلفة. والطبقة الثانية العملة الذين يعملون أعمالاً معتدلة كمن يشتغلون في المصانع أو المعامل الميكانيكية والنجارة الخفيفة والقفالين وغيرهم فهؤلاء يتناولون أيضاً لحماً كثيراً فيأكلون 225 غراماً منه وقليلاً من المواد النشوية والمعجنات المغذية والأحسية والبقول والأطعمة المعمولة بالسكر فيأخذون 400 غراماً من الخبز و7 غرامات من السكر وربع لتر من الحساء ولتراً من الخمر و50 سانتمتراً مكعباً م الكحول في درجة خمسين.
والطبقة الثالثة من العملة الملازمون للجلوس ككتاب الإدارات ومستخدمي المخازن وعملة المكاتب التجارية وغيرهم فهؤلاء يكثرون من كل شيء ولاسيما من اللحم والألبومين النباتي والبيضي فيأكلون 510 إلى 540 غراماً من الخبز و40 غراماً من السكر والشوكولاتا ولا يأخذون حد الكفاية من البقول الطرية والمأكولات العمولة بالسكر ويكثرون من المقبلات الكحولية والمشروبات فيأخذون ثلثي لتر من الخمر و80 سانتمتراً مكعباً من الكحول على خمسين درجة وعلى العكس ن ذلك فإنهم لا يشربون ماءً نقياً بقدر ما يجب ومعلوم أن الماء ينفع في تنقية الأنسجة غير العاملة في الجسم. والطبقة الرابعة عبارة عن العملة والمستخدمين كالخياطات وبائعات الأزياء ومستخدمات المحال التجارية وغيرهن فإنهن أيضاً يرتكبن أغلاطاً كبيرة تخالف قواعد صحة الغذاء فيأكلن أطعمة كثيرة قليلة التغذية والأدام كالسلاطة والفجل والمرق المخلل والقثاء والثمار الرديئة وأثل من حد الكفاية من كل نوع فيتناول الفرد منهم 250 غراماً من الخبز و7 غراماً من اللحم و80 غراماً من لابقول وربع لتر من الخمر.
ولا يفوتك أن المستخدمين الملازمين للجلوس وحدهم يأكلون في الصباح قبل تعاطي أعمالهم وما عداهم فإنهم يبدأون بأشغالهم على الريق.
ويرى الأطباء المشار إليهم أنه يلزم العامل الذي يبذل من قوة جسمه 3600 من الكالوري كل يوم وللعامل المعتدل 12600 وللعاملين الجالسين على كراسيهم 2100 ولبائعي الأزياء 2090 وهو حد الوسط الكافي ولا ينبغي تطبيقه بالحرف بل أن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص وقاماتهم ووزنهم وأعمالهم. فإذا أحب العامل الألبومين لتغذيته فغلبه بسمك الأرنكة والجبن وفخذ الخنزير والبقول الناشفة فإنه فيها بغيته بثمن معتدل على العكس من اللحم والبيض فإنها مواد غذائية تعد من نعيم البطون. ولكي يحصل على الهيدروكربون عليه أن يستعمل البطاطا فإنها في الدرجة الأولى برخصها ثم الرز والخبز والسكر والبقول والثمار الناشفة. وإذا أراد الأدهان فليعمد إلى دهن الخنزير وشحمه وأنواع الجبن والشوكولاتا.
هذا وقد عرف جميع المشرعين مكانة تنظينم التغذية وقد حرم موسى على العبرانيين لحم الخنزير والحيوانات المقدسة لفكر ديني كما حظر ما نوي على الهنود لحم البقر. وما زالت معتقدات المتوحشين بشأن الحيوانات التي يعدونها أجدادهم واعتقادهم بالطوتمية موجودة إلى اليوم عند أبناء هاتين النحلتين وتجعل لهذا الحظر وجهاً من الشرع. وقد كان ليكورك أول من سن للإسبارطيين أن يتخذوا أطعمة عامة يعتمد عليها كالحساء الأسود أما الآن فإن الأفكار أكثر حرية في هذا المعنى فلا تقدر الحكومة أن تستعبد أرادة المحكوم عليهم في طعامهم فليس أحسن من أن نعمد إلى طريقة الامتناع من طريق الخطابة والكتابة وعلى أندية كليات الشعب خاصة أن تبين أمثال هذه الموضوعات وأن تنشر كراريس رخيصة لنشر هذه الأفكار والتعليم الديني الذي يعلم في المستقبل هو تعليم التغذية في الحقيقة.