مجلة المقتبس/العدد 25/الأسرة

مجلة المقتبس/العدد 25/الأسرة

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 2 - 1908



قامت الاجتماعات البشرية الأولى على مناسبات طبيعية منشؤها روابط عصبية وميل إلى أرض واحدة واتحاد في العادات واجتماع على أسباب المعاش ولم تتألف لأول أمرها إلا من أسرات منفردة ثم تقارب بعضها من بعض فتألفت جماعات جدد. وما احتيج في العقود الزوجية بادئ بدء إلى أقامة الحفلات لأن الرجل والمرأة كانا يعملان كلاهما أعمالاً شاقة تضطرهما إلى جهاد متواصل ويختلطان أكثر من اختلاطهما اليوم. وما كان يطلب من النساء ما يطلب منهن على عهد التمدن الحديث أو ما يطلبنه لأنفسهن فيه من أساليب الظرف والكمال فإن هذا كله لم يكن في تلك الأدوار معروفاً كما لا يشاهد الآن في العناصر المنحطة من البشر. وكان بين الرجال والنساء من التماذج الذي يسقط دونه التمايز والنساء هن صلة القربى والأبناء ينسبون لأمهاتهم.

ثم حدثت رغبة التزاوج بزوجة فنشأ من ذلك الزواج بالبيع أي ببيع حقيقي عند الشعوب الأولى وبالبيع في الظاهر فيما بعد ثم نظم الزواج بأنواع التنظيم المختلف. فتيسر بذلك للأغنياء وزعماء القبائل أن يأخذوا عدة زوجات ونشأ من أجل ذلك الضر بعد أن كان الأبناء يدعون لأمهاتهم. وما زال الضر أي تعدد الزوجات شائعاً في آسيا وأفريقية وذلك للعادة المتبعة في تسليم الأعمال اليدوية للنساء بحيث يكون منهن أعظم مساعد وينتفع بجهادهن أحسن انتفاع.

الطر وإن كان من طبيعته جائراً فهو خطوة نحو التقدم إذا قيس بما كان البشر يألفونه من قبل من نسبة الابن لأمه وذلك لأن الأب والأم معروفان فيه. فقويت درجات القرابة أكثر من ذي قبل وغدا من السهل على الناظر إذا رجع إلى الماضي أن يأتي بسلسلة متصلة من الأبناء ونشأت من احترام الأجداد ولاسيما في الشرق عبادة خاصة ما زالت في بعض أنحائه على قوتها.

جرت عادة الشعوب الآرية منذ عهد بعيد أن تقتصر على زوجة واحدة وكان من نتائج هذه العادة إكرام المرأة واحترام حريتها ورضاها كل الاحترام وحل الشعور بالحب محل توحش القرون الأولى وأصبحت المرأة ملكة في بيت زوجها وإن تكن مستعبدة من حيث الأخلاق. وحدث من عواقب الاقتصار على واحدة من النساء في أوروبا نظام الأسرات ففرضت على كلا الزوجين واجبات كثيراً ما كانت موضع المناقشة وقد تعدل فيقبلها الرأي العام والقانون. وهكذا جرى عقد تبادل الواجبات بين الزوجين على غير قاعدة المساواة فاليونان والرومان لم يقولوا بتعدد الزوجات ولكنهم لم يمنعوا التسري ولطالما رأوا أن لا مانع من التزوج بامرأة غير المرأة الأصلية على طريقة نصف شرعية ولذلك لم تكن الفتاة اليونانية محررة من قيود العبودية كل التحرير فهي في طفوليتها طوع إرادة أبيها وإذا تزوجت أصبحت تحت حكم زوجها وإذا ترملت يكون أمرها بيد أقربائها أو بكر أولادها. ولم تمتز العقيلة الرومانية على ما كان لها من الحرمة عن الرجال بأمر ولا خلصت من وصايتهم عليها.

وكان نفوذ المرأة في شمالي أوروبا بين البرابرة ضئيلاً وكذلك عند أمم السلت والغاليين وحالها أحسن بقليل عند الجرمانيين ولذلك اقتضى لها حركة عقلية قوية للاستمتاع بحريتها ولقد كانت النصرانية بتمجيدها الأمومة عوناً على رفعة شأن المرأة الأدبي وإعلاء مقامها وتكريمه أكثر مما كانت. ومع هذا فتكاد لا تخلو حالها من نقد ويوشك أن لا يكون موقفها معه بعيداً عن الحرج. ويكفي للاقتناع في هذا الباب أن يدرس المرء ما يتعلق بالمرأة من مواد القانون درساً موجزاً ليعرف حالها إذ ذاك. على أن هذه القوانين ما برح حكمها إلى اليوم نافذاً في معظم الممالك الأوروبية.

فقد جاء في تلك القوانين بشأن المرأة بأن عليها أن تطيع زوجها وتفقد بعقدها عليه جنسيتها واسم أسرتها واسم بلدها وحرية التمتع بحقوقها وليس للزوج أن يتنازل عن الحقوق التي منحه القانون إياها ويحظر على المرأة أن توقع على عهد مدني أو شرعي بدون إذن من زوجها أو ممن يرجع إليه أمرها. وتفضل القانون عليها فمنحها حق الإيصاء وهي لا تستطيع وإن تجردت عن مالها أن تكون لها صفة أمام المحاكم ولا أن تمنح مالها وتبيع وترهن وأن تأخذ شيئاً بثمن أو بلا ثمن دون توسط زوجها فيه وإذا لم يكن لها زوج فالشرع يتولى ذلك منها وإذا كان الزوج يشرك زوجته في الأموال ساغ له أن يتصرف لا بريع أملاكها فقط بل أن يملك في بعض الأصقاع وارداتها الناتجة عن عملها بالذات.

ولا يحق للمرأة أن تنظر في مستقبل أولادها. ويحظر عليها إذا كانت أميرة ملكية أن تجلس على سرير الملك في كثير من الممالك وإن دل تاريخ بعض الملكات في إنكلترا وألمانيا وروسيا على أن صولجان الملك في أيدي النساء لم يكن دونه في أيدي الرجال قوة وسطوة وقد بذلت العناية من وراء الغاية ولاسيما في العهد الأخير في تعديل القانون الذي لا يمنح الزوجة وهي في حجر الأسرة إلا شطراً محدوداً من العمل فسوغ المعارضون تلك القيود الموضوعة وعللوها بقلة حنكة المرأة وتجاربها وما يعتريها من التأثرات النفسية والبواعث المحركة لها بدون أن ينظروا إذا كانت هذه الدواعي من الخطأ والأعمال النابية عن التدبر كثيراً ما أثرت أثرها وإن معظمها ناتج عن ذاك القانون نفسه الذي يزعم بأنه غير جائر. ولا جرم أن التعليم الذي تتعلمه المرأة اليوم على قلة كفايته وغنائه إذا توسع فيه جرى تحسينه بحسب سنة العقل لا يلبث أن تظهر نتائجه في الحال. وإذا ربي عقل أم البيت المقبلة وأشعر قلبها الإحساس بما لها من المكانة ينشأ عن ذلك أساس تربية الولد الذي يطلب إليها أن تراقب تأثراته الأولى ويديرها بيدها.

يجب أن تكون المرأة رفيقة الزوج لا خادمته. وإذ أنها شاركته في نعيمه وبؤسه فلها الحق أن تشركه في حياته وأعماله وأمانيه في المستقبل وأن تستند إلى معونته وحمايته في جميع الأحوال وإذا احترمت في ذاتها تظل أمينة معه فهي حاؤرسة التقاليد البيتية فإذا خانت وأدخلت عنصراً أجنبياً إلى بيتها في وقت ضعفها فتكون قد ارتكبت عملاً شائناً توبخها نفسها عليه ويؤدي ذلك بها إلى نفاق وكتمان لا ينطبقان مع طبيعتها الشريفة وتضطرب نفسيها أي اضطراب كلما تمثلت لها فعلتها.

فالزواج على ما يتمثل لفكر عادل مستقيم يفرض أن هناك حساساً حقيقياً بين الزوجين المقبلين وأنهما على كمال الاستمتاع بقواهما في المال والقدرة على العمل ليضمن بقاء الأسرة وهذا الشرط الأخير كثيراً من يصعب تنفيذه ويا للأسف ومنه ينتج أن بعضهم قد يطيلون أمد عزوبيتهم إلى أجل غير مسمى مع ما في امتناعهم عن الزواج من الاستهتار والشذوذ. ويعقد بعضهم من العقود الزوجية كل ضعيف ضئيل يكون الداعي الأعظم فيها مصلحة خاصة وأغراض ذاتية. ومن هناك أتت المفاسد وهي ناشئة من عادات رديئة وكثيراً ما تكون هي الجرائم بعينها. وقد ظهر في بعض الزواج من التنافر في الطباع والأخلاق ما اقتضى معه أن يتلافى أمره بالسماح بحل رابطته. وما الإذن بطلاق الزوجين المتنافرين إلا إقرار شرعي على أمر ثابت أصبح دوامه لا يطاق.

وكل ما يفصم عرى عهود الزواج وإن كان معقولاً في ذاته لا يخلو من حسرة تلحق الأبناء الذين ولدوا من أبوين يريدان الطلاق والانفصال. وبهذا النظر تعين على زوجين يرغبان في الطلاق أن لا يقدما عليه إلا بعد التأمل الكثير ليتحاميا الوقوع في مصائب تربو آلامها على ما صارت إليه حالهما.

ولقد دعا تعدد الزواج المتسرع في عقده دون النظر في المستقبل والتدبر في قلة ملائمته إلى القدح في نظام الزواج نفسه في صورته الحاضرة وتعظيم أمر الزواج المدني الحر إذا ضمنت فيه حالة الأولاد الذين يولدون منه ببعض ضمانات خاصة فلا يقوم الزواج بعد ذلك بإجراء شعائره المدنية أو الدينية بل بإنشاء صك بسيط تكون شروطه معلقة على إرادة المتعاقدين. ولعله يأتي من هذا التغيير المتطرف ضرر بالطريقة المستعملة الآن في الزواج. على أني قلت آنفاً أن الزواج الذي لا يفكر في عاقبته ويتم الرضى فيه دون العناية بما يحدث عنه من المسؤوليات قد أصبح سائغاً فليس من العبث إذن أن يجعل للمراسيم الزوجية بعض الشروط ليفهم المتعاقدان أن كل الفهم خطارة ما عقد لهما عليه. وبذلك يصبح احترام المرأة على أساس راهن. فإذا كانت الوعود التي تسبق الزواج الحر هي بحيث تضمن للمرأة مكانة اجتماعية فلا تعرضها لاحتمال أهواء النفوس التي يصعب الاعتذار عنها فإنها لا تختلف عن الشروط الزوجية الشائعة ولا موجب إذ ذاك للتغيير وإذا نقص من حرية الطرفين شيء يلحق المرأة من ذاك القسط الأعظم. فهي التي تستفيد في الواقع من الزواج خاصة لأن الزواج يعود منه في الغالب على الرجل زيادة موارد ثروته. وإن المرأة لا تتمتع بجمالها وتستوفي شروط التحبب إليها زمناً طويلاً فماذا تكون حالها يا ترى إذا شاخت ولم يكن لها بمقامها الطويل في بيت زوجها والتمتع بما تستحقه من الحقوق في يحاتها ما يجعلها موضوعه الحب الدائم والاحترام من زوجها؟ فكل عقد لا يوليها حالة ثابتة لا يتأتى لها معه مهما بلغ من جمالها وطهارة أخلاقها أن تأمل الوصول إلى أنواع سعادات الأمومة التي هي خاصة بالزوجة الشرعية. تستدعي حالة الولد عناية فائقة من الأب والأم حتى ينمو النمو القانوني في طبيعته وأخلاقه على أنه لا يستطيع أن يسير بما أمكن من الحكمة والتعقل ليجعل قياده بيده إلا إذا بلغ أشده أو كاد. فالمصلحة الاجتماعية تقضي أن يعيش أبواه معاً حتى يبلغ تلك السن ويستلزم ذلك قضاءهما أعواماً معاً فإذا انقضى ذاك الدور أيمكن النصح للزوجين بأن يفترقا ليبدأ حياة جديدة بعد فوات الوقت. وإنه ليرجى حرصاً على مصلحة الزوج وزوجه أن يكون الزواج دائمياً ولا ينحل عقده إلا في أحوال نادرة.

قلت أنه يجب أن يفرض في الزواج وجود عواطف في الحب متبادلة بين الراغبين فيه مصحوبة بحرية التمتع بمال يكفي لإعالة الأسرة ولا يلزم أكثر من ذلك في الحقيقة للأفراد حتى يكون الزواج شرعياً. وهنا سؤال وهو أنه هل تكفي هذه الشروط من حيث الاجتماع ألا يلزم النظر في صحة الزوجين لمصلحة الأولاد الذين يولدون منهما؟ أيسمح لبعض من أصيبوا بأمراض تنتقل بالوراثة أو معدية أن يعٍدوا زواجاً وينقلوا بأثرتهم وسوء غفلتهم العدوى إلى أسرة جديدة أخرى؟ هذه مسألة حرية بأن توضع محل النظر لأنها من أدق المسائل ولا يتعذر حلها لو جرى فيها كما يجري في دور تربية الحيوانات حيث يعزل السقيم عن السليم لأول وهلة أما في المبدأ الذي يستلزم أولاً العناية بتحسين النوع فإنه تحذف منه بحسب القياس الأعضاء الضعيفة الكثيرة أو السيئة التركيب لما في وجودها من الضرر الذي يلحق بالمجموع. لك أن ترجع إلى القواعد الطبيعية الظاهرة لتبرير هذا العمل فترى قاعدة الانتخاب الطبيعي تجري مجراها حولنا في ذوات الأعضاء فتشاهد أبداً في طبقة الكائنات النباتية والحيوانية فناء كمية عظيمة من الجراثيم لقلة غنائها في المحيط الذي تظهر فيه أو لضعف تركيبها عن المقاومة.

ألا يكون المرء قد عمل بسنة العقل وبما يقضي به الواجب إذا أرجأ بذاته ومحض إرادته وإخلاصه عدم إيلاد أشخاص يصبحون عرضة لعامة المصائب الطبيعية منذ ولادتهم. ومن المحقق أن المرء لم يتأثر وجدانه من هذا القبيل. فكان الحق للأب في الأزمان السالفة أن يستحبي من يولد من البنين والبنات أو يقتلهم ومتى رأى ولده ضعيفاً ضئيلاً يقدمه للموت بلا شفقة. ولقد نشأ في القرون الحديثة شعور وإن لم يكن حديثاً في الناس إلا أن ارتقاء التمدن جعله عاماً ونعني بهذا الشعور (الرحمة) في اليوم تعارض ما كان يجري سالفاً من قتل الأحياء الساقطة. لأن من لا يعجبك ظاهر حاله لفساد تركيبه الطبيعي لا يجب أن تحكم عليه بإسقاطه من المجتمع بل يتيسر أن يشغل من أعمال الاجتماع الكثيرة حيزاً يعمل فيه عملاً. فالحال تقتضي إذا إيجاد وسائط أخرى تكون إلى الاعتدال لتحسين أجناس الناس.

وقد اقترح بعضهم أن يفحص المرشحون للزواج فحصاً طبياً تفادياً من سوء الاستعمال ولو أمكن تطبيق هذه الطريقة الواقية لنشأ عنها نتائج حسنة إذ الظاهر أن تطبيق القول على العمل لا يخلو من شبهة. وذلك لأن الأهواء البشرية إذا ضيق عليها على هذه الصورة لا تلبث أن تخرج عن حد ما رسمه القانون وتعمد إلى التزويد وإلى الشهادات الطبية التي تنال بالشفاعات لتتجنب هذه القيود والأوامر. ومتى أصبحت هذه القوانين معمولاً بها وتعذر الزواج الشرعي على بعض الناس لا يلبثون أن يعمدوا إلى الزواج الحر فيخلصون على هذا الوجه من كل قيد وسلطة.

ولا دواء لهذه الأدواء إلا التربية إذا سارت على سنة العقل وكانت الغاية منها ترقية العواطف الشخصية بالآداب العالية. فالتربية هي التي تعلم أولئك الذي حظر عليهم الزواج لضعف فيهم أنه إذا جاز القانون عليهم ولم يرض لهم الاشتراك في النسل والحب فهو يوجب عليهم إذا أرادوا الخضوع لما أوصى به الشرف والواجب أن يمتنعوا عما يجعل العاهات فيهم دائمة.

أتجد تناقضاً في هذا الاستنتاج وفي شعور الآداب العالية التي دعوت إليها؟ لا أظن ذلك بل إني أعتقد أيضاً في بعض الأحوال الخاصة مثل قلة أسباب معاش الأسرة أنه يستحب لربها أن يتجنب زيادة عدد أولاده بدون روية لعلمه بأنه يحكم عليهم بالحرمان والفقر منذ ولادتهم. وليس معنى هذا أن نقبل رأي مالتوس كأنه حقائق في قوله بعدم التناسب بين نمو السكان ومواد معاشهم وأن نقص التوازن بين الأحياء وما يحيون به لا بد من وقوعه على أنه إذا ظهر ذلك فيكون من عدم التساوي في توزع الأجناس البشرية على سطح الكرة الأرضية.

ترى العناصر الإنسانية تتكاثف في بعض المحال بحيث يؤدي بها ضيق مضطربها إلى النزاع على صغر قطعة من الأرض التي كادت تفقد قوتها الإنباتية على حين أن هناك أراضي واسعة نادرة بخصبها وهي لا تزال بوراً. بيد أن مصاعب كثيرة تحول دون الإفراط في الإكثار من الجنس الإنساني. وبعد فإن للطبيعة أسباباً ملطفة ما زالت نواميسها غير معروفة حق معرفتها ولكن لها عمل لا يسع أحداً إنكاره على ضروب التناسل في عالم النبات كما في عالم الحيوان.

وقد ذكرت بعض الحوادث النادرة فيجب الآن أن أدخل في التعميم بأن أصور سلطة الأب على نحو ما ذكر ما هي معروفة عند أرباب الأفكار الحديثة. كانت سلطة الأب على أولاده مطلقة في القديم وجعلت الوصايا العشر بر الوالدين من أقدس واجبات الأبناء فإذا قال الولد لأبيه أفٍ وخرج عن طاعته يعاقب بالموت. ومثل هذا القانون كان نافذاً في أثينة وإن كان بشدة أقل. وكان لرب الأسرة في رومية الحق المطلق أن يقمع ما ارتكب أبناؤه وأهله من الأغلاط ولم تكن صلة القربى منظور لها بأنها نتيجة عقد بين الزوجين ولا يتيسر حلها اللهم إلا عند الجرمان والصقالبة (السلافيين) وما كان الابن حراً بالخروج من أسرته بمحض إرادته بل من الضروري استحصال رضى والده يمنحه إياه في صورة كأنه يحرره من رقه.

وغير نكير أن الطفل على جهله في كل شيء محتاج للتعليم والتهذيب فيجب عليه الطاعة لوالديه ويجب عليهما أن يحباه كثيراً ويحترماه بما بينهما من الصلات وبما يعاملانه به من المعاملة الحسنة لتكون تلط الطاعة مبنية على العطف والطبيعة. يجب أن تقوى فيه الرغبة في التعليم والعادة على الافتكار والشعور بالعدل وطيب السريرة تلك الصفات التي تضيق الخناق على أهوائه وتجعله عضواً نافعاً في حياته المستقبلية. فإذا اعتاد ذهنه الاشتغال يقوى ويجود كما يقوى الشعور بالمسؤولية. يجدر أن تترك له حريته وأن يستعاض عن إخضاعه لأوامر والديه بنصائح فيها العطف والحنان. فإذا طلب إلى الولد وقد استكملت سنه أن يحتفظ كل الحفظ بما يلزم من الطاعة وهو على كمال الاستحكام في قواه فيعد ذلك إجحافاً بحقوقه وإحراجاً لصدره. وعلى الوالد في تلك الحال أن لا يكون إلا بمنزلة صديق يؤخذ كلامه بالإجلال لا أن يكون بمنزلة معلم يسيطر على مستقبل ليس له منه ناقة ولا جمل.

كان التبني يسهل كثيراً في القديم فوضعت له القوانين اليوم قيوداً وشروطاً. وأخذت الصلات العائلية في الانحطاط عند الطبقات التي هي أكثر من غيرها انغماساً في الحضارة في أوروبا وأميركا فكان للحياة الخاصة في سالف الأزمان صفة ثابتة نتجت من النظام الاجتماعي الموضوع الذي فقد في المدن الكبرى لهذا العهد. وكان من ازدياد صلات الأمم بعضها مع بعض وتمازج العناصر المختلفة تعديل كثير من العادات المتأصلة والآراء التي كانت تتخيل سابقاً فزاد الارتباط بين الأفراد والمجموع الذين هم بعضه ودعت سهولة التنقل إلى حدوث تغييرات في المحيط فنشأ عن ذلك بحكم الطبع تأثرات جديدة أثرت في الحركة العقلية فاتسع مداها وانصبغت بصبغة الإنسانية. على أن موازنة الأخلاق القديمة قد سرت إليها أمور كثيرة ألقت فيها الاضطراب وزعزعت منها الأركان وستصلح بالضرورة. إذا لا يقوم مبدأ الأسرة على أساسه الطبيعي بدون شيء من التضامن. وكل اجتماع بشري عرض للزوال يعد عقيماً ولا ثمرة فيه بتاتاً.