مجلة المقتبس/العدد 28/المسلمون والذميون والمعاهدون
مجلة المقتبس/العدد 28/المسلمون والذميون والمعاهدون
الإحساس دليل الحياة
التضامن رائد العمران
يا بني أمي! ويا بني عمي!
تدبروا رعاكم الله فيما ترونه عن أيمانكم. وتبصروا فيما تبصرونه عن شمائلكم وتفكروا فيما بين أيديكم ثم خبروني ماذا تجدون؟
تجدون الشعور القومي قد تجسم معناه حتى كادت اليد تتقراه والعين تراه والإحساس لعمري دليل على الحياة.
ثم ثوبوا إلى أنفسكم وانظروا كيف كنا إلى عهد قريب متنافرين متفككين لا نستمسك بحبل متين من جهة الدنيا أو من جهة الدين حتى قال فينا فيلسوف المشرق: أننا اتفقنا على أن لا نتفق.
فاليوم أحمد الله إليكم يا بني مصر فقد أراد بكم الخير إذ وفقكم إلى سبيل الاتفاق.
اليوم بدأنا نطرح تلك الأهواء التي جعلتنا شيعاً متفرقة. أستغفر الله! بل جعلت كل فرد منا مستقلاً بنفسه منفصلاً عن سائر بني جنسه.
اليوم بدأنا نخالف ما ألفناه من تلك الاختلافات التي علمتنا أفانين العداوات وعبثت بكيان الأمة.
اليوم بدأ الأفراد يتضامنون بعضهم إلى بعض فتألفت منهم أفواج وجماعات بحسب المشار والأميال والغايات.
اليوم بدأت هذه الجماعات تتجاذب وترتبط بما فيه توثيق عرى الجامعة القومية وإظهار الأمة في مظهرها الصحيح.
اليوم أخذت تلك الجماعات في وضع الحجر الأول من هذا البنيان. بلي. فلأن اجتماعنا الآن دليل على أننا قد أدركنا أن التضامن رائد العمران.
أيما أمة تولد فيها الإحساس وسعى أفرادها إلى التضامن فبشرها بخير قريب وفلاح عاجل.
ولكن هنالك شرطاً لا مندوحة عنه: وهو أن يتعهد أهل الرأي فيها وأولو العزم منها هذا المظهر الجديد حتى لا يتغلب الشوك فيقتل النبت الصالح الذي يأتي بالثمر الشهي النافع.
ذلك واجب مقدس يتحتم علينا جميعاُ أن نقوم به لخيرنا جميعاً: فكل فرد منا هو في الحقيقة خادم للمجموع كما أن المجموع يتكفل بخدمة كل فرد على السواء.
دعاني ولو الفضل الدين تتألف منهم هذه الجمعية جمعية الرابطة المسيحية لأقف خطيباً بينكم وتركوا لي اختيار الموضوع كما أشتهي وأريد. فلم أر أفضل من المثول بين قومي وهم بنو أمي وبنو عمي داعياً إلى انضمام العنصرين اللذين يتألف منهما كيان الأمة المصرية راجياً أن يقوم غيري من الخطباء المفوهين فينسجون على هذا المنوال حتى نتوصل لتقويض دعائم التفريق التي جعلتنا مضغة في الأفواه وصيرتنا عبرة للناظرين.
لا ينبغي لي أن أقول أن المقام ضيق وأن المركز حرج لأني وجدت مجال القول ذا سعة ولكن هذه السعة كانت سبباً في حيرتي فصرت أتردد وأردد المثل السيار الذي ضربه الفرنساويون وهو: إنما الحيرة في الاختيار.
بيد أني بعد إنعام النظر رأيت أن أجعل خطابي على شكل محاضرة في صور مفاكهة أجاذبكم بها الحديث بذكر نوادر وأخبار حفظها التاريخ. وليس لي من أمل سوى أن نتوصل لجعل الأخلاف يرددون عنا شيئاً شبيهاً بما سأذكره من مآثر الأسلاف فيكون لنا لسان صدق في الآخرين: إذ يشتركون مع أرواحنا بسلام واغتباط في تحية هذا اليوم الذي هو باكورة الارتباط بين المسلمين والأقباط.
المسلم والقبطي: وإذا شئتم قلت لكم القبطي والمسلم. فالأولون الآخرون والآخرون الأولون.
ليس لهما إلا أم واحدة: هي مصر. وليس لهما إلا أب واحد: هو النيل. فهما صنوان بل شقيقان قد فرق بينهما الزمان حينما فسدت الأخلاق وتنكرت المعارف في هذه البلاد فتحكم فيهما الأجنبي والطاريء والدخيل سواء كانوا من هذا الدين أو من ذلك الدين.
بل تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم: أن لا نقول بغير الوطن وأن لا نفزع لغير الجامعة القومية. هذا تاريخنا وتاريخكم يشهد لأجدادنا وأجدادكم ويشهد علينا وعليكم. فما بالنا لا نرجع لسنة الأسلاف وقد كان فيها مجدنا ومجدكم؟.
سيقولون أن المسلمين اضطهدوا الأقباط. كبرت كلمة تخرج من أفواههم فكلها أغلاط في أغلاط.
هلموا يا بني أمي ويا بني عمي إلى قاضي التحقيق أو على قاضي الإحالة ليأمر بحفظ هذه القضية لأنها لم تتوفر فيها أقل دلالة بل لأنها مبنية على الضلالة لا محالة.
من هم المضطهدون ومن هم المضطهدون؟
أولئك نفر قليل من الحكام الغرباء الذين لم يرعوا إلاًّ ولا ذمة لا في المسلمين ولا في أهل الذمة. والمضطهدون (بفتح الهاء) هم المسلمون والأقباط على السواء: اللهم إلا أن يقال على سبيل البسط أن الاضطهاد والضغط كانا أشد وقعاً على رهط الأقباط: لأن اسمهم جاء على حرف الطاء.
كان الحاكم الظالم إذا تولى مصر (والظالم لا دين له) يستنزف الأموال ويستعبد الرجال لا يفرق بين فريق وفريق ولكن أثره لا يظهر ظهوراً واضحاً في المسلمين لأنهم أكثر مالاً وأعز نفراً بخلاف الأقباط فإن أقل حيف يقع عليهم يكون أثره أشنع وأفظع لقلة عديدهم. فلو كان لي تسعون نعجة وكان لأخي عشرة ثم وقع وباء أهلك ثلثي ما أملك وخمس ما لأخي لكانت مصيبتي أجل وأكبر وإن كانت لا تذكر ولا تظهر في جنب ما حاق بأخي الأصغر إذ يبقى لي ثلاثون ويبقى له ثمان. ولو كان لي ثوب ذرعه عشرة أشبار في عشرة أشبار وله ثوب قدره شبر في شبر ثم وقعت نقطة زيت على كل من الثوبين لكان وقعها على ثوبه أعظم أثراً وإن كنا قد تساوينا ضرراً.
تلك هي حقيقة الحال وإن كان هنالك بعض شذوذ نادرة فالنادر لا حكم له. فما بالنا لا نتناسى الأضغان إن كان هنالك أضغان؟ بل ينبغي لنا أن لا نكون أقل في العقل وأحط في الإدراك من ذلك الشرطي وذلك الحوذي: إذ أخذ الأول نمرة الثاني ليحرر فيه محضر مخالفة فأخذ الثاني نمرة الأول ليشكوه إلى العظيم الذي استوقفه. فقال له: إمسح وأنا أمسح
إليكم الآن أحاديث الرسول وما ورد في شريعة المسلمين مشفوعة بنتفٍ من أخبار الماضين علها تكون عبرة وتذكرة وعسى أن يكون من ورائها ما نرجوه من الرجوع إلى توثيق علائق الارتباط بين المسلمين والأقباط.
ورد في الآثار الثابتة الصحيحة أنه قال:
(1) ستفتحون مصر وهي أرض يسمى فيها القيراط فاستوصوا بأهلها فإن لهم ذمة ورحمة.
(2) إذا فتحتم مصر فاستوصوا بالقبط خيراً فإن لهم ذمة ورحماً (3) إن الله سيفتح عليكم بعدي مصر فاستوصوا بقبطها خيراً فإن لكم منهم صهراً وذمة.
(4) استوصوا بالقبط خيراً فإنكم ستجدونهم نعم الأعوان على قتال عدوكم.
(5) اتقوا الله في القبط لا تأكلوهم أهل الخضر.
(6) أن الرسول مرض فأغمي عليه ثم أفاق فقال استوصوا بالأُدُم الجعد ثم غمي عليه الثانية ثم أفاق فقال مثل ذلك ثم أغمي عليه الثالثة فقال مثل ذلك. فقال القوم لو سألناه من الأُدُم الجعد؟ فأفاق فقال: قبط مصر
(7) قبط مصر أكرم الأعاجم كلها وأسيمحهم يداً وأفضلهم عنصراً وأقربهم رحماً بالعرب عامة وبقريش خاصة ومن أراد أن يذكر الفردوس أو ينظر إلى مثلها في الدنيا فلينظر إلى أرض مصر حين يخضر زرعها وتنوّر ثمارها.
(8) أنه قال عند وفاته: الله الله في قبط مصر فإنكم ستظهرون عليهم ويكونون لكم عدة وأعواناً في سبيل الله.
(9) وفي الحديث عن شفي بن عبيد الأصبحي مصر بلد معافاة من الفتن لا يريد أحد هلكهم إلا أهلكه الله.
(10) وفي الحديث أيضاً: أهل مصر الجتند الضعيف ما كادهم أحد إلا كفاهم الله مؤونته
تلك هي أحاديث الرسول. وهل بعد هذه الوصايا المتكررة من حفاوة ظاهرة. اللهم إنها آية تجعل المسلمين أنفسهم يغبطون عليها أخوانهم الأقباط
ولننظر الآن على ما جاء في الشرع وقرره الفقهاء:
وجه أهل المصيطة سؤالاً إلى الإمام مالك فقالوا إنا نخرج في بلاد الروم (_ آسيا الصغرى) فنلقى العلج منهم مقبلاً إلينا فإذا أخذناه قال: إنما جئت أطلب الأمان فهل نصدقه؟ فقال مالك: هذه أمور مشكلة أرى أن يرد إلى مأمنه.
وبناءً على ذلك أفتى علماء الإسلام بأن الرومي إذا حلَّ يساحل المسلمين تاجراً ونزل قبل أن يعطى الأمان وقال: ظننت أنكم لا تعرضون لمن جاءكم بتجارة حتى يبيع تجارته وينصرف عنكم: فقالوا بأن يقبل منه قوله أو يرد إلى مأمنه. (مدونة جزء3 صفحة10).
فهل بعد هذا بيان في مبالغة المسلمين بالحرص على التجارة وحماية أصحابها ولو اتخذوها حيلة بل أفلا يقال بأنهم السابقون إلى فتح سياسة الباب المفتوح قبل أن يفتحه أهل أوروبا في هذه الأيام.
إنهم توسعوا في سياسة هذا الباب المفتوح فقد ورد عن الإمام مالك أيضاً (في الجزء المذكور صفحة 11) في حق الروم ينزلون بساحل المسلمين بأمان معهم التجارات فيبيعون ويشترون ثم يركبون البحر راجعين إلى بلادهم فإذا أمعنوا في البحر رمتهم الريح إلى بعض بلدان المسلمين غير البلاد التي كانوا أخذوا فيها الأمان. قال مالك: أرى لهم الأمان أبداً ما داموا في تجرهم حتى يرجعوا إلى بلادهم ولا أرى أن يهاجموا.
وأفتى بأن الذمي إذا أسره المحاربون المسلمين ثم غنمه المسلمون فلا يكون فيئاً بل ترجع له حريته كما كانت ويردّ إلى ذمته وأهله وماله. وقد قرر أيضاً بأن أموال أهل الذمة وأموال المسلمين سواء غنم المحاربون شيئاً من أموال الفريقين ثم تغلب المسلمون وغنموا هذه أموال في جملة مغانمهم وأدركها صاحبها قبل القسمة سواء كان مسلماً أو ذمياً كان هذا أولى بها بغير شيء وإذا أدركها بعد القسمة أخذها بالثمن وإن عرف أهل الإسلام أنها أموال أهل الذمة لم يقسموها في الغنيمة ويردونها إليهم إذا عرفوها فمثلهم في ذلك مثل المسلمين سواءٌ بسواء. (راجع المدونة في الجزء المذكور صفحة 13 و14).
ورأيت في كتاب الذخائر الشرقية في ألغاز الحنفية المطبوع على هامش كنز البيان صفة 126: إذا ماتت أم الولد وهو رضيع فأعطاه أبوه ليهودية ترضعه مع ابن لها وغاب أبوه وماتت اليهودية واشتبه الحال أيهما ولد المسلم ولم يحصل التمييز بوجه وبلغا على اليهودية فابن المسلم مسلم تبعاً وقد ارتد ولا يلزم أحدهما بالإسلام للاشتباه فأحدهما مرتد ولا يلزم بالإسلام لعدم تعيينه. وفيه أيضاً أنه إذا كان للعدو حصن وفيه واحد من أهل الذمة لا يعرف وقد افتتحه المسلمون عنوة ولم يؤمنوا من فيه لا يحل لهم قتلهم بسبب هذا الذمي الواحد الذي لا يمكن تعيينه وذلك لقيام المانع بطريقة يقينية وهو وجود رجل غير معين له ما للمسلمين وعليه ما عليهم وله في عنقهم عهد وذمة.
ولا يلزم اليهودي بالحضور إلى مجلس القضاء في يوم السبت إلا اضطراراً بحيث لا يكون المقصود إيقاع الضرر به تعمداً بهذه الوسيلة ومن المقرر أيضاً أنه إذا دعت الحال لتغليظ اليمين فيكون ذلك في المحل المعظم وهو المسجد الجامع للمسلم ولا يقوم مقامه مطلق مسجد ويحلف اليهودي في بيعته والنصراني في كنيسته والمجوسي في بيت النار وقال الشيخ سراج الدين عمر الحنفي قارئ الهداية إذا بنى الذمي داراً عالية بين دور المسلمين وجعل لها طاقات وشبابيك تشرف على جيرانه هل يمكن من ذلك. فأجاب بقوله: أهل الذمة في المعاملات كالمسلمين وما جاز للمسلمين جاز لهم وإنما يمنع الذمي من تعلية داره إذا حصل لجاره ضرر من منع ضوء أو هواء هذا هو ظاهر المذهب. انتهى. وحكم المسلم كذلك أيضاً في حكم الضرر بالجيران.
وحسبي هذه الشواهد الآن لأنني لست بمتفقه ولا متشرع كما أنني لا أبغي اغتنام هذه الفرصة لإلقاء درس في الشريعة الإسلامية الصريحة السمحاء فاسمحوا لي إذن بأن أطرق باب التاريخ وفيه غناء وكفاء بل هو الموعظة البالغة والحجة الدامغة.
لا حاجة للإشارة إلى العهود الكريمة والمنح الجليلة التي أتحف بها نبي الإسلام كثيراً من النصارى. فأمرها مقرر معلوم وهي أشسهر من أن تذكر. قال المؤرخ القبطي الشهير بالمكين ما نصه: ورد في تواريخ النصارى أنه كان مؤثراً لهم رؤوفاً بهم. . وقال لعمر أن نفوسهم كنفوسنا وموالهم كأموالنا وأعراضهم كأعراضنا. ذكر هذا الحديث صاحب كتاب المهذب وأسلمه (اسنده) إلى مسلم وهو حجة الإمام أبي حنيفة في قتل المسلم بالذمي.
وفد عليه بعض أكابر النصارى فقام له وأكرمه. فقالوا له في ذلك فقال: إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه وهذا كبير قومه. . وقال من ظلم ذمياً كنت خصمه يوم القيامة. وقال من آذى ذمياً فقد آذاني. ولكني لا أرى أبداً من التلميح إلى العهد العمري الذي حعله عمر بن الخطاب في رفقبة المسلمين والكتابيين ما داموا مرتبطين بعروة الوطن التي لا نفصام لها. فإن ثاني الخلفاء الراشدين هو أول من اشتبكت في أيامه مصالح المسلمين وغير المسلمين. فقد روى المقريزي عن علماء الأخبار من النصارى أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما فتح مدينة القدس كتب للنصارى أماناً على أنفسهم وأولادهم ونسائهم وأمالهم وجميع كنائسهم لا تهدم ولا تسكن. وأنه جلس وسط صحن كنيسة القيامة ولما حان وقت الصلاة خرج وصلى خارج الكنيسة على الدرجة التي على بابها بمفرده ثم جلس وقال للبطرك. لو صليت داخل الكنيسة لأخذها المسلمون من بعدي من النصارى وقالوا هنا صلى عمر. وكتب كتاباً يتضمن أنه لا يصلي أحد من المسلمين على الدرجة إلا واحداً واحداً. ولا يتجمع المسلمون للصلاة فيهلا ولا يؤذنوا عليها. وانه أشار عليه البطرك باتخاذ موضع الصخرة مسجداً وكان فوقها تراب كثير فتناول عمر رضي الله عنه من التراب في ثوبه فتبادر المسلمون لرفعه حتى لم يبق منه شيء وعمر المسجد الأقصى أمام الصخرة.
ثم أن عمر رضي الله عنه أتى بيت لحم وصلى في كنيسته عند الحنية التي ولد فيها المسيح. وكتب سجلاً بأيدي النصارى: أن لا يصلي في هذا الموضع أحد من المسلمين إلا رجل بعد رجل ولا يجتمعوا فيه للصلاة ولا يؤذنوا عليه.
وكثيراً ما يشير المؤرخون إلى العهود العمرية وقد ألف أبو العباس أحمد بن محمد بن العطار الدنيسري المتوفى سنة 715 كتاباً سماه العهود العمرية في اليهود والنصارى ولم أظفر بشيء سوى اسمه في كشف الظنون الذي أفادنا صاحبه أيضاً هو والسخاوي في التبر المسبوك أن المقريزي له كتاب اسمه شذور العقود وأكمل صاحب الكشف اسمه في موضع آخر بأنه عقود في تاريخ اليهود وجلها لم تصلنا لسوء الحظ.
فلما ظهر الإسلام وارتفعت كلمته كانت مصر في يد الروم روم الدولة الشرقية وكان عددهم فيها ثلثمائة ألف نفس توزعوا وظائف الدولة فيما بينهم وكانت الأمة كلها مهضومة الحقوق ليس لها سوى الاحتراف بالكتابة في الدواوين والتجارة والبيع والشراء والزراعة والفلاحة والخدمة والمهنة هذا فضلاً عن خدمة الدين فكان الأساقفة والقساوسة وغيرهم من الأقباط فلما قدم عمرو بجيوش المسلمين قاتلهم الروم حماية لملكهم ودفعاً لهم عن بلادهم حتى غلبهم عمرو على أمرهم فطلب القبط من عمرو المصالحة على الجزية فصالحهم عليها وأقرهم على ما بأيديهم من الأراضي وغيرها وصاروا معه عوناً للمسلمين على الروم وكتب عمرو لبنيامين بطرك اليعاقبة أماناً في سنة عشرين من الهجرة فسره ذلك وقدم على عمرو وجلس على كرسي بطركيته.
ولما توجه عمرو لفتح الاسكندرية خرج معه جماعة من رؤساء القبط وقد أصلحوا للمسلمين الطرق وأقاموا لهم الجسور (القناطر) والأسواق وصارت لهم القبط أعواناً على ما أرادوا من قتال الروم حتى تم فتح الاسكندرية ورجع عمرو قاصداً الفسطاط فجاز بناحية الطرانة فاستقبله بها سبعون ألف راهب خرجوا من وادي النطرون وبيد كل واحد عكاز وطلبوا منه الأمان على أنفسهم وأديارهم فكتب لهم بذلك أماناً بقي عندهم وكتب أيضاً بجراية الوجه البحري فاستمرت بأيديهم وقد بلغت في إحدى السنين على خمسة آلاف أردب. قال علي باشا مبارك أنها لا تزيد الآن عن مائة أردب. . وقال المقريزي أن دير أبي قمار الموجود بوادي النطرون فيه الكتاب الذي كتبه عمرو بن العاص لأولئك الرهبان بجراية نواحي الوجه البحري على ما أخبره من أهبر برؤيته فيه. وقد توجهات إلى تلك الجهة في شهر يوليو سنة 1894 بعناية الأب الجليل المثلث الغبطة كيرلس الخامس بابا الكنيسة المرقسية وبمساعدة المطران النبيل يوأنس مطران البحيرة والإسكندرية وزرت هذه الديارات كلها ونقبت فيما بها من الغرائر والزكائب والجوالق الموضوعة فيها الأوراق والكتب والمصاحف أملاً في العثور على ذلك الكتاب فلم أظفر به مطلقاً والغالب على الظن أنه ضاع أو تلقطه أحد سياح الإفرنج. فكان مثل الأقباط مثل المسلمين في التفريط بذخائر الأجداد. فأهل مصر كلهم سواء في ذلك. وإلا فأين المعاهدات والمكاتبات الدولية التي تبادلها ملوك مصر مع أمثالهم في أوروبا وغيرها؟ إننا إذا أردنا لعثور على شيء من هذا القبيل كنا عالة في أخص خصائصنا عن الإفرنج الذين حافظوا على ما وصلهم منا وقد نشره بعض علمائهم في القرن الماضي. فالتفريط والإفراط يستوي فيهما المسلمون والأقباط. فما بالهم لا يتساوون في أحكام علائق الارتباط؟.
اتسع بعد ذلك ملك الإسلام وانتشرت أعلامه في سائر الآفاق. فمان الخلفاء والسلاطين حماة المسيحيين يدفعون عنهم الأذى ويحوطونهم بأصناف الرعاية والإكرام ويعاملونهم مثل المسلمون بتمام المساواة بل ربما زادوا في تعظيمهم وتقريبهم بما لا يكاد يصل إليه سراه المسلمين.
هل أتاكم حديث عمرو بن العاص داهية العرب مع يحيى المعروف عند النصارى بغراماطيقوس أي النحوي؟ دخل هذا الفيلسوف على الأمير وقد عرف موضعه من العلوم فأكرمه وسمع من ألفاظه الفلسفية التي لم يكن للعرب بها أنسة ما هاله ففتن به. قال المؤرخ النصراني الفاضل غريغوريوس أبو الفرج المعروف بابن العبري في كتاب مختصر الدول كان عمرو عاقلاً حسن الاستماع صحيح الفكر فلازمه وكان لا يفارقه.
وعندي أن يحيى كان يحسن التكلم بالعربية دون عمرو فقد أثبت لنا التاريخ جهله باللغة الرومية وذلك في حادثة الأرطبون التي وقعت له بالشام وفي حديث أسره بالإسكندرية وسنذكره فيما بعد فإنه لم يفطن للمكيدة التي دبرها الروم لاغتياله لولا معرفة صاحبه في الأول ومولاه في الثاني بتلك اللغة وحسن تلطفهما في إنقاذه من التهلكة.
هل أتاكم حديث الحجاج بن يوسف ذلك الداهية الثاني فقد كان ملازماً لتيادوق وثيادون النصرانيين ولهما مكرماً. دخل الثاني عليه يوماً فقال له الحجاج: أي شيء دواء أكل الطين. فقال: عزيمة مثلك أيها الأمير. فرمي الحجاج بالطين ولم يعد إلى أكله بعدها.
وهل أتاكم حديث الدواوين في صدر الإسلام؟ فقد كان القيمون عليها كتاباً من النصارى وكانوا يكتبون الدفاتر باللغة الرومية حتى جاء عبد الملك بن مروان فألزمهم باستخدام اللغة العربية.
وهل سمعتم في دولة من الدول أو هل جاءكم نبأ عز ملة من الملل بمثل ما حصل للأخطل؟ فإن هذا الشاعر النصراني كان في خصام مستديم مع شعراء المسلمين بل خاض في حق الهاشميين وتهجم عليهم بالمثالب والمطاعهن وهو على نفسه وماله آمن.
هذا بعض ما أمكنني استحضاره الآن فيما يتعلق بالدولة الأموية.
أما الدولة العباسية فحدث عن البحر ولا حرج فقد كان لها في هذا الباب ما هو أعجب وأغرب.
انظروا ماذا جرى للخليفة المنصور وبخله مشهور حتى سماه التاريخ بأبي الدوانيق وبالدوينيقي أكرم طبيبه جيورجيس بن جبريل بن يختيشوع وأمر له بخلعة جليلة وأنزله في أجمل موضع من دوره وأكرمه كما يكرم أخص أهله. فلما مرض الرجل خرج الخليفة بنفسه ماشياً إليه وتعرف خبره. ولشدة شغفه به وتفانيه في حبه قال له: يا حكيم اتق الله وأسلم وأنا أضمن لك الجنة. فقال: قد رضيت حيث آبائي في الجنة أو في النار. فضحك المنصور وأمر له بعشرة آلاف دينار.
والمنصور كان حازم الرأي قد عركته الدهور وخافت الأيام سطوته وروى العلم وعرف الحلال والحرام لا يدخله فتور عند حادثة ولا تعرض له ونية عند مخوفة يجود بالأموال حتى يقال هو أسمح الناس ويمنع في الأوقات حتى يقال هو أبخل الناس ويسوس سياسة الملوك ويثب وثوب الأسد العادي لا يبالي أن يحرس ملكه بهلاك وخلف من الأموال ما لم يجتمع مثله لخليفة قبله ولا بعده وهو تسعمائة ألف ألف وستون ألف ألف ففرق المهدي جميع ذلك حين أفضى الأمر إليه.
وشبيه ذلك ما حدث بمصر في القاهرة سنة 385 فإن الطبيب أبا الفتح منصور بن مقشر القبطي كان له منزلة سامية من أصحاب القصر واتفق أنه اعتل وتأخر عن الركوب فلما تماثل كتب إليه العزيز بخطه: بسم الله الرحمن الرحيم. طبيبنا سلمه الله سلام الله الطيب وأتم النعمة عليه. وصلت إلينا البشارة بما وهبه الله من عافية الطبيب وبرئه. والله العظيم لقد عدل عندنا ما رزقناه نحن من الصحة في جسمنا. أقالك الله العثرة وأعادك إلى أفضل ما عودك من صحة الجسم وطيبة النفس وخفض العيش بحوله وقوته. وقد دخل ابن مقشر في خدمة الحاكم بأمر الله وكان مكيناً في دولته وبلغ معه أعلى المنازل وأسناها وكان له من الصلات الكثيرة والعطايا العظيمة فلما مرض عاده الحاكم بنفسه ولما مات لم يقبض على تركته كما جرت العادة على كبار المسلمين والنصارى بل أبقاها كلها لورثته وأطلق لهم مالاً وافراً من خزينته.
وشبيه ذلك بل أبلغ منه ما وقع للمعتصم العباسي مع طبيبه سلمويه فإنه مرض فعاده الخليفة وبكى هذا الهمام الجبار عنده وهو الرجل الذي لا يقاس به الرجال قوة بدن وشدة بأس وشجاعة قلب وكرم أخلاق وقال له: أشر عليَّ بعدك بمن يصلحني فقال عليك بهذا الفضولي يوحنا بن ماسويه وإذا وصف لك شيئاً فخذ أقله أخلاطاً. فلما مات سلمويه قال المعتصم: سألحق به لأنه كان يمسك حياتي ويدبر جسمي. وامتنع عن الأكل في ذلك اليوم وأمر بإحضار جنازته إلى الدار وأن يصلى عليها بالشمع والبخور على رأي النصارى ففعل ذلك وهوي راه وهو خليفة لامسلمين. فهل سمعتم بمثل ذلك عند غير أهل الإسلام. نعم سمعنا في هذه الأيام بأن ملك الإنكليز وهو مسيحي بروتستانتي قد انتقل إلى الكنيسة الكاثوليكية في لوندره لحضور الصلاة عن نفس ملك البرتغال فقامت عليه القيامة من جمهور الإنكليز وسوادهم الأعظم وكادوا يجاهرون بخلع طاعته لأنه خالف الدستور.
نرجع بالحديث إلى المنصور العباسي فقد كان في خدمته نوبخت المنجم الفارسي النصراني فطلب ما نسميه الآن الإحالة على المعاش فسأله الخليفة عمن يخلفه فأشار بولده فاستقدمه فاستسماه فقال اسمي خرشاذماه طيماذاه مابازار خسروانشاه فقال المنصور كل ما ذكرت فهو اسمك؟ قال: نعم. فتبسم الخليفة وقال: اختر مني إحدى خلتين إما أن أقتصر بك من كل ما ذكرت على طيماذ وإما أن تجعل لك كنية تقوم مقام الاسم وهي أبو سهل. فقال رضيت بالكنية. فبقيت كنيته وبطل اسمه.
ومن ذلك العهد إلى قرب دخول الدولة العثمانية في مصر كان النصارى واليهود والصابئة يكنون بأبي علي وأبي الحسن وأبي الفضل وأبي النجم وأبي الخير وأبي الفرج وأبي الكرم وأبي البقا وأبي بشر وأبي الحسين وأبي الفضل وأبي العلاء وأبي المكارم وأبي النصر وأبي الفتح وأبي المنا وأبي الحجاج وأبي العشائر وأبي المجد وأبي المعالي وأبي البركات وأبي الفخر وأبي الرجاء ويتلقبون بموفق الدين وجمال الكفاة وصنيعة الخلافة وعماد الرؤساء وأمين الملك وصنيعة الملك وسيف الدولة وشمسي الرياسة وركن الدين وكريم الدين وفخر الدين وشرف الدين وأوحد الدين وأمين الدولة وفخر الدولة وغرس النعمة ويتسمون بالحسن والحسين والعباس والفضل وعلي.
ونحو ذلك من عنوانات الشرف التي نظن نحن وأنتم أنها وقف على المسلمين على أنها أسماء لرجال ورد تاريخهم في عيون الأنباء وفي طبقات الحكماء وفي مختصر الدول وفي الكامل والمقريزي وغيرها من المؤلفات المعتبرة.
ومن ألطف ما يدل على دلال أهل الفضل في تلك الدولة ولو كانوا من غير الملة أن المهدي العباسي هم بالخروج إلى ماسبذان (من إقليم الجبل بفارس) فتقدم إلى حسنة حظيته أن تخرج معه. فأرسلت إلى رئيس المنجمين وهو توفيل بن توما النصراني الماروني قائلة له: أنك أشرت على أمير المؤمنين بهذا السفر فجشمتنا سفراً لم يكن في الحساب فعجل الله موتك وأراحنا منك. فقال للجارية التي أتته بالرسالة: ارجعي إليها وقولي لها أن هذه الإشارة ليست مني. وأما دعاؤك عليَّ بتعجيل الموت فهذا شيء قد قضى الله به وموتي سريع فلا تتوهمي أن دعوتك استجيبت. ولكن أعدي لنفسك تراباً كثيراً فإذا أنا مت فاجعليه على رأسك. فما زالت متوقعة تأويل قوله منذ توفي حتى توفي المهدي بعده بعشرين يوماً. وتوفيل الرهاوي هذا هو الذي نقل كتابي أوميروس الشاعر على فتح مدينة أيليون (تروادة) في قديم الدهر من اليونانية إلى السريانية بغاية ما يكون من الفصاحة وقد نقل العلامة سليمان البستاني أحدهما في أيامنا هذه إلى اللغة العربية فجاء آية في بابه.
ولما جاء زمن الرشيد كان من أطبائه يوحنا بن ماسويه السرياني وخدم ابنه المأمون إلى أيام المتوكل وكان معظماً ببغداد جليل القدر وكان يعقد مجلساً للنظر ويجري فيه من كل نوع من العلوم القديمة بأحسن عبارة وكان يدرس ويجتمع إليه تلاميذ كثيرون.
وكان فيه دعابة شديدة يحضره من يحضره لأجلها في الأكثر. وكان من ضيق الصدر وشدة الحدة بحيث تصدر عنه ألفاظ مضحكة شكا إليه رجل علة فأشار عليه بالفصد فقال لم أعتده فقال يوحنا: ولا أحسبك اعتدت العلة في بطن أمك. وصار إليه قسيسه وقال: قد فسدت معدتي عليّ فقال له استعمل جوارش الخوزي فقال له: قد فعلت، فقال: فاستعمل الكموني قال: استعملت منه أرطالاً. فأمره باستعمال البنداذسقون فقال: قد شربت منه جرة. قال: استعمل المروسيا فقال: قد فعلت وأكثرت فغضب يوحنا وقال له: يا أبانا يا قسيس إن أردت أن تبرأ فادخل في دين الإسلام فإنه يصلح المعدة.
وفي أيام المأمون وهي الأيام البيض التي يفتخر بها الإسلام كان الحكماء والعلماء وكلهم مقربون لديه ولا يفرق بين أحد وآخر بسبب دين أو مذهب. والإفاضة في هذا الموضوع تطول ولكنني أقتصر على أمر واحد يدل على عداوة أهل الفن. فقد كان في زمنه من الأطباء سهل بن سابور فارسي نصراني في لسانه لكنة خوزية وكان إذا اجتمع مع يوحنا بن ماسوية وجيورجيوس بن يختيشوع وعيسى بن الحكم وزكريا الطيفوري قصر عنهم في العبارة ولم يقصر في العلاج. ولكنه كان يأخذ بثاره بطريق الدعابات فمن ذلك أنه تمارض وأحضر شهوداً يشهدهم على وصيته وكتب كتاباً أثبت فيه أولاده وجعل أولهم جيورجيس بن يختيشوع والثاني يوحنا بن ماسوية. وأرجو إعفائي من السبب الذي انتحله لذلك فعرض لجيورجيس زمع من الغيظ وكان كثير الالتفات فقال سهل: صري وهك المسيه أخرؤا قي أذنه آيه خرسي أراد ابالعجمة التي فيه: صرع وحق المسيح اقرؤا في أذنه آية الكرسي. ومن دعاباته أنه خرج يوم الشعانين يريد المواضع التي تخرج إليها النصارى فرأى يوحنا بن ماسويه في هيئة أحسن من هيئته فحسده على ذلك فصار إلى صاحب مسلحة الناحية أي القره قول وقال له إن ابني يعقني وإن أنت ضربته عشرين درة موجعة أعطيتك عشرين ديناراً ثم أخرجها فدفعها إلى من وثق به صاحب المسلحة. ثم اعتزل ناحية إلى أن بلغ يوحنا الموضع الذي هو فيه فقدمه إلى صاحب المسلحة وقال: هذا ابني يعقني ويستخف بي فجحد أن يكون ابنه وقال يهذي هذا. قال سهل انظر يا سيدي فغضب صاحب المسلحة ورمى يوحنا من دابته وضربه عشرين مقرعة ضرباً موجعاً مبرحاً.
تلك أمور مما يتعلق بالأفراد وسنعود إلى شيء منها فيما بعد ولكن لا بأس من توجيه النظر إلى المجموع ففي أيام الرشيد خطب وزيره الفضل بن يحيى البرمكي بنت خاقان الخزر فأرسلها في تجمل عظيم ولكن منيتها وافتها في مدينة برذعة فأهم أعداء الخلافة أباها أن ذلك كان بدسيسة عليه للتنكيل به فخرج في سنة 183 من مدينة باب الأبواب في جيوش كثيفة من قومه فأوقعوا بالمسلمين وأهل الذمة وسبوا أكثر من مائة ألف نفسي وانتهكوا أمراً عظيماً لم يسمع بمثله في الخافقين.
والتاريخ يحدثنا أن بابكاً الخرميّ خرج على خلفاء الإسلام وأبلى في المسلمين ومثل بهم وكاد يهدم خلافتهم ويمحي أثرهم من الوجود. وكان أصحابه لا يدعون رجلاًُ ولا امرأة ولا صبياً ولا طفلاً مسلماً أو ذمياً غلا قطعوه وقتلوه وأحصي عدد القتلى بأيديهم فكان 250500 إنسان. فوجه المعتصم بالله عنايته لاستئصال شأفته وقطع جرثومته حتى ضيق في وجهه المخانق وأخذ عليه المنافذ وسد دونه المسالك. فخرج الخارجي إلى بلاد الروم هارباً في زي التجار ومعه أهله فعرفه سهل بن سنباط الأرمني البطريق فأسره فافتدى نفسه منه بمال عظيم فلم يقبل وبعثه إلى قائد جيوش المسلمين بعدما ما ركب الأرمن من أمه وأخته وامرأته الفاحشة بين يديه وكذا كان يفعل الملعون بالناس إذا أسرهم مع حرمهم فكان أهل الذمة يجدون منه بقدر وجد أهل الإسلام. إذ كانوا سواسية عنده يرتكب فيهم المحارم والآثام. ولولا إخلاص الذمي ما تخلص من هذا الفاسق الكافر لأهل الإسلام.
وكان المسلمون إذا حاربوا أعداءهم في الملك والسياسة وهم الروم لا يستهينون بمعاونة أهل الذمة فكان هؤلاء يصيبهم ما يحل بالمسلمين من ظفر أو نكاية. ولطالما أخذ الروم من أهل الذمة أسارى وعاملوهم بنفس القسوة التي يعامل بها أسارى المسلمين ولكن إذا وقع الفداء بين المتحاربين كان أول ما يشترطه المسلمين استخلاص النصارى الذميين أيضاً.
فقد روى التاريخ أنه في سنة 231 هجرية في أيام الواثق ابن المعتصم كان الفداء بين المسلمين والروم على يد خاقان خادم الرشيد. فاجتمع المسلمون على نهر اللامس على مسيرة يبوم من طرسوس وأمر الواثق بأن يكون فداء أهل الذمة مطلقاً وبلا قيد ولا شرط وأما فداء المسلمين فقد أمر خليفتهم بامتحانهم قبل فكهم من الأسر فمن قال بخلق القرآن وأن الله لا يرى في الآخرة فودي به بأسير رومي وأعطي ديناراً. ومن لم يقل ذلك ترك في أيدي الروم. فاسمعوا واعجبوا. فلما كان يوم عاشوراء أتت الروم ومن معهم من الأسارى فكان المسلمون هم البادئون بهذا الخير فيطلقون الأسير فيطلق الروم أسيراً فيلتقيان في وسط الجسر فإذا وصل الأسير إلى المسلمين صاحوا: الله أكبر وإذا وصل الرومي إلى قومه صاحوا كيرياليسون حتى فرغوا فكان عدة أسارى المسلمين أربعة آلاف وأربعمائة وستين نفساً والصبيان ثمانمائة وأهل ذمة المسلمين مائة نفس.
وفي سنة 238 هجرية هجم الروم على دمياط في ثلثمائة مركب فنهبوها وأحرقوا دورها وجامعها وسبوا من النساء المسلمات والذميات نحو ستمائة امرأة فلم تشف للذميات مقولتهن بالأقانيم الثلاثة عند أولئك الذين قالوا أنا نصارى. بل كن والمسلمات سواء في البؤس والشقاء.
وفي سنة 283 سارت الصقالبة إلى الروم فحاصروا القسطنيطينية وقتلوا من أهلها خلقاً كثيراً وخربوا البلاد. فلما لم يجد ملك الروم منهم خلاصاً جمع من عنده من أسارى المسلمين وأعطاهم السلاح وسألهم معونته على الصقالبة ففعلوا وكشفوهم وأزاحوهم عن القسطنطينية وانظروا مكافأته لهم على هذه النجدة العربية والشهامة الإسلامية. لما رأى ملك الروم ذلك خاف المسلمين على نفسه فأخذ سلاحهم وفرقهم في البلدان حذراً من جنايتهم عليه فدعا ذلك الخليفة العباسي وهو المعتضد بن الموفق إلى السعي في الفداء فتم الأمر وبلغ جملة من فودي به من المسلمين منن الرجال والنساء والصبيان ألفين وخمسمائة وأربعة أنفس.
وهل يصح لنا أن نقابل تلك النخوة الشرقية لما فعله الإفرنج المقيمون (لا الأسارى) بالقسطنطينية؟ ففي سنة 600 هجرية حاضرها ملك الإفرنج فروى ابن العبري أن الإفرنج المقيمون بها وكان عددهم ثلاثين ألفاً فتواضعوا مع الإفرنج المحاصرين لها ووثبوا في البلد وألقوا فيه النار فاحترق نحو ربع البلد فاشتغل الروم بذلك ففتح الإفرنح الأبواب ودخلوها ووضعوا السيف ثلاثة أيام وقتلوا حتى الأساقفة والرهبان والقسيسين الذين خرجوا إليهم من كنيسة أيا صوفيا العظمى وبأيديهم الأناجيل والصلبان يتوسلون بها ليبقوا عليهم فلم يلتفتوا إليهم وقتلوهم أجمعين ونهبوا الكنيسة. فأين فعلهم من فعل عمرو بن العاص مع رهبان النطرون.
هذا وقد كانت الفتن توالت ببغداد فخربتها فشرع عضد الدولة سنة 369 في عمارتها فعمر المساجد والأسواق وأدر الأموال على الأئمة والعلماء والقراء والغرباء والضعفاء الذين يأوون إلى المساجد وجدد ما دثر من الأنهار وأعاد حفرها وتسويتها. ولكن هل وقف ذلك الأمير المسلم عند هذا الحد في عاصمة عواصم الإسلام؟ كلا فقد ذكر ابن الأثير في الكامل أنه أذن لوزيره نصر بن هاردن (وكان نصرانياً) في عمارة البيع والأديرة وإطلاق الأموال لفقرائهم. فكان المسلمون والنصارى في هذا الرخاء سواء. بل أن المجوس أنفسهم وهم لا ذمة لهم ولا كتاب نالوا من عدل الرجل وإنصافه ما خلدته الدفاتر مع الثناء الوافر. فقد وقعت في تلك السنة فتنة في شيراز بين عامة المسلمين وعامة المجوس فنهب الأولون دور مواطنيهم وضربوا وقتلوا جماعة منهم. فسير عضد الدولة من جمع له كل من له أثر في ذلك وضربهم وبالغ في تأديبهم وزجرهم لأنهم لم يراعوا حرمة الوطن والجوار.
ومما يدل على ارتباط المسلمين بأهل الذمة عند حلول الشدائد بهم جميعاً ما وقع سنة 640 في ملطية بآسيا الصغرى عند هجوم التتار وتوالي نكباتهم بالأرض وبأهل الأرض. فإن المسلمين والنصارى اجتمعوا في البيعة الكبرى وتحالفوا أن لا يخون بعضهم بعضاً ولا يخالفوا المطران في جميع ملا يتقدم إليهم من مداراة التتار والقيام بحفظ المدينة والبيتونة على أسوارها وكف أهل الشر عن الفساد.
وفي حدود سنة 656 هجرية أزاح التتار أميراً مسلماً عن ملطية فلما رحلوا عنها رجع هذا الأمير إليها واسمه علي بهادر. فأغلق أهلها الأبواب في وجهه ولم يمكنوه من الدخول خوفاً من التتار. فشدد عليها الحصار حتى ضجر الناس وضاقت بهم الحيلة. ففتح له العوام أحد البواب فدخل المدينة عنوة. وكان أول همه أنه لم يتربص حتى يجيء الصباح فأصعد بالليل على المنابر جماعة ينادون ويقولون: إن الأمير قد أمن الرعية النصارى منهم والمسلمين فليخرج كل واحد إلى عمله ودكانه وليشتغل ببيعه وشرائه فإنما كلامه مع الحكام.
ولنرجع إلى ذكر الأفراد لنشير إلى مقدار عناية ملوك الإسلام بفضلاء النصارى واحتمالهم منهم ما لا يمكن أن يتصوره عقلنا في هذه الأيام. فقد روى التاريخ أن يوحنا بن ماسويه الذي أشرنا إليه فيما سبق كان مع الخليفة العباسي الواثق في دكان (أي دكة مبنية للجلوس عليها) وكان مع الواثق قضبة فيها شص وقد ألقاها في دجلة ليصيد بها السمك فحرم الصيد. فالتفت إلى يوحنا وكان على يمينه وقال: قم يا مشؤوم عن يميني. فقال يوحنا: يا أمير المؤمنين لا تتكلم بمحال. يوحنا أبوه ماسويه الخوزي. وأمه رسالة الصقلبية المبتاعة بثمانمائة درهم وأقبلت به السعادة إلى أن صار نديم الخلفاء وسميرهم وعشيرهم حتى غمرته الدنيا فنال منها ما لم يبلغه أمله. فمن أعظم المحال أن يكون هذا مشؤوماً. ولكن إن أحب الأمير أن أخبره بالمشؤوم من هو أخبرته فقال من هو؟ فقال: من ولده أربعة خلفاء ثم ساق الله إليه الخلافة، فترك الخلافة وقصورها وقعد في دكان مقدار عشرين ذراعاً في مثلها في وسط دجلة لا يأمن عصف الريح عليه فيغرقه. ثم تشبه بأفقر قوم في الدنيا وشرهم وهم صيادو السمك فماذا فعل الخليفة؟ نجع فيه الكلام ولكن تشاغل مدة ثم قال ليوحنا وهو على ذلك الدكان: يا يوحنا ألا أعجبك من خلة؟ قال: وما هي؟ قال: إن الصياد ليطلب الصيد مقدار ساعة فيصيد من السمك ما يساوي ديناراً وما أشبه ذلك وأنا أقعد منذ غدوة إلى الليل فلا أصيد ما يساوي درهماً فقال يوحنا: يا أمير المؤمنين وضع التعجب في غير موضعه. إن الله جعل رزق الصياد من صيد السمك. فرزقه يأتيه لأنه قوته وقوت عياله. ورزق أمين المؤمنين بالخلافة فهو غنيٌ عن أن يرزق بشيء من السمك. فلو كان رزقه من الصيد لوافاه مثل ما يوفي الصياد.
ومثل ذلك ما حدث للمتوكل الذي تولى الخلافة بعد الواثق هذا. فقد جرى على سنة أسلافه في تعظيم أهل الفضل مهما كانت عقيدتهم. كان الطبيب يختيشوع إذا دخل عليه في داره الخاصة جلس بجانبه على السدة: وهي منزلة لم يصل إليها وزير من المسلمين. فاتفق يوماً أن الخليفة رأى فتقاً في ذيل دراعة الطبيب وكانت من ديباج رومي. فأخذ يحادثه ويعبث بذلك الفتق حتى بلغ حد النيفق (وهو الموضع المتسع في السراويل والقميص) ودار بينهما كلام اقتضى أن سأل المتوكل يختيشوع: بماذا تعملون إن الموسوس يحتاج إلى السد. فقال يختيشوع: إذا بلغ في فتق دراعة طبيبه إلى حد النيفق شددناه. فضحك المتوكل حتى استلقى على ظهره وأمر له بخلعة حسة ومال جزيل.
وكان يختيشوع هذا قد بلغ في أيام المتوكل العباسي من الجلالة والرفعة وعظم المنزلة وحسن الحال وكثرة المال مبلغاً يفوق الوصف مع كمال المروءة حتى أنه كان يباري الخليفة في اللباس والزي والطيب والفرش والضيافات والتفسح في النفقات.
وهل سمعتم بمرتبة لمسلم في مسلم أو لنصراني في مسلم مثل المرثية البارعة التي نظمها الشريف الرضي في أبي إسحاق إبراهيم الصابيء المتوفى في شوال سنة 384 ومطلعها:
عطفاً أمير المؤمنين فإننا ... في دوحة العلياءِ لا نتفرق
ما بيننا يوم العلاء تفوت ... أبداً كلانا في العلاء معرق
إلا الخلافة ميزتك فإنني ... أنا عاطل منها وأنت مطوق
وكان للنصارى واليهود في بغداد كلمة نافذة وقول مسموع في شؤون الدولة والعامة والسياسة ويشهد بذلك ما حدثنا به صاحب تاريخ الزوراء عن يوسف بن فيجاس أوبنخاس اليهودي وزكريا بن يوحنا وأبي عمرو سعيد بن الفرُّخان النصراني وهرون بن عمران اليهودي وبشر بن علي النصراني وأبي سهل نصر بن علي النصراني وأبي نصر بن بشر بن عبد الأنباري النصراني وابي الفضل بنان بن بنان النصراني وعلي بن عيسى الزنداني النصراني بل النساء النصرانيات كان لهن يد في سياسة الملك مثقل فرج النصرانية فقد مكان الخليفة المقتدر العباسي ينفذها في أمور الدولة ويعمل برأيها ويرسل خاتمه معها إلى من يريد تقليده الوزارة. وأمثال ذلك كثيرة حتى أن الناصر لدين الله قلد الجيش إسرائيل النصراني كاتبه والمعتضد بالله ملك ابن الوليد النصراني كاتب بدر الولاية العامة على الجيش. وكذلك فعل الوزير الكبير ابن الفرات فإنه قلد الولاية العامة على جيش المسلمين لرجل نصراني وجعل أنصار الدين وحماة البيضة يقبلون يده ويمتثلون أمره بسبب هذه الوظيفة.
وكان بيت مال المسلمين تخرج منه الإنعامات السنية لأكابر الكتاب من النصارى وتقديرها بالمائة ألف دينار كما وقع لأصطفن بن يعقوب كاتب بيت مال الخاصة في أيام ابن الفرات وليعقوب ابنه حتى بلغت ثروتهما ألف ألف دينار.
وكان ابن الفرات قد رسم بأن يدعى في كل يوم إلى طعامه خمسة من أصحابه المسلمين وهم: أبو الحسن موسى بن خلب وأبو علي محمد بن علي بن مقلة وبو الطيب محمد بن أحمد الكلوذاني وأبو عبد الله محمد بن صالح وأبو عبد الله الذي روى ولده هذه القصة وهو أبو القاسم ابن زنجي. وأربعة من أخصائه النصارى وهم: أبو بشر عبد الله الفرُّوخان النصراني وأبو الحسين سعيد بن إبراهيم التستري النصراني وابو منصور عبد الله بن جبير النصراني وأبو عمر سعيد بن الفرخان النصراني. وفكانوا يحضرون مجلسه في وقته من جانبيه وبين يديه ويقدم إلى كل واحد منهم طبق فيه أصناف الفاكهة الموجودة في كل وقت من خير كل شي ثم يجعل في الوسط طبق كبير يشتمل على جميع الأصناف وكل طبق فيه سكين يقطع به صاحبه ما يحتاج إلى قطعة من سفرجل وخوج وكمثرى ومعه طست زجاج يرمي فيه الثفل فإذا بلغوا من ذلك حاجتهم واستوفوا كفايتهم شيلت لأطباق وقدمت الطسوت والأباريق فغسلوا أيديهم واحضرت المائدة مغشاة بدبيقي فوق مكبة خيازر ومن تحتها سفرة أدم فاضلة عليها وحواليها مناديل الغمر من الثياب المعصور. فإذا وضعت رفعت المكبة والأغشية وأخذ القوم في الأكل وأبو الحسن ابن الفرات يحدثهم ويباسطهم ويؤانسهم. فلا يزال على ذلك والألوان توضع وترفع أكثر من ساعتين. ثم ينهضون إلى مجلس في جانب المجلس الذي كانوا فيه ويغسلون أيديهم والفراشون قيام يصبون الماء عليهم والخدم وقوف على أيديهم المناديل الدبيقية ورطليات ماء الورد لمسح أيديهم وصبه على وجوههم.
وقد ذكرت هذه العبارة لأظهر ما كان للقوم من رفاهة وتأنق في داخليتهم كما كان لهم من عظمة وجلال في خارجيتهم فمصل هذا النظام لو حدثنا به أحد لاتهمناه بأنه يصور لنا شيئاً مما يجري في منازل عظماء أوروبا وأميركا ولولا أنه منقول بالحرف الواحد من كتاب تحفة الأمراء في تاريخ الزوراء للصابيء.
ومن المقرر في الشريعة الإسلامية بناءً على ما جاء في القرآن وسنة الرسول وعمل عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن العباس وعبد الله بن مسعود ومن ابتعهم من أئمة الهدى أن ذوي الأرحام ترد عليهم مواريثهم. وقد كان العمل في ذلك جارياً على هذه القاعدة بصرف النظر عن ملة الورث سواء أكان مسلماً أو ذمياً. ولكن السنة قد تختفي في بعض الدول فيبطلها الحكام وظلماً وعدواناً. فقد وقع أن بيت المال اغتصب حقوق هؤلاء الوارثين من مسلمين وذميين فأمر المعتضد بالله ثم المستكفي بالله بالرجوع إليها في حق كل منهما ثم تنكرت هذه السنة الشريفة فأعادها المقتدر بالله وأصدر منشوراً جليلاً أمر بإظهاره وقراءته على الناس في المسجدين الجامعين بمدينة السلام وأرسله إلى جميع أصحاب الأعمال في الآفاق ومما ورد فيه بنوع التخصيص قوله: وإن يرد تركة من مات من أهل الذمة ولم يخلف وارثاً على أهل ملته.
وكان النصارى وأئمتهم يعرفون حق المسلمين عليهم ويؤازرونهم في الشدة كما يستفيدون منهم في الرخاء فقد اتفق في أيام المقتدر بالله في أوائل القرن الرابع للهجرة أن القسطنطينية تولى على ملكها حدثان فعسفا أسارى المسلمين وشددا في التنكيل بهم وأجاعهم وأعرياهم وطالباهم بالتنصر ولم ير الوزير علي بن عيسى مساعدة من جانب الخليفة على إنفاق الأموال وتجهيز الجيوش. فأشار عليه بعض جلسائه لتصريف الهم عنه بأن يوسط عظيم النصارى بإنطاكية وهو البطرك وعظيمهم بالقدس وهو الجاثليق أو القاثليق لأن أمرهما ينفذ على ملوك الروم ولا يتم لهم أمر إلا بهما والطاعة لا تلزم جمهور رعيتهم إلا بقولهما وربما حرم الواحد منهم فيحرم عندهم فما هو إلا أن أرسل إليهما الوزير على يدي عامليه في إنطاكية والقدس حتى بادر عظيما النصرانية إلى إنفاذ رسول عنهما مع رسول من العامل إلى ملكي الروم وكتبا لهما ما نصه: إنكما قد فعلتما بأسارى المسلمين عندكما ما هو محرم عليكما ومخالف لوصية المسيح عليه السلام في أمثالهم وأمره فيمن جرى مجراهم. فإما زلتما عن هذه الطريقة وعدلتما عنها إلى ما تقتضيه السنة المأثورة وأحسنتما إلى من في أيديكما وتركتماهم على أديانهم ولم تكرهاهم على خلاف آرائهم وإلا لعناكما وتبرأنا منكما وحرمنا كما فلما وصل الرسولان إلى القسطنطينية أوصل رسول البطرك والقاثليق إلى الملكين وحجب صاحبه. وبعد أيام أذن له الملكان في المثول بين يديهما وقالا له: الذي أدى إلى ملك العرب من فعلنا بأسارى المسلمين كذب وشناعة وقد أذنا في دخولك دار البلاط لتشاهدهم وتسمع شكرهم وتعلم استحالة ما ذكر لكم في أمرهم. فذهب فرآهم كأنما هم خارجون من القبور وقائمون إلى النشور ووجوههم دالة على ما كانوا فيه من الضر والعذاب إلا أنهم في حالة صيانة مستأنفة ورفاهة مستجدة. قال الرسول: فتأملت ثيابهم فكانت جدداً كلها فتبينت أنني أخرت ذلك التأخير حتى غُير أمرهم وجدد زيهم. وقالوا لي: نحن شاكرون للملكين. فعل الله بهما وصنع مع إيمانهم إلي بأن حالهم على ما تأدى إلينا وإنما خفف عنهم وأحسن إليهم بعد حصولي هناك. وقالوا لي في عرض قولهم: كيف عرفت صورتنا ومن تنبه على مراعاتنا حتى أنفذك من أجلنا. فقلك: ولي الوزارة والوزير أبو الحسن علي بن عيسى. فبلغه خبركم فأنفذ وفعل كذا وكذا فضجوا بالدعاء له. وسمعت امرأة منهم تقول: مر يا علي بن عيسى لا نسي الله لك ذلك الفعل. فعند ذلك بكى الوزسير بكاءً شديداً ثم سجد لله تعالى شاكراً حامداً.
والبلاط المذكور هنا هو دار كانت بالقسطنطينية مخصوصة لأسارى المسلمين ذكره المتنبي وأبو فراس في أشعارهم وقد ذكره أبو العباس الصفوي شاعر سيف الدولة وكان محبوساً وضربه مثلاً:
أراني في حبسي مقيماً كأنني ... ولم أغزُ في دار البلاط مقيم
ومجمل القول أن أفاضل الروم والسريان والكلدان واليعاقبة والفرس وسائر النصارى على اختلاف مللهم واليهود والمجوس والصابئة كانوا في أيام خلفاء بني العباس موضع التجلة والإعزاز والاحترام ووصلوا بعناية الخلفاء وأكابر الدولة من المسلمين إلى مقام محمود ودرجة لم يكن لها نظير في دولة أخرى شرقية أو غربية ولا حتى في هذه الأيام التي انتشرت فيها أعلام الحرية وانطلقت الأفكار من قيودها القديمة التقليدية.
فكان الخلفاء وملوك المسلمين وأمراؤهم يجعلون ثقتهم فيهم ويسلمون إليهم طبهم وطب نسائهم ويأتمنونهم على حريمهم وأموالهم ويفضون غليهم بأسرار الدولة الإسلامية ويودعون عندهم أموالهم وذخائرهم ولا يجعلون بينهم وبينهم حجاباً بل يستقبلونهم في كل وقت وبغير إذن مثل المسيحي نزيل بغداد وإسحق بن حنين بن إسحق ويختيشوع بن جورجيس وأبي الكرم صاعد بن توما المعروف بأمين الدولة وأشباههم ممن لا نرى حاجة لسرد أسمائهم.
وكان أكابر علماء المسلمين يتلقون العلم عن أفاضل النصارى وغيرهم عملاً بالحديث الشريف كما كان النصارى واليهود وغيرهم يتلقون العلوم الفلسفية وغيرها من علماء الإسلام فإن محمد بن موسى بن شاكر الذي كان أوفر الناس حظاً في الهندسة والنجوم في أيام المأمون كانت له دار في بغداد ككعبة لطلاب الفضل وعشاق العلم وقد تعلم فيها كثيرون ممن جعلوا لتلك الدولة بهاءً ورواءً وعطروا اسم الشرفق والإسلام. نكتفي الآن بذكر ثابت بن قرة بن مروان الصابئ الحراني نزيل بغداد فإن ابن شاكر المسلم لم يكتف بتخريجه في العلم بنفسه والإنفاق عليه من ماله حتى أكمل دروسه في داره عن الأساتذة الذين كان يدر عليهم الأرزاق لتنوير الأذهان بل رأى أن لهذا الصابئ حقاً عليه بهذا الجوار فوصله بالخليفة المعتضد وأدخله في جملة المنجمين فظهر فضله حتى بلغ عنده أجلَّ المراتب وأعلى المنازل وكان يجلس بحضرته في كل وقت ويحادثه طويلاً ويضاحكه والخليفة يقبل عليه دون وزرائه وخاصته.
وقريب من ذلك ما وقع في مصر إذ التجأ إليه موسى بن ميمون اليهودي المشهور بعد ما أكره في الأندلس على الإسلام فأظهره وحفظ القرآن واشتغل بالفقه وأسرًّ اليهودية حتى إذا ما تحين الفرصة خرج إلى مصر في أواخر أيام الفاطميين فلما استقر الأمر فيها لصلاح الدين الأيوبي أخذه القاضي الفاضل (عبد الرحيم بن علي البيساني) تحت حمايته واشتمل عليه وقدر له رزقاً من خزينة الدولة لما رآه فيه من العلم الواسع والفضل الكامل. فإنه كان أوحد زمانه في صناعة الطب علماً وعملاً وكان متفنناً في العلوم وله معرفة جيدة بالفلسفة وكان الناصر صلاح الدين وولده الملك الأفضل يجلان قدره كثيراً ويعتمدان على رأيه في الطب وقد تولى الرياسة العامة على جميع اليهود بديار مصر. ولقد ابتلي موسى هذا في آخر زمانه برجل من الأندلس فقيه يعرف بأبي العرب وصل إلى مصر وحاققه على إسلامه وإلزام أذاه فمنعه عنه القاضي الفاضل وقال له: رجل يُكره على الإسلام لا يصح إسلامه شرعاً. وقد مدحه القاضي السعيد بن سناء الملك فقال:
أرى طب جالينوس للجسم وحده ... وطب أبي عمران للعقل والجسم
فلو أنه طبَّ الزمان بعلمه ... لا يراه من داء الجهالة بالعلم
ولو كان بدر التم من يستطبه ... لتم له ما يدعيه من التم
وداواه يوم التم من كلف به ... وأبرأه يوم السرار من السقم
وأفادنا التاريخ أن الفارابي وهو المعلم الثاني (لأن المعلم الأول هو أرسطو طاليس) دخل العراق واستوطن بغداد وقرأ بها العلم الحكمي على يوحنا بن حيلان النصراني وأنه هو أقرأ يحيى بن عدي النصراني اليعقوبي الذي انتهت إليه رياسة أهل المنطق في زمانه. وقيل أن ابا سهل عيسى بن يحيى المسيحي الجرجاني وهو معلم الشيخ الرئيس ابن سينا صناعة الطب وإن كان الشيخ الرئيس بعد ذلك تميز ومهر فيها وفي العلوم الحكمية حتى صنف كتباً للمسيحي وجعلها باسمه. هذا وأنتم تعلمون أن يحيى بن عيسى بن جزالة النصراني قرأ الطب على النصارى وأراد قراءة المنطق فلم يكن فيهم من يقوم بهذا الشأن وذكر له أبو علي بن الوليد شيخ المعتزلة بأنه عالم بعلم الكلام ومعرفة للألفاظ المنطقية فلازمه لقراءة المنطق ثم حسن الشيخ له الإسلام حتى استجاب وكان يطب أهل محلته وسائر معارفه بغير أجرة ولا جعالة بل احتساباً ومروءة ويحمل إليهم الأدوية بغير عوض. وممن درس على شيوخ الأدب المسلمين يحيى بن سعيد ابن مالك النصراني فقد برز في هذا الفن حتى صنف ستين مقامة على مثال البديع والحريري فأحسن فيها وكان فاضلاً في علوم الأوائل وعلم العربية والشعر يرتزق بالطب.
وهذا باب كبير جداً يتسع فيه المجال لعشرة أمثال هذا المقال غير أنني ألتمس الإذن من حضرات السامعين لأقص نبأ عليهم من أغرب الأنباء:
أعرف في باريس رجلاً يهودياً من الذين توفروا على درس المشرق وآدابه وتواريخه وعنوا بالتنقيب عن كل شؤونه ونشروا كثيراً من مآثره الخالدة وأسفاره الممتعة وترجموا بعضها إلى اللغات الأجنبية. ذلك الرجل هو زميلي وصديقي العلامة الفاضل هرتويغ درنبوغ ولست الآن في مكان تقريظه وتعديد حسناته وإنما أقول لكن أنني رأيته في باريس قائماً بتفسير القرآن الكريم على جماعة من الطلبة الفرنساويين في مدرسة اللغات الشرقية فعجبت في نفسي من أمر هذا اليهودي الذي يشرح للنصارى في باريس وبلسان الفرنسيس كتاب المسلمين. ولكنني تذكرت تاريخ أجدادي وبه سيبطل عجبكم كما بطل عجبي. فقد كان الشيخ المؤرخ تقي الدين أبو العباس المقريزي المشهور صاحب كتاب الخطط المتوفى سنة 845 من الهجرة له إلمام تام بمذاهب أهل الكتاب حتى كان أفاضلهم يترددون إليه للاستفادة منه فيما يتعلق بأمور دينهم وشرح مذاهبهم ومعرفة أسرار ملتهم وقد ألف كتاباً سماه شارع النجاة يشتمل على جميع ما اختلف فيه البشر من اصول ديانتهم وفروعها مع بيان أدلتها وتوجيه الحق منها وهذا بخلاف ما نراه في البيانات المفيدة الكثيرة في كتابه المشهور بالخطط الذي طبعه الخواجة روفائيل عبيد القبطي وقد أخذ الفرنساويون يترجمونه في هذه الأيام إلى لغتهم بمعرفة العلامة أوريان بوريان وبمعرفة العلامة كازانوفا المقيم بين ظهرانينا الآن لإكمال هذا العمل الجليل الذي برز في عالم المطبوعات قسم كبير منه.
ولكن أين المقريزي وأين علمه من الفقيه الشافعي كمال الدين ابن يونس الذي ثقفه في الموصل ثم توجه إلى بغداد ثم رجع إلى الموصل ومات بها رابع عشر شعبان سنة 639 فقد كان آية ولا كالآيات وأعجوبة ولا كالأعاجيب وموسوعة ولا كالموسوعات تبحر في جميع الفنون وجمع من العلوم ما لم يجمعه أحد وتفرد بعلم الرياضة واتفق الفقهاء على القول بأنه يدري أربعة وعشرين فناً دراية متقنة فمن ذلك مذهب الشافعي فكان فيه أوحد الزمان وكان جماعة من الطائفة الحنفية يشتغلون عليه بمذهبهم ويحل لهم مسائل الجامع الكبير أحسن حل مع ما هي عليه من الإشكال المشهور وكان يتفنن فن الخلاف العراقي (أي على مذهب الشافعي) والبخاري (أي على مذهب الحنفي) وأصول الفقه وأصول الدين ولما وصلت كتب فخر الدين الرازي إلى الموصل وكان بها إذ ذاك جماعة من الفضلاء لم يفهم أحد منهم اصطلاحه فيها سواه وكذلك كتاب الإرشاد للإمام ركن الدين العميدي لما وقف عليه حل اصطلاحاته في ليلة واحدة وأقرأها على ما قالوه وكان يدري فن الحكمة والمنطق (أي كتب أرسطو طاليس المنطقية الثمانية) والطبيعي والإلهي وكذلك فنون الرياضة من إقليدس (أي كتبه الرياضية) والهيئة والمخروطات والمتوسطات والمجسطي (أي الفلك) وأنواع الحساب: الحساب منه (أي علم العدد) والجبر والمقابلة والأرتماطيقي وطريقة الخطأين والموسيقى والمساحة معرفة لا يشاركه فيها غيره إلا في طواهر هذه العلوم دون دقائقها والوقوف على حقائقها واستخرج في علم الأوفاق طرقاً لم يهتد إليها أحد وكان يبحث في العربية والتصريف بحثاً تاماً وكان له في التفسير والحديث وما يتعلق به وأسماء الرجال يد جيدة وكان يحفظ من التاريخ وأيام العرب ووقائعهم والأشعار والمحاضرات شيئاً كثيراً وكان في كل فن من هذه الفنون كأنه لا يعرف سواه لقوته فيه وبالجملة فإن مجموع ما يعلمه من الفنون لم يسمع عن أحد ممن تقدمه أنه جمعه ولقد كان كبار المشايخ الذين لهم القدم الراسخة في العلوم يأخذون الكتاب ويجلسون بين يديه ويقرؤون عليه مع أنه لهم من الكتب الفائقة ما يشتغل به الناس والطلاب بل كانوا يتركون بلادهم وتدريسهم ويحضرون إليه للتلقي عليه ولقد تخرج عليه خلق كثير في كل فن. وليس كل ذلك شيئاً يذكر بجانب أمر صغير كبير اشتهر عنه وهو الذي أردت أن أتخلص إليه بهذه المناسبة. وذلك أن علماء النصارى واليهود كانوا يقرؤون عليه الطب والفلسفة وغيرها من العلوم التي اعتاد أهل ذلك العصر عصر النور أن يقرؤوها لأهل الكتاب ولا يمنعوهم منها. فليس في هذا شيء من الغرابة وإنما الغريب أنه مع كونه معدوداً من الفقهاء والمفسرين كان كما رواه ابن خلكان وهو حجة ثقة يجيء إليه أهل الذمة من اليهو
والنصارى ويقرؤون عليه التوراة والإنجيل وقد شرح لهما هذين الكتابين شرحاً يعترفون أنهم لا يجدون من يوضحهما لهم مثله. ولو وقع مثل هذا في عصرنا لعد غريباً جداً. وممن قرأ عليه الحكيم تاذري الإنطاكي اليعقوبي الذي أحكم اللغة السريانية واللاطينية بإنطاكية وشدا بها شيئاً من علوم الأوائل ثم هاجر إلى الموصل وقرأ على كمال الدين بن يونس مصنفات الفارابي وابن سينا وحل أوقليدس والمجسطي. ثم عاد إلى إنطاكية ولم يطل المكث فيها لما رأى في نفسه من التقصير في التحصيل فعاد مرة ثانية إلى ابن يونس وأنضج ما استنهأ من علمه وانحدر إلى بغداد وأتقن علم الطب وقيد أوابده وتصيد شوارده وقصد السلطان علاء الدين ليخدمه فاستغربه ولم يقبل عليه فرحل إلى الأرمن وخدم قسطنطين أبا الملك حاتم ولم يستطب عشرتهم فسار مع رسول كان هناك للإمبرور ملك الفرنج وهو (فريدريكوس الثاني) فنال منه أفضالاً ووجد له به نوالاً وأقطعه مدينة بأعمالها. فلم صلح حاله وكثر ماله اشتاق إلى بلده وأهله فلم يؤذن له بالتوجه فأقام إلى أن مكنته الفرصة بخروج الملك في بعض غزواته إلى بلد المغرب فضم أطرافه وجمع أمواله وركب سفينة كان قد أعدها لهربه وسار في البحر مع من معه من خدمه يطلبون بر عكة. فبينا هم سائرون إذ هبت ريح رمت بهم إلى مدينة كان الملك قد أرسى بها فلما أخبر ثاذري بذلك تناول شيئاً من سم كان معه ومات خجلاً لا وجلاً لأن الملك لم يكن يسمح بإهلاك مثله.
وممن جرى على هذا النحو العلامة برهان الدين إبراهيم بن عمر البقاعي المتوفى سنة 885 فإنه فسر القرآن في كتاب له اسمه نظم الدرر في تناسب الآي والسور وهو كتاب لم يسبقه إليه أحد جمع فيه أسرار القرآن ما تحار فيه العقول وهو محفوظ بالمكتبة الخديوية وفي كثير من مكاتب القسطنطينية ولكي يكون هذا المفسر المحقق على بصيرة من أمره استمد كثيراً من الأمور والبيانات من التوراة والإنجيل وقد أشار في أوله إلى التوراة التي اعتمد عليها فقال ما نصه: واعلم أن أكثر ما ذكرته في كتابي هذا من نسخة وقعت لي لم أدر اسم مترجمها وعلى حواشي فصولها الأوقات التي تقرأ فيها والظاهر أنها نسخة اليهود وهي قديمة جداً فكان في الورقة الأولى منها محوٌ في أطرف الأسطر فكملته من نسخة السبعين ثم قابلت نسختي كلها مع بعض اليهود الربانيين على ترجمة سعيد الفيومي وهي عندهم أحسن التراجم فوجدت نسختي أقرب إلى حقائق اللفظ العبراني ومترجمها أقعد من سعيد في لغة العرب. وسعيد هو المشهور باسم سعديا. وقد ذكره صاحب كتاب الفهرست.
وكان البقاعي كلما ذكر قصة مما ورد في القرآن تتعلق بأهل الكتاب شرح أمرها من التوراة غيرها من صحف الملل المتقدمة مثال ذلك أنه أشار في بعض المواضع إلى إحدى القصص فشرح أمرها من التوراة فقال ما نصه: في آخر السفر الرابع منها في النسخ الموجودة بين أظهر اليهود الآن في هذا القرن التاسع فيما قرأته من نسخة مترجمة بالعربية وخطها كذلك وعليه آثار قرءتهم لها وبيان الأوقات التي يقرأ فيها كل فصل منها ثم قابلتها بالمعنى مع شخص منهم وكان هو القارئ منهم ما نصه: وهذه مظاعن بني إسرائيل حيث خرجوا من أرض مصر بأجنادهم على يدي موسى وهارون وكتب موسى مخارجهم ومراحلهم عن قول الرب: ظعنوا من رعمسيس (وفي نسخة من عين شمس) في خمسة عشر يوماً من الشهر الأول.
ولذلك قام عليه بعض الجهلة من أهل عصره وقبحوا طريقته قبحهم الله وأهانوه وسعوا به لدى الحكام ونفوه واضطهدوه بكل ما في وسعهم ولكن الرجل ثبت غي عمله حتى أتم تفسيره وصنف أيضاً بسبب ذلك كتابين أحدهما مصاعد النظر في الإشراف على مقاصد السور والثاني: الأقوال القويمة في حكم النقل من الكتب القديمة وهو محفوظ بالكتبخانة الخديوية.
تأتي البقية