مجلة المقتبس/العدد 28/رسالة ابن المقفع في الصحابة

مجلة المقتبس/العدد 28/رسالة ابن المقفع في الصحابة

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 5 - 1908


أما بعد أصلح الله أمير المؤمنين وأتم عليه النعمة وألبسه المعافاة والرحمة فإن أمير المؤمنين حفظه الله يجمع مع علمه المسألة والاستماع كما كان ولاة الشر يجمعون مع جهلهم العجب والاستغناء ويستوثق لنفسه بالحجة ويتخذها على رعيته فيما يلطف له في الفحص عن أمورهم كما كان أولئك يكتفون بالدعة ويرضون بدحوض الحجة وانقطاع العذر في الامتناع أن يجترئ عليهم أحد برأي أو خبر مع تسليط الديان. وقد عصم الله أمير المؤمنين حين أهلك عدوه وشفى غليله ومكن له في الأرض وآتاه ملكه وخزائنها من أن يشغل نفسه بالتمتع والتفتيش والتأثل والإخلاد وأن يرضا ممن آوى بالمتاع به وقضاء حاجة النفسي منه وأكرم الله أمير المؤمنين باستهانة ذلك واستصغاره إياه وذلك من أبين علامات السعادة وأنجح الأعوان على الخير وقد قص الله عز وجل علينا من نبأ يوسف بن يعقوب أنه لما تمت نعمة الله عليه وآتاه الملك وعلمه من تأويل الأحاديث وجمع له شمله وأقر عينه بأبويه وأخوته أثنى على الله عز وجل بنعمته ثم سلا عما كان فيه وعرف أن الموت وما بعده هو أولى فقال: توفني مسلماً وألحقني بالصالحين.

وفي الذي قد عرفنا من طريقة أمير المؤمنين ما يشجع ذا الرأي على تناوله بالخبرة فيما ظن أنه لم يسبغه إياه غيره وبالتذكير بما قد انتهى إليه ولا يزيد صاحب الرأي على أن يكون مخبراً ومذكراً. وكلٌّ عند أمير المؤمنين مقبول إن شاء الله. مع أن مما يزيد ذوي الألباب نشاطاً إلى إعمال ذوي الرأي فيما يصلح الله به الأمة من يومها أو غابر دهرها الذي أصبحوا قد طمعوا فيه ولعل ذلك أن يكون على يدي أمير المؤمنين فإن مع الطمع الجد ومع اليأس القنوط وقلما ضعف الرجاء إلا ذهب الرخاء. وطلب المويس عجز وطلب الطامع حزم. ولم ندرك الناس نحن وآباؤنا إلا وهم يرون فيها خلاً لا يقطع الرأي ويمسك بالأفواه من حال والٍ لم يهمه الإصلاح أو أهمه ذلك ولم يثق فيه بفضل رأي أو كان ذا رأي ليس مع رأيه صون بصرامة أو حزم أو كان ذلك استئثاراً منه على الناس بنشب أو قلة تقدم لما يجمع أو يقسم لو حال أعوان ينيل بهم الولاة ليسوا على الخير بأعوان وليس له إلى اقتلاعهم سبيل لمكانهم من الأمر ومخافة الدول والفساد إن هو هاجهم أو انتقص ما في أيديهم أو حال رعية متزرة ليس لها من أمرها النصف في نفسها فإن أُخذت بالشدة حميت وإن أُخذت باللين طغت. وكل هذه الخلائق قد طهر الله منها أمير المؤمنين فآتاه الله ما آتاه في نيته ومقدرته وعزمه ثم لم يزل يرى ذلك من الناس حتى عرفه منه جهالهم فضلاً عن علمائهم. وصنع الله لأمير المؤمنين في رأيه وأتباعه مرضاته وأذل الله لأمير المؤمنين رعيته بما جمع له من اللين والعفو فإن لان لأحد منهم ففي الأثخان له شهيد على أن ذلك ليس بضعف ولا مصانعة وإن اشتد على أحد منهم ففي العفو شهيد على أن ذلك ليس بعنف ولا خرق مع أمور سوى ذلك يكفُّ عن ذكرها كراهة أن يكون كأنا نصبنا المدح. فما أخلق هذه الأشياء أن تكون عتاداً لكل جسيم من الخير في الدنيا والآخرة واليوم والغد والخاصة والعامة. وما أرجانا لأن يكون أمير المؤمنين بما أصلح الله الأمة من بعده أشد اهتماماً من بعض الولاة بما لا يصلح رعيته في سلطانه وما أشد ما قد استبان لنا أمير المؤمنين أطول بأمر الأمة عناية ولها نظراً وتقديراً من الرجل منا بخاصة أهله ففي دون هذا ما يثبت الأمل وينشط العمل ولا قوة إلا بالله ولله الحمد وعلى الله التمام.

فمن الأمور التي يذكر بها أمير المؤمنين أمتع الله به أمر هذا الجند من أهل خراسان فإنهم جند لم يدرك مثلهم في الإسلام وفيهم منعة بما يتم فضلهم إن شاء الله. أما هم فأهل بصر بالطاعة وفضل عند الناس وعفاف نفوس وفروج وكف عن الفساد وذل للولاة فهذه حال لا نعلمها توجد عند أحد غيرهم. وأما ما يحتاجون فيه إلى المنعة من ذلك تقويم أيديهم ورأيهم وكلامهم فإن في ذلك اليوم اختلاطاً من رأسي مفرط غال وتابع متحير شالٍ. ومن كان إنما يصول على الناس بقوم لا يعرف منهم الموافقة في الرأي والقول والسيرة فهو كراكب الأسد الذي يوجل من رآه والراكب أشد وجلاً. فلو أن أمير المؤمنين كتب لهم أماناً معروفاً بليغاً وجيزاً محيطاً بكل شيء يجب أن يقول فيه ويكفوا عنه بالغاً في الحجة قاصراً عن الغلو يحفظه رؤساؤهم حتى يقود به دهماءهم ويتعهد به منهم من لا يؤبه له من عرض الناس لكان ذلك إن شاء الله لرأيهم صلاحاً وعلى من سواهم حجة وعند الله عذراً. فإن كثيراً من المتكلمين من قواد أمير المؤمنين اليوم إنما عامة كلامهم فيما يؤمر الأمر ويرغم الرغم أن أمير المؤمنين لو أمر الجبال أن تسير سارت ولو أمر أن تستدبر القبلة بالصلاة فعل ذلك وهذا كلام قلما (يرتضيه) من كان مخالفاً وقلما يرد في سمع السامع إلا أحدث في قلبه ريبة وشكاً.

والذي يقول أهل القصد من المسلمين هو أقوى للأمر وأعز للسلطان وأقمع للمخالف وأرضا للموافق وأثبت للعذر عند الله عز وجل.

فإنا قد سمعنا فريقاً من الناس يقولون لا طاعة للمخلوق في معصية الخالق. بنوا قولهم هذا بناءً معوجاً فقالوا إن أمرنا الإمام بمعصية الله فهو أهل أن يعصى وإن أمرنا الإمام بطاعة الله فهو أهل أن يطاع. فإذا كان الإمام يعصى في المعصية وكان غير الإمام يطاع في الطاعة فالإمام ومن سواه على حق الطاعة سواء. وهذا قول معلوم يجده السلطان ذريعة إلى الطاعة والذي فيه أمنيته لئلا يكون للناس نظائر ولا يقوم بأمرهم إمام ولا يكون على عدوهم منهم ثقل.

سمعنا آخرين يقولون بل نطيع الأئمة في كل أمورنا ولا نفتش عن طاعة الله ولا معصيته ولا يكون أحد منا عليه حسيباً هم ولاة الأمر وأهل العلم ونحن الأتباع وعلينا الطاعة والتسليم. وليس هذا القول بأقل ضرراً من توهين السلطان وتهجين الطاعة من القول بالذي قبله لأنه ينتهي إلى الفظيع المتفاحش من الأمر في استحلال معصية الله جهاراً صراحاً. وقال أهل الفضل والصواب: قد أصاب الذين قالوا: لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ولم يصيبوا في تعطليهم طاعة الأئمة وتسخيفهم إياها وأصاب الذين أقروا بطاعة الأئمة لما حققوا منها ولم يصيبوا ما أبهموا من ذلك في الأمور كلها فأما إقرارنا فإنه لا يطاع الإمام في معصية الله فإنما ذلك في عزائم الفرائض والحدود التي لم يجعل الله لأحد عليها سلطاناً. ولو أن الإمام نهى عن الصلاة والصيام والحج أو منع الحدود وأباح ما حرم الله لم يكن له في ذلك أمراً.

فأما إثباتنا للإمام الطاعة فيما لا يطاع فيه غيره فإن ذلك في الرأي والتدبير والأمر الذي جعل الله أزمته وعراه بأيدي الأئمة ليس لأحد فيه أمر ولا طاعة من الغزو والقفول والجمع والقسم والاستعمال والترك والحكم بالرأي فيما لم يكن فيه أثر وإمضاء الحدود والأحكام على الكتاب والسنة ومحاربة العدو ومخادعته والأخذ للمسلمين والإعطاء عليهم. وهذه الأمور وأشباهها من طاعة الله عز وجل الواجبة وليس لأحد من الناس فيها حق إلا الإمام ومن عصى الإمام أو خذله فقد أوتغ نفسه. وليس يفترق هذان الأمران إلا ببرهان من الله عز وجل عظيم. وذلك أن الله جعل قوام الناس وصلاح معاشهم ومعادهم في خلتين الدين والعقل. ولم تكن عقولهم وإن كانت نعمة الله عز وجل عظمت عليهم فيها بالغة معرفة الهدى ولا مبلغة أهلها رضوان الله إلا ما أكمل لهم من النعمة بالدين الذي شرع لهم وشرح به صدر من أراد هداه منهم ثم لو أن الدين جاء من الله لم يغادر حرفاً من الأحكام والرأي والأمر وجميع ما هو وارد على الناس وجار فيهم مذ بعث الله رسوله إلى يوم يلقونه إلا جاء فيه بعزيمة لكانوا قد كلفوا غير وسعهم فضيق عليهم في دينهم وآتاهم ما لم تسمع أسماعهم لاستماعه ولا قلوبهم لفهمه ولحارت عقولهم وألبابهم التي امتن الله بها عليهم ولكانت لغواً لا يحتاجون إليها في شيء ولا يعلمونها إلا في أمر قد أتاهم به تنزيل ولكن الله من عليهم بدينهم الذي لم يكن يسعه رأيهم كما قال عباد الله المتقون: ما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.

ثم جعل ما سوى ذلك من الأمر والتدبير إلى الرأي وجعل الرأي إلى ولاة الأمر ليس للناس في ذلك الأمر شيءٌ إلا الإشارة عند المشورة والإجابة عند الدعوة والنصيحة بظهر الغيب. ولا يستحق الوالي هذه الطاعة إلا بإقامة العزائم والسنن مما هو معني في معنى ذلك. ثم ليس من وجوه القول وحده يلتمس فيه ملتمس إثبات فضل أهل بيت أمير المؤمنين على أهل بين (من سواه) وغير ذلك مما يحتاج الناس إلى ذكره ألا وهو موجود فيه من الكلام الفاضل المعروف مما هو أبلغ مما يغلو به الغالون فإن الحجة ثابتة والأمر واضح بحمد الله ونعمته.

ومما ينظر فيه لصلاح هذا الجند ألا يولي أحدا منهم شيئاً من الخراج فإن ولاية الخراج مفسدة للمقاتلة. ولم يزل الناس يتحامون ذلك منهم وينحونه عنهم لأنهم أهل ذاك ودعوى بلاء وإذا خلا بالدراهم والدنانير اجترأ عليهما وإذا وقع في الخيانة صار كل أمر مدخولاً بنصيحته وطاعته فإن حيل بينه وبين رفعته أمرضته الحمية مع أن ولاية الخراج داعية إلى ذلة وعقوبة وهوان. وإنما منزلة المقاتل منزلة الكرامة واللطف. ومما ينظر فيه من أمرهم أن منهم من المجهولين من هو أفضل من بعض قادتهم فلو التمسوا وصنعوا كانوا عدة وقوة وكان ذلك صلاحاً لمن فوقهم من القادة ومن دونهم من العامة.

ومن ذلك تعهد أدبهم في تعليم الكتاب والتفقه في السنة والأمانة والعصمة والمباينة لأهل الهوى وأن يظهر فيهم من القصد والتواضع واجتناب زي المترفين وشكلهم مثل الذي يأخذ به أمير المؤمنين في أمر نفسه. ولا يزال يطلع من أمير المؤمنين ويخرج منه القول ما يعرف مقته للإتراف والإسراف وأهلهما ومحبته القصد والتواضع ومن أخذ بهما حتى يعلموا أن معروف أمير المؤمنين محظور عمن يكنزه بخلاً أن ينفقه سرفاً في العطر واللباس والمغالات بالنساء والمراتب فإن أمير المؤمنين يؤثر بالمعروف من وجهه المعروف والمؤاساة. ومن ذلك أمر أرزاقهم من يوقت لهم أمير المؤمنين فيها وقتاً يعرفونه في كل ثلاثة أشهر أو أربعة أو ما بدا له وأن يعلم عامتهم العذر الذي في ذلك من إقامة ديوانهم وتحمل أسمائهم ويعلموا الوقت الذي يأخذون فيه فينقطع الاستبطاء والشكوى. فإن الكلمة الواحدة تخرج من أحدهم في ذلك أهل أن تستعظم فإن باب ذلك جدير أن يحسم مع أن أمير المؤمنين قد علم كثرة أرزاقهم وكثرة المال الذي يخرج لهم وأن هذا الخراج إن يكن رائجاً لغلاء السعر فإنه لا بد من الكساد والكسروان وأن لكل شيء درة وغزارة وإنما درور خراج العراق بارتفاع الأسعار وإنما يحتاج الجند اليوم إلى ما يحتاجون إليه من كثرة الرزق لغلاء السعر فمن حسن التقدير إن شاء الله أن لا يدخل على الأرض ضرر ولا بيت المال نقصان من قبل الرحمن إلا دخل ذلك عليهم في أرزاقهم مع أنه ليس عليهم في ذلك نقصان لأنهم يشترون بالقليل مثل ما كانوا يشترون بالكثير. فأقول لو أن أمير المؤمنين ما خلا شيئاً من الرزق فيجعل بعضه طعاماً ويجعل بعضه علفاً فأعطوه بأعيانهم فإن قومت لهم قيمة فخرج ما خرج على حسابه قيمة الطعام والعلف لم يكن في أرزاقهم لذلك نقصان عاجل يستنكرونه وكان ذلك. . نزالهم لحمل العدو وإنصاف بيت المال من أنفسهم فيما يستبطئون مع أنه إن زاد السعر أخذوا بحصتهم من فضل ذلك. ومن جماع الأمر وقوامه بإذن الله أن لا يخفى على أمير المؤمنين شيء من أخبارهم وحالاتهم وباطن أمرهم بخراسان والعسكر والأطراف وأن يحتقر في ذلك النفقة ولا يستعين فيه إلا بالثقات النصاح فإن ترك ذلك وأشباهه أحزم بتاركه من الاستعانة فيه بغير الثقة فتصير جُنة للجهالة والكذب.

ومما يذكر به أمير المؤمنين أمتع الله به أمر هذين المصرين فإنهم بعد أهل خراسان أقرب الناس إلى أن يكونوا شيعته ومعينيه مع اختلاطهم بأهل خراسان وأنهم منهم وهامتهم وإنما ينظر أمير المؤمنين منهم. . صدق ولرابطتهم أو ما أراد من أمورهم معرفته استثقال أهل خراسان ذلك لهم من أمر مع الذي في ذلك من جمال الأمر واختلاط الناس بالناس العرب بالعجم وأهل خراسان بالمصرين.

إن في أهل العراق يا أمير المؤمنين من الفقه والعفاف والألباب والألسنة شيئاً لا يكاد يشك أنه ليس في جميع من سواهم من أهل القبلة مثله ولا مثل نصفه فلو أراد أمير المؤمنين أن يكتفي بهم في جميع ما يلتمس له أهل الطبقة من الناس رجونا أن يكون ذلك فيهم موجوداً. وقد أزرى بأهل العراق في تلك الطبقة أن ولاة العراق فيما مضى كانوا أشرا الولاة وأن أعوانهم من أهل أمصارهم (كذلك) فحمل جميع أهل العراق على ما ظهر من أولئك الفسول وتعلق بذلك أعداؤهم من أهل الشام فنعوه عليهم ثم كانت هذه الدولة فلم يتعلق من دونكم من الوزراء والعمال إلا بالأقرب فالأقرب مما دنا منهم أو وجدوه بسبيل شيء من الأمر فوقع رجال مواقع شائنة لجميع أهل العراق حيث ما وقعوا في صحابة خليفة أو ولاية عمل أو موضع أمانة أو موطن جهاد وكان من رأي أهل الفضل أن يقصدوا حتى يلتمسوا فأبطأ ذلك بهم أن يُعرفوا وينتفع بهم وإن كان صاحب السلطان لمن لم يعرف الناس قبل أن يليهم ثم لم يزل يسأل عنهم من يعرفهم ولم يستثبت في استقصائهم فزالت الأمور عن مراكزها ونزلت الرجال عن منازلها لأن الناس لا يلقونه إلا متصنعين بأحسن ما يقدرون عليه من الصمت والكلام غير أن أهل النقص هم أشد تصنعاً وأحلى السنة وأرفق تلطفاً للوزراء أو تمحلاً لأن يثني عليهم من وراء وراء. فإذا آثر الوالي أن يستخلص رجلاً واحداً ممن ليس لذلك أهلاً دعا إلى نفسه جميع ذلك الشرح وطمعوا فيه واجترأوا عليه وتوردوه وزحموا على ما عنده وإذا رأى ذلك أهل الفضل كفوا عنه وباعدوا منه وكرهوا أن يروا في غير موضعهم أو يزاحموا غير نظرائهم.

ومما ينظر أمير المؤمنين فيه من أمر هذين المصرين وغيرهما من الأمصار والنواحي اختلاف هذه الأحكام المتناقضة التي قد بلغ حد اختلافها أمراً عظيماً في الدماء والفروج والأموال فيستحل الدم والفرج بالحيرة وهما يحرمان بالكون. ويكون مثل ذلك الاختلاف في جوف الكوفة فيستحل في ناحية منها ما يحرم في ناحية أخرى غير أنه على كثرة ألوانه نافذ على المسلمين في دمائهم وحرمهم يقضي به قضاة جائز أمرهم وحكمهم مع أنه ليس مما ينظر في ذلك من أهل العراق وأهل الحجاز فريق إلا قد لجّ بهم العجب بما في أيد

يهم والاستخفاف ممن سواهم فأقحمهم ذلك في الأمور التي يشفع بها من سمعها من ذوي الألباب.

أما من يدعي لزوم السنة منهم فيجعل ما ليس له سنة سنة حتى يبلغ ذلك به إلى أن يسفك الدم بغير بينة ولا حجة الأمر الذي يزعم أنه سنة وإذا سئل عن ذلك لم يستطع أن يقول هُريق فيه دم على عهد رسول الله وأئمة الهدى من بعده. وإذا قيل له أي دم سفك على هذه السنة التي تزعمون قالوا: فعل ذلك عبد الملك بن مروان أو أمير من بعض أولئك الأمراء وإنما من يأخذ بالرأي فيبلغ به الاعتزام عن رأيه أن يقول في الأمر الجسيم من أمر المسلمين قولاً لا يوافقه عليه أحد من المسلمين ثم لا يستوحش لانفراده بذلك وإمضائه الحكم عليه وهو مقر أنه رأي منه لا يحتج بكتاب ولا سنة. فلو رأى أمير المؤمنين أن يأمر بهذه القضية والسير المختلفة فترفع إليه كتاب ويرفع معها ما يحتج به كل قوم من سنة أو قياس ثم نظر أمير المؤمنين في ذلك وأمضى في كل قضية رأيه الذي يلهمه الله ويعزم له عليه وينهى عن القضاء بخلافه وكتب بذلك كتاباً جامعاً عزماً لرجونا أن يجعل الله هذه الأحكام المختلطة الصواب بالخطأ حكماً صواباً واحداً ورجونا أن يكون اجتماع السير قربة لإجماع الأمر برأي أمير المؤمنين وعلى لسانه ثم يكون ذلك من إمام آخر، آخر الدهر إن شاء الله.

فأما اختلاف الأحكام إما شيءٌ مأثور عن السلف غير مجمع عليه يدبره قوم على وجه ويدبره آخرون على وجه آخر فينظر فيه إلى أحق الفريقين بالتصديق وأشبه الأمرين بالعدل. وأما رأي أجراه أهله على القياس فاختلف وانتشر ما يغلط في أصل المقايسة وابتدأ أمر على غير مثاله. وإما لطول ملازمته القياس فإن من أراد أن يلزم القياس ولا يفارقه أبداً في أمر الدين والحكم وقع في الورطات ومضى على الشبهات وغمض على القبيح الذي يعرفه ويبصره فأبى أن يتركه كراهة ترك القياس. وإنما القياس دليل يستدل به على المحاسن فإذا كان ما يقود إليه حسناً معروفاً أُخذ به وإذا قاد إلى القبيح المستنكر ترك لأن المبتغى ليس غير القياس يبغي ولكن محاسن الأمور ومعروفها وما ألحق ألحق بأهله. ولو أن شيئاً مستقيماً على الناس ومنقاداًَ حيث قيد لكان الصدق هو ذلك أولى أن يعتبر بالمقايس فإنه لو أرد أن يقوده الصدق لم ينقد إليه. وذلك أن رجلاً لو قال: أتأمرني أن أصدق فلا أكذب كذبة أبداً لكان جوابه أن يقول نعم ثم لو التمس منه قود ذلك فقال: أتصدق في كذا وكذاب حتى يبلغ به أن يقول الصدق في رجل هارب استدلني عليه طالب ليظلمه فيقتله لكسر عليه قياده وكان الرأي له أن يترك ذلك وينصرف إلى المجمع عليه المعروف المستحسن.

ومما يذكر به أمير المؤمنين أهل الشام فإنهم أشد الناس مؤونة وأخوفهم عداوة وبائقة. وليس يؤاخذهم أمير المؤمنين بالعداوة ولا يطمع منهم في الاستجماع على المودة فمن الرأي في أمرهم أن يختص أمير المؤمنين منهم خاصة ممن يرجو عنده صلاحاً أو يعرف منه نصيحة أو وفاءً فإن أولئك لا يلبثون أن ينفصلوا عن أصحابهم في الرأي والهوى ويدخلوا فيما حملوا عليه من أمرهم فقد رأينا أشباه أولئك من أهل العراق الذين استدخلهم أهل الشام وليس أحد من أمر أهل السلم على القصاص حرموا كما كانوا يحرمون الناس وجعل فيئهم إلى غيرهم كما كان فيء غيرهم إليهم ونحوا عن المنابر والمجالس والأعمال كما كانوا ينحون عن ذلك من لا يجهلون فضله في السابقة والمواضع ومنعت منهم المرافق كما كانوا يمنعون الناس أن ينالوا معهم أكلة من الطعام الذي يصنعه أمراؤهم للعامة. فإن رغب أمير المؤمنين لنفسه عن هذه السيرة وما أشبهها فلم يعارض ما عاب ولم يمثل ما سخط كان العدل أن يقتصر بهم على فيئهم فيجعل ما خرج من كور الشام فضلاً عن النفقات وما خرج من مصر فضلاً عن حقوق أهل المدينة ومكة بأن يجعل أمير المؤمنين ديوان مقاتلتهم ديوانهم أو يزيد وينقص غير أنه يأخذ أهل القوة والغناء وخفة المؤونة والعفة في الطاعة ولا يفضل أحداً منهم على أحد إلا على خاصة معلومة ويكون الديوان كالغرض المستأنف ويأمر لكل جند من أجناد أهل الشام بعدة من العيال يقترعون عليها ويسوي بينهم فيما لم يكونوا أسوة فيه فيمن مات من عيالاتهم ولا يصنع بأحد من المسلمين.

وأما ما يتخوف المتخوفون من نزواتهم فلعمري لئن أخذوا بالحق ولم يؤاخذوا به أنهم لخلقاء أن يكون لهم نزوات ونزقات ولكنا على مثل اليقين بحمد الله من أنهم لم يشركوا بذلك إلا أنفسهم وأن الدائرة لأمير المؤمنين عليهم آخر الدهر إن شاء الله. فإنه لم يخرج الملك من قوم إلا بقيت فيهم بقية يتوثبون بها ثم كان ذلك التوثب هو سبب استئصالهم وتدويخهم.

ومما يذكر به أمير المؤمنين أمر أصحابه فإن من أولى أمر الوالي منه بالتثبيت والتحيز أمر أصحابه الذين هم بهاء فنائه وزينة مجلسه وألسنة رعيته والأعوان على رأيه ومواضع كرامته والخاصة من عامته فإن أمر هذه الصحابة قد عمل فيه من كان وليه من الوزارة والكتاب قبل خلافة أمير المؤمنين عملاً قبيحاً مفرط القبح مفسداً للحسب والأدب والسياسة داعياً للأشرار طارداً للأخيار فصارت صحبة الخليط أمراً سخيفاً فطمع فيه الأوغاد وتزهد فيه من كان يرغب فيما دونه حتى إذا التقينا أباب العباس رحمه الله وكنت في ناس من صلحاء أهل البصرة ووجوههم فكنت في عصابة منهم أبوا أن يأتوه فمنهم من تغيب فلم يقدم ومنهم من هرب بعد قدومه اختياراً للمعصية على سوء الموضع لا يعتذرون في ذلك إلا بضياع الكتب والدعوة والمدخل يقولون هذه منزلة كان من هو أشرف من أبنائنا يرغبون فيما هو دونها عند من هو أصفر أمراء ولاتنا اليوم وقد كانت مكرمة وحسباً إذ الناس ينظرون ويسأل عنهم فأما اليوم ونحن نرى فلاناً وفلاناً ينفر بأسمائهم على غير قديم سلف ولا بلاء حدث فمن يرغب فيما هاهنا يا أمير المؤمنين أكرمك الله أما يصير العدل كله إلى تقوى الله عز وجل وإنزال الأمور منازلها فإن الأول قال:

لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ... ولا سراة إذا جهالهم سادوا

وقال:

هم سودوا نصراً وكل قبيلة ... يُبين عن أحلامها من يسودها

وإن أمر هذه الصحابة قد كان فيه أعاجيب دخلت فيه مظالم. أما العجب فقد سمعنا من الناس من يقول ما رأينا أعجوبة قط أعجب من هذه الصحابة ممن لا ينتهي إلى أدب ذي نباهة ولا حسب معروف ثم هو مسخوط الرأي مشهور بالفجور من أهل مصر قد غبر علامة دهره صانعاً يعمل بيده ولا يعتد مع ذلك ببلاء ولا غناء إلا أنه مكنه من الأمر صاغ فاحتوى حيث أحب فصار يؤذن له على الخليفة قبل كثير من أبناء المهاجرين والأنصار وقبل قرابة أمير المؤمنين وأهل بيوتات العرب ويجري عليهم من الرزق الضعف مما يجري على كثير من بني هاشم وغيره من سروات قريش ويخرج له من المعونة على نحو ذلك لم يضعه بهذا الموضع رعاية رحم ولا فقه في دين ولا بلاء في مجاهدة عدو معروفة ماضية متتابعة قديمة ولا غناء حديث ولا حاجة إليه في شيء من الأشياء ولا عدة يستعد بها وليس بفارس ولا خطيب ولا علامة إلا أنه خدم كاتباً أو حاجباً فأخبر أن الذين لا يقوم إلا به حتى كتب كيف شاء ودخل حيث شاء.

وأما المظلمة التي دخلت في ذلك فعظيمة قد خصت قريشاً وعمت كثيراً من الناس وأدخلت على الأحساب والمروءات محنة شديدة وضياعاً كثيراً فإن في أذن الخليفة والمدخل عليه والمجلس عنده وما يجري على صحابته من الرزق والمعونة وتفضيل بعضهم على بعض في ذلك حكماً عظيماً على أن الناس في أنسابهم وأخطارهم وبلاء أهل البلاء منهم وليس ذلك كخواص المعروف ولطيف المنازل أو الأعمال التي يختص بها المولى من أحب ولكنه باب من القضاء جسيم عام يقضي فيه للماضين من أهل السوابق والمآثر من أهل الباقين وأهل البلاء والغناء بالعدل أو بما يجال فيه عليهم فإن أحق المظالم بتعجيل الرفع والتغيير ما كان ضره غائباً وكان السلطان شائناً ثم لم يكن في رفعة مؤونة ولا شغب ولا توغير بصدور عامة ولا للقوة ولا أضرار سبب.

ولصحابة أمير المؤمنين أكرمه الله مزية وفضل وهي مكرمة سنية حرية أن تكون شرفاً لأهلها وحسباً لأعقابهم وحقيقة أن تصان وتخطر ولا يكون فيها إلا رجل بدر بخصلة من الخصال ومن رجل له عند أمير المؤمنين خاصة بقرابة أو بلاء أو رجل يكون شرفه ورأيه وعمله أهلاً لمجلس أمير المؤمنين وحديثه ومشورته أو صاحب نجدة يعرف بها ويستعد لها يجمع مع نجدته حسباً وعفافاً فيرفع من الجند إلى الصحابة ورجل فقيه مصلح يوضع بين أظهر الناس لينتفعوا بصلاحه وفقهه أو رجل شريف لا يفسد نفسه أو غيرها فإما من يتوسل بالشفاعات فإنه يكتفي أو يكتفى له بالمعروف والبر فيما لا يهجن رأياً ولا يزيل أمراً عن مرتبته ثم تكون تلك الصحابة المخلصة على منازلها ومداخلها ألا يكون للكاتب فيها أمر في رفع رزق ولا وضعه ولا للحاجب في تقديم إذن ولا تأخيره.

ومما يذكر به أكير المؤمنين أمر فتيان أهل بيته وبني أبيه وبني علي وبني العباس فإن فيهم رجالاً لو متعوا بجسام الأمور والأعمال سدوا وجوهاً وكانوا عدة لأخرى.

ومما يذكر به أمير المؤمنين أمر الأرض والخراج فإن أجسم ذلك وأعظمه خطراً وأشده مؤونة وأقربه من الضياع ما بين سهله وجبله ليس لها تفسير على الرساتيق والقرى فليس للعمال أمر ينتبهون إليه ولا يحاسبون عليه ويحول بينهم وبين الحكم على أهل الأرض بعدما يتأنقون لها في العمارة ويرجون لها فضل ما تعمل أيديهم. فسيرة العمال فيهم إحدى اثنتين إما رجل أخذ بالخرق والعنف من حيث وجد وتتبع الرجال والرساتيق بالمغالاة ممن وجد، وإما رجل صاحب مساحة يستخرج ممن زرع ويترك من لم يزرع فيعمر من عمر ويسلم من أخرب مع أن أصول الوظائف على الكور لم يكن لها ثبت ولا علم وليس من كورة إلا وقد غيرت وظيفتها مراراً فخفيت وظائف بعضها وبقيت وظائف بعض فلو أن أمير المؤمنين أعمل رأيه في التوظيف على الرساتيق والقرى والأرضين وظائف معلومة وتدوين الدواوين بذلك وإثبات الأصول حتى لا يؤخذ رجل إلا بوظيفة قد عرفها وضمنها ولا يجتهد في عمارة إلا كان له فضلها ونفعها لرجونا أن يكون في ذلك صلاح للرعية وعمارة للأرض وحسم لأبواب الخيانة وغشم العمال. وإذا رأي مؤونته شديدة ورجاله قليل ونفعه متأخر. وليس بعد هذا من أمر الخراج غلا رأي قد رأينا أمير المؤمنين أخذ به ولم نره من أحد قبله من تخير العمال وتفقدهم والاستعتاب لهم والاستبدال بهم.

ومما نذكر به أمير المؤمنين جزيرة العرب من الحجاز واليمن واليمامة وما سوى ذلك أن يكون من رأي أمير المؤمنين إذا سنحت نفسه عن أموالها من الصدقات وغيرها أن يختار لولايتها الخيار من أهل بيته وغيرهم لأن ذلك من تمام السيرة العادلة والكلمة الحسنة التي قد رزق الله أمير المؤمنين وأكرمه بها من الرأي الذي هو بإذن الله حمى ونظام لهذه الأمور كلها في الأمصار والأجناد والثغور والكور. إن الناس من الاستخراج والفساد ما قد علم أمير المؤمنين وبهم حاجة إلى تقويم آدابهم وطرائقهم ما هو أشد من حاجتهم إلى أقواتهم التي يعيشون بها وأهل كل مصر وجند أو ثغر فقراء إلى أن يكون لهم من أهل الفقه والسنة والسير والنصيحة مؤدبون مقومون يذكرون ويبصرون الخطأ ويعظون عن الجهل ويمنعون عن البدع ويحذرون الفتن وينتقدون أمور عامة من هو بين أظهرهم حتى لا يخفى عليهم منها مهم ثم يستصلحون ذلك ويعالجون على ما استنكروا منه بالرأي والرفق والنصح ويرفعون ما أعياهم إلى ما يرجون قوته عليهم مأمونين على سير ذلك وتحصينه بصراء بالرأي حين يبدو أو أطباء باستئصاله قبل أن يتمكن. وفي كل قوم خواص رجال عندهم على هذا معونة إذا صُنعوا لذلك وتلطف لهم وأُعينوا على رأيهم وقووا على معاشهم ببعض ما يفرغهم لذلك ويبسطهم له. وخطر هذا جسيم في أمرين أحدهما برجوع أهل الفساد إلى الصلاح وأهل الفرقة إلى الألفة والأمر الآخر أن لا يتحرك متحرك في أمر من أمور العامة إلا وعين ناصحة ترمقه ولا يهمس هامس إلا وأذن شفيقة تصيخ نحوه. وإذا كان ذلك لم يقدر أهل الفساد على تربيص الأمور وتلقيحها وإذا لم تلقح كان نتائجها بإذن الله مأموناً.

وقد علمنا علماً لا يخالطه شك أن عامة قط لم تصلح من قبل أنفسها ولم يأتها الصلاح إلا من قبل خاصتها. وأن خاصة قط لم تصلح من قبل أنفسها وأنها لم يأتيها الصلاح إلا من قبل إمامها. وذلك لأن عدد الناس في ضعفتهم وجهالهم الذين لا يستغنون برأي أنفسهم ولا يحملون العلم ولا يتقدمون في الأمور فإذا جعل الله فيهم خواص من أهل الدين والعقول ينظرون غليهم ويسمعون منهم اهتمت خواصهم بأمور عوامهم وأقبلوا عليه بجد ونصح ومثابرة وقوة جعل الله ذلك صلاحاً لجماعتهم وسبباً لأهل الصلاح من خواصهم وزيادة فيما أنعم الله به عليهم وبلاغاً إلى الخير كله. وحاجة الخواص إلى الإمام الذي يصلحهم الله به كحاجة العامة إلى خواصهم وأعظم من ذلك فبالإمام يجمع الله أمرهم ويكبت أهل الطعن عليهم ويجمع رأيهم وكلمتهم ويبين لهم عند العامة منزلتهم ويجعل لهم الحجة والأيد والمقال على من نكب عن سبيل حقهم. فلما رأينا هذه الأمور ينتظم بعضها ببعض وعرفنا من أمر أمير المؤمنين ما بمثله جمع الله خواص المسلمين على الرغبة في حسن المعاونة والمؤازرة والسعي في صلاح عامتهم طمعنا لهم في ذلك يا أمير المؤمنين وطمعنا فيه لعامتهم ورجونا أن لا يعمل بهذا الأمر أحد إلا رزقه الله المتابعة فيه والقوة عليه. فإن الأمر إذا أعان على نفسه جعل للقائل مقالاً وهيأ للساعي نجاحاً. ولا حول ولا قوة إلا بالله وهو رب الخلق وولي الأمر يقضي في أمورهم يدبر أمره بقدرة عزيزة وعلم سابق فنسأله أن يعزم لأمير المؤمنين على المراشد ويحصنه بالحفظ والثبات والسلام ولله الحمد والشكر.

تحميد لابن المقفع

الحمد لله ذي العظمة القاهرة والآلاء الظاهرة الذي لا يعجزه شيءٌ ولا يمتنع منه ولا يُدفع قضاؤه ولا أمره وإنما يقول إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون. والحمد لله الذي خلق الخلق بعلمه ودبر الأمور بحكمه وأنفذ فيما اختار واصطفى منها عزمه بقدرة منه عليها وملكة منه لها لا معقب لحكمه ولا شريك له في شيء من الأمور يخلق ما يشاء ويختار ما كان للناس الخيرة في شيء من أمورهم سبحان الله وتعالى عما يشركون. والحمد لله الذي جعل صفوا ما اختار من الأمور دينه الذي ارتضى لنفسه ولمن أراد كرامته من عباده فقام به ملائكته المقربون يعظمون جلاله ويقدسون أسماءه ويذكرون ويذكرون آلاءه لا يتحسرون عن عبادته ولا يستكبرون يسبحون الليل والنهار لا يفترون وقام به من اختار من أنبيائه وخلفائه وأوليائه في أرضه يطيعون أمره ويذبون عن محارمه ويصدقون بوعده ويوفون بعهده ويأخذون بحقه ويجاهدون عدوه وكان لهم عند ما وعدهم من تصديقه قولهم وإفلاحه حجتهم وإعزازه دينهم وإظهار حقهم وتمكينه لهم وكان لعدوه وعدوهم عندما أوعد هم من خزيه وإحلاله بأسهم وانتقامه منهم وغضبه عليهم مضى على ذلك ونفذ فيهم قضاؤه فيما مضى وهو ممضيه ومنفذه على ذلك فيما بقي ليتم نوره ولو كره الكافرون ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون. والحمد لله الذي لا يقضي في الأمور ولا يدبرها غيره ابتدأها بعلمه وأمضاها بقدرته وهو وليها ومنتهاها وولي الخبرة فيها والإمضاء لما أحب أن يمضي منها يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عما يشركون. والحمد لله الفتاح العليم العزيز الحكيم ذي المن والطول والقدرة والحول الذي لا ممسك لما فتح لأوليائه من رحمته ولا دافع لما أنزل بأعدائه من نقمته ولا ردّ لأمره في ذلك وقضائه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. والحمد لله المثيب بحمده ومنه ابتداؤه والمنعم بشكره وعليه جزاؤه والمثني بالإيمان وهو عطاؤه.

كتب ابن المقفع إلى صديق ولدت له جارية:

بارك الله لكن في الابنة المستفادة وجعلها لكم زيناً وأجرى لكم بها خيراً فلا تكرهها فإنه الأمهات والأخوات والعمات والخالات ومنهن الباقيات الصالحات. وربَّ غلام ساء أهله بعد مسرتهم وربَّ جارية فرَّحت أهلها بعد مساءتهم.

تعزية لابن المقفع عن ولد:

أعظم الله على المصيبة أجرك وأحسن على جليل الرزء ثوابك وعجل لك الخلف فيه وذخر لك الثواب عليه.

وله:

وإنما يستوجب على الله وعده من صبر لله بحقه فلا تجمعن إلى ما فجعت به من ولدك الفجيعة بالأجر عليه والعوض منه. فإنما أعظم المصيبتين عليك وأنكى المرزيتين لك. أخلف الله عليك بخير وذخر لك جزيل الثواب.

وتعزية له عن بنت:

جدد الله لك من هبته ما يكون خلفاً لك بما رزئته وعوضاً من المصيبة به ورزقك من الثواب عليه أضعاف ما رزأك به منها فما أقل كثير الدنيا في قليل الآخرة مع فناء هذه ودوام تلك.

وتعزية له أيضاً:

أعظم الله أجرك في كل مصيبة وأوزعك الشكر على كل نعمة. اعرف لله حقه واعتصم بما أمر به من الصبر تظفر بما وعد من عظيم الأجر.

وتعزية لابن المقفع:

أما بعد فإن أمر الآخرة والدنيا بيد الله هو يدبرهما ويقضي فيهما ما يشاء ولا راد لقضائه ولا معقب لحكمه فإن الله خلق الخلق بقدرته ثم كتب عليهم الموت بعد الحياة لئلا يطمع أحد من خلقه في خلد الدنيا ووقت لكل شيء ميقات أجل لا يستأخرون عنه ساعة ولا يستقدمون فليس أحد من خلقه إلا وهو مستيقن بالموت لا يرجو بأن يخلصه من ذلك أحد. نسأل الله خير المنقلب. وبلغني وفاة فلان فكانت وفاته من المصائب العظام التي يحتسب ثوابها من ربنا الذي إليه منقلبنا ومعادنا وعليه ثوابنا فعليك بتقوى الله والصبر وحسن الظن بالله فإنه جعل لأهل الصبر صلوات منه ورحمة وجعلهم من المهتدين.

ولابن المقفع في السلامة:

أما بعد فقد أتاني كتابك فيما أخبرتنا عنه من صلاحك وصلاح ما قبلك وفي الذي ذكرت من ذلك نعمة مجللة عظيمة نحمد الله عليها وليها المنعم المفضل المحمود ونسأله أن يلهمنا وإياك من شكره وذكره ما به مزيدها وتأدية حقها. وسألت أن أكتب إليك بخبرنا ونحن على حال لو أطنبت في ذكرها لم يكن في ذلك إحصاءٌ للنعمة ولا اعتراف لكنه الحق فنرغب إلى الذي تزداد نعمه علينا في كل يوم وليلة تظاهراً ألا يجعل شكرنا منقوصاً ولا مدخولاً وأن يرزقنا مع كل نعمة كفاءها من المعرفة بفضله فيها والعمل في الأداء إليه حقها إنه ولي قدير.

وله كتاب للثقفي في السلامة:

أما بعد فإن مما نمق الله به مناقبك الكريمة المحمودة الغانية عن القول والوصف أنك موضع المؤونات عن أخوانك حمال عنهم أثقال الأمور مما وضعت عنه المؤونة ارتفاعك عن الأمور التي يطأطأ إليها الكلام على ألسنة الناس إذا أباحوه وبهرجوه وضيعوا القول ونسوا القصد فيه وأخذوا به في كل فن وأصفوا بصفوته غير أهلها فيما لا ينبغي لهم من التشبيه والتوفير والتفضيل. كان من خبري بعدك أني قدمت بلد كذا فتهيأ لي بعض ما شخصت له والمحمود على ذلك الله عز وجل وأنا على أن يأتيني خبرك محتاج فأما جملة خبري في فراقك فقلبي مكة كل ما سواك حرام فيها.

وله جواب في السلامة:

أما بعد فقد أتاني كتاب الأمير رجعة كتابي إليه فكان فيه تصديق الظن وتثبيت الرأي ودرك البغية والله محمود فأمتع الله بالأمير وأمتعه بصالح ما آتاه وزاهدة من الخيرات مستعمراً له فيه مستعملاً بطاعته التي بها يفوز الفائزون والذي رزق الله من الأمير فهو عندي عظيم نفيس وكل الذي قبلي عن مكافأته فمقصر إلا أنه ليس في النية تقصير ولا بلوغ لشيء من الأمور إلا بتوفيق الله عز وجل ومعونته والسلام.

وله في السلامة جواب أيضاً:

أما بعد فقد أتاني كتابك فيما أخبرتني عنه من صلاحك وصلاح ما قبلك وفي الذي ذكرت نعمة مجللة عظيمة نحمد عليها الله المنعم بها المحمود ونسأله أن يلهمنا وإياك من شكره وذكره ما به مزيدها وتأدية حقها نحن من عافية الله وكفايته ودفاعه على حال لو أطنبت في ذكرها لم يكن في ذلك إحصاء للنعمة ولا اعتراف لكنه الحق فنرغب إلى الذي يزيد في نعمه علينا تظاهراً ألا يجعل شكرنا منقوصاً ولا مدخولاً وأن يرزقنا مع كل نعمة كفاءً من المعرفة بفضله فيها والعمل في أدءا حقها.

وفي السلامة أيضاً (ولم يقل أنها له):

كتبت إليك وأمير المؤمنين وما يأتيه من لين الطاعة واتساق الكلمة عمت في الداني والقاصي من بلدانه وحواشي سلطانه على ما يحمد الله عليه فإن نعمة الله على أمير المؤمنين تجري على أذلالها وتنقاد في أسهل سبيلها.

قال المؤلف: ومن مختار ما كتب به من باب الشكر ولم أعرف إن كانت له أو لغيره لأنه أورد كتب بضم أولها ومع هذا فهذه هي الرسالة:

أما بعد فقد أعجز تعدادي عما أتعرف منك وأتعرف بك دانياً ونائياً وما أدري ما ابتدأني به من معروفك أرهن لشكري أم ما ثنيت به من برك لبدئك بعنايتك على نأيك أم ما ألبستني جماله على لسانك بإطرائك وثنائك أم ما عقدته لي عند غيرك بتلطيفك وتأتيك غير أني أعلم أنك لم تقصر في استحقاق شكر علي وأرجو ألا أكون مقصراً في معرفة ذلك منك ومن لم يقصر علمه ولم يؤت في شكره إلا من أعظم المعروف عنده مع جهده فقد دخل بالعلم والجهد في الشاكرين. غير أن الذي آنستني به من رفدك وتوطيدك قد زادني وحشة إليك وإن حفظ من حفظني فيك وإن لم يكن مقصراًُ وقد جدد لي المعرفة بوثارة مكاني عندك ولقد بلغت ن اصلحت لي الأمور والرجال وأصلحتني إلى صلاحي لنفسك فليس كتابي هذا باستبطائي لأحد حتى يستبطئه ولا شكري حتى يكون البدء منك ولكن روحت عن نفسي بذكرك وزينتها بشكرك وزكيتها بالإقرار بفضلك.

ولابن المقفع:

إن الناس لم يعدموا أن يطلبوا الحوائج إلى الخواص من الأخوان وأن يتواصلوا بالحقوق ويرغبوا إلى أهل المقامات ويتوسلوا لى الأكفاء وأنت بحمد الله ونعمته من أهل الخير وممن أعان عليه وبذلك لأهل ثقته المصافين وإن بذل النفوس فيه وإعطاء الرغيب ليس منك ببكر ولا طريف بل هو تليد أتلده أولكم لآخركم وأورثه أكابركم أصاغركم ومن حاجتي كذا وأنت أحق من طلبت إليه واستعنته على حوادث الدهر وأنزلت به أمري لقرب نسبك وكريم حسبك ونباهتك وعلو منزلتك وجسيم طبائعك وعوام أياديك على عشيرتك وغيرها فليكن من رأيك ما حملتك من حاجتي على قدر قسم الله لك من فصله وما عودك من مننه ووسع غيري من نعمائك وإحسانك.

ولابن المقفع أيضاً:

أما بعد فإن من قضى الحوائج لأخوانه واستوجب بذلك الشكر عليهم فلنفسه عمل لا لهم. والمعروف إذا وضع عند من لا يشكره فهو زرع لا بد لزارعه من حصاده أو لعقبة من بعده. وكتبت إلينا ولحالنا التي نحن بها نذكرك حاجة أول ما فيها معروف تستوجب بد الشكر علينا وتدخر به الأيادي قبلنا.

ولعبد الله بن المقفع إلى يحيى بن زياد (الحارثي) ابتداءً في المؤاخاة:

أما بعد فإن أهل الفضل في اللب والوفاء في الود والكرم في الخلق لهم من الثناء الحسن في الناس لسان صدق يشيد بفضلهم ويخبر عن صحة ودهم وثقة مؤاخاتهم فيتحير إليهم رغبة الأخوان ويصطفي لهم سلامة صدورهم ويجتبي لهم ثمرة قلوبهم فلا مثني أفضل تقريضاً ولا مخبر أصدق أحدوثة منه. وقد لزمت من الوفاء والكرم فيما بينك وبين الناس طريقة محمودة نسبت إلى مزيتها في الفضل وجمل بها ثناؤك في الذكر وشهد لك بها لسان الصدق فعرفت بمناقبها ووسمت بمحاسنها فأسرع إليك الأخوان برغبتهم مستبقين يبتدرون ودك ويصلون حبلك ابتدار أهل التنافس في حظ رغيب نصبت لهم غاية يجري إليها الطالبون ويفوز بها السابقون. فمن أثبت الله عندك بموضع الحرز والثقة وملأ بك يده من أخي وفاء وصلة واستنام منك إلى شعب مأمون وعهد محفوظ وصار مغموراً بفضلك عليه في الود يتعاطى من مكافأتك ما لا يستطيع ويطلب من أثرك في ذلك غاية بلوغها شديد. فلو كنت لا تؤاخي من الأخوان إلا من كافأ بودك وبلغ من الغايات حدك ما آخيت أحداً ولصرت من الأخوان صفراً ولكن أخوانك يقرون لك بالفضل وتقبل أنت ميسورهم من الود ولا يجشمهم كلف مكافأتك ولا بلوغ فضلك فيما بينك وبينهم فإنما مثلك في ذلك ومثلهم كما قال الأول:

ومن ينازع سعيد الخير في حسب ... ينزع طليحاً ويقصر قيده الصعد

ولم أرد بهذا الثناء عليك تزكيتك ليكون ذلك قربة عندك وآخية لي لديك ولكن تحريت فيما وصفت من ذلك الحق والصدق وتنكبت الإثم والباطل فإن القليل من الصدق البريء من الكذب أفضل من كثير الصدق المشوب بالباطل. ولقد وصفت من مناقبك ومحاسن أمورك وإني لأخاف الفتنة عليك حين تسمع بتزكية نفسك وذكري ما ذكرت من فضلك لأن المدح مفسدة للقلب مبعثة للعُجب. ثم رجوت لك المنعة والعصمة لأني لم أذكر إلا حقاً والحق ينفي من اللبيب العُجب وخيلاء الكبر ويجمله على الاقتصاد والتواضع. وقد رأيت إذ كنت في الفضل والوفاء على ما وصفت منك أن آخذ نصيبي من ودك وأصل وثيقة حبلي بحبلك فيجري بيننا من الإخاء أواصر الأسباب التي بها يستحكم الود ويدوم العهد وعلمت أن تزكي ذلك غبن وإضاعتي إياه جهل لأن التارك للحظ داخل في الغبن والعائد عن الرشد موجف إلى الغي فارغب من ودي فيما رغبت فيه من دوك فإني لم أدع شيئاً أستتلي به منك الرغبة وأجتر به منك المودة إلا وقد اقتدت إليك ذريعته وأعملت نحوك مطيته لترى حرصي على مودتك ورغبتي في مؤاخاتك والسلام.

جواب من يحيى بن زياد في صفة الإخاء:

أما بعد فإنا لما رأينا موضع الإخاء ممن يحتمله في تأنيسه من الوحشة وتقريبه لذي البعدة ومشاركته بين ذوي الأرحام في القربة لم نرض بمعرفة عينه دون معرفة نسبته فنسبنا الإخاء فوجدناه في نسبته لا يستحق اسم الإخاء إلا بالوفاء فلما انتقلنا عنه إلى الوفاء فنسبناه انتسب لنا إلى الصبر فوجدناه محتوياً على الكرم والنجدة والصدق والحياء والنجابة والزكانة وسائر ما لا يأتي عليه العدد من المحامد ثم انحدرنا فيما أصعدنا فيه من هذا النسب فعدنا إلى الإخاء فوجدناه لا يقوم به إلا من هذه الخصال كلها أخلاقه. ولما استوجب الإخاء مسالك المحمدة كلها رأينا أن نتخير له المواضع في صواب التوزير وأحكام التقدير وعلمنا أن الاحتباس به أحسن من الندم بعد بذله واستوجب إذا كان جماع المحامد أن نتخير له محامله التي كان يحمل عليها فكان الناس فيما احتسبنا به عنهم من الإخاء على صنفين فصنف عذرونا بالتحبس للتخير إذ كان التخير من شأنهم وصنف هم ذوو سرعة إلى الإخاء وسرعة في الانتهاء فقدموا اللائمة واستعجلوا بالمودة وتركوا باب التروية واستحلوا عاجل المحبة ولهوا عن آجل الثقة فكانوا بذلك أهل لائمة ولم يجد المعذورون إلا الصبر على تلك والاستعمال الرأي والاستعداد بالعذر عند المحاجة. وقد فهمت كتابك إليّ بالمودة واسحثاثك إياي في الأخوة وما دنوت به من حرمة المحبة فنازعت إليك نفسي بمثل الذي نازعت به إليَّ نفسك فواثبتني عادة الاستعمال للتروية في الخبرة والتخير للمغبة فجلت عن كتابك جولة غير نافرة ثم راجعت مقاربتك فقلت ألقى إليَّ أسباب المودة قبل كشف الغطاء بالخبرة فخشيت أن تعذر نفسك بالتقدم وتحدث الزهادة للتعسف بالجهالة عند الخبرة فجلت عن هذا جولة كالجولة الأولى ثم عاودت إسعافك وطاعة التشوق ومعصية التحيز ثم قلت ما حال من جعل الظن دون اليقين والتقدم قبل الوثيقة فلما كان الرأي لي خصماً تنكبت الوقوع في خلافه فلم أجد إلا الإدبار عن إقبالك سبيلاً ولا مع ذلك في طاعة الشوق حجة فتغيبت السبيل بين ذلك إلى إعطائك طرف حبل الإخاء في غير الخروج من سبيل التخير وكرهت أن تستعبدني بالإخاء قبل أن أعرفك بحسن الملكة وأن تستظهرني على الأعداء قبل أن أعرفك بعدل السيرة وأن تستضيء بي في ظلم الجهل قبل أن أعرفك بعقد اللب وأن تستمكن بي في المطالب قبل أن أعرفك بقصد الهمة فقدمت إليك الترحيب والعدة وأحسنت عنك المفاوضة والثقة وتنظرت أن تثمر لي فأذوق جناك فأعرفك بالمذاقة في الطعم إما لافظاً وإما مستبلغاً فإن كان اللفظ لم أكن من الرأي في قلبه وإن كان الاستبلاغ ذوقتك ما تشوقت إليه مما ادعيت مني به الخبرة وأول ما أنا معتبر به منك المواظبة على استنجاح ما سألت أو السآمة له فإن كانت المواظبة فأحد الشهود المعدلين وإن كانت السآمة فأنت عن حمل ما تعطي أضعف منك عن جميل ما تطلب. طالعني بكتبك فإنك قد حللت قبلي عقداً من التحفظ وعقدت عقداً من التقرب والسلام.