مجلة المقتبس/العدد 35/الرومان

مجلة المقتبس/العدد 35/الرومان

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 12 - 1908



عاقبة الجمهورية

كاتون الأوتيكي: بينا كان القواد يتنازعون بينهم فيمن يستأثر بالسلطان على العالم الروماني اشتهر رجل بتعلقه بالدستور الجمهوري القديم الذي أخذ يمزق لما رآه آخذاً في التداعي لم يلبث أن انتحر وكان كاتون هذا هو الملقب بكاتون الأوتيكي باسم المدينة التي انتحر فيها.

كان هذا الرجل من أسرة شريفة من أخلاف كاتون وزير الإحصاء الشهير والمدافع عن الأخلاق الرومانية القديمة كتب له أن يكون صاحب ثروة طائلة وهو شاب بعد. وكان قد تعلم فلسفة الرواقيين وجرى عليها فأنشأ يعيش عيش الزهاد يأكل قليلاً ويشرب قليلاً ولا يتطيب وعوّد نفسه احتمال الحر والبرد الشديد يسافر ماشياً في كل فصل من فصول السنة حتى مع أصحابه الراكبين خيولهم ولا يلبس إلا ثياباً بسيطة رثة وقد وقع له أن خرج بدون حذاء.

ولما أرسل قائداً لأحد الجيوش إلى إحدى الحروب (بموجب امتياز فتيان الأشراف) أحبه جنده واحترموه إذ رأوه يعيش مثلهم عيشاً بسيطاً ولما وسدت إليه نظارة المالية عُني بالنظر في الحسابات بنفسه على العكس فيمن كان قبله من الأشراف يتولون هذه النظارة فإنهم كانوا يتركون للكتاب ينظرون في شؤون المالية وحدهم وبذلك اكتشف تزويرات الكتبة وحاكم المرتكبين واشتهر بغيرته وكان لا يتأخر عن جلسة من جلسات مجلس الشيوخ أو مجلس الأمة فصار يضرب المثل بشرفه وأصبح القوم يقولون عن الأمر المتعذر لا يمكن تصديق هذا ولو قاله كاتون.

وكان كاتون يقوم بما يعتقد أنه واجب عليه دون أن تأخذه رأفة أو تناله رهبة. وحاول أن يحكم على مورينا لأنه ابتاع أصوات الأمة حتى انتخبته قنصلاً فبرأه شيشرون وكان إذ ذاك قنصلاً بخطاب سخر فيه من فلسفة الرواقيين فقال كاتون: حقاً أن لنا قنصلاً مضحكاً واقترح قيصر في مسألة المشتركين في قتل كاتالينا أن يتأخر إعدامهم لأنهم رفعوا قضية فاشتد كاتون على قيصر وأشار إلى مجلس الشيوخ أن يأمر بإعدام الجناة في الحال فلم يسع المجلس إلا أن يقرر قتلهم.

ولما اقترح بومبي سن قانون يسمح له بإدخال جيشه إلى رومية خلافاً لما رسمه الدست استشاط كاتون غضباً في جلسة مجلس الشيوخ من المحامي متلوس الذي اقترح وضع القانون وصرح بأنه ما دام حياً لا يدخل بومبي إلى المدينة مسلحاً ولما جاء متلوس إلى الساحة في جيش العبية المسلحين للموافقة على القانون اخترق كاتون صفوف جماعة وقعد بالقرب من متلوس ومنعه من قراءة مشروعه فجاء العبيد إذ ذاك صارخين يرمون بالحجارة ويضربون بالعصي فهرب الشعب وبقي كاتون فأنقذه مورينا بأن جره إلى أحد المعابد وعاد الشعب فصعد كاتون على المنبر وخطب في سيئات هذا القانون فأبى متلوس أن يعرضه وذهب إلى آسيا ليلحق ببومبي.

ولما التق قيصر وبومبي وكان قيصر اقترح سن قانون لم يجرأ غير كاتون على قتاله فأنزله قيصر من المنبر بواسطة رجال الشرطة وبعث به إلى السجن وظل كاتون يتكلم في الطريق وقد تبعه جمهور من أعضاء مجلس الشيوخ فعزم قيصر أن يخلي سبيله وللخلاص منه أرسلته الحكومة إلى قبرص ليطرد منها الملك بطليموس دون أن يعطوه جيشاً وإذ كان هذا الملك انتحر لم يبق على كاتون إلا أن ينظم قائمة بما خلف الملك من الكنوز فأتى إلى رومية بمبلغ كبير فاستقبله مجلس الشيوخ أحسن استقبال وتقدم للانتخاب قاضياً وكانت القبيلة الأولى وافقت على انتخابه وإذ كان بومبي رئيس المجلس لم ير بداً من أن يدعي أن السماء ترعد وأعلن بانفضاض الجلسة (والرعد طالع شؤم كما عرفت في بعض الفصول السابقة). وعندما اقترحوا أن يعطوا لقيصر جيشاً تقدم كاتون إلى بومبي ولطالما شغل الأول بقتال الثاني وحضه على الحذر من قيصر فبقي بومبي عدواً لهذا. وهذا لم يمنع كاتون عندما رأى المنافسين في الحكومة يقتتلون في المدينة من معاضدة اقتراح المقترحين أن يعينوا بومبي وحده قنصلاً عندما اقترب أحدهما من صاحبه ولما زحف قيصر على رومية بجيشه نصح كاتون لمجلس الشيوخ أن يلقي إلى بومبي بمقاليد الحكم بأجمعه على من عمل الشر أن يتلافاه. وتبع بومبي إلى خارج إيطاليا ومنذ ذاك العهد أطلق شعره ولحيته علامة على الحزن وأشار بإطالة زمن الحرب وكان يخاف من عاقبة قتال يقتل فيه الرومانيون بعضهم.

ولما بلغته هزيمة فارسال سافر إلى مصر يريد الالتحاق ببومبي ووقف في إفريقية حيث كان لأحد أشياع بومبي جيش وتولى الدفاع عن مدينة أوتيكيا.

وإذ هزم قيصر جيش إفريقيا اقترح كاتون على الرومانيين النازلين في أوتيكيا أن يحاصروا فأبوا فأطلق كاتون جميع أعضاء الشيوخ الذين لجؤوا إليه ثم استحم وتعشى مع أصحابه وأخذ يخوض في المباحث الفلسفية ولما حان وقت النوم طالع محاورة أفلاطون في خلود النفس والتمس سبفه الذي كان نزعه ابنه عنه مغاضباً فأحضروه إليه فجعل على مقربة منه ونام فاستيقظ عند الفجر ثم طعن نفسه في صدره وكان عمره 48 سنة.

فارسال: لم يبق في البلاد بعد وفاة كراسوس غير بومبي وقيصر وكلاهما يود الاستئثار بالسلطة وكان من تقدم بومبي على صاحبه أنه كان في رومية مستولياً على أزمة مجلس الشيوخ وكان مع قيصر جيش غاليا المدرب على الحروب منذ ثماني سنين قضاها في الحملات.

فاتخذ بومبي خطة الهجوم واستصدر من مجلس الشيوخ أمراً بأن يترك قيصر جيشه ويجيء إلى رومية فعقد قيصر إذ ذاك عزمه على اجتياز حدود ولايته (وكان الحد هو نهر ريبكون) وزحف على رومية. ولم يكن عند بومبي جيش في إيطاليا للدفاع فركن إلى الفرار مع أكثر الشيوخ من الشاطئ الآخر من بحر الأدرياتيك وكان له عدة شيوخ في إسبانيا واليونان وأفريقية شتت قيصر شملهم واحداً بعد الآخر فهزم جيش إسبانيا سنة 48 ثم جيش اليونان في فارسال سنة 48 فجيش إفريقية سنة 46 ولما غلب بومبي في فارسال لجأ إلى مصر فقتله ملكها.

حكم قيصر: ولما رجع قيصر إلى رومية عهد إليه بالأمر لمدة عشر سنين فصار الحاكم المطلق ثم حارب جيوش أشياع بومبي في إفريقية وساد جميع البلاد الخاضعة للرومان واحتفل في رومية بظفره بأربعة أعداء الغاليين والمصريين وملك بحر الخزر في آسيا الصغرى وملك النوميديين حليف البومبيين في أفريقية (لم يكن من اللياقة بأن يفاخر بتغلبه على جيش روماني).

فقام مجلس الشيوخ لقيصر بالتشريفات الدينية فأعطاه أولاً كرسياً أعلى من مقاعد القناصل ولقبه بالأول ثم خوله الحق بأن يحمل تاجاً من الغار (وكان ذلك من حق الأرباب) ومنحه لقب أبو الوطن وابتدع احتفالات وألعاباً إكراماً له وأقام له تمثالاً خطوا فيه ألفاظ التعظيم وعهدوا إلى الكهنة للاحتفال بعبادة رب يوليوس قيصر. ومن الممكن أن يكون قيصر طمع في لقب ملك ومع هذا دعا نفسه بالإمبراطور وقبل أن يلبس ثوباً أرجوانياً وأن يجلس على عرش من ذهب ويرسم خوذته على النقود.

واحتفظ قيصر بمجلس الشيوخ وجميع المناصب وهو الذي كان يعين المرشحين الذين يقضي على الشعب انتخابهم وهو الذي وضع قائمة بمجلس الشيوخ وكان هلك كثيرون من الشيوخ فأبلغ عدد الأعضاء إلى تسعمائة ومعظمهم من انتخابه وكثيرون منهم من الغاليين ولم يقض في رومية غير خمسة عشر شهراً من حيث المجموع فما اتسع له الوقت أن يقوم بالإصلاحات التي كان ينويها (ما عدا تقويم السنين) ثم قتله ندماؤه الذين كانوا يرغبون في إعادة حكومة مجلس الشيوخ.

أحد الحكام الثلاثة: اضطر الشعب الروماني وكان يحب قيصر زعيمي قتلته وهما بروتوس وكاسيوس أن يهربا فتنحيا إلى الشرق حيث جيشا جيشاً عظيماً وظل الغرب تحت حكم أنطونيوس الذي اعتمد على جيش قيصر فحكم رومية حكماً استبدادياً.

وكان قيصر تبنى ابن أخته أوكتاف وعمره ثماني عشرة سنة بوصية أوصى بها فسمي بحسب العادة الرومانية باسم متبنيه ودعا نفسه يوليوس قيصر الأوكتافي. فضم إلى حزبه جند قيصر وعهد إليه مجلس الشيوخ أن يحارب أنطونيوس وبعد أن تغلب عليه آثر الاشتراك معه لاقتسام السلطة فاتحدا مع لبيدوس ودخلا ثلاثتهم إلى رومية واستولوا على الأمر استيلاءً مطلقاً مدة خمس سنين تحت اسم الحكام الثلاثة المعهود إليهم تنظيم المسائل العامة. وشرعوا في نفي خصومهم وأعدائهم الخاصة (فأمر أنطونيوس بضرب عنق شيشرون) ثم ذهبوا إلى الشرق لتشتيت جيوش المتحالفين وبعد ذلك اقتسموا المملكة بينهم. ولم يدم الوفاق بينهم طويلاً بل قاتل بعضهم بعضاً في إيطاليا حتى توسط جندهم في الأمر واضطروهم إلى العودة لما كانوا عليه من الاتفاق ثم جرى تقسيم المملكة من جديد فأصبح أنطونيوس ملك الشرق وأوكتاف ملك الغرب.

حرب الأكتيوم: دام السلم بضع سنين فأخذ أنطونيوس يعيش عيش ملك شرقي مصاحباً لكلوبطرة ملكة مصر وشغل أوكتاف بقتال ابن بومبي الذي كان تحت أمره أسطوله يخرب به شواطئ إيطاليا. وانتهت الحال بهذين الملكين بانقطاع علائقهما فنشبت آخر حرب بينهما وكانت حرباً بين الشرق والغرب تمت بحرب أكتيوم البحرية وأسلم أطول كلوباطرة أنطونيوس صاحبها فلجأ إلى مصر وانتحر وبقي أوكتاف وحده صاحب المملكة المطلق وكان قد انتهى أمر حكومة مجلس الشيوخ.

تقرير السلطة المطلقة: شكا الناس كلهم من هذه الحروب وكان سكان الولايات يؤخذون فداءً ويسيء الجنود معاملتهم ويقتلهم تقتيلاً يضطرهم كل فريق من الحكام أن ينحازوا إليه ويعاقبهم الغالب على انضمامهم للمغلوب. وكان القواد يعدون الجند بأن يكافئوهم بإعطائهم أراض يستغلونها فيطردون منها عامة سكان مدينة ليحل محلهم قدماء الأجناد. وكان أغنياء الرومان يخاطرون بثرواتهم وحياتهم ومتى غلب حزبهم يصبحون ألعوبة في يد الغالب يتصرف بعم بما يشاء. فقد وضع سيلا مثلاً من المذابح المدبرة (81) وبعد أربعين سنة (43) جدد أنطونيوس أوكتاف أمر القتل بدون محاكمة.

ولقد كان شعب رومية نفسه يشكو من سوء هذه الحالة فلا تصل إلى رومية الحبوب التي هي مادة غذائه على طريقة مطردة بل كانت تقع في يد قرصان البحر أو ينهبها أسطول العدو فبعد أن مضى قرن على طريقة هذا الحكم لم يعد للجميع من الرومان وسكان الولايات والأغنياء والفقراء رغبة في غير السلام وعندها تقدم إلى ذاك الشعب المنهوك بالفتن الأهلية وارث قيصر ابن أخته أوكتاف أحد الحكام الثلاثة تقدم إليهم بعد أن تغلب على رصيفيه قال المؤرخ تاسيت وقبض بيده على جميع سلطات الأمة ومجلس الشيوخ والحكام ولم تمض بضع سنين إلا وقد أصبح سيداً على رومية وليس بعد هذا من لقب فلم يعد يفكر أحد في مقاومته وقد أغلق معبد جانوس ونشر في العالم ألوية السلام وهذا ما كان يطلبه العالم بأجمعه وذلك لأن حكومة الجمهورية بواسطة مجلس الشيوخ لم تكن تمثل غير النهب والحروب المدنية فكانت النفوس تطمع في رجل يكون من القوة بحيث يحول دون الحروب والثورات وعلى هذا الوجه أسست الإمبراطورية الرومانية.

أغسطس

تنظيم الحكومة الملكية: يقضي نظام الحكم الجديد الذي وضعه وريث قيصر أن يكون الحكم المطلق بيد رجل واحد يدعى الإمبراطور أي الرجل المدبر الآمر وله الحق أن يتولى السلطات بأسرها التي كانت موزعة بين الحكام القدماء فيرأس مجلس الشيوخ ويجمع الجيوش كلها ويقودها ويضع قائمة بأسماء أعضاء مجلس الشيوخ والفرسان والظنيين ويجبي الضرائب وهو القاضي الأكبر والحبر الأعظم وله سلطة القضاة. ولبيان أن هذه السلطة قد جعلته رجلاً فوق الرجال من البشر لقبوه بلقب ديني وهو أغسطس أو أغست ومعناه المحترم.

لم تنتظم شؤون المملكة بثورة أتت على كل اصطلاح قديم ولم يلغ اسم جمهورية وانقضت ثلاثة قرون وأعلام الجنود لا يزال يكتب عليها أربعة حروف من أول أربع كلمات ومعناها مجلس الشيوخ والشعب الروماني ولكن اجتمعت السلطة التي كان يتقاسمها أشخاص كثيرون في يد واحد وبدلاً من أن يتولاها سنة فقط أصبح يتولاها طول حياته فالإمبراطور هو الحاكم الفرد مدى حياته في الجمهورية وفيه يتجسد الشعب الروماني ولذلك كان له مطلق التصرف.

مجلس الشيوخ والشعب: بقي مجلس الشيوخ الروماني على ما كان عليه قديماً مجلس أعيان الأغنياء وأكثر الوجوه حرمة في المملكة فكانت عضوية المجلس تعد من الشرف المرغوب فيه فإذا أرادوا أن يقولوا الأسرة الفلانية كبيرة يقولون هي أسرة شيوخ ولكن مجلس الشيوخ على حرمته لم تعد له سلطة لأنه لا يتأتى للإمبراطور أن يستغني عنه ولم يبرح مع هذا أول قوة حاكمة في الحكومة وإن لم يكن المسيطر عليها وكان يتظاهر الإمبراطور أحياناً بأنه يريد أخذ رأيه ولكنه لا يعمل بمشوراته.

فقد الشعب كل سلطة إذ ألغيت مجالسه منذ عهد تيبر. وأصبح جمهور الأمة المزدحم في رومية لا يتألف إلا من بضعة ألوف من كبار السادة مع عبيدهم ومن خليط من الشحاذين وكانت الحكومة قد تعهدت بإطعامهم ودام الإمبراطرة يوزعون عليهم الحنطة ويرضخون لهم بشيء من النقود فأعطى أغسطس سبعمائة فرنك عن كل رأس سبع مرات وأعطى نيرون 250 فرنكاً ثلاث مرات عن كل رأس.

ثم أن الحكومة كانت تقيم مشاهد لتسلية هذا الغوغاء. وكان عدد المشاهد النظامية 66 يوماً في السنة على عهد الجمهورية فبلغت بعد قرن ونصف على عهد مارك أوريل 135 يوماً وفي القرن الخامس وصلت إلى 175 يوماً دع عنك الأيام الإضافية.

وتدوم هذه المشاهد منذ شروق الشمس إلى غروبها فيتناول المتفرجون طعامهم في الساحات. وهذا ما كان الإمبراطرة يتخذون منه طريقة أمينة لإشغال العامة. قال أحد الممثلين لأغسطس: لفائدتك يا قيصر يعتني الشعب بنا. بل كانت تلك المشاهد واسطة لاستمالة قلوب الأمة للإمبراطور فكثيراً ما كان أقبح الإمبراطرة أكثرهم حظوة عند الشعب فكان نيرون الظالم يعبد لأنه قام بألعاب لطيفة فلم يصدق العامة بأنه مات وكان ينتظر قدومه بعد ثلاثين سنة من موته.

وما كان العامة في رومية يبحثون عن تولي الأمور بل غاية ما تطال إليهم نفوسهم أن يتسلوا أو يأكلوا كما قال جوفينال في عبارة له شديدة: خبز وألعاب الميدان.

التأليه: الإمبراطور وحده سيد المملكة ما دام حياً لأن الشعب الروماني يتخلى له عن كل سلطة ومتى مات يبحث مجلس الشيوخ فيما أتاه في حياته ويحاكمه باسم الشعب فإذا حكم عليه تبطل جميع أعماله وتتحطم تماثيله ويمحى اسمه من المصانع والآثار وإذا أقر على أعماله (وهو يحدث غالباً) يقرر مجلس الشيوخ بأن الإمبراطور مات وقد ارتقى إلى مصاف الأرباب.

وقد غدا معظم الإمبراطرة أرباباً بعد موتهم على هذه الصورة فكانت تقام لهم معابد وعهد إلى كاهن أن يقيم لهم الشعائر الدينية وقد كان في جميع أجزاء المملكة معابد رسمت باسم الرب أغسطس والربة رومية واشتهر عن أشخاص أنهم قاموا بوظائف كاهن للآلهي كلو وللآلهي فنزبازين وهذه العادة في تأليه الإمبراطور المتوفى كانت تسمى التأليه والكلمة يونانية. وانتقلت عادتها من يونان الشرق على ما يظهر.

إدارة الولايات: كان ثلثمائة أو أربعمائة أسرة شريفة في رومية تحكم البلاد وتستثمر باقي المعمورة منذ الفتح الروماني فجاء الإمبراطور ينزع منهم الحكومة ويخضعهم لسلطان ظلمه. حتى أصبح كتاب الرومان يثنون من فقد حريتهم المسلوبة ولم يكن لسكان الولايات ما يأسفون عليه بل ظلوا رعايا ولكن بدلاً من أن يرأسهم عدة مئات من الرؤساء يتناوبون الحكومة على الدوام ويجيئونهم نهمين للغنى أصبح لهم رئيس واحد وهو الإمبراطور يهتم بالنظر في أمرهم. ولقد أوجز تيبر السياسة الإمبراطورية بما يأتي: الراعي الصالح يجز صوف غنمه ولا ينتفه فمضى زهاء قرنين وقد اكتفى الإمبراطرة بجز سكان مملكتهم يسلبون منهم كثيراً من الأموال ولكنهم يحمونهم من العدو الخارجي بل من عمالهم أنفسهم. وعندما كان سكان الولايات يشكون من الفظائع ومن سرقات حكامهم كانوا يستعدون الإمبراطور فيعديهم. وكان من المعروف عند القوم أن الإمبراطور يقبل الشكوى على ضباطه وهذا كان يكفي لإدخال الرعب على قلوب الولاة الفاسدين وإدخال الطمأنينة على رعاياهم.

الولايات كلها ملك الإمبراطور لأنه يمثل الشعب الروماني فهو قائد جميع الجنود وسيد الناس طراً ومالك الأراضي كافة (قال الفقيه كايوس ليس لنا في أراضي الولايات إلا التمتع بها والإمبراطور وحده مالك لها. وإذ كان من المتعذر أن ينصب الإمبراطور في كل ولاية عنه الوكلاء الذين يختارهم بنفسه يرسل إلى كل ولاية ضابط يسمونه مندوب أغسطس لتولي وظيفة القضاء) وهذا المندوب يحكم البلاد ويقود الجيش ويطوف في ولايته ليقض المصالح المهمة وبيده الحياة والموت كالإمبراطور. ويبعث الإمبراطور أيضاً بمحافظ لجبي الخراج وإدخال المال في صندوق الإمبراطور (ويسمونه نائب أغسطس).

فالضابط والمحافظ يمثلان الإمبراطور ويحكمان على رعاياه ويقودان جنده ويثبتان ملكيته. ويختارهم الإمبراطور من الفرسان ولهؤلاء العمال مراتب للتشريف على نحو ما كان الحكام في رومية القديمة يتدرجون من ولاية إلى أخرى ذاهبين من طرف المملكة إلى طرفها (فمن سوريا إلى إسبانيا ومن إنكلترا إلى إفريقيا) وإنك لتقرأ في الكتابات المكتوبة على قبور رجال ذاك العهد جميع المناصب التي شغلوها مبينة أحسن بيان وكتابة قبورهم تكفي لبيان تراجمهم وما تولد من أعمالهم.

الحياة البلدية: وكان تحت هؤلاء العمال الكبار الذين يمثلون الإمبراطور وهم لا يسألون عما يفعلون أناس من العامة الخاضعين يديرون شؤون أنفسهم بأنفسهم وللإمبراطور الحق في أن يتداخل في شؤونهم الداخلية إلا أنه لا يسيء في العادة استعمال هذا الحق. فيطلب إليهم فقط أن لا يحاربوا وأن يدفعوا على وتيرة واحدة ما يفرض عليهم من الأموال وأن يحاكموا أمام محكمة الوالي. وكان في كل ولاية كثير من الحكام المحكومين ويسمون أهل المدينة أو البلديون ومن هنا جاءت كلمة الحكم البلدي والمجلس البلدي.

تجري كل مدينة خاضعة للإمبراطورية في ترتيباتها على مثال رومية نفسها فيكون لها مجلس الشعب وتنتخب حكامها لسنة ويقسمون إلى فرق في كل فرقة عضوان ومجلس الشيوخ مؤلف من كبار أرباب الأملاك والأغنياء وأرباب الأسر القديمة وفي الولايات كما في رومية ليس مجلس الأمة إلا صورة والحكم لمجلس الشيوخ أي للأشراف.

من العادة أن يكون مقر الولاية مدينة أي مثل مدينة رومية مصغرة ولها معابدها وأقواس نصرها وحماماتها العامة وأحواضها ودور تمثيلها وميادين قتالها والعيشة فيه عيشة مصغرة من عيش رومية فتوزع الحنطة والدراهم على الفقراء وتولم الولائم العامة وتقام الحفلات الدينية الكبرى والألعاب الدموية. إلا أن رومية تقوم بما يجب لذلك من النفقات تأخذه من مال الولايات أما في الولايات فإن الأشراف يقومون بالإنفاق على حكومتهم وأعيادها. والخراج الذي يجيء لحساب الإمبراطور يحمل كله إليه ولذلك يقضى على أغنياء كل مدينة أن يقوموا بما يقتضي من النفقات للاحتفال بالألعاب وإحماء الحمامات وتبليط الشوارع وبناء الجسور والمجاري والساحات. قاموا بذلك مدة تزيد عن قرنين وأنفقوا عن سعة شهدت بذلك المصانع المنبثة في أرض المملكة وألوف من المكتوبات على الأحجار.

المستعمرات: تقيم رومية في البلاد التي تشك في خضوعها جيشاً صغيراً تسكنه فيها فيبني مدينة تكون حصناً حصيناً وتبعث إليه بأناس من الوطنيين الرومانيين يكونون جنداً وفلاحين في آن واحد ويجزئ الجيش الأراضي المجاورة إلى حصص متساوية توزعها عليهم وهذا ما يسمونه مستعمرة.

ويبقى المستعمرون وطنيين رومانيين ويخضعون لجميع ما تأمر به رومية. وتختلف المستعمرة الرومانية عن المستعمرة اليونانية ـ التي كانت كثيراً ما تشق عصا الطاعة حتى أنها لتحارب آثينة نفسها بأن تكون أبداً ابنة خاضعة لأمها فليست المستعمرة إلا حامية رومانية مرابطة بين الأعداء. وكانت أكثر هذه المحطات العسكرية في إيطاليا ولكن كان منها في مكان آخر مثل مستعمرة فاربون وليون وآرك فإنها كانت مستعمرات رومانية.

جيش التخوم: لم يكن في المدن الداخلية جيش روماني لأن سكان المملكة لا يرون الانتقاض على الحمومة فلم يكن للملكة أعداء إلا على الحدود وكان الأجانب أبداً على استعداد من مهاجمتها فالجرمان وراء نهري الرين والطونة ورحالة الصحراء وراء رمال أفريقية ووراء الفرات جيوش المملكة الفارسية.

ولذا كان من اللازم اللازب إقامة جند يكون على قدم الاستعداد على تلك التخوم المعرضة أبداً للتهديد، أدرك أغسطس ذلك فأنشأ جيشاً دائماً فلم يكن جنود الإمبراطورية من أصحاب الأراضي يؤخذون من حقولهم ليخدموا في الجندية بعض حملات بل كانوا أناساً من الفقراء جعلوا الحرب صناعة لهم فيدخلون الجندية ليخدموا فيها ست عشرة سنة أو عشرين سنة وربما جددوا هذه المدة.

وعلى هذا كان للإمبراطورية في رومية ثلاثون فرقة من الوطنيين أي 180 ألفاً ولهم بموجب العادة الرومانية مساعدون فيبلغ مجموعهم نحو 400 ألف رجل على التقريب وكان هذا الجيش قليلاً بالنسبة لعظم تلك المملكة.

ولكل ولاية على الحدود جيش صغير بعيد في معسكر دائم يشبه قلعة يجيء الباعة ينزلون بقربها فلا يعتم المعسكر أن يصبح مدينة وهكذا يعسكر الجند بإزاء العدو فيحفظون شجاعتهم ودربتهم. مضت ثلاثة قرون والجند الروماني يدخل في كل حرب زبون مع البرابرة المتوحشين ولا سيما على ضفاف الرين والطونة في بلاد ندية قاحلة مغشاة بالغابات والمستنقعات. وربما بذل الجند الروماني في هذه الحروب التي لا نتيجة لها من الشجاعة والشهامة أكثر مما بذل قدماء اليونان في فتح العالم.

الآداب: لم يكن الرومان بالطبع أمة فنون وقد أصبحوا كذلك فيما بعد مقتفين فيها أثر اليونان. فمن يونان أخذوا نموذجاً من فاجعاتهم وقصصهم الهزلية وملاحمهم وأناشيدهم وأشعارهم الفلسفية والعامية والتاريخية. واقتصر بعضهم على ترجمة الأصل اليوناني (كما فعل هوراس في أناشيده) وكلهم اقتبسوا من اليونان أفكارهم ومناحيهم ومزجوها عندما احتذوا مثالها بما عرف فيهم من صفات الصبر والشهامة حتى صارت بعض آثارهم غريبة الغرائب في أسلوبها.

واتفق الرومان على أن العهد الذي أزهرت فيه الآداب اللاتينية حقيقة كانت الخمسين سنة التي قضاها أغسطس في الحكومة فهو الوقت الذي نبغ فيه فرجيل وهوراس وأوفيد وتيبول وبروري وتيت ليف ولكن عصر أغسطس (كما يسمونه) قد سبقه ولحقه قرنان ربما عادلاه في إخراج النوابغ ففي الجيل الأول (القرن الأول قبل المسيح) ظهر الشاعر الغريب المدهش لوكريس وقيصر رانير ناثر وشيشرون أخطب خطيب وفي الجيل اللاحق كتب سينيك ونوكين وتاسيت وبلين وجوفنال ما كتبوا.

وبعض هؤلاء المؤلفين العظام فقط من أسرة رمانية ومعظمهم إيطاليون وكثيرون من الولايات مثل فرجيل من مانتو وتيت ليف من بادو (في غاليا) وسينيك إسباني. وكأن الفصاحة هي الفن الوطني حقاً في رومية فكان الرومان كالطليان في أيامنا يحبون الكلام. وكان الخطباء يأتون إلى ساحات الاجتماع حيث تلتئم مجالس الأمة في أواخر عهد الجمهورية يخطبون ويكثرون من الحركات وسط دوي القوم وشيشرون أعظم أولئك الخطباء وهو الوحيد الذي بقيت بعض قطع من خطبه.

ولما سقطت الجمهورية انقضت أيام المجالس ففقدت الفصاحة لقلة المادة.

اللغة اللاتينية: انتفعت آداب اللغة اللاتينية بفتوحات رومية فنقلها الرومان مع لغتهم إلى رعاياهم المتوحشين في الغرب فتناسى جميع شعوب إيطاليا وغاليا وإسبانيا وإفريقية وضفاف الطونة لغاتهم الخاصة وتعلموا اللغة اللاتينية. ولما لم يكن لهم آداب وطنية خاصة اقتبسوا آداب حاكميهم فتكلم أهل الإمبراطورية إذ ذاك بلغتي الشعبين الكبيرين القديمين فظل الشرق يتكلم اليونانية وأخذ الغرب بأجمعه يتكلم باللغة اللاتينية.

فلم تكن اللاتينية اللغة الرسمية للوطنيين وكبار الرجال فقط كما هي الإنكليزية لعهدنا في الهند بل أن الأمة نفسها تتكلم بها ما أمكن من الصحة بحيث أن القوم في أوروبا اليوم وبعد انقضاء ثمانية عشر قرناً ما برحوا يتكلمون إلى اليوم بخمس لغات مشتقة من اللاتينية وهي الإيطالية والإسبانية والبرتغالية والفرنسوية والرومانية.

وانتشرت الآداب اللاتينية مع اللغة اللاتينية في عامة أنحاء الغرلاب فما كانت يدرس في القرن الرابع في مدارس بوردو وأوتون غير شعراء اللاتين وخطبائهم وظل الأساقفة والقسيسون بعد هجوم البرابرة يكتبون باللغة اللاتينية ونقلوا هذه العادة أيضاً على شعوب إنكلترا وألمانيا الذين احتفظوا بلغتهم الجرمانية. فبللاتينية كتبت في القرون الوسطى السجلات والعقود والشرائع والتواريخ والكتب العلمية. وفي الأديار والمدارس لا تقرلاأ ولا تنسخ ولا تعتبر غير الكتب اللاتينية ما عدا كتب العبادة لم يعرف غير مؤلفي اللاتين أمثال فرجيل وهوراس وشيشرون وبلين لجون وما كانت النهضة العصرية الأوروبية إلا عبارة عن إحياء ما فقد من آثار أقلام كتاب اللاتين وأصبح النسج على منوالهم أكثر من ذي قبل. فكما أن الرومان أنشؤا لأنفسهم آداباً خاصة لتقليدهم اليونان هكذا صار المحدثون من الأوروبيين ينسجون على مثال كتاب اللاتين. وليت شعري هل عاد ذلك بخير أم بشر؟ ومن يجرؤ أن يفوه بذلك؟ فمما لا جدال فيه إذاً أن لغاتنا الرومانية الأضل في بنات اللاتينية وأن آدابنا طافحة بالأفكار والمنازع الأدبية الرومانية وأن العالم الغربي بأسره مصبوغ بصبغة الآداب اللاتينية.

الصناعات: عثر الباحثون بكثرة على تماثيل وصور بارزة رومانية أبقتها الأيام من عهد تلك الحكومة منها ما نقل عن الآثار المصرية ويكاد يكون معظمها تقليداً لها ولكنها أقل من الأصل لطفاً وذوقاً. ومن أغرب الأنموذجات الباقية النقوش البارزة والصور النصفية.

فالنقوش البارزة كانت تزدان بها المصانع (كالمعابد والعمد وأقواس النصر) والقبور والنواويس تمثل بها أحسن تمثيل مشاهد حقيقية وحفلات ونذور وحروباً ومآتم وكل ما يحيطنا علماً بالحياة السالفة. وأن النقوش البارزة التي جعلت حول أعمدة تراجان ومارك أوريل لتجعلنا كأننا نشاهد مشاهد حروبها العظيمة وبتلك الرسوم تتمثل لك الجنود تقاتل البرابرة ويحاصرون قلاعهم ويأتون بالأسرى كما تشاهد النذور العامة والإمبراطور يخطب شعبة.

والصور النصفية هي في الأكثر صور الإمبراطرة ونسائهم وأولادهم وإذ كثرت تماثيلهم في أطراف المملكة بأسرها وعثر على كثير منها حتى أن عند جميع المتاحف اليوم مجموعة من الصور النصفية الإمبراطورية وهي صور حقيقية وربما كانت شبيهة بأصحابها كل الشبه نرى فيها سيماء كل إمبراطور واضحة أي وضوح وكثيراً ما تكون بشعة مستكرهة بحيث لم يحاول النقاشون أن يزينوها ويخفوا من سحنات المصورين.

فعلم البناء هو الفن الروماني الحقيقي لأنه يقوم بحاجة عملية وفيه أيضاً قلد الرومان اليونان باتخاذ الأروقة والعمد ولكن كانت لهم طريقة لا يستعملها اليونان وهي العقود (الأقبية) أي فن وضع الأحجار المنحوتة تدعم بعضها بعضاً على شكل قوس مربع. فبالعقود تسنى لهم أن ينشئوا أبنية أوسع وأكثر تفنناً من أبنية اليونان.

المصانع: إليك أهم أنواع المصانع الرومانية منها المعبد وهو كثيراً ما يشبه المعبد اليوناني وله دهليز متسع ويكون أحياناً أكثر سعة تعلوه قبة. ومن هذا النوع معبد البانثيون الذي بني في رومية على عهد أغسطس. ومنها الكنيسة الكبرى وهي بناء مستطيل طويل يعلوه سقف وتحيط بها أروقة وفيها يتصدر الحاكم يحيط به نوابه وفيها يجتمع التجار لتيجادلوا في ثمن البضائع فالكنيسة هي بورصة ومحكمة معاً. وفي الكنائس الكبرى أقيمت بعد ذلك مجالس المسيحيين وظلت الكنائس النصرانية قروناً محتفظة بأسماء الكنائس الرومانية وأشكالها.

ومنها المرازح (المرسيح) ذات الدرجات (انفتياير) والملعب وهي مؤرلفة من عدة طبقات وأروقة وضعت بعضها فوق بعض تحيط بالملعب وكل طبقة من هذه الأروقة يعلوه عدة صفوف من الدريجات وذلك مثل الكوليزة في رومية ويمادين أرل ونيم. ومنها قوس النصر وهو باب شرف له بعض سعة بحيث يكفي لمرور مركبة منه وهو مزين بعمد ومزخرف بنقوش كثيرة ومن هذا النوع قوس النصر في أورانج. ومنها الجسر وهو يبنى على صف من الحنايا وسط النهر. ومنها المجاري التي تجلب فيها المياه وكثيراً ما تكون على شكل جسر لتمر فوق دار ومن هذا الضرب من المجاري القطعة من الجسر المسماة كارد.

وقد كان الإمبراطور أغسطس يفاخر أنه افتتح في رومية زهاء ثمانين معبداً قال: لقد وجدت مدينة من القرميد وهاآنذا أترك مدينة من الرخال وعمل أخلافه كلهم على زخرفة رومية وقد ازدحمت المصانع حوالي الفوروم (الميدان) خاصة وأصبح الكابتول مع معبده المعروف بمعبد المشتري أشبه شيء بالأكروبول في أثينة. وفي ذاك الحي أنشئوا عدة ساحات ذات مصانع مثل ساحة قيصر وساحة أغسطس وساحة نرفنا وساحة تراجان وهي أزهاهن.

استخدم الرومان في أبنيتهم الحجارة التي وقعت تحت أيديهم في البلاد يرصفونها بملاط متين صنع بالكلس والرمل بحيث أتت عليه آلف وثمانمائة سنة وهو لم يتحتت بما أصابه من الرطوبة. ولا تقرأ في مصانع الرومان تلك البهجة التي تتجلى في المصانع اليونانية بل إنها متسعة متينة راسخة القواعد شأن الفتح الروماني. وما زالت أرض البلاد إلى يومنا هذا طافحة بأنقاض تلك المصانع. ولم يبرح الباحثون يعثرون حتى في قفار أفريقيا والدهشة آخذة منهم على مصانع رومانية محفوظة سالمة. ولما أريد جلب الماء إلى تونس لم يعملوا إلا أن أصلحوا مجرى النهر الذي أنشيء بالعهد الروماني.

التجارة: أصبحت رومية أعظم مدينة في العالم (ويذهبون إلى أن أنه جاء عليها زمن كان فيها مليون نسمة) فكانت بالطبع مركز تجارة المملكة. ولقد مضت العصور القديمة والمتاجر تنقل في الماء أي في البحار وفي الأنهار أكثر من الطرق التي يقتضي لها عجلات ثقيلة لنقل تلك المتاجر. فكانت المتاجر تنقل إلى رومية من طريق البحر خاصة فتقلها السفن إلى مرفأ أوستي عند مصب نهر التيبر ومنها توسق في قوارب تصعد النهر حتى تصل إلى سفح جبل أفنتين وتنزل شحنها في مرفأ رومية. وكانت البضائع الخاصة ببقية إيطاليا تفرغ في مرفأ بوزول في خليج نابولي ومنها يرسلونها في الطرق وإذا تيسر لهم يرسلونها في قوارب تسير على الشاطيء أو تجري صعداًَ في الأنهار تجرها الخيول.

وكانت رومية وأيطاليا تصرفان أكثر مما تنتجان فتجارتهما خاصة تجارة واردات وكان تجار من الطليان ينزلون في أهم مرافئ العالم يجمعون فيها حاصلات كل بلد ليبعثوا بها إلى رومية. وكنت تجد في كل بلد مركزاً للتجارة مثل بلرمة في صقلية وقرطاجنة في أفريقية والإسكندرية في مصر ومن هذه البلاد كانت تجلب إلى رومية الحبوب والزيت والفاكهة والقول الناشفة ومن المراكز التجارية أفيز في آسيا الصغرى وإنطاكية في سورية ومنها كانوا يرسلون الأصواف والأقمشة والحنطة التي تخرجها البلاد الداخلية. ومن هذه المراكز أولبيا على شاطئ البحر الأسود وإليها كانت تأتي حنطة روسيا. ومنها قادش في إسبانيا كانت ترسل إلى رومية فضة المناجم وأوباربتنكيا (في الأندلس) ومن هذه المراكز ناربون وأرل في غاليا كانا يجلب إليهما من نهر الرون جلود بلاد الغال وأخشابها (أما مارسيليا فكانت سقطت منزلتها القديمة ومرسى فريجوس أصيح ميناءً حربياً).

وكان الرومانيون يجلبون أيضاً بضائع من خارج فيبعث إليهم الشرق بأدوات الزينة والرفاهية كالعطور والباريز (الفلفل وجوز الطيب والزنجبيل) والنيلة والعاج والأحجار الكريمة وأقمشة الصوف والحرير والعبيد السود والحيوانات النادرة (ولا سيما القرود فكانت تجلب إلى افسكندرية من طريق البحر الأحمر أو في النيل وتأتي إلى إنطاكية من طريق الخليج الفارسي وبادية الشام (مع القوافل) أو إلي أولبيا من طريق بلاد فارس وبحر الخزر وكان الرومان يستخرجون من بلاد الشمال المواد التي لم تهذبها يد الصناعة مثل عنبر البلطيق وقصدير إنكلترا وكان يأتي من طريق غاليا الجلود والأديم والشمع وشعور النساء والعبيد.

أغسطس: مات أغسطس ولم يخلف وريثاً يرثه مباشرة فخلفه ابن زوجته تيبر وهو الذي تبناه ومضى نصف قرن والإمبراطور أبداً رجل من أسرة أغسطس وأدرك الرومان منذ ذلك فساد هذه الطريقة.

فكان للإمبراطور مدة حياته سلطة متناهية لا حد لها فهو الحاكم على هواه في الأشخاص والأحوال يحكم بالقتل ويصادر الأموال ويهلك من يريد إهلاكه بدون رقيب ولا يقف أمام إرادته حاجز من نظام ولا قانون. حتى قال المشرعون الرومان: إن لأمر الإمبراطور قوة القانون. وبذلك عرفت رومية الاستبداد الذي لا نهاية له على نحو الاستبداد الذي كان يجري في المدن اليونانية استبداداً لم ينحصر في سور ضيق من مدينة بل كان عظيماً كالمملكة. فكما كان في يونان ظالمون أهل حشمة ووقار كان في رومية إمبراطرة حكماء محتشمون ولكن قل في هؤلاء من لم يستهوهم دوار السلطة عندما يرون أنهم بلغوا أرقى رتبة يصل إليها إنسان. ومن إمبراطرة رومية من لم يستخدموا سلطتهم التي لم يسمع بمثلها إلا لترسل أسماؤهم كالأمثال فضرب المثل بنيرون وظلمه وبكلود خليفة تيبر وسخافته وكاليجولا وجنونه المطبق وتقليده حصانه رتبة قنصل وتطاوله إلى أن يعبد كالأرباب. فكان الإمبراطرة يضطهدون الأشراف خاصة ليحولونهم عن كيد المكايد ويضغطون على الأغنياء ليصادروا أموالهم.

وكانت هذه السلطة المتناهية سيئة النظام وهي تتمثل كلها في شخص الإمبراطور ومتى هلك يبحث فيما أتاه من الأعمال. كان القوم عارفين بأن العالم لا يستغني عن سيد ولكن ليس في شريعة ولا عادة ما يستدل به على ماهية ذاك السيد. فكان من حق مجلس الشيوخ وحده أن يعين الإمبراطور ولكنه يختار أبداً بالقوة من اختاره الإمبراطور السالف أو رضي عنه الجند.

ولقد عثر حراس القصر الإمبراطوري بينا كانوا يبحثون فيه عقيب وفاة الإمبراطور كاليجولا على رجل اختبأ وراش الفرش وهو ترتعد فرائصه فرأوا أنه من أنسباء كاليجولا فعينه الحرس إمبراطوراً وكان هو الإمبراطور كلود.

الحرس الإمبراطوري: كان يحظر زمن الجمهورية على القائد أن يأتي في جيشه إلى المدينة فأصبح الإمبراطور رئيس الجيوش كلها وله في رومية حرس عسكري مؤلف من نحو عشرة آلاف رجل أقاموا منذ عهد تيبر في ثكنة حصينة بالقرب من المدينة. وينتخب هذا الحرس من قدماء الأجناد وتدر عليهم الرواتب الكثيرة وتتوالى عليهم الإحسانات وبهؤلاء الجنود يعتز الإمبراطور فلا يخاف بائقة تصيبه من الناقمين عليه من أهل رومية بيد أن الخطر كان يأتي من الحرس نفسه وإذ كانت القوة معهم اعتقدوا بأنه يحل لهم أن يأتوا كل شيء وكان زعيمهم أوسع سلطة من الإمبراطور.

الثورات والحروب: استشاط أشراف الرومان غضباً مما أتاه نيرون من الفظائع وضروب الجنون فحدا سخطهم ببعض الولاة إلى الانتفاض وخلع الطاعة فشعر إذ ذاك مجلس الشيوخ بقوة يستند إليها فأعلن بأن نيرون عدو عام فلم يسعه إلا الهرب ثم الانتحار.

وبعد موته وقع اختيار مجلس الشيوخ على والي إسبانيا المدعو غاليا فعينوه إمبراطوراً ولكن الحرس الإمبراطوري لم يره كريماً جواداً فذبحه ونصب مكانه أحد ندماء نيرون واسمه أُتون ثم أن الجنود المرابطة في تخوم جرمانيا أرادت أن تنصب بنفسها إمبراطوراً فدخلت فرق نهر الراين إلى إيطاليا فصادفوا الحرس الإمبراطوري بالقرب من كريمون فقتلوا منهم مقتلة عظيمة في وقعة شعواء أخذت بطرفي الليل ثم نصبوا الإمبراطور الذي اختاره مجلس الشيوخ وهذا القائد فينليوس.

وفي ذاك الحين انتخب جيش سورية زعيمه فسباسين الذي قاتل فيتليوس وعين مكانه (69) وهكذا نصبت رومية ثلاثة أمبراطرة في سنتين وأنزل الجند ثلاثة أمبراطرة عن عروشهم. وفي خلال هذه الحروب نهب جنود جرمانيا مدينة وحرق معبد الكابتول.

الفلافيون: نصب فسباسين إمبراطوراً فوطد أركان السلم وكان إيطالياً وهو حفيد أحد الفلاحين حافظ على عادات له في الاقتصاد والسذاجة في عيشه. فرأى القسم الأعظم من مجلس الشيوخ قد تمزق شملهم والأسرات القديمة قد بادت أو هلكت فاستعاض عنها بأسرات إيطالية أو من أهل الولايات ولما تجدد مجلس الشيوخ على هذه الصورة كفَّ عن إبداء العداء للإمبراطور فخلف فسباسين أولاً (79) ابنه تينوس الذي مات للحال ثم ابنه دومنسين (81) الذي كان قاسياً غداراً مثل ظلمة اليونان.

الأنطونيون: اشتهر الخمسة الإمبراطرة الآتون وهم نرفاوترا جان وأدريان وأنطونين ومارل أوريل (96 ـ 180) بالحشمة والحكمة ويدعونهم الأنطونيين (وهذا الاسم لا يوافق في الحقيقة إلا الآخرين مهمم) ولم يكونوا من نسل البيوت القديمة في رومية بل كان تراجان وأدريتن إسبانيين وولد أنطونين في نيم ولم يكونوا أمراء من أسرات إمبراطورية خلقت لكي تتولى رقاب الناس منذ ولادتها. وقد تولى الحكم أربعة أمبراطرة وهم عقيمون فلم يتسن نقل الحكم بالوراثة. وكان الإإمبراطور يختار كل مرة من قواده وولاته أقدر رجل يخلفه ويتبناه ويعينه باختيار مجلس الشيوخ له وهكذا لم يبلغ عرش الإمبراطورية إلا أناس محنكون يخلفون آباءهم في مركزهم بدون قال وقيل.

ولقد كان عصر الأنطونيين أهدأ العصور التي عرفها العالم القديم والحروب تنشب بعيدة عن تخوم المملكة ولم يحدث في الداخلية شغب عسكري بتاتاً ولا مظلمة ولا أحكام جائرة فكبح النطونيون جماح الجند بتدريبهم على النظام ونظموا المحاكم ومجل الإمبراطورية وهو مؤلف من الفقهاء والمشرعين واستعاضوا عمن حرروهم من العبيد الذين طالما سخط الرومانيون عليهم على عهد الاثني عشر قيصراً بأناس من الموظفين النظاميين اختاروهم من أشرف الطبقة الثانية (يعني الفرسان) وما عاد الإمبراطور ظالماً يخدمه جند بل كان حقاً الحاكم الأول في الجمهورية لا يستعمل سلطته إلا لما فيه نفع شعبه.

حارب الأنطونيون حروباً كثيرة ليدفعوا الشعوب المحاربة التي كانت تحاول مهاجمة الإمبراطور من ناحيتين. فحاربوا في أسفل نهر الطونة الداسيين وهم شعب بربري سكن البلاد الجبلية ذات الغابات التي نسميها الآن ترانسلفانيا كما حاربوا على الفرات حكومة البارثيين العسكرية الكبرى التي جعلت المدائن عاصمتها قرب بابل وكان مملكتهم تمتد على طول بلاد فارس.

ولقد حمل تراجان على الداسيين عدة حملات واجتاز الطونة وربح في ثلاثة مواقع واستولى على عاصمة ملك الداسيين (101 ـ 102) وتفضل عليهم بالصلح ولما عاود الداسيون الحرب عمد تراجان أن يأتي عليهم فأنشأ على نهر الطونة جسراً من حجر وهاجم ولايتهم فضمها إلى المملكة الرومانية (106) وأنزل فيها طوارئ \ ومستعمرين أنشئوا فيها مدناً وأصبحت ولاية داسيا بلاداً رومانية تكلم أهلها باللاتينية وتخلقوا بالأخلاق الرومانية.

ولما انجلت الجيوش الرومانية في أواخر القرن الثالث كانت قد استحكمت اللغة اللاتينية من الداسيين وظلت شائعة في بلادهم خلال القرون الوسطى على الرغم من غارات برابرة الصقالبة. وقد أطلق على الشعب الذي يسكن اليوم السهول في شمالي الدانوب اسم رمية فيدعى الروماني ويتكلم بلغة مشتقة من اللاتينية كالإفرنسية والإسبانية.

حارب تراجان البارثيين أيضاً فجاز الفرات واستولى على المدائن وهي عاصمتهم وتوغل في إحصاء البلاد إلى فارس ودخل إلى سوس وأخذ منها عرش ملوك فارس المعمول من الذهب الأصم. وأنشأ أسطولاً على دجلة ونزل في النهر حتى مصبه وأبحر في خليج فارس واستخلص من البارثيين البلاد الواقعة بين بلاد الفرات ودجلة وجعلها ولايتين رومانيتين بيد أن هاتين الولايتين انتفضتا بعد سفر الجيش الروماني.

أما الأنطونيان الأخيران وهما أنطونين ومارك أوريل فقد شرفا الإمبراطورية بفضائلهما وكان كلاهما يعيش ببساطة كما يعيش الأفراد على غناهما دون أن يكون لهما ما يشبه قصراً أو سراياً وأن يشعرا بأنه كانت لهم سلطة وسيادة.

ولقد لقب مارك أوريل على العرش بالحكيم وكان يحكم البلاد مدفوعاً بعامل الواجب على غير إرادته ومع أنه كان يؤثر هذا قضى حياته في الحكم وقيادة الجيوش. وإنك لترى فيما خطه في تذكرته البيتية من أفكاره صورة الفيلسوف الرواقي الصالح الزاهد العازف عن العالم وهو على جانب من اللطف والحلم قال: أحسن الأساليب في الانتقام من الأشقياء هو أن لا يعمل المرء عملهم والأرباب أنفسهم يعطفون على الأشقياء فلك أن تقتدي بالأرباب.

ولقد كان مارك أوريل يأخذ برأي مجلس الشيوخ في عامة المسائل ويحضر جلساته بدون انقطاع. ولقد وقف في وجه كثير من الشعوب البربرية الجرمانية يرد غاراتها ويدفع عادياتها تلك القبائل التي اجتازت الطونة على الجليد ودخل إلى شمالي إيطاليا واقتضى له أن يؤلف جيشاً فجند عبيداً وبرابرة (172) فانسحب الجرمانيون ولكن بينا كان مارك أوريل مشغولاً في سوريا بقتال أحد القواد المتمردين عادوا على أعقابهم وهاجموا الإمبراطورية ومات مارك أوريل على ضفاف الطونة (180).

ولما وقفت الفتوح (بعد تراجان) كانت الإمبراطورية تمتد على طول جنوبي أوروبا كلها وعلى طول الشمال من إفريقية والغرب من آسيا ولا يقف في سبيلها إلا الحدود الطبيعية فمن الغرب البحر المحيط ومن الشمال جبال إيكوسيا ونهر الرين والطونة وقافقاسيا ومن الشرق بوادي الفرات وبلاد العرب من الجنوب شلالات النيل والصحراء الكبيرة. فكانت الإمبراطورية الرومانية عبارة عن البلاد التي تتألف منها اليوم كل من إنكلترا وإسبانيا وإيطاليا وفرنسا والبلجيك وسويسرا وبافيرا والنمسا والمجر والبلاد العثمانية في أوروبا ومراكش والجزائر وتونس ومصر وسوريا وفلسطين والأناضول أي أنها ضعفا مملكة الإسكندر.

السلم الروماني: أبطل الرومان الحروب في داخلية بلادهم بإخضاع جميع الشعوب لسلطانهم فتوطد السلم الروماني الذي وصفه أحد كتاب اليونان بما يأتي: لكل فرد أن يذهب حيث يشاء فالمرافيء غاصة بالسفن والجبال أمينة على سالكيها أمن المدن لساكنيها ولم يبق داع للخوف وقد طرحت الأرض سلاحها الحديدي القديم وتجلت في ثياب الأعياد وها أنتم أولاء قد حققتم قول هوميروس بأن الأرض ملك للجميع.

وأصبح الناس في الغرب للمرة الأولى في حل من إنشاء بيوتهم وزرعه حقولهم والاستمتاع ب أموالهم وأوقاتهم دون أن يكونوا كل ساعة عرضة لمهدد يتهددهم باستلابها منهم أو أن يذبحوا ويقادوا كالأسرى والعبيد. وهذا أمان قلما نقدره قدره إذ قد تمتعنا به منذ الصغر ولكن الظاهر أنه كان يعد من حسنات الأمور النادرة عند القدماء.

سهلت الرحلة في تلك الإمبراطورية المسالمة وأنشأ الرومان طرقاً في كل مكان مع محطات ومواقف وصنعوا مصورات (خرائط) لطرق المملكة وكان كثير من أرباب الصناعات والتجار يرحلون من طرف إلى طرف آخر من المملكة. ويرحل علماء البيان والفلسفة في بلاد الإمبراطورية ذاهبين من مملكة إلى أخرى وهم يلقون المحاضرات.

وكان ينزل في كل ولاية أناس من أهل الولايات القاصية فقد دلت الكتابات على الأحجار أنه كان في إسبانيا أساتذة ومصورون ونقاشون من اليونان وفي غاليا صياغ وصناع آسياويون.

وجميع هؤلاء كانوا ينقلون عاداتهم وصناعاتهم وأديانهم ويمزجونها بما يرونه عند الأمم التي ينزلون عليها ثم يعتادون بالتدريج على التكلم باللغة الرومانية وما انبلج فجر القرن الثالث عشر حتى غدت اللاتينية لغة بلاد الغرب المشتركة كما أصبحت اليونانية لغة الشرق منذ قام خلفاء الإسكندر. فنشأت في رومية كما نشأت في الإسكندرية حضارة مشتركة سموها الحضارة الرومانية ولم تكن كذلك إلا باسمها ولغتها واجتمعت حضارة العالم القديم في قبضة الإمبراطور.

الإمبراطورية الرومانية في القرن الثالث

السيفيريون: بدأت الفتن الأهلية بعد عهد الإمبراطرة الأنطونيين فذبح الحرس الإمبراطوري سنة 193 الإمبراطور برتيناكس ورأوا أن يضعوا المملكة في المزاد فتقدم طالبان يريدان ابتياعها أحدهما سولبسين تقدم على أن يعطي كل جندي خمسة آلاف فرنك والثاني ديديوس رفع ما يدفعه لكل جندي إلى ستة آلاف فرنك فحمله الحرس إلى مجلس الشيوخ وعينوه إمبراطوراً ثم لم يستطع القيام بما تعهد به فذبحوه.

وفي خلال ذلك بويع بالملك ثلاثة قوادة لثلاثة جيوش وهما قائد برتانيا وقائد إيليريا وقائد سوريا وسار هؤلاء الثلاثة المتنافسون إلى رومية فوصلت فرق إيليريا قبل غيرها فعين مجلس الشيوخ القائد سبستم سيفير إمبراطوراً على رومية فنشبت عند ئذ حربان سالت فيهما الدماء أنهاراً إحداهما لمدافعة جيش سوريا والأخرى لمدافعة جيش برتانيا وظلت لسيفير الكلمة النافذة مدة سنتين وهو الذي أوجز سياسته في كلمتين فقال أيها الأبناء ارضوا الجند واهزؤوا بمن بقي.

الفوضى والغارة: مضى قرن ولم يكن قاعدة في الحكومة غير إرادة الجند وكان في الإمبراطورية ما خلا جيش الحرس الصغير في رومية عدة جيوش كبيرة على نهر الرين والطونة والشرق وإنكلترا. وكل جيش يود أن يجعل قائده إمبراطوراً والمتنافسون يتقاتلون حتى كتبت الغلبة لواحد فحكم بضع سنين ثم قتل وإذا أسعده الحظ بنقل السلطة إلى ابنه من بعده فالجيش يتمرد على ابنه ذاته وتعود نار الحرب تستعر.

وفي ذاك الحين نشأن أمبراطرة غرائب في أطوارهم فكان إيلاجابال كاهناً سورياً لبس ثياب امرأة وترك أمه تؤلف مجلس شيوخ من النساء (مجلس شيخات وعجائز) ومنهم الإمبراطور ماكسيمان وهو جندي بالعرض وجبار قاس وسفاك كان يأكل على ما يقال 30 لبرة من اللحم ويشرب عشرين لبرة من الخمر. وجاء زمن على هذه المملكة والذين يدعون الإمبراطوية ثلاثون إمبراطوراً انقطع كل منهم إلى ناحية من المملكة (278 ـ 360) وسمى كل واحد نفسه إمبراطوراً فدعي هؤلاء الثلاثون بالثلاثين ظالماً.

وبينا جند البلد مشغولون بقتال بعضهم كان يرى البرابرة أن التخوم خالية من الحامية فيجتازون أرض الإمبراطورية ويخربونها. وكان إقليم غاليا خصوصاً هو الذي يقاسي الأمرلاين من هذه الغارات في القرن الثالث فتجتازها عصابات من المحاربين الجرمان كالألمان والفرنك وإذ لم يجدوا فيها مدناً حصينة ولا جيوشاً نهبوا المدن وحرقوها وأخذوا ما شاؤوا من أهلها أسرى معهم وذبحوا الباقين. وقرصان الساكسون يخربون شواطئ بحر المانش.

كان هذا القرن الذي انقضى في حروب قرن خرافات فكنت تجد في كل مكان أناساً يعبدون أرباب المشرق مثل الرب إيزيس وأوزيريس والربة الكبرى ولكن ميترا وهو رب فارسي رب عام أكثر من الأرباب قاطبة في الإمبراطورية. وميترا الشمس وهي مصورة في المصانع النس أنشئت إكراماً لها وهي تصرع ثوراً وقد كتب عليه ما يأتي:

للشمس التي تغلب للرب ميترا وقد عثر على مثل هذه الرسوم في جميع أجزاء الإمبراطورية. وعبادة الشمس ملتبسة مبهمة فهي أحياناً أشبه بالشعائر النصرانية فيكون فيها عماد وولائم مقدسة ومسحة وتوبة وشموع ولأجل أن يقبل المرء في جملة أهل هذه العبادة يجب القيام بأعمال من صوم ومحن مخوفة.

وقد كان دين ميترا في أواخر القرن الثالث الدين الرسمي في المملكة ودان الإمبراطرة والجيش بهذا الرب القهار ولهذا الرب في كل مكان معابد على شكل مغاور ذات مذابح ونقوش بارزة وكان في رومية أيضاً معبد فخيم أنشأه الإمبراطور أورليان. وكان من أشد الحاجات الماسة في ذاك العهد البقاء مع الأرباب على صلح ووئام فاخترعوا حفلات لتزكية النفس فيلبس المؤمن ثوباً أبيض مزيناً بالذهب ويقعد في أسفل هوة فيطبقونها على رأسه بلوح من الخشب مثقوب ويأتون بثور يقفونه على هذا اللوح فينخره الكاهن فيجري دمه من الثقوب على أثواب المؤمن ووجهه وشعره. وكانوا يعتقدون أن هذا التعمد بالدم يطهر المرء من السيئات كافة ومن يجري له يكون كيوم ولدته أمه في حياة جديدة ويخرج من الحفرة بشع الصورة ولكنه سعيداً مغبوطاً.

اختلاط الأديان: أخذت الأديان كلها في هذا القرن الذي تقدم فيه فوز النصرانية على غيرها بالاختلاط فتعبد الشمس تحت أسماء منوعة (وهي التربية وهليوس وبعل وإيلكابال وميترا) وجميع هذه العبادات منسوخة بعضها عن بعض وكثيراً ما تجري على مثال العبادات النصرانية ومن أعظم الأمثلة في هذا الاختلاط الديني ما كان يتوفر عليه اسكندر سيفير الإمبراطور المحتشم الطيب ذو الذمة فقد كان في قصره مصلى يعبد فيه المحسنين للإنسانية وهم إبراهيم وأورفيه ويسوع وأبولونيوس دي تيان.

ديوكسين: بعد مرةر زمن في الحروب الأهلية قام أمباطرة تمكنوا من وضع حد للشغب وكانوا قساة عاملين وجنداً ترقوا في درجات الجندية حتى أصبحوا زعماء وقواداً ثم صاروا أمبراطرة. ويكاد يكون منشأ معظم أولئك الإمبراطرة من ولايات نصف متوحشة كولايات الطونة وإيليريا وبعضهم كانوا في طفولتهم رعاة أو مزارعين. وكان في سذاجة أخلاقهم على مثال قدماء قواد الرومان ولما طلبت وفود ملك فارس أن يروا الإمبراطور بروبوس رأوه شيخاً أصلع يلبس عباءة صوف ويضطجع على الأرض ويتناول حمصاً وشحم خنزير وكانت هذه سيرة كوريوس دانتاتوس قبل خمسة قرون.

ولقد كان هؤلاء الأمبراطرة أشداء على الجند فأحدثوا في الجيش نظاماً وفي البلاد أماناً ولكنه بشأت بحكم الضرورة ثورة أضرم نيرانها الإمبراطور ديوكسين الذي تدرج من الجندية إلى تولي مقام الإمبراطورية (285) وتنازل عن الملك بعد أن نظم شؤون الإمبراطورية.

ولم يعد يكفي رجل واحد لتولي شؤون الحكم في تلك البلاد المتسعة والدفاع عنها فاتخذ كل إمبراطور له كما اتخذ ديوكسين من أنسبائه وأصحابه اثنين أو ثلاثة يؤازرونه وعهد إلى كل واحد النظر في جزء من مملكته. وفي العادة أن يدعوا باسم قيصر ويحدث أحياناً أ، يتولى إمبراطوران متكافئان يدعى كلاهما باسم أغسطس ومتى هلك أحدهما يخلفه أحد القياصرة أما الجيوش فلا تستطيع أن تنصب أمبراطرة.

واتسعت الولايات أي اتساع حتى أدى ذلك بديوكلسين إلى تقسيمها فكان عددها 48 ولاية في القرن الثاني فأصبحت زهاء 90 ولاية (وغدت غاليا سبع عشرة ولاية بعد أن كانت سبعاً) وأمسى الحرس الإمبراطوري في رومية خطراً على البلاد فاستعاض الإمبراطور ديوكلسين عنه بفرقتين سماهما فرقتي القصر.

المدنية الرومانية على عهد الإمبراطورية

مدينة بومبي: ذكر بلين الفتى في كتاب له قصة ثوران بركان فيزوف (سنة 79) الذي هلك فيه خاله بلين القديم. وكان المعلوم أن هذا البركان أخرب مدينتين صغيرتين نزهتين وهما هركولانوم وبومبي ولكن لم يعرف أحد موقعهما. واكتشفت في القرن الثامن عشر بالعرض مدينة هركولانوم مغشاة بطبقة من الحمم ثم كشفت مدينة بومبي مدفونه تحت طبقة من الرماد وحجر الكدان. وبدئ البحث في هركولانوم فعثر فيها على تماثيل صغيرة جميلة ومدارج مخطوطة محروقة توصل العلماء إلى حل بعضها ولكن حالت صعوبة العمل في الحمم فوقف الباحثون عن التوافر على ما كانوا بدؤوا به. وآثروا أن يبحثوا في بومبي حيث يسهل نزع الرماد وقد مضى القرن التاسع عشر بأجمعه والهمم متوفرة على نزع الرماد عن المدينةحتى كادت تظهر بأسرها الآن كما كانت.

ظهرت بومبي للأنظار على ما كانت عليه قديماً وقد سقطت السقوف من ثقل الرماد وفر السكان من كثير من البيوت عند وقوع هذا البلاء ثم عادوا يفتشون عن أهم الأعلاق وأنفس النفائس. وما برحت الحيطان قائمة ولم تمح منها الإعلانات المكتوبة بالحمرة بل ما زلت ترى فيها الخطوط التي خطها المارة بالفحم وسلمت الشوارع وبلاطها المحفور بسير المركبات والعجلات. وقد وجدوا أيضاً على الرماد ما تركته جثث الذين هلكوا اختناقاً من الرسوم وقد توصلوا بأن جعلوا جبساً مائعاً في تلك الرسوم وأخرجوها فكانت قوالب لتلك الأجساد الميتة.

العيشة الرومانية: تصور بومبي للفكر كيف كانت العيشة في مدينة رومانية صغيرة فقد كانت هذه المدينة حديثة البناء ذات شوارع مصفوفة مقطوعة إلى زوايا قائمة ومبلطة ببلاط محكم الأجزاء ولها أرصفة إلا أن الشارع الأعظم كان معرجاً وبلغ من ضيقه أن كان يتعذر على مركبتين أن تلتقيا في وسطه.

ولم يكن للمساكن غير نوافذ صغيرة وقليلة تطل على الشارع بل كانت للغرفة كلها نوافذ من وسط الدور يدخل إليها النور. وبهذا عرفت أن الشوارع كانت محاطة بحيطان ما عدا الشوارع الرئيسية وعلى طولها صفوف من الحوانيت يستأجرها السوقة والباعة.

وساحة المدينة متوسطة الحجم تحيط بها المباني والمصانع مثل ديوان مجلس شيوخ المدينة ومعابد صغيرة ومحاكم وسوق مسقوف ورواق ذو عمد وفيه كان يجتمع أهل البطالة وفيها داران للتمثيل حفر القسم الأعظم من الكبير فيهما في أكمة وهو يسع خمسة آلاف متفرج والصغير يسع ألفاً وخمسمائة وفيها مشهد ذو درجات على شكل نصف دائرة إنفيتياتر تقام فيه الألعاب ويتصارع فيه المصارعون. وفيها ثلاثة حمامات عامة (على الأقل) لأصغرها وهو الذي حفظ أكثر من غيره مقصورة للاستحمام وأخرى للحمام السخن وثالثة للبارد وصوان (محل الثياب) وليس في الدور غير أخونة ومقاعد وصناديق وسرر وشمعدانات وكثير من المصابيح إذ لم يكن القدماء يكثرون من الأثاث. أما الغرف فصغيرة ويجعلون الزينة كلها في قاعة الاستقبال الكبرى إلا أن مصايف أغنى أغنياء السكان مبلطة بالفسيفساء والجدران مغشاة بصور جميلة فيها مشاهد اساطير وتزيينات من أكاليل وأزهار أما الحوانيت فحالتها تشعر بضعف التجارة ولحوانيت باعة المشروبات إشارات مصورة وقد صورت في إحداها صورة باخوس (رب الكرمة) يعصر عنقوداً. وكتب على حانوت آخر: هنا فندق يؤجر غرفة ذات ثلاثة سرر وقد عثروا في تلك المدينة على مخبز فيه رحيان اداران باليد وعلى معمل لقصر الثياب ودكان حلاق وبيت جراح وأدواته من القلز (النحاس الأصفر) ومعمل نقش ودباغة.

المشاهد: كان للمشاهد في حياة هذا الشعب العطل من الأعمال في رومية شأن يصعب علينا تصوره فكانت المشاهد كما في يونان عبارة عن ألعاب أي حفلات دينية وتتعاقب المشاهد طول النهار وتعود من الأيام التالية مدة أسبوع على الأقل.

والمشهد عبارة عن موعد تتواعد عليه الأمة الحرة بأسرها وهناك كانت تقام المظاهرات ففي خلال الحروب المدنية سنة 196 أخذ المتفرجون بلسان واحد يهتفون: السلم والمشهد (الفرجة، كان يحسب ما تميل إليه النفوس في ذاك الزمن فقد مثل فيه ثلاثة أمبراطرة فمثل كاليجولا في هيئة حوذي ونيرون ممثلاً وكومود مصارعاً. وللمشاهد ثلاثة أضرب وهي المرزح أو المسرح (المرسح) والملعب وشكل نصف الدائرة (أنفيتياتر).

وكان المرزح على الأسلوب اليوناني والممثلون يمثلون وقد جعلوا أوجهاً مستعارة على وجوههم يشخصون قصصاً أخذوها من اللغة اليونانية. وقلما كان الرومان يقدرون مثل هذه الروايات قدرها لأنها تعلو من عقولهم وكانوا يؤثرون الروايات المضحكة الجافة المعروفة بالميم ولاسيما البانتوميم التي يشخصها المشخص دون أن يتكلم ويظهر عواطف الأشخاص الذين يمثلهم بحركاته وسكناته. تمتد بين أكمتين من جبل أفانتين وبالاتين ساحة السباق تحيط بها أروقة علتها مراق وأدراج. وهذا المكان هو الملعب الأعظم أصبح يسع منذ وسعه نيرون 250 ألف متفرج. ثم وسع في القرن الرابع حتى صار صالحاً لإجلاس 385 ألف شخص وهناك كانوا يمثلون الفرجة التي يحبها الشعب الروماني وهي سباق المركبات ذات الأربعة خيول فالمركبة الواحدة تطوف الملعب من أقصاه إلى أقصاه ثلاث مرات وعليها أن تقطع 25 شوطاً في اليوم الواحد. وسائقو المركبات تبع لشركات تزاحم كل منها الأخرى ويلبسون لوناً من الألبسة خاصة بشركتهم فكانت الشركات أربعاً بادئ بدء ثم استحالت اثنتين وهما الزرقاء والخضراء ولكليهما شهرة في تاريخ التمرد. ولقد أولع القوم في رومية بسباق المركبات كما يولع الناس اليوم بسباق الخيل حتى كان موضوع الحديث النساء والأولاد أيضاً كثيراً ما يتعصب الإمبراطور لفريق دون آخر في السباق وتتكون من النزاع بين الزرق والخضر مسألة سياسية.

أنشأ الإمبراطور فسبازين على أبواب رومية بناء الكوليزة وهي عمارة ضخمة ذات طبقتين تسع سبعين ألف متفرج كانت عبارة عن ملعب مستدير حول ميدان يصطادون فيه ويتقاتلون فإذا أرادوا الصيد يجعلون الميدان غابة يطلقون فيها الوحوش الكاسرة فيجيء رجال مسلحون بحراب يصيدونها. وكانوا ينوعون المشهد بجعل الحيوانات الكثيرة في هذا المكان ولاسيما النادر منها كالأسود والفهود والفيلة والدببة والجواميس والكركدن والزرافة والنمور والتماسيح. وظهر في الألعاب التي احتفل بها الإمبراطور بومبي 17 فيلاً و500 أسد في الميدان وكانت لبعض الأمبراطرة دار لغرائب الوحوش. ثم رأى القوم بدلاً من أن يجعلوا الرجال المسلحين أمام الحيوانات أن يطلقوا الحيوانات على الرجال وهم عراة مقيدون. وشاعت العادة في جميع مدن الإمبراطورية باستخدام المحكوم عليهم بالإعدام في هذه التسلية فافترست الحيوانات ألوفاً من الناس من كل جنس وسن ومنهم كثير من شهداء المسيحيين على مرأى من الحضور.

المصارعون: كان قتال المصارعين (رجال بأيديهم سيوف) من أجل المشاهد الوطنية عند الرومانيين فينزل رجال مسلحون إلى الميدان يتبارزون حتى يقتل بعضهم بعضاً وبلغ الحال بالرومانيين على عهد قيصر أن صاروا يفتلون 320 زوجاً من المصارعين في آن واحد وقد قتل أغسطس في حياته كلها عشرة آلاف رجل وقتل تراجان مثل ذلك في أربعة أشهر. وكان المغلوب يذبح في الحال إلا إذا عفا الشعب عنه.

وكثيراً ما يأتون بأناس من المحكوم عليهم في ميدان الصراع ولكن المتصارعين يكونون في الغالب من العبيد وأسرى الحرب. وكل انتصار يجلب إلى ميدان الصراع عصابات من البرابرة يقتل بعضهم بعضاً ليتلذذ المتفرجون وكان في رومية مصارعون من كل بلد فمنهم الغاليون والجرمان والتراسيون وربما كان منهم الزنوج فيقتتلون بأسلحة مختلفة عن أسلحتهم الوطنية عادة. وكان يحب الرومان أن يرو هذه المقاتلات في صورة مصغرة.

وكنت ترى بين هؤلاء المقتتلين في الملعب أناساً من المتطوعة الأحرار حدا بهم حبهم للخطر أن يقدموا أنفسهم للصراع وقواعده القاسية. وأن يقسموا لزعمائهم بأنهم يقدمون ليضربوا بالعصي ويحرقوا بالحديد المحمى ويقتلوا تقتيلاً. وقد تجند غير واحد من أعضاء مجلس الشيوخ في هذه العصابات من العبيد والمتشردين بل تجند في زمرتهم الإمبراطور كومود ونزل إلى الميدان بذاته. ولا تقام هذه الألعاب الخطرة في رومية فقط بل في جميع مدن إيطاليا وغاليا وإفريقيا (أما اليونان فقد استنكفوا من قبول هذه الألعاب).

وإليك صورة كتبت على تمثال أقيم لأحد أعيان بلدة منثورة: قد أظهر في أربعة أيام أحد عشر زوجاً من المصارعين ما برحوا يقتتلون حتى بعد أن سقط نصفهم في الميدان وصاد عشرة دببة هائلة ولا شك أنكم تذكرونهم أيها الوطنيون الأشراف.

كان العشب يهوى إهراق الدماء على نحو ما يجري اليوم بإسبانيا في سباق الثيران. وينبغي للإمبراطور كما ينبغي لملك إسبانيا أن يحضر هذه المجازر. ولقد فقد الإمبراطور مارك أوريل ثقة العامة في رومية لأنه أظهر مللاً من مشاهدة تلك الألعاب فكان يقأ ويتكلم ويقابل الناس بدلاً من التفرج. ولما صحب معه المصارعين ليستخدمهم في قتال البرابرة الذين هاجموا إيطاليا أوشكت الغوغاء أن تتمرد وصرخوا قائلين: أنه يريد أن يسبنا تسليتنا ليضطرنا إلى التفلسف.

المدارس: لم يخطر للقدماء قط أن يعلموا الأولاد كلهم فليس العبيد وحدهم بل السواد الأعظم من سكان الإمبراطورية لم يتعلموا القراءة. على انه لم يكن في المملكة غير مدارس الأغنياء والوطنيين الرومانيين. وقلما نعرف المدارس التي يتعلم فيها أبناء الوطنيين والأجناد القراءة والكتابة. وقد كان راتب معلم المدرسة قليلاً جداً وآباء الأولاد هم الذين يؤدون إليه راتبه. وطريقة التعليم عبارة عن ضرب الأولاد بمقرعة أو بالعصي. وقد مثلوا في صورة وجدت في مدينة بومبي ولداً يمسكه أترابه بينا كان المعلم يضربه بالسوط.

وتعلم الأسرات الغنية أولادها عند مؤدب يكون رومياً في الغالب فيعلمهم النحو واللغة اليونانية. والمدارس العامة تقبل الشبان الأغنياء خاصة يرسلهم آباؤهم إليه ليتعلموا فيها الخطابة. وإلغاء المنابر لم ينزع من الناس ذوقهم للخطابة ومرانهم عليها. وعلى ذاك العهد بدأ المفوهون أو الخطباء يكثرون ويعلمون الناس كيفية الأداء فافتتحوا منذ القرن الأول في رومية مدارس يقبلون فيها الفتيان الأغنياء. وكان بعضهم يمرن تلاميذه على إنشاء المرافعات في موضوعات خيالية في الخطابة وقد حفظ لنا الخطيب سليك عدة من هذه الدروس الخطابية وموضعها أولاد مخطوفون ولصوص ومتشردون على أساليب مختلفة.

أسست على الولاء مدارس من هذا الطراز في جميع أقطار المملكة فكان في غاليا مدرسة قديمة في مدينة مارسيليا اليونانية يقصدها الطلاب من إيطاليا. وأصبحت مدرسة أوتون منذ زمن أغسطس عامرة أكثر من غيرها بالطلاب وهي التي بقيت عامرة إلى آخر أيام الإمبراطورية.

ثم أنشئت مدارس من هذا النوع في الشمال منها مدرس في ريمس وأخرى في تريف. وكانت في الجنوب لعدة مدن مدارس من مثل هذه وأشهرها هي التي أصبحت مدرسة بوردو بعد ذلك.

تنفق المدن على هذه المدارس فتيعين لها الأساتذة وتدفع لهم أجورهم والمقصد الأول منها تعليم أبناء الأسرات الغنية التكلم باللاتينية واليونانية وأن يكتبوا فيهما ليتمكنوا من أن يكونوا موظفين. ويعلم فيها النحو البيان خاصة. وكان أشهر أستاذ في مدرسة أوتون في القرن الرابع الخطيب أومين أرسله الإمبراطور قسطنطين وكان مدحه. وأعظم رجل في مدرسة بوردو هو أوزون مربي ابن الإمبراطور (369) ومؤلف عدة مقاطيع شعرية لاتينية متكلفة.

الأشراف: دثرت الأسرات القديمة الغنية في رومية إلا قليلاً ولكن قام غيرها من الأسر الحديثة التي أغتنت بالصيرفة والتجارة والتزام الجباية واستثمار الأراضي المفتوحة. وكلما تمكن غني من أرباب الأملاك من أن يعينه الإمبراطور حاكماً تشرف أسرته وبذلك شرفت جميع الأسرات الغنية في إيطاليا والولايات (حتى لم يبق في أواخر القرن الثالث أسر من الفرسان العاديين) وكان كل عظيم من كبراء هؤلاء الملاك يعيش بين عبيده ملكاً صغيراً لا عمل له إلا إتباع الشهوات وداره في رومية أشبه بقصر تغص غرفة التشريفات (لاتريوم) كل صباح بأناس من الزبن (الزبونات) وهم أناس من الوطنيين يختلفون إليه لأمور طفيفة صباح كل يوم يسلمون عليه بالسيادة ويسايرون موكبه في الشارع. لأن الاصطلاح يطلب أن لا يظهر الغني أبداً أمام الجمهور إلا ويحيط به جماعة. وقد ضحك هوراس من أحد القضاة لمروره بشوارع تيبور في خمسة من العبيد فقط. وللكبراء خارج رومية مصايف بهجة على شواطئ البحر أو في الجبال ينتقلون فيها لا عمل لهم والضجر آخذ منهم.

ولم تكن واجهات لبيوت هؤلاء الأغنياء من الرومانيين على العكس من بيوتنا الحديثة بل كانت كلها دائرة من داخل أما الخارج فلم تكن سوى حيطان عارية لا شيء فيها والغرف صغيرة وفرشها قليل وهي مظلمة لا يدخلها الضوء إلا في قاعة التشريفات وهي في وسط البيت وفيها نصب تماثيل الأجداد وفيها يستقبل الزوار ويدخل إليها النور من شق في السقف ووراءها البيريستيد وهي حديقة محاطة بصفوف من العمد وعليها تطل غرف الطعام المزينة أفخر زينة وفيها سرر لجلوس الضيوف ويتناولون فيها الطعام لأن ذلك كان من عادة أغنياء الرومان كما كان من عادة اليونان في آسيا. وكثيراً ما يكون بلاد الدار معمولاً بالفسيفساء.

الأخلاق: وصف سينيك في رسائله وجوفنال في أهاجيه الرجال والنساء في عهدهما وصفاً مزعجاً حتى أصبح فساد رومية القياصرة مثلاً سائراً في الغابرين. على أن هذا ناشئ من دواء اضطرابات القرون الأخيرة للجمهورية مثل بذخ الأغنياء الغليظ وقسوة السادة مع عبيدهم وطيش النساء الممزوج بجنون. فلم يأت الشر من طريقة الحكم الإمبراطورية بل من الإفراط في جمع ثروات العالم أجمع بيد بضعة ألوف من الأشراف أو أدعياء الشرف وتحتهم بضع مئات من الأحرار يعيشون عيشاً سافلاً وملايين من العبيد يظلمون ظلماً هائلاً.

وكانت الأسرة الكبرى تندثر بسرعة حتى هال الإمبراطور أغسطس ما رأى من نقص عدد الرجال الأحرار فسن قوانين لحمل الناس على الزواج والعقاب على العزوبة وإذ كان تأثير هذه القوانين يحتاج إلى زمن لم تنجع أصلاً. ولقد كثر عدد العزاب من الأغنياء حتى غدت مداهنتهم من الصناعات الرابحة وذلك ليوصي لهم من يدهنون لهم بشيء من المال يأخذونه بعدهم. ون حسن التدبير أن لا يرزق الغني ولداً فيكون محاطاً بالمرائين والمتقربين. قال أحد القصصيين الروحانيين: ينقسم الناس في هذه المدينة إلى طبقتين منهم من يصطاد ومنهم من يصاد. وقال سينيك: إن في حرمان الأولاد زيادة نفوذ المرء.

الطبقات النازلة: فقد التمييز بين الوطنيين الرومانيين والغرباء موقعه ومكانته إذ لم يعد في رومية انتخابات وشمل حق التملك على التدريج سكان الولايات. وجاء زمن عهد كراكالا (212) صدر فيه أمر بمنح حق الوطنية لجميع سكان الإمبراطورية ولم يشعر بهذا الأمر كثيراً لأن العمل كان جارياً عليه من قبل بالفعل.

ويمتاز الرجل امتيازاً خاصاً بثروته التي يملكها ويقسم الناس إلى طبقتين: الأغنياء ويدعون اشرف الشرفاء وهم أعضاء مجلس الشيوخ والفرسان وأعضاء مجالس الشيوخ في المدن وتتألف منهم طبقة القواد العشرة أما بقية الشعب وهم العامة فيتألف منهم الفقراء المدقعون والسوقة الحقيرون.

فأشرف الأشراف وحدهم يحسبون في المجتمع وهم يقومون بعامة الوظائف المدنية وجميع موظفي الإمبراطورية من طبقة أعضاء مجلس الشيوخ أو طبقة الفرسان وجميع حكام المدن من قواد العشرة. ولهم كلهم إمتيازات رسمية ومحال خاصة بهم في دور التمثيل وحضور الحفلات وإذ حكم عليهم بالإعدام لا يصلبون ولا يلقى بهم للوحوش في الملعب لأن هذه العقوبات المخزية كانت خاصة بالغوغاء والعامة.

ولقد عاش الفقراء في هذا المجتمع الأرستوكراسي عيشة ضنك فيعيش فقراء رومية من الصدقات العامة أو بالاختلاف إلى الأغنياء ومداهنتخم وهذه العيشة كانت ضرباً مستوراً من الشحاذة. ويصبح الفقراء في القرى مستعمرين في أراضي كبار الأملاك الذي يعاملونهم معاملة تقرب من معاملة العبيد. وترى الفقراء في المدن صناعاً أو مرتزقة ومنزلتهم منزلة المعتقين من العبيد. وإذا حسنت حال المدينة يكون لهم نصيب فيما يوزعه الحكام من الصدقات ويدخلون دون أجرة إلى مشاهد التمثيل والألعاب والحمامات العمومية وكنت ترى في جميع المدن حمامات حارة مؤلفة من مقاصير للاستحمام ذات أحواض تأتيها الحرارة من موقد جعل تحت الأرض. والحمامات في مدينة رومية كمحال الرياضة في المدينة اليونانية هي مكان اجتماع من لا عمل لهم. بل كانت الحمامات في مدن الرومان أعظم من محال الرياضة عند جيرانهم اليونان مئات من المقاصير على اختلاف أجناسها فمن مقصورة باردة إلى فاترة إلى حارة إلى صوان للثياب ومقصورة لدلك البدن بالزيت ومحل للمحادثة ومقاصير للرياضة وحدائق يحيط بكل ذلك سور عظيم. وقد شغلت خرائب حمامات كاركالا بالقرب من رومية مساحة عظيمة من الأرض.

العبيد: ويأتي تحت طبقة الأحرار الفقراء الطبقة الأخيرة وهي طبقة العبيد الذين هم في بعض البلاد معظم السكان. والسادة من الرومانيين كالشرقيين لعهدنا كانوا يحجبون أن يحيط بهم جمهور من العبيد. ففي البيت الكبير الروماني يعيش مئات العبيد ينقسمون بحسب خدم التي يتولونها فمنهم الموكلون بالفرش وتعهد الأواني الفضية والأعلاق والتحف ومنهم حفظة للثياب ومنهم وصائف ووصيفات ومنهم القيمون على المطبخ والحمام ومنهم رئيس المتكأ ومعاونوه ومنهم عبيد الموكب الذي يرافق سيد البيت وسيدته في الشوارع ومنهم حملة المحفة (المحارة) ومنهم الحوذيون والسواس ومنهم أمناء السر والثراء والنساخ والأطباء والمربون والممثلون والموسيقيون وأرباب الصناعات من كل صنف لأنهم في كل بيت كبير يطحنون الدقيق ويحيكون الصوف وينسجون الثيابي. ومن هؤلاء العبيد من حبسوا أنفسهم في المعامل يصنعون أشياء يبيعها سادتهم ويكون ربحها لهم ومنهم من يؤجرهم أصحابهم إلى الخارج على أنهم بناؤون أو بحارة فقد كان لكراسوس خمسمائة عبد من المهندسين. وكل هؤلاء يدعون عبيد المدن.

عبيد الريف: كل ملك (تفتيش) كبير يتوفر على زراعته عصابته من العبيد فهم الحراثون والرعاة والكرامون والبستانيون والصيادون ويجعلون شراذم تؤلف كل شرذمة من عشرة أشخاص. ويلاحظهم وكيل منهم يهيمن عليهم. ويرى صاحب الملك أن من دواعي إعجابه أن تخرج أرضه كل شيء فهو لا يبتاع شيئاً وكل حاجياته تنبت في أرضه وهذا مما يجعلونه من جملة الثناء على الأغنياء فصاحب الأرض يؤوي إليه عدداً عظيماً من عبيد الريف كما يسمونهم والملك الروماني أشبه بقرية ويسمى مصيفاً (فيلا) وقد بقي اسمها فأطلق عليه اسم مدينة (فيل) منذ القرون الوسطى وهو الملك الروماني القديم مكبراً.

معاملة العبيد: يعامل العبيد بحسب أخلاق سيدهم فمن السادة المنورين الذين اشتهروا بالإنسانية شيشرون وسينيك وبلين فقد كانوا يطعمون عبيدهم طعاماً جيداً ويحادثونهم وربما أجلسوهم معهم على موائدهم ويسمحون أن يكون لهم أسرة وثروة صغيرة. وهناك سادة علىالعكس من هؤلاء عاملوا عبيدهم معاملة الحيوانات وعاقبوهم أشد العقوبات بل ربما قتلوهم لهوى في النفس. والأمثلة على ذلك كثيرة فقد كان فويوس بوليون عيتق أغسطس يطعم السلور البحري (سمك مرينة) في بركته فكسر له أحد عبيده آنية على غير قصد فما هو إلا أن ألقاه في البركة ليكون طعماً لسمكه.

وصف الفيلسوف سينيك فظائع السادات بهذه العبارة: إذا سعل أحد العبيد أو عطس خلال المأدبة أو طرد الذباب متهاوناً أو رمى مفتاحاً وسمع له صوت لكلب في الاقتصاص منه وأي كلب فإذا أجاب رافعاً صوته قليلاً ودلت تلاميح وجهه على سوء خلق أيحق لنا أن نضربه بالسياط؟ وكثيراً ما نبالغ في الضرب ونقطع له عضواً ونقلع سناً. وهكذا رأينا الفيلسوف أيبكيت وكان عبداً كسر مولاه ساقه. أما النساء فلم يكن أيضاً على شيء من الشفقة وإليك كيف امتدح أدفيد إحدى العقائل قال: مشطوا رأسها أمامي مرات وما قط غرزت الأبة في ذراع العبد الذي يمشطها.

وما كان الرأ ي العام ليحول دون هذه الفظائع فقد مثل جوفنال عقيلة غضبى على أحد عبيدها وهي تقول اصلبوه ـ وأي جريمة أتاها العبد حتى استحق هذا العذاب؟ ما أنحسه وهل العبد من البشر؟ وسواء أتى أمراً أم لم يأت فإني أريد عقابه وآمر به وإرادتي هي الحجة في هذا الباب.

أما الشريعة فلم تكن ألطف من الأخلاق فكانت في القرن الأول قبل المسيح توجب بأن صاحب البيت إذا ذبح يقتل عبيده كلهم به. ولما أريد إلغاء هذا القانون خطب ترازيا أحد معتبري الفلاسفة في مجلس الشيوخ مطالباً ببقاء هذا القانون.

وللعبيد مطبق تحت الأرض يدخله النور من نوافذ ضيقة بعدية بحيث لا يتيسر الوصول إليها فإذا أتوا ما يغضب ساداتهم يسجنونهم فيه بالليل وفي النهار يبعثون لهم ليشتغلوا مقيدين بسلاسل من حديد ثقيلة. وكثير منهم من وسمت وجوههم بحديدة محماة.

لم يعرف القدماء المطاحن الميكانيكية بل كانوا يطحنون الحنطة بمطاحن باليد يديرها العبيد وكان ذلك من أشق الأعمال يندبون إليها عقوبة لهم في العادة. وكانت المطحنة قديماً مثل محبس (لومان) وقال بلوت: كان يبكي أشقياء العبيد الذين يطعمون البولانتا (سويق من دقيق الذرة) وهناك يرن دوي الأسواط وقعقعة السلاسل والأغلال. وبعد ثلاثة قرون أي في القرن الثاني بعد المسيح وصف القصصي أبوليه داخل مطحنة بقوله: أيها الأرباب ما أتعس هؤلاء المساكين من البشر فقد اسودت جلودهم وتبرقشت من ضرب السياط ولا تستر أبدانهم غير خرق من قميص مدموغة جباههم محلوقة رؤوسهم مقيدة أرجلهم مشوهة أبدانهم من النيران مقروضة جفونهم من الدخان وقد علاهم غبار الدقيق.

ولم يكن العبيد يكتبون لذلك لا نعرف ما هو رأيهم بأنفسهم في معاملة ساداتهم لهم. إلا أن الموالي أنفسهم كانوا يشعرون بحقد عبيدهم عليهم. ولما انتهى إلى بلين لجون ما أصاب أحد أرباب الأملاك من ذبحه في حمام بيد عبيده قال ملاحظاً: أصبح كثير من الرومان عرضة لحقد عبيدهم أكثر من حقد الظالمين.

الشركات: كان في جميع بلاد الإمبراطورية في الشرق اليوناني أكثر من الغرب اللاتيني عدد كبير من الشركات مختلفة الضروب والأشكال. فمنها شركات لأرباب الصناعة الواحدة وشركات للممثلين والمصارعين وشركات أدبية وشركات لاجتماع السكيرين على الشراب ولبعض هذه الشركات أعضاء من الرجال الأغنياء مقل جمعيات الجباة وكان أعضاؤها يلتزمون الأموال الأميرية. ومثل جمعيات التجار الذي يتجرون بين إيطاليا وغاليا ولكن معظم تلك الجمعيات كان مؤلفاً من صعاليك القوم.

ولقد طال منع الحكومة الرومانية لهذه الجمعيات والشركات ثم تسامحت بها حتى إذا كان القرن الثالث أخذت تمد إليها يد مساعدتها ولكن الحكومة لم تمنع قط الجمعيات لدفن الموتى وكانت هذه الجمعيات تتألف من أناس مساكين لا يستطيعون أن يقتنوا أرضاً لتكون لهم قبراً فكانوا يشتركون ويدفعون أقساطاً للحصول على سرب يكون مشتركاً بينهم ليدفنوا فيه أمواتهم. فالمغارة أو السرب المعد لدفن الموتى هو عبارة عن بناء مقبب وفيه صفوف كثيرة من المقاصير يجعل في كل واحدة منها رفات ميت ويسمونها برج الحمام بسبب شكلها.

وعلى هذا كان أعضاء جمعية الموتى على ثقة من الحصول على مدفن لائق بعد موتهم وقبر دائم لهم على الدهر وهو ما كان القدماء يحرصون عليه كل الحرص ويسمون هذه الشركات لا بأسماء حزن لئلا تكون شؤماً بل يسمونها بأسماء أرباب ويسمونها شركات الصغار وكان يدخل فيها كثير من العبيد. وتجعل جميع الشركات إلا قليلاً تحت حماية أحد الأرباب يحميها (مثل جمعيات الأطباء التي أطلقوا عليها اسم أسكولاب) وما كان لكثير من هذه الشركات من غاية إلا أن يتعبدوا كلهم جماعة. والحكومة لا تدر الأرزاق إلا على المعابد والكهنة وبعض الشعائر الرسمية. وجميع الأديان الأخرى كانت منظمة على هيئة جمعيات. ولأهلها صندوقهم وكاهنهم ومصلاهم ومذبحهم وحفلاتهم. وكانت الكنائس النصرانية أولاً شركات من هذا النوع.

وأهم الشركات شركات أرباب الصناعات فكان منها في عامة المدن حتى أن العواصم كان فيها عدة شركات من نوعها وأعضاؤها في العادة من أرباب الصناعة الواحدة وتسمى كل شركة بأسماء صناعات أعضائها فقد كان في أفيز شركة حلاجي الصوف وفي جنيف شركة الملاحين وفي ليون شركة عملة البناء. وتقبل كل شركة في أعضائها أناساً من أهل صناعة أخرى. ومن العادة أن يكون لكل شركة عبادة فتعبد رباً وتقيم عيداً للاحتفال ويحملون فيه علمه ودامت هذه العادة في القرون الوسطى في شركات الصناع المسيحيين وهذه الشركة تقوم بدفن أعضائها متى ماتوا في مدافن لائقة ولكل شركة مديران يختاران من المعلمين ويكونان في العادة وكيلاً وأمين صندوق ينتخبهما الأعضاء كلهم إلا أنه لم يكن لهما أدنى سلطة على أرباب الصناعة وما كان أحد يكره أحد على الدخول معهم.

الحقوق الرومانية

دين البيوت: يعبد أعضاء كل أسرة بأجمعهم أجدادهم ويجتمعون حول مزار واحد فأربابهم واحدة ولهم وحدهم أن ينظروا إليها ولا يحق لأحد أن يعبد أجداد أسرة غلا إذا كان من فرع أولئك الجدود. ويقام المزار الذي يجعل فيه أرباب البيت في مكان منفرد م الدار لا يقترب منه غريب. والأسرة الرومانية تختلف كثيراً عن الأسرة الحديثة لأن نظامها ديني.

الزواج: أخذ الزواج الروماني يصير احتفالاً دينياً فيسلم الأب ابنته المخطوبة إلى خارج الدار فتحمل في موكب إلى دار زوجها ويقدمون لها الماء والنار وهناك يقتسم الزوجان بحضور أرباب الأسرة قطعة من الحلواء معمولة من الحواري وكان يسمى الزواج إذ ذاك شركة الحلواء.

وقد اخترع الرومان منذ الزمن الأطول ضرباً من لازواج يسوغ للطبقة الوسطى فقط وهو إما أن يبيع المخطوبة أحد أوليائها واقربائها بحضور شهود من قبل زوجها ويصرح هذا بأنه ابتاعها على أن تكون زوجة له وهذا زواج البيع وإما أن تجيء الزوج فتساكن زوجها ومتى قضيا سنة معاً يعتبران متزوجين وهذه الزواج بالعادة.

الرومان كاليونان يرون الزواج فرضاً دينياً والدين يأمر بأن لا تندثر الأسر. وعند ما يتزوج الروماني يصرح بأنه اتخذ زوجته ليكون له منها أولاد. وقد \ لق أحد أشراف الأغنياء زوجته وكان يحبها حباً جماً لأنه لم يرزق منها أولاد.

المرأة: ليست المرأة الرومانية حرة أصلاً فهي في شبيبتها ملك أبيها يختار لها زوجاً وإذا تزوجت يصير أمرها بيد بعلها ويقول الفقهاء أنها في يده وأنها مثل ابنته وبالجملة فللمرأة سيد على الدوام بيده موتها وحياتها.

ومع هذا لم يعاملوا المرأة قط معاملة الرقيق وهي مساوية في المكانة لزوجها ويدعونها أم الأسرة كما يدعون الرجل أباً لأسرة فهي سيدة في البيت كزوجها تسيطر على النساء الرفيقات فتكلفهن بجميع الأعمال الشاقة كطحن الحب وخبز الخبز وعجنه. وتجلس في قاعة التشريفات من الدار تنسج وتحيك وتوزع الأعمال بين الإماء وتلاحظ الأولاد وتدبير شؤون البيت وليست المرأة الرومانية كالمرأة اليوناينة بعيدة عن الرجال بل تتناول الطعام على المائدة مع زوجها وتستقبل الزائرين وتذهب لتناول الطعام في المدينة وتظهر أمام الناس في الحفلات وفي دور التمثيل وأمام المحكمة. إلا أنها في العادة تكون جاهلة أمية وذلك لأن الرومانيين لا يهتمون بتعليم بناتهم. وأهم صفة يعتبرونها في المرأة أن تكون زاهدة فإذا ماتت يكتبون على قبرها إشارة إلى مدحها: أنها التزمت بيتها ولم تخرج منه وغزلت الصوف.

الأولاد: الولد الروماني لأبيه بمثابة ملك له وللوالد الحق في أن يعرضه في الشارع فإذا أخذه يربيه في بيته أولاً والبنات يبقين في البلاد ريثما يتزوجن وهن يغزلن ويحكن تحت ملاحظة أمهاتهن والبنون يعملون في الحقول مع آبائهم ويتمرنون على استعمال السلاح.

ليس الرومان شعباً مفنناً في الصناعات وغاية أمانيهم أن يعرف أبناؤهم القراءة والكتابة والحساب وهم لا يطلبون على ذلك مزيداً فلا يعلمونهم الموسيقى ولا الشعر ويلقنونهم القناعة والصمت والحشمة في مآتيهم والطاعة في منازعهم.

أبو العائلة: إن من يطلق عليه اسم سيد البيت يدعوه الرومان أبا الأسرة فأبو الأسرة مالك للأملاك وكاهن في عبادة الأجداد وسلطان الأسرة فهو الحاكم المتحكم في بيته يحق له أن يطلق زوجته ويطرد أبناءه وأن يبيعهم ويزوجهم بدون أن يأخذ رأيهم. ويحق له أن يستأثر بما يملكونه لنفسه بل وكل ما تحمله إليه زوجه وكل ما يكسبه أولاده. إذ لا يسوغ للمرأة ولا لأولادها أن يملكوا شيئاً وبالجملة فبيده حياتهم ومماتهم أي أنه قاضيهم الوحيد وإن ارتكبوا جريمة فرب الأسرة يحكم عليهم لا الحاكم.

أصدر مجلس الشيوخ 186 الروماني أمره ذات يوم بإعدام جميع من اشتركوا في الاحتفال بعبدة باخوس فنفذ الحكم على الرجال أما النساء اللائي اشتركن في الحفلة مع المجرمين فعمد المجلس إلى آباء الأسرات في أمرهن وهم الذين أعدموا نسائهم وبناتهم وكان الشيخ كاتون يقول: إن الزوج قاضي امرأته له أن يعمل بها ما يشاء فإذا ارتكبت غلطاً يعاقبها وإذا تناولت الخمر يحكم عليها بالإعدام وإذا خانت يقتلها ولما كان كاتالينا يكيد المكايد لمجلس الشيوخ لاحظ أحدهم أن ابنه اشترك في المدية فأوقفه وحاكمه فحكم عليه بالموت. وتدوم سلطة أبي السرة بدوام حياته والابن يخلص من عبوديته له حتى أنه إذا أصبح قنصلاً يظل خاضعاً لسلطة أبيه. ومتى مات الأب يصبح الأولاد أصحاب بيوت أما امرأته فلا تكون حرة أصلاً بل تكون تحت سيطرة وريث زوجها بل تخضع لابنها نفسه.

التملك: كانت الثروة في القرون الأولى لرومية عبارة عن ماشية وعبيد خصوصاً واللفظ الذي دل بعد على الدراهم معناه قطع ويسمى المالك رب الأسرة. ومن المحتمل أن الأرض لم تكن تنتقل بالإرث لأن لفظة إرث عندهم تدل على أرض مساحتها فدانان وهو المكان الذي يكفي لإنشاء بيت وحديقة. ولم يلبث الرومانيون أن قبلوا عادة اعتبار المالك لحقل صاحباً له وعندئذ وضع حق التملك للماشية والعبيد والأراضي والبيوت وكانوا يعرفونه بأنه حق الانتفاع والتخريب (الاستعمال وسوء الاستعمال).

ثم صار لهذا الحق أن يتناول كل شيء من الحاجات والأثاث والدراهم والعقود والديون وحقوق الاستمتاع. ويجب على من أراد أن يملك شيئاً أن يملكه على الصورة التي عينتها العادة. وإليك مثلاً كيف يجري صفقة المبيع: يضع البائع أمام خمسة من الوطنيين ينوبون عن مجمع ومعهم سادس يمسك الميزان بيديه قطعة من النحاس في هذا الميزان تعادل ثمن المبيع. فإذا كان هذا حيواناً أو عبداً يمسكه البائع بيده ويقول: هذا لي بموجب القانون الروماني ابتعته بهذا النحاس الموزون وزناً حسناً.

ثم ابتدعوا طرقاً أسهل لنقل الملك من يد إلى يد فصاروا يكتفون بدفع المبيع إلى المبتاع. وهذه الطرق لا تملك تمليكاً رسمياً بل يكون المقتني للملك متمتعاً به ولكن هذا التمتع يخوله نفس الحقوق كما لو كان مالكاً رسمياً له.

ولصاحب الملك الحق في أن يعطي أملاكه من بعده لمن يشاء وإذا لم يوص بشيء من هذا القبيل يقتسم أولاده ثروته وإذا أراد أن يغير نظام الوراثة يكتب وصيته. وكان يجري ذلك بمحفل أمام مجلس الأمة زمناً طويلاً ثم اصطلحوا على صورة متكلفة في البيع كأن يبيع المالك ماله لمن يريد أن يجعله وريثاً له وانتهت الحال بأن أصبحوا يكتفون بوصية مسطورة وكان يحق لصاحب الملك خلال القرون الأولى أن يوصي لمن يشاء وأن لا يترك شيئاً لأولاده ثم أكره القضاة آباء الأسر بالتدريج على أن يوصوا لكل واحد من أولادهم بقسم من ثروتهم فأخذ ينال كل ولد قسماً من الإرث.

ألواح الوصايا الاثنتا عشرة: لم يكن عند الرومان في مبدأ أمرهم كسائر الشعوب القديمة شرائع مكتوبة بل كانوا يجرون على عادات الأجداد أي أن كل جيل يجري في كل شأن من شؤونه كما جرى السجيل السالف. وقد سن حوالي سنة 450 عشرة حكام منتخبين شرائع كتبوها في اثنتي عشرة لوحة من الحجر. وكانت هذه شريعة الاثنتي عشرة لوحة أنشئت أحكاماً موجزة شديدة وقطعية وما هي إلا تفنين جاف قاس مثل الشعب النصف البربري الذي وضع له. فبموجب هذه الشريعة يعاقب الساحر إذا تلا كلمات سحرية ومر على حقله بغلة جاره. وإليك حكم هذا القانون في المدين الذي لم يؤدي ما عليه من دين: إذا لم يدفع يرفع أمره إلى القضاء وإذا عاقه المرض أو السن عن الحضور يركب حصاناً أو محفة وتهل ثلاثين يومً فإذا لم يوف ما عليه يربطه الدائن بسيور أو سلاسل وزنها 15 لبرة وبعد ستين يوماً يبيعه فيما وراء نهر التيبر وللدائنين إذا تعددوا أن يقطعوا المدين إرباً إرباً ولا غبن إذا قطعوا منه قليلاً أو كثيراً. قال شيشرون كانت شريعة الاثنتي عشرة لوحة منبع التقنين الروماني بأسره وكان الأولاد في المدارس يستظهرونها بعد أربعة قرون من وضعها.

الإشارات في الدعاوي: لا يكفي بموجب هذا القانون الروماني القديم اتفاق الأشخاص في مسائل البيع والشراء والإرث فلا يكفي لأجل أخذ حكم المحكمة الرومانية أن يعرض الإنسان قضية بل يجب عليه أن يلفظ عدة كلمات ويقوم ببعض إشارات تقضي بها العادة وكل قضية تقام أمام المحكمة يجري تمثيلها بالإشارات. فللمطالبة بشيء يمسكه المدعي بيده وللاحتجاج على جار رفع حائطه على جاره يرمون بحجر على الحائط. وهاك ما يجري إذا اختلف اثنان في ملكية حقل. يأخذ الخصمان بأيديهما كأنهما يريدان أن يتضاربا ثم يفترقان. ويقول كل منهما: أصرح بأن هذا الحقل لي بموجب حقوق الرمانيين فأنا أدعوك باسم محكمة القاضي إلى مكان الحقل ليفصل فيه بيننا فيأمرهما القاضي أن يذهبا إلى الحقل قائلاً لهما: اذهبا فهذا طريقكما أمام الشهود الحاضرين. فيخطوا المتخاصمان بضع خطوات كأنهما ذهبا وفي ذلك رمز إلى ذهابهما. فيقول لهما أحد الشهود: ارجعا. وبذلك إشارة إلى أنهما ذهبا إلى الحقل فيقدم كل من الخصمين مدرة من التراب وهي إشارة للحقل. وهكذا تبدأ الدعوى وعندئذ يستمع القاضي للمتخاصمين. والرومانيون كسائر الشعوب القديمة لا يحسنون فهم غير ما يقع تحت أنظارهم فبالماديات يتمثلون الحق الذي لا يرى.

ولقد كان الرومان يحترمون هذه الأشكال القديمة من الأحكانم من وراء الغاية فكانوا في القضاء كما هم في الدين يطيعون نص القانون دون أن يهتموا بالبحث عن معناه وعندهم أن كل دستور مقدس تجب المبالغة في تنفيذه ومن الحكم الجارية في قضاياهم أن كل ما يفوه به اللسان يكون حقاً. فإذا غلط صاحب الدعوى في إيراد مدعاه يخسر قضيته وإذا أقام رجل قضيته على جاره لأنه قطع له كرمة يجب أن تكون الصورة التي يوردها أمام المحكمة حاوية لكلمة (شجرة) فإذا استعاض عنها بكلمة (كرم) لا يحكم له.

واحترام هذه المراسيم على إطلاقها فتح للرومانيين سبيل الوفاق الغريب في أمور كثيرة فالشريعة تقول أن الأب إذا أباع ابنه ثلاث مرات يحرر الولد من سلطة أبيه ومتى أراد روماني تحرير ابنه يبيعه ثلاث مرات متوالية وهذا العمل المضحك في بيعه يكفي لتحريره.

وكانت الشريعة تقضي قبل البداءة بحرب أن يرسل مناد ينادي بها على تخوم العدو. ولما أرادت رومية إعلان الحرب على بيروس ملك إبير الذي كانت مملكته في عبر الأدرياتيك رأت الحكومة الرومانية القيام بهذه المصطلحات أن يبتاع أحد رعايا بيروس وربما كان من الآبقين من الجندية حقلاً من رومية فأوهموا بأن هذا الحقل أصبح أرضاً من بلاد أبير وراح المنادي يلقي فيها حربة ويدعوا فيها للحرب علناً. وكان الرومانيون مثل جميع الأمم الفتية يعتقدون باطلاً أن للمراسيم المقدسة فضيلة سحرية.

الفقه: كانت شريعة الاثنتي عشرة لوحة والشرائع التي وضعت بعد موجزة ناقصة فكانت تعرض مسائل كثيرة لا حل لها في قانون من القوانين الموضوعة. ففي مثل هذه الأحوال الصعبة كانت العادة متبعة أن يعمد إلى الأخذ برأي بعض أشخاص اشتهروا بمعرفتهم في مسائل الحقوق. وكانوا من أهل الاعتبار ومنهم قناصل قدماء أو أحبار فيكتبون آراءهم كتابة وتسمى فتاويهم أجوبة العقلاء. ومن العادة أن يكون لهذه الأجوبة شأن وقيمة لأن أصحابها الحكماء على جانب من الاعتبار والحرمة. وقد زاد الإمبراطور أغسطس بأن عين بعض هؤلاء الحكماء وقرر أن تكون أجوبتهم قانوناً يعمل به. وعلى هذا صار الحقوق علماً وعلماء الحقوق أو الفقهاء المشرعون يضعون القواعد الجديدة التي أصبحت سارية فنشأ بذلك علم الفقه.

أمر القاضي: دعت الحال في رومية إلى نصب حاكم أعلى لينفذ قواعد الحقوق المقدسة وللقنصل أو القاضي فقط أن يديرا شؤون محكمة أو يحقان الحقوق. وإذ كان القناصل يعنون بقيادة الجيش فهم يعهدون في العادة بالنظر في الحقوق إلى القضاة. وكان في رومية قاضيان حاكمان على الأقل يبفصل أحدهما في المسائل التي تحدث بين الوطنيين ويسمى قاضي المدينة وينظر الآخر في الدعاوي التي تنشأ بين الوطنيين والأجانب ويسمى قاضي الأجانب وهناك محكمتان لأن الغريب لا يحاكم أمام محكمة الوطنيين.

وهذا القاضيان بالنظر لما لهما من السلطة المطلقة يفصلان القضايا على ما يتراءى لهما. بل أن قاضي الأجانب لم يكن مقيداً بقانون لأن الشرائع الرومانية لم توضع غلا للوطنيين الرومانيين. ولما كان كل قاض يتولى منصبه في القضاء سنة واحدة فهو يكتب عند دخوله أمراً يبين فيه القواعد التي ينوي اتباعها في الأحكام ويسمون هذا الأمر أمر القاضي. وبعد سنة عندما تنتهي مدة القاضي يسقط قانونه فيحق لخلفه أن يسن قانوناً مخالفاً لقانون سلفه جملة واحدة ولكن جرت العادة أن يحتفظ كل قاضي بما صدر عن أسلافه من الأوامر فيدخل فيها بعض التبديلات ويضيف إليها بعض الزيادات. وهكذا تجمعت أوامر القضاة قروناً ثم أنشأ الإمبراطور هاردن في القرن الثاني براءة القاضي وجعلها قانوناً مرعي الإجراء.

وإذا كان هناك محكمتان منفصلتان أحداهما عن الأخرى وضعت قاعدتان متباينتان وقانونان مختلفان فتتألف من القواعد المتبعة التي يجري عليها قاضي المدينة في مسائل الوطنيين الحقوق المدنية أي حقوق المدينة ومن القواعد التي يجري عليها قاضي الأجانب تتألف حقوق الناس أي الشعوب (الغريبة عن رومية) فأدرك القوم إذ ذاك أن عدل هذه القواعد في الحقوق وأبسطها وأعقلها وبالإجمال أفضلها الحقوق الأجنبية وأن حقوق الوطنيين المأخوذة ضمن قواعد محصورة عن قدماء الرومان كان فيها خشونة وقواعد بربرية. أما حقوق الناس (الأجانب) فكان أساسها على العكس عادات التجار وعادات أناس من بلاد مختلفة نزلوا رومية وهي عادات سالمة من كل شائبة ووهم وطني أخذت بكرور الأيام وأقرها الاختبار قروناً كثيرة. ورأى القوم كيف كانت الحقوق القديمة مخالفة للعقل. فقد جاء في بعض الأمثال الرومانية أن الحق الناصع هو الذي تفضه سلطة عليا ظالمة وعلى هذا أنشأ قضاة الوطنيين نفس القواعد التي كان قاضي الأجانب يجري عليها في محكمته.

مثال ذلك أن القانون الروماني يقضي أن يرث الأقارب من الذكور فقد إلا أن القاضي دعا الأقارب من النساء أن يشتركن في الإرث. ويقضي القانون القديم بأن لا يكون المرء صاحب ملك إلا إذا قام بالاحتفال في المبيع فاعترف القاضي بأنه يكفي المبتاع أن ينقد البائع ثمن ما ابتاعه وأن يضع يده على الملك حتى يعد مالكاً ـ وأنت ترى أن حقوق الأجانب تغلبت على الحقوق المدنية وأبطلتها.

القانون المسطر: أنشئت الحقوق الرومانية على عهد الإمبراطرة خاصة فأصدر الإمبراطرة الأنطونيون كثيراً من الأوامر واللوائح وكانت هذه رسائل تصدر عن الإمبراطور جواباً عن الموظفين الذين يستطلعون طلع أرائهم فيساعدهم على القيام بهذا الإصلاح القضائي أناس من المتشرعين عندهم وظل بعض المشرعين في أوائل القرن الثالث زمن من حسنت سيرتهم أو ساءت من الإمبراطرة يضعون القوانين الجديدة في الحقوق ويصلحون ما وجدوه منها قديماً ومن أشهرهم بابنين وأوليين ومودوستين وبولس فإن تآليفهم هي التي كانت أساساً للحقوق الرومانية بعد.

وهذه الحقوق التي نظمت في القرن الثالث لا شبهة بينها وبين الحقوق الرومانية القديمة بحال من الأحوال إذ القديمة لمن تكن ترحم الضعفاء فاقتبس المتشرعون أفكار فلاسفة اليونان ولا سيما الرواقيين منهم وذهبوا إلى الحرية حق طبيعي لكل من يولد حراً أي أن العبودية مخالفة للطبيعة ولذلك رأوا أنه يحق للعبد أن يطلب إنصافه حتى من سيده وأن هذا إذا قتل عبده يجب أن يعاقب عقاب القاتل وكذلك حموا الولد من ظلم أبيه.

وهذا القانون الجديد هو الذي سموه بعد بالقانون المسطور وهو الحقيقة في قانون جروا فيه مع الفلسفة على نحو ما يأمر به العقل الناس كافة ولذا لم يبق في أثر للقانون الجائر المعروف بقانون الاثنتي عشرة لوحة. فليس القانون الروماني الذي حكمت به بلاد الإمبراطورية بأسرها زمناً طويلاً ذاك القانون الذي لم يبرح بعضه داخلاً في قوانيننا بل هو قانون قدماء الرومان وضع بحسب عادات جميع الشعوب القديمة ونسج فيه على مثال الحكم المأثورة عن حكماء اليونان ثم مزج كل ذلك مزيجاً واحداً وكتبه أناس من الحكماء والفقهاء الرومانيين قروناً طويلة.

النصرانية

تعليم المسيح (عليه السلام): كان الإسرائيليون ينتظرون المسيح من نسل داود ملكاً لهم ومخلصاً فظهر عيسى في الناصرة في ولاية صغرى في الشمال اسمها الجليل لا تكاد نعرف بأنها يهودية. ولد من أسرة وضيعة تحترف بالنجارة. فسماه أتباعه من الروم المسيح أي الممسوح يعنون الملك الممسوح بالزيت المقدس كما دعي السيد والرب المخلص. كلنا نعرف الديانة المسيحية. فيكفي إذاً أن نبين ما هي التعاليم الجديدة التي نشرتها في العالم. فقد أوصى المسيح أولاً بالمحبة فقال: إنك تحب الرب إلهك من كل جوارحك وفكرك وستحب قريبك كما تحب نفسك فجماع الشريعة وتعاليم الأنبياء داخلة في هاتين الوصيتين.

فمن الواجب محبة الغير وإسعافهم ومتى قضى الله بين عباده ويجعل على يمينه من أطعموا الجياع وسقوا العطاش وكسوا العراة. ويقول المسيح لمن يريد ابتاعه أولاً: إذهب فبع مالك وادفعه للفقراء ولقد كان القدماء يعتبرون الشريف والغني والشجاع هو الرجل الصالح إلا أن هذا الاسم تغير معناه منذ جاء المسيح فأصبح الرجل الصالح هو الذي يحب غيره. فعمل الخير هو محبة الغير والسعي في نفعهم. والإحسان (وهو باللاتينية مرادف للحب) أساس التقوى. وغدت لفظة محب مرادفة للفظة محسن. وضع المسيح تعليمه في الإحسان بدلاً من التعليم الإسرائيلي القديم في الانتقام فقال: عرفتم بأنه قيل العين بالعين والسن بالسن أما الآن فأقول لكم إذا ضربكم أحد على خدكم الأيمن فقدموا له الأيسر. وقيل أحبوا بعضكم وابغضوا عدوكم أما أنا فأقول لكم أحبوا أعداءكم وافعلوا الخير مع من يبغضونكم وباركوا لمن يضطهدونكم لتكونوا أبناء أبيكم الذي في السماء الذي ينزل المطر على العادلين والظالمين. حتى أن المسيح وهو على الصليب استغفر لجلاديه فقال: اعف عنهم يا رب فإنهم لا يعرفون ما هم فاعلون.

أحب المسيح الناس قاطبة ومات لا من أجل شعب واحد بل من أجل الإنسانية كلها. وما قط ميز بين الأشخاص فكلهم سواء أمام الله. ولقد كانت الأديان القديمة حتى دين إسرائيل دين شعب يحتفظ به ويكتمه بعناية احتفاظه بكنز ثمين دون أن تحدثه نفسه في تبليغه شعباً آخر فقال المسيح لتلاميذه اذهبوا إذاً وعلموا جميع الأمم.

وبعد ذلك قام بولس أحد الحواريين وقرر تعليم المساواة النصرانية بقوله: لم يبق أولون ولا آخرون كما لم يبق روم ولا يهود ولا مطهرون ولا قلف ولا برابرة ولا عبيد ولا أحرار فقد أصبح المسيح هو الكل في الكل.

كان القدماء يذهبون إلى أن الثروة تعلي شأن الإنسان وينظرون إلى أن الكبر عاطفة شريفة فقال المسيح: طوبى للفقراء فإن لهم ملكوت السموات من لم يتنازل عما يملكه لا يكون تلميذاً لي حتى أنه هو أيضاً كان ينتقل من مدينة إلى مدينة ولا سبد له ولا لبد وعندما كان تلاميذه يهتمون للمستقبل كان يقول لهم: لا تقلقوا لما تأكلون ولا لما تلبسون وألقوا بأنظاركم إلى الطيور في السماء فهي لا تزرع ولا تحصد ومع هذا فإن أباكم السماوي متكفل برزقها.

فعلى المسيحي أن يحتقر الثروة وأن يشتد في الازدراء بالعظمة. كان تلاميذه يتنازعون ذات يوم فيمن يكون له المقام الأول في السماء فقال: إن أعظمكم هو الذي يخدم غيره لأن من يرتفع يسقط ومن يسقط يرتفع وما زال البابا إلى اليوم وهو خليفة القديس بولس يدعى بخادم خدمة المولى. كان المسيح يؤثر أن يجتذب إليه المساكين والمرضى والنساء والأولاد بل والضعاف والمحرومين واختار حواريه من عامة الناس وكان يكرر على مسامعهم تلطفوا وألينو قلوبكم.

ملكوت الله: كان المسيح يقول أنه جاء إلى الأرض ليؤسس ملكوت الله. فظن أعداؤه أنه طامع في ملك وعندما صلب كتبت على صليبه هذه العبارة: يسوع الناصرة ملك اليهود وهذا كان خلاف ما يقصده. فقد صرح المسيح نفسه بأن ملكوتي ليس في هذا الأرض فلم يجيء ليقلب الحكومات ولا ليصلح المجتمع وأجاب من سأله فيما إذا كان يجب أداء الجزية للرومانيين بقوله: ادفع لقيصر ما لقيصر وأد ما لله لله. ولذا رضي المسيح بما رآه موجوداً وعمل على تهذيب نفسه وتكميلها لا على إصلاح المجتمع.

ولأجل أن يفوز المسيحي بمرضاة الله ويكون أهلاً لبلوغ ملكوته لا يقتضي له أن يقدم النذور ويقف عند حد ما رسمته الشريعة كما فعل الفريسيون اليهود أو عبدة الأرباب القديمة فإن المتعبدين الحقيقيين يعبدون أباهم بالفكر وبالحقيقة وكلمة المسيح هي جماع آدابهم وهي: كونوا كاملين مثل أيكم الذي في السموات فإنه كامل.

الحواريون ـ عهد إلى الاثني عشر حوارياً الذين كانوا ملتفين حول المسيح أن يبشروا بتعاتليمه في الأمم بأسرها. فدعوا بالحواريين المرسلين) سكُن معظمهم القدس ودعوا إلى ديننهم فقي أرض اليهودية. زكان المنتصرة الأول من الإسرائيليين.

وكان شاول أول من دان بالنصرانية وخف يحمل تعاليم هذا إلى أمم الشرق فقضي بولس (هو الاسم الذي اتخذه) حياته يطوف المدن اليونانية في آسيا الصغرى وبلاد اليونان ومكدونية داعياً إلى الدين الجديد لا الإسرائيليين فقط بل أبناء الأمم الأخرى قائلاً كنتم فيما سبق بدون المسيح بعيدين عن المحالفات والوعود وها قد التأم شملكم بدم المسيح لأنه هو لا يميز بين الشعبين وينظر إليهما كأنهما شعب واحد. ولم يعد من حاجة أن يكون المرء إسرائيلياً حتى ينتحل النصرانية فإن الأمم الأخرى التي نبذتها شريعة موسى قد تقاربت فيما بينها بفضل شريعة المسيح. وهذا الامتزاج هو بصنع القديس بولس ولذا سمي رسول الأمم.

كان المنتحلون للنصرانية بادئ بدءٍ من يونان آسيا الصغرى ثم تنصر كثيرون في جميع المدن الكبرى وأتى زمن طويل والطائفة المسيحية في رومية أيضاً مؤلفة من أبناء يونان. فاتنتشر دين المسيح أولاً ببطء على نحو ما بشر بذلك المسيح بقوله: يشبه ملوك الله حبة من الخردل فهي أصغر الحبوب ومع هذا يييينبت منها نبات أطول من جميع البقول فتؤدي طيور السماء إلى ظلها.

الكنيسة الأصلية ـ كان المسيحيوين في جميع البلاد التي نزلوها يجتمعون للصلاة جماعة وإنشاد أماديح المولى وللاحتفال بالعشاء السري وهي أكلة يتناولونها بالاشتراك تذكاراً الآخر أكلة للمسيح وتسمى اجتماعاتهم الكنيسة (المجلس).

ومن العادة أن يعامل المسيحيون في كنيسة واحدة بعضهم بعضاً معاملة الأخوة ويأتون بالعطايا لينفقوها على الأرامل والفقراء والمرضى. وأكثر رجالهم احتراماً بينهم الرهبان ومعنى ذلك القدماء يديرون شؤون الطائفة ويقومون بالفروض الدينية. ويتولى آخرون النظر في أملاك الطائفة وكانوا يدعون الشمامسة (الملاحظون) ثم كثرت أعمال الكنيسة حتى انقسم سواد المسيحيين إلى فرقتين إحداهما جماعة المكلفينة بالنظر في وظائف الطائفة وسموهم رجال الكهنوت (أي خدمة الرب) والباقون المؤمنين سموهم العامة (العلمانيين)

كان لكل مدينة كنيسة مستقلة فيقولون كنيسة أنطاكية وكنيسة كورنت وكنيسة رومية وكلها في الحقيقة كنيسة واحدة وهي كنيسة المسيح حيث كان يربط الجميع الاعتقاد بإيمان واحد.

فالاعتقاد العام أو الكاثوليكي كان هو المعول عليه دون سواه أما الآراء الخاصة (الهرطقات والإلحاد) فكان يحكم عليها بأنها أوهام وأغلاط.

وبقي الكتاب المقدس عند اليهود أي العهد القديم مقدساً عند المسيحيين وصار لهؤلاء كتب أخرى جمعتها الكنيسة في مصحف واحد وسمتها العهد الجديد.

فالأناجيل الأربعة تقص حياة المسيح والبشارة لما حمله من السلام وأعمال المرسل تذكر كيف انتشرت هذه البشارة في العالم. ورسائل الرسل هي رسائل أرسلها الحواريون إلى مسيحي العهد الأول والأبوكاليبسيس (رؤيا القديس يوحنا الإنجيلي أو الجليان) هو ما أوحاه القديس يوحنا إلى السبع كنائس في آسيا. كتبت جميع كتابات العهد الجديد باليونانية وهي اللغة التي كانت لغة المسيحيين إلى أواخر القرن الثاني وقد انتشر بين المسيحيين كثير من الكتب زعموا أنها مقدسة فرفضتها الكنيسة كلها وسموها بالمزورة.

الاضطهادات ـ اضطهدت الديانة المسيحية منذ ظهورها فكان اليهود أعداءها الأول واضطروا الحاكم الروماني في بلادهم إلى صلب المسيح ورجموا القديس اتين (الشهيد الأول) واشتدوا في طلب القديس بولس وكادوا يقتلونه ثم وقع الاضطهاد على النصرانية من الرومان فإن هؤلاء كانوا يتسامحون مع جميع الأديان لأن عبدة اوزيريس وميترا والربة الصالحة كانوا يعترفون بالأديان الرومانية مع أربابهم إلا أن المسيحية عبدة الله الحي كانوا يزدرون بالمعبودات الصغيرة القديمة بل أن الجريمة الكبرى التي تعد على المسيحيين في نظر الرومانيين أنهم كانوا يأبون عبادة الإمبراطور كما يعبدوا رب وأن يحرقوا البخور على مذبح ربة رومية.

وقد أصدر الكثير من الأباطرة أوامر إلى ولاتهم يأمرونهم بالقبض على المسيحيين وإعدامهم. وقد كتب بلين وكان والياً في آسيا إلى الإمبراطور تراجان كتاباً يدل على الطريقة التي كان يعامل بها المسيحيون قال: جربت الآن مع من اتهموا بأنهم نصارى على الطريقة الآتية وهي أن أسألهم عما إذا كانوا مسحيين فإذا أقروا أعيد عليهم السؤال ثانية وثالثة مهدداً إياهم بالقتل فإن أصروا أنفذ عقوبة الإعدام عليهم مقتنعاً بأن غلطهم الذين يعترفون به مهما كانت فظاعته وإن عنادهم الشديد وعدم طاعتهم يستحقان العقوبة.

وقد وجهت الشكوى إلى كثيرين بكتب لم تذيل بأسماء أصحابها فأنكروا بأنهم نصارى وكرروا الصلاة على الأرباب الذين ذكرت أسماءهما أمامهم وقدموا الخمر والبخور لتمثال أتيت به عمداً مع تماثيل الأرباب بل إنهم شتموا المسيح.

ويقال أن من الصعب إكراه النصارى الحقيقي. ومنهم من اعترفوا بأنهم نصارى ولكنه كانوا يثبتون بأن جريمتهم وخطأهم محصوران في أنهم اجتمعوا بضعة أيام قبل طلوع الشمس على عبادة المسيح على أنه رب وعلى إنشاد الأناشيد إكراماً له وتعاهدوا بينهم مقسمين على الإيمانيات لا على ارتكاب جريمة بل على أن لا يسرقوا ولا يقتلوا ولا يزنوا ويوفوا بوعودهم. ورأيت من الضرورة للوقوف على الحقيقية أن أعذب امرأتين أمتين دعوهما خادمتي الكنيسة بيد أني لم أقف على شيء اللهم إلا ما كان من خرافة سخيفة مبالغ فيها.

وعلى هذا فقد كانت الحكومة هي المضطهدة إلا أن العامة في المدن الكبيرة كانوا أكثر اضطهاداً للمسيحيين فلم يكونوا يتسامحون مع هؤلاء الذين يعبدون إله أخر غير أربابهم ويحتقر هذه الأرباب. وكنت تسمع القوم إذا وقع قحط ومجاعة ووباء يهتفون هتافهم الذي اشتهر آمره النصارى للأسود والشعب يكره الحكام على البحث عن المسيحيين ومطاردتهم.

الشهداء ـ هلك ألوف من المسيحيين في خلال قرنين ونصف نالهم فيها الاضطهاد في طول المملكة الرومانية وعرضها وكان الهالكون من كل سن وجنس وطبقة.

فالوطنيين الرومانيين تضرب أعناقهم كما جرى للقديس بولس والباقون يصلبون ويحرقون وكثيراً ما يلقون للوحوش الكاسرة تنهشهم. وإذا أبقوا عليهم يبعثون بهم إلى الأعمال الشاقة في المناجم وكثيراً ما كانوا يبالغون في عقاب النصارى بإيجاد وسائل لإهلاكهم من كل نوع. ففي المقتلة العظمى التي وقعت في ليون سنة 177 أخذ المسيحيون بعد أن عذبوا وسجنوا في مطبق ضيق إلى الملعب فأخذت الحيوانات الكاسرة تمزق أوصالهم ولا تقتلهم ثم أجلسوهم على كراسي من حديد محماة بالنار. وإذ قاومت فتاة من الإماء اسمها بلاندين أن تعذب على هذه الصورة جعلوها في شبكة ووضعوها أمام ثور غضبان.

وكان المسيحيون يتلقون بسرور هذا التعذيب الذي يفتح لهم أبواب السموات ويرون فيه وسيلة إلى الإستشهاد علناً في حب المسيح ولذلك كانوا يسمون أنفسهم بالشهداء أي الشهود لا بالمنكوبين وعقوبتهم شهادة. بل أنهم كانوا ينظرون إلى تعذيبهم نظرة نظرهم إلى قتال الألعاب الأولمبية ويرون أنهم كالمصارع الظافر ينالون الفخار والتاج. وما برحوا حتى اليوم يحتفلون بعيد الشهداء وأعيادهم موافقة للأيام التي قتلوا فيها وكثيراً ما كان أحد من يحضرون تعذيب أحد الشهداء يكتب قصته وكيفية توقيفه واستنطاقه وتعذيبه وعقوبته وهذه الكتابات على اختصارها طافحة بالعبرة وكانت تسمى أعمال الشهداء وتنتشر حتى بين الطوائف البعيدة من أقصى المملكة إلى أقصاها وما هي إلى مرددة المجد الذي أحرزه المعترفون بالإيمان الصحيح وداعية إلى الترغيب في الجري على مثالهم.

ولقد حدا حب الشهادة بألوف المسيحيين بأن يعلنوا أمرهم بأنفسهم ويطالبون بالحكم عليهم وأمر أحد حكام آسيا ذات يوم بإلقاء القبض على بعض مسيحيين فجاء جميع منتصرة المدينة يتقدمون للمحكمة طالبين إليها محاكمتهم.

فاستشاط الوالي غضباً فقتل بعضهم وطر الآخرين قائلاً: ارجعوا أيها الأسافل إن كنتم تحرصون كثيراً على الموت فهل عندكم قبور تسعكم وحبال تقيدكم.

وكان بعض المسيحيين يدخلون المعابد ويقلبون فيها أصنام الأرباب ليكونوا على ثقة أنهم يشنقون حتى قضت الحال أن تمنع الكنيسة مرات تعرض النصارى لنيل الشهادة.

الدياميس ـ كان المسيحيون ينكرون العادة القديمة في إحراق الموتى فأخذوا يدفنون موتاهم كاليهود في نواويس بعد أن يكفنوهم في أكفان فاحتاجوا إلى قبور. وإذا كانت الأرض غالية الثمن جداً نزل المسيحيون إلى تحت الأرض وحفروا في الأرض الرخوة التي كانت رومية قائمة عليها دهاليز طويلة وغرف أرضية وهناك كان المسيحيون في مقاصير حفروها على طول الحواجز يدفنون موتاهم وإذا أخذ كل جيل يحتفر لنفسه دهاليز جديدة صارت مع الزمن مدينة أرضية سموها الدياميس. ومثل هذه الدياميس كان نابولي وميلان والإسكندرية إلا أن أشهرها كان في رومية. وقد فتحت في أيامنا فرأوا فيها ألوفاً من القبور والكتابات النصرانية وباكتشاف هذا العالم المدفون تحت الأرض نشأ فرع جديد من فروع العلوم التاريخية وهو علم الكتابات والآثار النصرانية. وقد شوهد أن قاعات المدافن في الدياميس منقوشة برسوم بسيطة وصور ولكنها تمثل مشاهد واحدة إلا قليلاً وهي أن تصور المؤمنين من المسيحيين في الصلاة أو الراعي الصالح وهو رمز للمسيح. وكانت بعض هذه القاعات أشبه بالمعابد وفيها دفنوا جثث القديسين الشهداء والمؤمنين الذين رغبوا في أن يدفنوا في جوارهم وكانوا يأتون كل سنة لتناول الأسرار. وكثيراً ما التجأ المسيحيون في رومية خلال اضطهادات القرن الثالث إلى هذه الكنائس الأرضية للقيام بصلواتهم أو للفرار من الطلب عليهم.

قسطنيطين

تغلب النصرانية ـ مضى القرنان الأولان للميلاد والمسيحيون ضعاف الشأن في الإمبراطورية الرومانية وجمهورهم من السوقة والعملة والعبيد المعتقين والعبيد ممن يضعون في غمار الناس بالمدن الكبرى وقد مضى زمن والطبقة العالية تنكر وجودهم حتى أن سويتون في القرن الثاني لما تكلم في تاريخ القياصرة على المسيح قال أنه رجل اسمه كريستوس يلقي الاضطراب بين سكان رومية. ولما أخذ الأغنياء والأدباء يعنون بأمر الدين الجديد لم يكن ذلك منهم إلا ليهزؤوا به ولا يذكرونه إلا أنه دين فقراء وجهلة. وإذ جاء النصرانية لمساكين هذا العالم بأن وعدتهم الجزاء عن هذه الحياة في الآخرة كثر أشياعها والقائلون بالتدين بها ولم تحل الاضطهادات دون انتشارها بل قوتها وبعثت كلمتها فقد كان المسيحيون يقولون بأن دم الشهداء بذر للمسيحيين ولقد ظل الاهتداء إلى النصرانية ينتشر خلال القرن الثالث كله بين رجال الأسرات الكبيرة لا بين الفقراء فقط وما جاءت أوائل القرن الرابع إلا وقد أصبح الشرق كله أي البلاد التي تتكلم باليونانية مسيحياً بأسره.

وكانت هيلانة أم الإمبراطور قسطنطين مسيحية فجعلتها الكنيسة في مصاف القديسات ولما زحف هذا الإمبراطور على مزاحمه ملك رومية وصغ على علمه شارة الصليب وشعار المسيح وكانت الغلبة التي كتبت له غلبة للنصرانية فسمح للنصارى أن يقوموا بشعائر دينهم دون أن يعارضهم أحد بأمره الصادر سنة 313 ثم أخذ يعطف عليهم جهاراً. ومع هذا لم يتخل عن الدين القديم (الوثنية) فحينناً كنت تراه يرأس مجلس أساقفة المسيحيين كان يلقب بلقب الحبر الأعظم ويحمل على خوذته مسماراً من الصليب الحقيقي ونقوده منقوش عليها صورة رب الشمس. وقد أنشأ في القسطنطينية كنيسة نصرانية كما أنشأ معبداً تذكاراً لهذه الغلبة. ومضى نصف قرن كان فيه من الصعب معرفة دين المملكة الرسمي في الإمبراطورية.

تنظيم الكنيسة ـ لم يخطر في بال المسيحيين حتى في الأزمان التي نالهم فيها الاضطهاد أن يقلبوا كيان الإمبراطورية ومنذ بطل اضطهادهم أصبح أساقفتهم حلفاء للإمبراطور وعند انتظمت حالة الكنيسة بصورة قطعية على الصورة التي بقيت عليها إلى يومنا هذا. فصار لكل مدينة أسقف يقيم في الحاضرة ويقيم على المسيحيين التابعين لهل وتسمى الأرض الخاضعة لأسقف أبرشية. وكان في أقطار الإمبراطورية الرومانية أبرشيات وأساقفة على قدر ما فيها من مدن وهذا هو السبب الذي أجله كان الأساقفة كثيرين والأبرشيات صغيرة في الشرق وفي ايطاليا حيث كثر عدد المدن. وعلى العكس في مدن غاليا فإنه لم يكن بين الرين والبيرنيه سوى 120 أبرشية ومعظمها ما عدا أبرشيات الجنوب في الجسامة كولاية.

أصبحت كل ولاية مقاطعة كنائسية وسمي أسقف العاصمة وأسقف المركز بعد رئيس الأساقفة. وكثيراً ما ينظر إلى أسقف أعظم مدينة في بقعة بأنه أرقى الأساقفة في تلك الأرجاء وكان أساقفة المدن الرئيسية بالشرق في القدس وانطاكية والإسكندرية والأستانة يدعون بالبطاركة وفوقهم كلهم البابا أسقف رومية وهو الرئيس الأعظم في الكنيسة.

وفي هذا القرن أنشئت المجامع الدينية الكبرى فكان في آسيا الصغرى أولاً مجامع خاصة يجتمع فيها أساقفة ناحية من النواحي وكهنتها. وفي سنة324 دعا قسطنطين للمرة الأولى مجمعاً دينياً عاماً من أهل الأرض إلى مدينة نيقية في آسيا الصغرى فحضره 318 رجلاً من رجال الكنيسة فتناقشوا في المسائل اللاهوتية وانشؤا لاعتراف بإيمان الكاثوليك الذي سموه قانون نيقية وما زال المسيحيون ينشدونه إلى اليوم في قداس كل أحد. ثم كتب الإمبراطور إلى عامة الكنائس أن تتمثل إرادة المولى التي تجلت فيما أجمع عليه المجامع العام وكان هذا هو المجمع المسكوني الأول. وأصبحت القرارات التي تقررها المجامع شريعة ويجب على المسيحيين قاطبة أن يعملوا بها وسموها القوانين أو القواعد. ويتألف من مجموع هذه القواعد القوانين الكنائسية.

الملاحدة (الهراطقة) ـ نشأ منذ القرن الثاني بيم المسيحيين ملاحدة يخالفون في أرائهم السواد الأعظم من أبناء الكنيسة. وكثيراً ما اجتمع الأساقفة في بلد ليعلنوا للمؤمنين بأن المذهب الجديد باطل ويكرهوا مبتدعيه على الرجوع عنه وإذا أبى يخرجونه من الوحدة المسيحية. وقد يستجيش صاحب البدعة أعواناً يقتنعون بصحة دعوته فلا يرون الرجوع عما وافقوه علية ويظلون يدينون بمحاكم المجمع برده من الآراء. ومن هنا نشأت العداوات والفتن الشديدة بينهم وبين المتعلقين برأي الكنيسة (الأرثوذكس) وإذا كان المسيحيون ضعافاً ومضطهدين لم يتنازعوا بينهم إلا بالكلام والكتابة ولكن لما أصبحت البلاد مسيحية كلها استحال النزاع بين المسيحيين والمخالفين منهم في بعض الآراء إلى اضطهاد الملاحدة وكثيراً ما تنشب منه حروب أهلية.

وتكاد تنشأ جميع البدع في ذلك العهد بين يونان آسيا ومصر على يد أناس من الأذكياء والسفسطائيين والمجادلين وقد نشأت تلك البدع في العادة من محاولة فهم أسرار التثليث والتجسيد. وكانت بدعة آريوس أقوى جميع البدع فمن مذهبه أن الله الأب خلق المسيح وليس هو مثله فحكم المجمع النيقي بتبديعه ولكن مذهبه انتشر في بلاد الشرق عامة. ومنذ ذاك العهد ظل الكاثوليك والآريوسيون يتنازعون بينهم أيهم يستأثر بالسلطة في الكنيسة والحزب الأقوى يعزل وينفي ويحبس وأحياناً يذبح زعماء الحزب المخالف.

ومضى زمن والقوة للآريوسيين وتحزب لقولهم عدة من الأباطرة ثم أن الآريوسية كانت تقوى بكثرة دخول البرابرة في الإمبراطورية وتمذهبهم بهذا المذهب ومعاضدتهم لأساقفته. فقضى الكاثوليك زهاء مائتي سنة حتى قضوا على هذا المذهب المبتدع.

أواخر أيام الإمبراطورية

لما ذبح الجنود أخوة قسطنطين وأبناء أخته سنة 328 أفلت منهم طفل في السادسة من عمره اسمه جولين فجعله الإمبراطور نسيبه في أقاصي آسيا الصغرى ورباه على يد قسيسين مسيحيين فبعث به هؤلاء إلى قبر الشهداء ينشد المزامير ويتلو الكتاب المقدس أمام الشعب ولما شب رخص له بالقدوم إلى الأستانة فانشأ يدرس كتب بلغاء الروم وفلاسفتهم وأولع بأحد الفلاسفة الأفلاطونيين فانصرفت نفسه عن النصرانيين. وأتم دروسه في أثينا وتعلم فيها أسرار معبد أوزيس بأنه من أشياع الدين القديم علناً وأخذ يحتفل بعبادة الأرباب فلقبه المسيحيون بالمرتد.

كان جولين أخر من بقي حياً من الأسرة الإمبراطورية وإذ لم يكن للإمبراطور قسطنطين وارث يرثه غير هذا أجمع أمره على أن يلقبه باسم قيصر وبعث به قائداً على جيش غاليا (355) وكانت البرابرة قد هاجمت هذه البلاد وجاءت عصابة من الألمانيين على مقربة من مدينة أوتون. وإذ لم يكن لجولين خبرة بالحرب انصرفت همته إلى درس الفلسفة فصرف شتاءً بطوله في تعلم صناعة الكر والفر وأنشأ يريض نفسه ويتمرن ويتلو سيرة مشاهير الغزاة فلما تم له ذلك حمل على الألمان في جيش صغير من المشاة الرومانيين والفرسان البرابرة فكتب له الظفر في حملته الثانية في سهل بالقرب من مدينة ستراسبوغ وركب أكتاف الألمان ورجعوا يجتازون نهر الرين (357) وقضى جولين في غاليا ثلاث سنين أخرى وجعل مشتاه في بلدة لوتيس حاضرة الشعب الباريزي وهي مبنية في جزيرة من جزر السين وكان يدعوها (لوتيس المحبوبة) وهو أول من وصفها.

وفي هذه المدينة أتاه أمر الإمبراطور أن يبعث إليه بقسم من جيشه إلى الشرق ليقاتل البارثيين الذين داهموا بلاد الإمبراطورية فلم يرد الجند أن يبتعدوا عن بلادهم إلى مثل تلك القاصية وأبوا أن يقاتلوا ثم أخذوا جولين ورفعوه على ترس (وكان هذا الأسلوب هو الذي يجري عليه المحاربون الجرمانيون في مبايعة ملوكهم) وحملوه وهم ينادون جولين أغسطس.

فكتب جولين إلى الإمبراطور يريده على أن يرتضيه رصيفاً له فأبى قسطنطين عليه ذلك فزحف جولين في جيشه على القسطنطينية وكان قسطنطين قد قضى نحبه قبل وصوله.

ولما خلا الجو لجولين وأصبح إمبراطور وحده أقام في الشرق وحاول أن يعيد الدين القديم (الوثنية) فأرجع إلى الكهنة أملاكهم ومناصبهم وأعاد تقديم النذور الأرباب بل أصدر أمره إلى المسيحيين بأن يرجعوا المعابد التي كانوا حولوها إلى كنائس.

وأنشأ يناهض النصرانية مباشرة وأبى أن يعين بعض المسيحيين في الوظائف وطرد المعلمين المسيحيين من المدارس قائلاً أنه لا يحق لهم أن يدرسوا كتباً يذكر فيها اسم الأرباب وهم لا يعتقدون فيها. وسعى إلى إعادة الدين القديم إلى حاله بأن عهد إلى الكهنة أن يقرؤوا على العامة مواعظ ودروس دينية إلا أن الزمن خانه فسافر في حملة على البارثيين وغلبهم وأصيب بسهم في إحدى المعارك. وقيل انه صرخ وهو يجود بنفسه (لقد غلبت يا غاليي).

القضاء على الوثنية ـ لم يقض على دين السوقة القديم لأول مرة فقد اهتدى الشرق في الحال أما في الغرب لم يبقى مسيحيين إلا في المدن بل أن الأمة ظلت هنا تعبد الأصنام وذلك لأن الإمبراطورة الأولى المسيحيين لم يريدوا أن يقضوا القضاء الأخير على دين المملكة القديم بل كانوا يحمون القسيسين المسيحيين كما يحمون كهنة الأرباب يرأسون المجامع الدينية ويبقون أحباراً عظاماً.

وكان الإمبراطور فراسين سنة 384 أول من أبى بأن يلقب بالحبر الأعظم وإذ عم التسامح في ذاك القرن بدئ باضطهاد الدين الروماني منذ غدا غير رسمي.

وأطفئ الموقد المقدس الذي كان يشتعل في رومية منذ أحد عشر قرناً وطردت الكاهنات اللاتي كن في معبد فستا يوقدون النار كلما خمدت. واحتفل أخر مرة بالألعاب الأولمبية في بلاد اليونان سنة 394 وعندئذ خرج النساك في مصر من الصحراء لينقضوا مذبح الأرباب المزورة ويجعلوها بقايا في قبور أنوبيس وسيرابيس. وقام وأرسل الأسقف السوري في مقدمة عصابة من الجند والمشعوذين فخرب معبد المشتري في أفامية. وأنشأ يجوب البلاد ويخرب المزارات فقتله الفالحون فجعلته الكنيسة من القديسين.

فما هو إلا قليل حتى لم يبقى عبدة أوثان إلا في القرى يأوون إليها فراراً من المراقبة وهم فلاحون ممن بقوا يعبدون الأشجار المقدسة والينابيع ويجتمعون في المزارات البعيدة.

وأخذ المسيحيون يطلقون اسم الوثنيين (الفلاحين) على من كانوا سموهم إلا ذلك العهد بالظرفاء وبقي ذلك الاسم يطلق عليهم. وهكذا اشتدت الحال على الوثنية في ايطاليا وغاليا واسبانيا إلى أواخر القرن الرابع وطوي بساطتها تحت طي السكوت.

التنظيم الجديد في الإمبراطورية

رومية والقسطنطينية ـ خرب الغرب وقل سكانه في القرن الثالث بما تواتر عليه من الحروب والغارات فأصبح الشرق اليوناني القسم المهم من الإمبراطورية. وكان ديوكلسين قد تخلى عن رومية وجعل عاصمته في نيكوميديا في آسيا الصغرى. أم قسطنطين فتوسع في الأمر أكثر من ذلك فأنشأ رومية جديدة في الشرق وكانت القسطنطينية على رأس من البحر لا يفصل أوربا عن آسيا غير خليج البوسفور الضيق في أرض كثيرة الكروم والغلات وتحت سماء صافية وأنشأ طواري من الروم مدينة بيزانس وكان لها من الإحكام ما يجعلها سهلة على الدفاع ومرفأها المعروف بقرن الذهب من أحسن مرافئ العالم يؤوي 1200 سفينة ويمكن سده بسلسة طولها 250 متر لئلا تتخطاه أساطيل العدو. فهناك أنشأ قسطنطين مدينته الجديدة القسطنطينية (مدينة قسطنطين) وجعل في أطرافها أسواراً عالية وأنشأ فيها ساحتين تحيط بهما أروقة. وأنشؤوا فيها قصراً وملعباً ودور تمثيل وأقنية وحمامات ومعابد وكنيسة مسيحية.

ونزع قسطنطين من المدن الأخرى ما كان فيها من التماثل والنقوش البارزة المشهورة ليزين بها مدينته ولأجل إسكانها نقل إليها سكان المدن المجاورة بالقوة وقدر مكافأت وألقاب تشريف للأسر الكبرى التي تنتقل إليها وقرر كما كان الحال في رومية توزيع الحنطة والخمر والزيت على الناس وتوفير المشاهد والفرج لهم.

فكان تأسيس تلك العاصمة من السرعة الغريبة على نحو ما يحب القوم في الشرق فبدأ العمل بذلك في 4 تشرين الثاني (نوفمبر) سنة 326 واحتفل بافتتاحها في 11 أيار (مايو) سنة 330 ولكن أسست بحيث تبقى على الدهر فقد صبرت القسطنطينية على هجمات المهاجمين عشرة قرون وبقيت بمقام عاصمة أبداً والمملكة الرومانية تمزق ولا تزال إلى اليوم أول مدينة في الشرق.

ولما ترك الإمبراطور رومية لم تعد مقر للحكومة وظل فيها مجلس أعيانها وإن لم تعد له سلطة وبقيت مزاراتها واحتفالاتها كما بقيت إلى أواخر القرن الرابع مركز الحزب الديني القديم.

القصر ـ أخذ الإمبراطورة الذين نزلوا الشرق في التعود بعادته وأنشؤوا يلبسون ثياباً إضافية من الحرير والقصب ويجعلون على رؤوسهم تاجاً مرصعاً باللؤلؤ ويتحجبون في قصورهم حيث كانوا يجلسون على عرش من ذهب يحف بهم وزرائهم ويفصلهم عن الناس جمهور من الحشم والخدم والموظفين والحرس.

وعلى من ينال شرف الحظوة من مواجهتهم أن يسجد أمامهم ويمرغ وجهه في الأرض علامة العبادة والخضوع ويطلقون عليهم ألقاب المولى والجلالة ويعاملونهم معاملة الأرباب وكل ما يمس أشخاصهم مقدس فيقولون القصر المقدس والغرفة المقدسة. ومجلس الإمبراطور المقدس والخزانة المقدسة.

فكان عيش الإمبراطور في الإمبراطورية الغربية (ايطاليا) من القرن الأول إلى الثالث شبيه بحياة حاكم أو قائد أما قصر الإمبراطور في الإمبراطورية الشرقية (القسطنطينية) فهو أشبه بقصر ملك فارس. وقد أطلق على طرقة الحكم في الإمبراطورية الشرقية اسم الإمبراطورية الواطئة معارضة لطريقة الحكم السالفة في القرون الثلاثة التي لقبوها بالإمبراطورية العالية.

الموظفون ـ أصبح الموظفون أكثر عدداً مما كانوا ويحف بالإمبراطور جيش صغير من الخاصة يحرسون قصره وهناك حرس ووكلاء وخدم ومجلس عالي وحجاب وسعاة وأمناء سر ينقسمون إلى أربع مكاتب. وأصبح الموظفون في الولايات أكثر سواداً إذ رأى الإمبراطور ديوكلسين الولايات متسعة فقسمها إلى عدة قطع ففي غاليا مثلاً قسم ولاية ليون إلى أربع واكيتين إلى ثلاث. وبعد أن كان في الإمبراطورية 46 والياً أصبح فيها 117 ثم فصلوا الوظائف فجعلوا مع الولاة والوكلاء قواداً عسكريين من دوقات وكنتية في الولايات الواقعة على التخوم.

وأصبح جميع الموظفين لا تصلهم أوامر الإمبراطور مباشرة فلا يخاطبون إلا كبار الموظفون رؤسائهم فيخضع الولاة لقائدي حرس القيصر والموظفون في الأشغال العمومية لحرس المدينة. وجباة الأموال إلى الكونت الذي يتولى الأعطيات المقدسة. والوكلاء للكونت المشرف على الأملاك والضباط إلى موالي الأجناد وجميع موظفي القصر يرجعون إلى مولى التشريفات وخدمة القصر إلى رئيس الخدمة المقدسة. وهؤلاء الرؤساء كالوزراء.

وهذه الطريقة لا يصعب علينا فهمها فقد اعتدنا أن نرى موظفين وقضاة وقواداً وجباة ومهندسين على اختلاف في أعمالهم التي يتولونها ولكل واحد عمله الخاص ويرجع أمرهم إلى ناظر هو رئيس ديوانه بل إن عندنا من النظارات أكثر مما في الأستانة. إلا أن هذه الإدارة الإدارية التي ألفناها لأننا نعرفها منذ الطفولة ليش فيها التباس ولا خروج عن حد الطبيعة. فقد كانت الإمبراطورية الشرقية أنموذجاً في هذا الباب واحتفظت به المملكة البيزنطية ومن ذلك العهد حاولت جميع الحكومات المطلقة أن تنسج على منوالها لأن في ذلك من التسهيل في العمل ما ينتفع به من يتولون أعمال الحكم.

المجتمع في الإمبراطورية الشرقية ـ كانت هذه الإمبراطورية هي الحد الفاصل في تاريخ الحضارة اجتمعت فيها سلطة الحاكم الروماني المطلقة مع فخفخة ملوك الشرق يتألف منها سلطة لم يكن بها عهد إلى ذلك العهد. وهذه السلطة التي لم يسمع بمثلها تأتي على كل شيء في يدها فلم يعد سكان الإمبراطورية وطنيين رومانيين منذ القرن الرابع بل صاروا يدعون باللاتينية الرعايا (الخاضعين) وبالرومية العبيد فكانوا كلهم من ثم عبيد الإمبراطورية ولكنهم يختلفون بالمقام وهم درجات في الشرف الذي يوليهم إياه مولاهم ويورثونه أبنائهم وإليك تلك المناصب حسب درجاتها.

1 ـ أشرف الأشراف وهم لأسرة الإمبراطورية.

2 ـ المشاهير وهم وزراء ورؤساء الدواوين

3 ـ المعتبرون وهم كبار أرباب المناصب.

4 ـ الممجدون وهم كبار الموظفين (ويدعون الأعيان).

5 ـ أهل الكمال.

ولكل صاحب شأن مقامه ولقبه ووظائفه. وأكثر الناس احتراما الندماء والموظفون حتى صح أن يدعى ذلك العهد عهد الألقاب والتشريفات. وما قط شوهد إلى حد تبلغ السلطة المطلقة إذا دعمها الجنون في الألقاب والميل إلى ترتيب كل أمر بالإكثار من القوانين وعليه فقد كانت الإمبراطورية الشرقية مثالاً تاماً لمجتمع يدار بالآلة الصماء ولحكومة فنيت في إرادة قيصرها فحازت أقصى ما يتطال إليه حتى اليوم أنصار السلطة المطلقة وسيكافح بعد أشياع الحرية زمناً طويلاً تلك التقاليد التي أبقتها إمبراطورية الشرق.

حكومة المدينة ـ لم يعتن الرومان بجباية الأموال الرعايا بأنفسهم بل كان الإمبراطور يكتفي ببيان الخراج المطلوب من كل ولاية (وذلك كل خمس سنين في الغالب) ويحدده كما يرد. ويعلم الوالي كل مدينة ما يجب عليها أداؤه. فحكومة المدينة هي التي تقدم المبلغ المطلوب. وما دامت المدينة غنية يجبي الوالي خراجها موزعاً له بين السكان فإذا عجزوا عن الدفع يتحتم على من تولوا الخراج أن يسددوا العجز لأنهم مسئولون عن الخرج وخزانة الإمبراطورية لا تتنازل عن حقوقها.

ولقد كان منصب الجباية حتى القرن الثالث مرغوباً فيه كأنه من أسباب الشرف فيعد الجابي في مدينته كأنه كعضو الشيوخ في رومية. وإذا افتقرت البلاد يعود منصب الجباية من المناصب التي تكسر متوليها فترهق النفوس في توليتها.

فرأى الإمبراطرة أن يسنوا قانوناً لعقاب من يأبى جباية الخراج فصار الجابي يتولى ذلك رغم أنفه ويجب على كل من يملك خمسة وعشرين فداناً من الأرض أن يكون أحد الجباة طوعاً أو كرهاً.

وكثير من الجباة كانوا يؤثرون أن يخرجوا عما يملكون من الأراضي ويهربوا ويدخلوا في سلك الرهبنة والخورنة أو الاستخدام والجندية. أصدر الأباطرة أوامرهم بالبحث عن هؤلاء الفارين وأن يعادوا إلى مدنهم بالقوة. وقد جاء في أحد القوانين المسئولة أنهم عبيد الإمبراطورية.

فكانت الحكومة تحاول أن تبقي محابس الشيوخ في المدن على هذه الكيفية وإذا كانت تخرب بيوتهم بخراجها أصبح عدد الجباة أبداً في قلة. وكان مجلس الشيوخ يتألف على عهد الإمبراطورية الغربية من مئة عضو. وفي القرن الرابع نشبت فتن في إحدى الولايات فأمر أحد الأباطرة أن يأتوه برؤوس ثلاثة من الجباة من كل مدينة فكتب إليه الوالي (ليسع حلمكم أن يقرر ما الذي يجب أن نعمله في المدينة التي ليس فيها ثلاثة من الجباة).

المستعمرون ـ وقع في الإمبراطورية الرومانية مثلما وقع في عامة المجتمعات القديمة مثل إسبارطة ويونان وايطاليا وهو أن يضمحل الأحرار ويخلفهم العبيد ويبقى في القرى ما يكفيها من الحراثين. لا جرم أن المدينة الرومانية لم تخرب بل كانت أخذة بالنماء. فقد كان عدد الوطنيين في القرن الأول زهاء مليون نسمة وفي القرن الثالث صدر أمر الإمبراطور بمنح جميع سكان الإمبراطورية حق الوطنية فصار الوطنين الرومانيين يعدون بالملايين ويبدءون باضمحلال سائر سكان العالم بيد أن الحكم الروماني كان سبباً في اضمحلال شعوب المملكة كما اضمحل به من قبل أهل ايطاليا وكان يقتضي له كثير من الجنود وكثير من العبيد.

وبهذا الحكم يفلح الأغنياء ويصعب على صغار أرباب الأملاك أن يقفوا أمام الكبراء فيستخدمون في الجندية أو يخربون بيوتهم بأيديهم. ويقتني صاحب الأملاك الواسعة أراضيهم حتى أتى زمن لم يبقى في بعض البلاد غير أملاك واسعة يحرثها العبيد. وهؤلاء السكان من العبيد لا يتجددون فإذا عرض عارض من العوارض المألوفة إذ ذاك من مثل وباء وحرب وغارة برابرة وهلك جمهور من الحارثين في إحدى الأملاك تبقى الأرض بوراً.

فخلت القرى على التدريج ولا سيما ما كان على التخوم من الناس ولم بيقى سكان إلا في المدن بل صار في عدة أنحاء من المملكة قفار حقيقية خلت من السكان والعمران.

فانشأ الأباطرة يسكنون فيها عصابات من البربر ممن ضربوهم وأسروهم ليحيوا بهم موات تلك القرى. إلا أن هؤلاء البرابرة لا يملكون الأراضي بل يستعمرونها فقط مثل الهيلوتبين في إسبارطة ويقضى عليهم أن يبقوا في الأرض التي أنزلوا فيها لا يفارقونها ولا أولادهم بحال يؤدون إلى صاحب الأرض مالاً مقرر فمن ثم كانوا مستأجرين إلى الأبد بالقوة. وليس هذا النظام جديد بل كان في ايطاليا على عهد الإمبراطورية الشرقية أناس من الطوارئ من الأحرار الفقراء قيدوا أنفسهم في خدمة صاحب ملك عظيم لينالوا منه أرضاً يزرعونها. وزاد سواد الطوارئ زيادة كبرى لما ضموا إليهم الأسرى من البربر.

وهذه الطريقة الشديدة لم تكف في إحياء أمة لأن أولئك الحراثين كانوا يفرون أو يهلكون. وفي القرن الخامس بعد مرور الجيوش العظيمة من المخربين (داكيز وأتيلا) كان في أراضي المملكة فراغ كبير تعذر على الأباطرة أن يسدوه.

وبقي في غاليا واسبانيا وايطاليا وفي الغرب كله جزء من الأراضي بوراً لقلة العاملين فيها وأقفرت ولايات التخوم وقد اضمحل الشعب الروماني في جميع حوض الطونة من سويسرا إلى البلقان منذ القرن السادس فلم يكن في تلك البلاد إلا الأمم الجرمانية أو السلافية. حتى أن الفرنك لم يجدوا في البلجيك غير قفر.

البرابرة في الجيش الروماني ـ هذه الأراضي الخالية تستدعي سكاناً جدداً فكان البرابرة يحاولون على الدوام أن يتخطوها وما دام للحكومة الرومانية بعض جيش لا يصعب عليها أن تردهم على أعقابهم. إلا أن الأمر في التجنيد صار كالصعوبة كإيجاد المال. وألف سكان الإمبراطورية حياة السكون ولم يعودوا يهتمون بخدمة الجندية. حتى اضطرت الحكومة أن تطلب جنداً من كبار الأملاك فيأخذ هؤلاء بعض الطوارئ الذين يعملون في أراضيهم فكان هؤلاء المساكين المأخوذين بالقوة من وراء محاريثهم جنداً غير كفؤ للقتال. وغدت الجنود منذ القرن الرابع من الضعف بحيث لا تستطيع حمل الدروع واستعاضت عن الخوذ بالقبعات.

وبسلاحهم وزعمائهم ويدعون المحالفين وبلغ الإمبراطور أنه أخذ يقبل منهم في جيشه شعوباً برمتها مثل الوزيغوت والبورغند وكانوا اجتازوا التخوم بالقوة أحياناً ثم أثروا أن يكونوا في خدمته على أن يقاتلوه. فأصبحت إذ ذاك جيوش رومية مؤلفة من شعوب بربرية يقودها قائد بربري. ولفد كان الجيش الروماني الذي رد غارة أتيلا سنة 451 مؤلفا من الزيغت والبورتمند صار كثير من القواد الرومان منذ القرن الرابع سيلفانوس واريوكست أو معظمهم ف القرن الخامس (مثل ستيلكون ورسيمير وادواركو) من أصل بربري ولم تعد الإمبراطورية الرومانية محمية إلا بأناس من المحاربين البرابرة فاحتلها بعدهم أبناء جنسهم.