مجلة المقتبس/العدد 41/نكارتر

مجلة المقتبس/العدد 41/نكارتر

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 6 - 1909



الماسة المفقودة

كان نكارتر البوليس السري المشهور عند وقوع هذه الحادثة في مدينة دانفر من مقاطعة كولورادو، وقد دعاه إليها عمل مهم أنجزه فملأت الجرائد المحلية أعمدتها بذكر نكارتر وأعماله الغريبة ودار اسمه على الألسنة وتناقلته الأفواه.

وحين أنهى طعام الغذاء في أحد الأيام جلس في الغرفة مع معاونه باتسي وإذا بخادم الفندق أقبل عليه وسلمه رقعة زيارة قال له أن صاحبها يود أن يكلمه في الحال فأخذها البوليس وقرأ عليها اسم فيليب دلمار بصوت منخفض ثم التفت إلى معاونه باتسي وسأله هل سمعت بهذا الاسم قبلاً، فأبدى باتسي إشارة النفي، فتبسم نكارتر وقال إذن فلنغتنم هذه الفرصة للتعرف إلى هذا الرجل وقال للخادم أدخله لنرى.

وبعد هنيهة أقبل الزائر وهو ربعة في الرجال قد لوحت وجهه أشعة الشمس وكانت حركاته العنيفة تدل على أنه عرضة لاضطراب وانفعال شديد حتى أنه لم يفتكر بتحية البوليس عند الوصول بل صرخ قائلاً: يجب أن أستعيد ماستي المفقودة المدعوة (عين الشيطان).

فأجابه نكارتر: ذلك مما لا ريب فيه.

فقال باتسي ممتعضاً: حسناً يفعل هذا الرجل إذا تكلم عن الشيطان ذاته.

ولكن الغريب استتبع الكلام وقال ياللغرابة أليس من العجب أن أفقد عين الشيطان ماستي الثمينة، فقال البوليس بتأن حسناً ولكن اسمح لي أولاً أن أقدم لك نفسي فأنا نقولا كارتر من نيويورك.

فعض الزائر على شفته ثم قال:

وأنا فيليب دلمار، وإذا كنت لم أقم بالواجبات فأرجوك مغفرة لأنني أضعت صوابي حين فقدت ماستي العزيزة التي لا يقع عليها ثمن.

فقاطعه نكارتر قائلاً: تفضل واجلس ثم قص علينا قصتك بالسكينة التامة فإذا وجدت فيها ما يستحق العناية فأنا رهين أمرك.

فجلس دلمار على المقعد الذي أشار إليه نكارتر ثم ألقى على باتسي نظر مستفهم وقال أظن أن هذا الشاب مساعدك.

ـ نعم ومن أشد مساعدي ذكاءً ثم بعد أن تعارف الرجلان وتصافحا قال دلمار فلنعد الآن إلى حديث الماسة وأظن أنه يهمك أن تعرف تاريخها قبل أن تدخل في ملكي.

ـ لا حاجة لي بذلك فيكفيني أن أعرف منك كيف ومتى انتقلت هذه الماسة إليك.

ـ إنها دخلت في حوزتي منذ سنة تقريباً وكنت في تلك الآونة تاجراً في كلكتا فاتفق لي مرة أنني أنقذت حياة رجل برهمي له شرف أثيل وثروة جزيلة ودفعت عنه غائلة لصوص داهموه ـ ولست أفتخر بشجاعتي ـ ولكني أقول أني لحسن الحظ كنت حاملاً مسدسي وأنت تعلمون أن السلاح الجيد يفعل ما لا تفعله البسالة.

ـ ذلك مشهور ولكنه يتوقف على الساعد الذي يدير السلاح.

إنني أجيب على هذا ـ وأنا بريء من التبجح ـ إنني استعملته بمهارة فائقة، فإن اثني عشر لصاً هاجموا البرهمي في ضواحي المدينة ولم يكن هناك سواي فبادرت إلى نجدته مع أني لم أكن أعرفه قبلاً ولم أحتج في إنقاذه إلى شجاعة فائقة بل كفى لذلك أن أطلق النار ذات اليمين وذات اليسار وأن أعيد حشو مسدسي بأسرع ما يمكن فصرعت رجلاً بكل طلق ولا أستحق الإعجاب بهذا فإن اللصوص كانوا قريبين مني حتى لم يمكنني أن أخطئهم فقتلت خمسة منهم ومات السادس أثناء نقله إلى المستشفى وفر الباقون هاربين.

فابتسم نكارتر وقال له إذن فأنا لا أوثر أن أنازعك ما دام مسدسك في يدك لأنك تبلغ به ما تريد.

ـ دعنا من هذا فلو كان لي جرأة أن أستخدم مسدسي منذ ثمانية أيام ما رأيتني اليوم آتياً لأزعجك لأنني كنت أوقفت كقاتل، ولنرجع الآن إلى تتمة الحديث ففي اليوم الذي تلا الواقعة أتاني البرهمي إلى مخزني وكان يريد أن يقدم لي هدية دليلاً على شكره فأعطاني علبة صغيرة وقال لي أن ضمنها الماسة المعروفة في الهند بعين الشيطان ثم قال لي أن هذه الماسة ذات قيمة لا تقدر يا صاحبي وأشير عليك أن تبارح الهند بعد الآن فحياة الذي يملك هذه الماسة في خطر شديد لأن جميع الطبقات في الهند تعرفها وكثيراً ما أثارت المعارك الدموية في سبيل امتلاكها، ثم ذهب البرهمي وتركني ذاهلاً والصندوق في يدي وعندما فتحته وجدت فيه ماسة كبيرة الحجم جداً لم تقطع بعد وتكاد لا تعرف لها لوناً لشدة صفائها، وعندها لم أدرِ ماذا أفعل ولما استشرت كبار الجوهريين في كلكتا وأخبروني عن قيمتها الحقيقية تهت عجباً ولم تعد حياة تاجر في الهند تطيب لي فبعت مقتنياتي وعدت إلى الولايات المتحدة آملاً بأن أقطع الحجر وأبيعه بأغلى ما يتيسر لي.

فسأله نكارتر وهل تقطن في كولورادو؟

ـ لا، إنني لم أقطن في مدينة بعد لأنني لم أترك الهند منذ أكثر من شهر وقد جئت من بوسطون إلى كولورادو.

قبل أن أنزح إلى الهند أقمت عدة سنوات في هذه البلدة عساني أوفق إلى حشد ثروة فاتخذت أصدقاء كثيرين وفي هذه الآونة لم يسمح لي قلبي أن أمر في مقاطعة كولورادو دون أن أذهب لزيارة أصدقائي القدماء.

وحين نمي إليّ أن اثنين منهما يقطنان هذه المدينة ألقيت فيها عصا التسيار.

وقد مضى على هذا أسبوع وفي اليوم التالي من وصولي دعوت صديقيَّ إلى العشاء في الفندق فلبّيا دعوتي وخصصت غرفة لنا فقط و. . . إن هذه لصدفة عجيبة أننا كنا جالسين في هذه الغرفة عينها ذلك اليوم المشؤوم.

فقال البوليس إن الأمر ذو شأن خطير، إنك ولا ريب أريت الحجر الكريم إلى أصدقائك.

ـ نعم وأسفاه.

ـ إذن فأخبرني بالتدقيق عن المدعوين الذين حضروا العشاء.

ـ حباً وكرامة، كانت المنضدة الطاولة موضوعة في الزاوية حيث يجلس المسيو باتسي الآن، وكان الخادم قد وضعها أولاً في وسط الغرفة كما ترونها الساعة ولكنني نقلتها من موضعها لأنه كان يمكن القاطنين في الجوار أن يروا كل ما نفعله لو بقيت المنضدة في محلها فغيرت وضعها وجلست قرب هذين الزرين اللذين تراهما في الحائط وأنت تعلم أن الذي دعاني إلى وضع المنضدة هنا قصصته عليك لأنك تود أن تعرف كل ما جرى بالتفصيل وعندما وصل أصدقائي الثلاثة نهضنا إلى المنضدة.

فقاطعه نيكارتر وقال له هل كانوا ثلاثة إنك لم تذكر لي حتى الآن سوى اثنين منهما.

ـ هذه هي الحقيقة ولكن واحداً منهما أحضر معه شريكه الأعمى فجلست قرب الحائط حتى يسهل عليّ استدعاء الخادم بتحريك اللولب وجلس أمامي كراب الرجل الأعمى وكان عن يميني شريكه ماتيو وعن يساري صديقي المدعو دونلسون.

ـ أرجوك أن تعرفني بأسماء أصدقائك الأولية.

ـ فرانك ماتيو وجورج دونلسون أما كراب فأظن أنه يدعى يوحنا.

ـ فردد البوليس لفظة جورج دونلسون وهو يلتفت إلى معاونه باتسي الذي كان إلى جانبه ثم سأل دلمار ما هي صنعة هذا الرجل.

ـ يقوم بمشاريع كثيرة يؤمل منها أن يكتشف مناجم غاز.

ـ حسناً كنت ظننت أنه هو وتراني مسروراً جداً لأنني أسمع عنه شيئاً.

فتعجب دلمار وسأل نكارتر قائلاً وهل كنت تعرفه قبلاً؟

كلا ولكنني أود كثيراً أن أتعرف إليه وسنتكلم عنه فيما بعد. . . أرجوك الآن أن تتمم حديثك.

والذي دفع نكارتر إلى السؤال عن دونلسون هو أن هذا الأخير كان له ضلع في كثير من الجرائم الفظيعة من قتل وسرقة بالتحريض والإغراء دون أن يعلم بها البوليس وكان هذا الداهية المحتال ينسل من وصملتها ولو علم بها البوليس لقادته إلى السجن أو إلى الكرسي الكهربائي (آلة الإعدام).

وكان نكارتر وباتسي هما الوحيدان اللذان قدرا أن يكتشفا أسرار فعلته، ولكنهما لم يكشفا أمراً آملين أن يقبضا يوماً على الشرير ويدعما شكواهما عليه بالبراهين الجلية.

ثم عاد دلمار واستأنف حديثه فقال: وانتهى العشاء كما تنتهي الولائم في الفنادق عادة وبعد أن رفع الخدم المائدة وقدموا القهوة واللفائف السكاير وخرجوا أخرجت الماسة من جيبي، فتناولتها الأيدي والكل يعجبون بها وسمع كراب الأعمى ذلك وإذ لم يكن قادراً أن يبصرها أراد أن يمسها على الأقل، وبعد أن جسها وضعها بقربي على المنضدة آه إني أذكر كل حركة جرت عندئذ فقط نظرت كراب المسكين يقلب وعاء السكر عند ما مد يده ليناولني الحجر الكريم وسمعت تنهده حين وضعه أمامي، وبقي على المنضدة هنيهة يسيرة يسألني في أنثائها أصدقائي ألف سؤال عن تاريخ هذا الحجر فلم أجد مانعاً من إخبارهم بكل ما جرى فقصصت عليهم كل ما أعرفه من تاريخ الماسة وكيف اتصلت بي. . قصصت عليهم كل هذا بإخلاص وبساطة شأن الأصدقاء.

وأخيراً فرغت الأقداح فضغطت على زر الجرس الكهربائي لأستدعي الخادم وكان في نيتي أن أقدم إلى المدعوين قدحاً من الكونياك الفاخر، ومع هذا فلم أولِ أصدقائي ظهري تماماً لأنني لم أشأ أن أحول نظري عن الماسة ولكن لنكد طالعي ضغطت على زر الكهربائية وللحال استولى على الغرفة ظلام دامس لم يستمر بضع ثوان أعدت في خلالها المجرى الكهربائي ولو قدر لي أن أعيش مئة سنة لم أنس اليأس الذي أخذ بخناقي عندنا ألقيت نظري على المنضدة فوجدت الماسة قد اختفت.

وحين وصل دلمار إلى هذا الحد من حديثه أمر يده على جبهته وانقطع عن الكلام فقال نكارتر لو لم تأتِ إليّ اليوم وتقص عليّ هذا الخبر لكنت أقول أن أحد أصدقائك سرق الحجر.

فقال دلمار هذا هو فكري بتمامه.

فأجاب نكارتر نعم ولكنك إذ لم تفتشهم حالاً صار الواجب علينا أن نسلم أن اختفاء الماسة سر غامض.

فسأل دلمار وكيف هذا إنني لا أفهم شيئاً.

فقال نكارتر إن المسألة واضحة كل الوضوح وهو أن رجلاً يجيد استعمال المسدس مثلك كان من الواجب عليه أن لا يدع شيئاً ثميناً كهذا يفقد من دون أن يطلق طلقاً أو ينبس ببنت شفة بل كان يفتش حالاً في الموضع الذي وضع فيه الحجر فإن الحجارة الكريمة لا تسرق نفسها على ما أعلم.

فقال دلمار إنني أخبرتك أنني حزين لأنني لم أعمد إلى المسدس فقد أخرجته من جيبي ولكني لم أطلق النار، على أن الماسة اختفت كما قلت بطريقة غامضة خفية للغاية فإنها لا تسرق نفسها كما قلت وبالتالي فلم أجد طريقة أوضح فيها هذا الإبهام.

ـ فأخبرني بالتفصيل والتدقيق عما أجريته عندما فقدت الماسة.

ـ إذن فاسمع أول ما وقعت الحاظي على ماتيو وكانت يده على شفتيه تنتزع السيكار الذي كان يدخنه دون انقطاع، وكانت مظاهر الدهش تعلوه فعزوت هذه المظاهر إلى ما ناله من سرعة فقد الماسة وكانت يده اليمنى على المنضدة.

وكان دونلسون يرسل إليّ لحظاً لم يسرني فاشتبهت به للحال ويعسر عليّ أن أصف هيئته وصفاً مدققاً ولكنني أذكر ما يلي، كانت عيناه موجهتين إلى موضع الماسة تواً وكانت يده اليسرى قابضة على المنشفة ومضطربة بفعل عصبي ويده اليمنى موضوعة على زجاجة خمر فارغة وكان جالساً على كرسيه في المؤخرة بعيداً جداً عن الطاولة، أما كراب الأعمى فكان على شفتيه كأس ماء وكانت عيناه متجهتين إلى القدح ونظرت رماد سيكارته تتساقط على المنشفة بينما كان يشرب الماء، وكل هذا أذكره تماماً، ثم وضع القدح على المنضدة وكان في بقية ماء اضطربت ثواني قليلة ثم سكنت.

ـ إن وصفك تام مدقق فلننظر الآن في شأن دونلسون وقد قلت لي أنه كان بعيداً جداً عن المنضدة.

ـ نعم وكانت نظراته تشف عما في صدره.

ـ يظهر أنه اغتنم فرصة الظلام فسرق الماسة أليس كذلك؟

كان ذلك كما تقول، وكان له هيئة تشبه هيئة الثعلب الذي سقط في فخ.

ـ وهل كان جالساً على مقعده بدون اهتمام عندما أظلمت الغرفة؟

ـ أظن ذلك.

ففكر البوليس لحظة ثم قال:

يمكنني أن أتصور الآن كيف جرت الحوادث فإن دونلسون نظر اختفاء الماسة.

ـ لا لا قال دلمار وكان يتزايد اضطرابه العصبي أنا لا أعتقد بهذا ولكنني أظن أن دنلسون هو السارق وهذا الشك يتزايد في خاطري فقال له نكارتر أملك روعك فإنك قد قصصت عليّ الأخبار بدقة وتفصيل نادر فلا تشوش حديثك بالاضطراب.

فلنفكر بكل هذه الشؤون ولنمعن النظر فيها بهدوء وسكينة.

فتضجر دلمار وقال سأبذل جهدي لاتباع نصيحتك فماذا تريد أن أخبرك الآن؟

ـ أريد أن تخبرني ماذا قال أصدقاؤك عندما ألقيت الشبهة على أحدهم وماذا صنعوا ليعينوك على اكتشاف السارق؟

ـ فقال دلمار إنني نظرت إلى دونلسون فوجدت ألوانه متغيرة لأنه لحظ أنني أتهمه بالسرقة.

فقال لي لا توجه إليّ هذه النظرات يا دلمار.

ـ إنني لا أحب هذا النوع من اللهو، قلت هذا بصوت أجش وألقيت عليه نظرات لا تسر.

ونظرت أيضاً إلى ماتيو ثم قلت:

فلتعاد إلي ماستي إن المسألة خطيرة أكثر من أن تجعل موضوعاً للهو والمزاح فالذي أخذ الماسة عليه أن يعيدها حالاً إلى موضعها وفي هذه اللحظة دخل كراب في المحادثة وقال والدهشة بادية على وجهه ماهذا وماذا جرى؟

فأوضحت له بكلمات قليلة أن ماستي فقدت في اللحظات القليلة التي استحوذ فيها الظلام على الغرفة وأن أحد أصدقائي قد سلبها وكان هذا الرجل لم يعلم إلى تلك الساعة شيئاً من القضية حتى أنه ربما لم يشعر بانطفاء النور فكان من الواجب عليّ أن أوضح الأمر وعندئذ أخذ الثلاثة يتكلمون سوية.

فقال كل من دونلسون وماتيو إنني لم آخذها يا دلمار بينما كان كراب يقول إن هذا النوع من المزاح مسيء جداً وأنه شعر بما أحاق بي من الكدر الشديد.

ويمكنكم أن تتصوروا ما ألم بقلبي من الأشجان، فلم يكن من الممكن أن تتصاعد الماسة في دخان السيكارات، كنا أربعة في الغرفة وإذ لا يحتمل أن أسرق نفسي كان من الضروري أن يكون السارق أحد الثلاثة، إن فقدان الماسة أثر بي تأثيراً شديداً ولكن شعوري بأن هذا العمل المعيب صدر من أحد أصدقائي كان أشد إيلاماً لي.

ولما لم أستفد شيئاً من ذلك نهضت ووضعت يدي على طرف المنضدة وقلت لأصحابي اصغوا إليّ واسمعوا جيداً إنني أفادي بكل شيء في سبيل استبقاء أصدقائي القدماء ولكنني مضطر أن أوضح لكم أنه إذا لم تعد الماسة في عشر ثوان إلى موضعها من المنضدة فإني عندئذ أعتبركم أعداء لي وأعاملكم معاملة الأعداء.

فلم يتحرك أحد منهم.

عشر ثوان لا تحسب شيئاً أليس كذلك يا مسيو كارتر ولكنني استطلتها كالدهر وحبست نفسي حتى انقضت المهلة المعينة وكنت قد وضعت ساعتي أمامي ولاحظت عقربها وأنا أرتعش بنوبة من الحمى.

فقال ماتيو أنا لا أدخل في دائرة هذا الوعيد، ثم رمى لفافته ووضع يديه على صدره وقال إن هذا العمل الذي جرى لهو مكدر للغاية ولكنني أؤمل أنك لا تعتقد أنني قادر أن. . . . . .

فصرخ دونلسون وأنا أيضاً بريء كل البراءة.

وفي هذه الحالة بدأت بالكلام فقاطعني كراب الذي أثر بي اضطرابه وارتعاشه وقال: إنني لست صديقاً قديماً لدلمار فإذا كان فقد ماسته كما يدعي فالأولى أن تقع التهمة عليّ فقال ماتيو إذن يكون مجنوناً فكيف يمكنك أيها المسكين أن تسرق شيئاً وأنت على ما أنت عليه من العاهات والضعف.

فقال الأعمى بلطف من المؤكد أنني لم أسرق الحجر الكريم ولكن دعوني مع هذا أتكلم أنا عارف أن الشبهات يجب أن تقع عليّ بالأكثر، كما كنت أفعل لو كنت موضع دلمار ولهذا فأنا أرجوه أن يفتشني.

ثم نهض واقترب مني وهو يتلمس طرف المنضدة في مسيره.

وكنت أراقب الاثنين الآخرين فلما وجدت أنهما لم يتأثرا تلاشت صداقتي لهما ومرت كحلم وزاد في نفسي الريب فقلت لهما: أنا أعقل من أن أشك في هذا الأعمى أو يخيل لي أنه السارق ولكنني إذ رأيتكما لم تتأثروا ولم تتحركا فأنا عازم أن أتبع مقالته بالحرف.

فارتجف دونلسون وظهر الغضب على وجهه وصرخ هل تريد أن تشك بي؟

فقلت له بلهجة الآمر اجلس في محلك وللحال سحبت مسدسي ووجهته إليه وأنت تعلم يا مسيو كارتر أنني بالمسدس ذاته قد هزمت لصوص كلكتا ولم أنس طريقة استعماله بعد ثم ناديت دونلسون إياك والحراك وإلا فأنت هالك لا محالة فسقط على كرسيه وتناول لفافة شعلها ولم يقل شيئاً ثم عرفت بعد ذلك أنه لم يكن ناقلاً سلاحاً نارياً وكان ماتيو أعزل أيضاً ولكن كراب كان مسلحاً.

فصاح نكارتر آه وأي سلاح كان مع الأعمى إن هذا لغريب.

ـ مسدساً من أشهر المعامل.

فظهرت على محيا البوليس أمارات البغتة.

ـ هذا غريب أليس كذلك وقد فكرت ملياً في معنى وجود المسدس في جيب هذا الأعمى فقال لي وهو يتبسم أنه يصحب السلاح ليدافع عن نفسه إذا تعرض له أحد وأنه كثيراً ما يهزم عدوه بإطلاق النار في الهواء، ثم وضع مسدسه على المنضدة وطلب مني أن أفتش جيوبه كلها فأتممت ما طلبه بعد أن وضعت مسدسي على مقربة مني ليسهل عليّ استعماله إذا هم أحد الاثنين بنأمة ولكننا لم نصل إلى هذا الحد.

ولما لم أجد ماستي في جيوب الأعمى أعدت إليه بعض ثيابه التي كنت أخذتها ثم عاد إلى موضعه وهو يستعين بالارتكاء على طرف المنضدة والتفتّ إلى دونيلسون وقلت له قد جاءت نوبتك فانفض وهو مصفر كالميت، حتى خيل لي أنه لم يبق نقطة دم في عروقه وصرخ إن هذا لا يليق بي إنني لم آخذ ماستك وأنا لا أسمح لك أن تفتشني.

فم أجبه ولكنني رفعت مسدسي نحوه فتناول زجاجة فارغة من المائدة وأراد أن يرميني بها، وكنت أسرع منه فأطلقت النار، فأصابت رصاصتي عنق الزجاجة ومرت بين أصابعه وهو الرمي الذي وجهت إليه الكرة فانكسرت الزجاجة وسقطت كسرها على المنضدة وقد أتممت بهذا الخطة التي رسمتها لنفسي فإنني كنت أبغي أن أبين له أنني قادر على قتله فاستمر دونلسون واقفاً عاجزاً أن ينزل ذراعيه وظل قابضاً على عنق الزجاجة بأصابعه المتشنجة لأن ضربتي كانت قد أرعبته وكان ماتيو قد نهض في هذه الأثناء فصحت به مكانك فلبث صاغراً وعاد إلى مجلسه أما كراب فكان يدخن وهو رابط الجأش ساكن كأنه لم يسمع شيئاً ثم قلت لدنيلسون يجب عليك أن تذعن للتفتيش، وأنصحك إذا كنت حريصاً على حياتك أن تنزع ثيابك دون تذمر ولا ممانعة فقد فرغ صبري وضاق صدري.

وفي هذه اللحظة قرع الباب ففتحت وإذا بخادم الفندق جاء على صوت إطلاق الرصاص فقلت لن أن مسدسي انطلق عرضاً ولم يسبب أدنى ضرر فعاد من حيث أتى وأغلق الباب، فقلت لدينلسون بلهجة التهديد أما إذا انطلق عرضاً مرة ثانية فسيردي رجلاً منكم.

وكان من شأن النظرات التي أرسلتها إلى دنلسون أن أقنعته بعزمي فأطاع الأمر وبدأ بخلع ثيابه، وبالاختصار فإنني جردته من ثيابه ولمست مجاسده بيدي وفتشت جيوبه بدقة ولكنني كدت أجن لما لم أجد شيئاً، وكان دينلسون يخشى أن تأخذني الحدة فتنطلق من يدي رصاصة تكون القاضية عليه.

يقولون في المثل إن النتائج الجيدة تحصل في المرة الثالثة ولهذا أوعزت إلى ماتيو أن جاء دورك فجرد ثيابك.

وكان يشبه دونلسون بشدة تأثره ولكنه لم يجد مفراً من ذلك فتقدم إلى وسط الغرفة وبدأ بنزع ثيابه.

فوجدت جيوبه أخلى من جيوب دونلسون وعندئذ أخذني دوار شديد شعرت معه أن كل ما في الغرفة يتحرك ويضطرب واستلقيت على المقعد وقد خارت قواي ولحسن الحظ لم يشعر أصدقائي بما آلت إليه حالتي من الضعف والوهن، وقبل أن يبدأ دونلسون بالكلام كنت شفيت من هذا الدوار.

فقال لي دونيلسون بصوت أبح ضح حداً لهذه الوقاحة، ها هنا مدعو لم تهنه بعد لأنك لم تبلغ درجة من القحة تأمره فيها بنزع ثيابه.

وعندما أتم دونلسون جملته نهض كراب وكان حتى الساعة جالساً على كرسيه بسكينة تامة يدخن سيكارته فيتصاعد منها الدخان كما يتصاعد من مدخنة المعمل.

فوضع لفافته. . . وإنني لا أزال أذكر كيف كان يمر يده على المنضدة ليجد المنفضة ولم يبد عليه أقل انزعاج ثم قال بصوت منخفض أنا عالم ماذا يراد مني ولحسن الحظ أن ذلك سهل جداً عليّ لأنني أعمى.

وحين قال هذه الكلمات بدأ بنزع ثيابه فآلمني هذا المنظر وأخذتني الشفقة على ذلك المسكين وكنت مزمعاً أن أمنعه من ذلك ولكن أمارات الاستهزاء التي بدت على وجه دونيلسون وماتيو وافتكاري بالسرقة هيجا غضبي فغلى الدم في عروقي وعوضاً أن أمانع كراب أوعزت إليه بالإسراع.

وفي بضع دقائق كنت قد فتشت جميع أثوابه، ولكن جميع التنقيب الذي أجريته لم يجدني شيئاً وظلت الماسة مفقودة ويصعب عليّ أن أقول أنني كنت آمل أن أجدها مع كراب ولكنني انخذلت ثالثة.

وفي هذه المرة سمعت صوت دونلسون وهو يقول بلهجة كئيب:

والآن فإنك قد اكتفيت من إهانتنا ففتش تحت المنضدة عساك ترى شيئاً.

ولم يكن هذا الفكر قد خطر لي قبلاً، فشعرت بحمرة الخجل تعلو جبهتي وأومض لي في ظلمات اليأس برق من الرجاء.

وحين أرجعت المنضدة قليلاً كي لا تعيقني في عملي وانحنيت على البساط محدقاً فيه كنت أفكر بأي طريقة أعتذر لأصدقائي إذ كان من المحتمل أن أكون أنا ذاتي قلبت الماسة على الأرض حين التفت لأضغط الزر، ولكن يا للأسف فإنني لم أكد أرسل نظرة إلى ذاك البساط حتى تلاشى آخر رجاء ولم أقف للماسة على أثر.

وعندها استفزني غضب شديد فاندفعت بحدة شديدة أبحث في جيوب هؤلاء الرجال الذين اعتبرتهم أصدقائي ودعوتهم ليقاسموني المسرة والصفاء، فذهب كل ما بذلت من الجهد أدراج الرياح ولم أظفر بضالتي.

وهكذا فإن ماستي الثمينة، الماسة التي كنت أفتخر بها فقدت ولست أدري ماذا جرى بها وحين بلغ هذا الحد من خطابه سكت قليلاً وأخذ يمسح العرق البارد المتصبب على جبهته ثم سقط على مقعده ذاهلاً وكان قد وقف حين استفزته الحدة أثناء الحديث.

ـ فقال نكارتر: إنها لقصة عجيبة وأنا أود أن أعلم كيف تنتهي فأشار دلمار برأسه وبعد أن تنهد تنهداً عميقاً عاد إلى حديثه فقال: ولما وجدت أن بحثي ذاهب سدى استلقيت على مقعدي خلف المنضدة وأذنت لهم بلبس ثيابهم.

ولما أبصرت النظرات المخيفة التي كان يرشقني بها كل من دونلسون وماتيو احتطت لنفسي فجلست وراء المنضدة والمسدس في يدي اليمنى.

وكنت ألاحظ هؤلاء الرجال وهم يتشحون بأثوابهم، ولم يلفظوا كلمة واحدة لأنهم على ما أظن لم يجدوا كلاماً يعبر عما في أنفسهم من شدة الانفعال لإهانتي إياهم إذا كانوا حقيقة أبرياء.

وانتهى بي أعمال الروية إلى الافتكار أن واحداً منهما سلب الماسة بأسلوب خفي غامض ومهارة تامة حتى خفيت فعلته عن صديقه الآخر وعلى كل فقد وجدت من المناسب أن أسعى لإعادة الصلات الحبية التي كانت تضمنا حتى تلك الساعة فقلت لهم:

يا أصدقائي الأعزاء إن الحادثة التي جرت قد أدمت قلبي ولو علمتم عظم الخسارة التي حلت بي لصفحتم لي عن المعاملة القاسية التي حزنت لأجلها و. . .

فصرخ دونلسون بغضب خفف عن نفسك مؤونة الاعتذار فلو جثوت أمامي مئة سنة لم يكف ذلك لمحو الإهانة التي ألحقتها بي، كل علاقة بيننا قد توترت منذ الآن وانقلب الحب بغضاً فإذا صادفتني في الشارع ومسدسي في جيبي فخذ الحذر.

فالتفت عندئذ إلى ماتيو وكان لونه متغيراً ولكنه كان هادئاً فقال لي أما أنا فلا أتهدد.

لم يقل غير ذلك ولكنني فهمت فكره تماماً وعرفت أنه حقود لا يصفح لي عن الإهانة وأنه أصبح عدواً هائلاً يخيفني أكثر من دنلسون فما زلت منذ تلك الساعة أحاذر أن أوجد في طريقه.

أما الأعمى المسكين الذي لم أعرفه قبلاً فكنت لا أعلم بأي عبارة أعتذر إليه فجلست على المقعد ولم أهم بحركة حتى أكمل الثلاثة لباسهم وهموا بالخروج فقال دونلسون وصوته يتهدج من الغضب: أتأذن لي الآن بالانصراف؟

أما ماتيو فلم يقل شيئاً بل كان ينتظر كراب الذي تأخر في الاكتساء لضعفه كي يقوده إلى خارج الغرفة، ولما استعد تقدم إليّ ببطء وبخطوات متقلقلة فأراد ماتيو أن يقوده خارجاً ولكنه دفع الذراع التي مدها إليه صديقه وقال له:

انتظرني دقيقة أيضاً يا فرانك

ثم خاطبني قائلاً:

إن هذه الحادثة قد أزعجتنا جميعاً ولكنني لا أحقد عليك لأنني أقدر أن أتمثل حالة نفسك فأنا مغتم غير أنني أرجوك أن لا تظن بي سوءاً.

وهذه الكلمات التي لفظها ذلك المسكين أذابتني خجلاً لأنني لم أكن مستحقاً هذا التلطف بعد أن عاملته بخشونة كما عامله رفيقيه فأجبته:

تأكد يا مسيو كراب أنني كنت راغباً أن لا أفتشك لولا إصرار دونلسون.

فقال الأعمى لا شك عندي بذلك ومهما يكن من الأمر فإني لا أطوي لك ضغينة في صدري.

ثم مددنا يدنا وتصافحنا مصافحة الإخاء وبعد أن حييته وأجاب تحيتي قال:

لي إليك كلمة أيضاً وبعدها أذهب: إن الحادثة التي جرت في هذه الليلة قد ضيقت صدري فأدركني بقدح من الماء فلم أستغرب هذا الطلب لأن حلقي كان يلتهب من الظمأ فقلت له إن آنية الماء قد انكسرت فهل لك في قدح خمر أو غيره من المشروبات.

فقال شكراً لك لا حاجة لي بذلك، ولكنك تجد بقية ماءٍ في قدحي.

فأخذت القدح وناولته إياه.

فشكرني وهو يأخذ القدح وبعد أن شرب السؤر وضعه على المائدة وتأبط ذراع ماتيو وخرجا سوية من الفندق وكان ينوي أن يكلمني فوقف الكلام على شفتيه.

ثم سقطت على مقعدي خائر القوى وأحاقت بي ظلمات متراكبة من اليأس.

وإن الفكر الذي كان يدور في خلدي من أن السارق أحد هؤلاء الثلاثة لم يبارحني لحظة، وكانت شبهاتي تقع على دونلسون ومع هذا فلم أر أبداً من التسليم أنه من المحتمل أن يكون الثلاثة شركاء في السرقة قد اتفقوا من قبل أن يلعبوا بي هذه اللعبة المشؤومة فقلت إذا كان الأمر هكذا فإنهم لا يلبثون بعد خروجهم من الفندق أن ينشقوا أو يتنازعوا وللحال نهضت ومشيت على أطراف أصابعي دون أن أحدث أقل صوت ومشيت في الرواق فأدركت ماتيو وكراب في منتصف السلم وظلا صامتين لم يلفظا كلمة حتى بلغا الباب الخارجي، فعندئذ قال ماتيو لكراب:

هاهنا عربة وسأعينك على الصعود إليها وأعين للسائق المحل الذي تروم أن تبلغه، وأما أنا فلا أود أن أدخل البيت حالاً لأنني ما زلت متهيجاً جداً.

فأجاب الأعمى حسناً إنني أعرف ذلك ولكن إياك أن تأخذك الحدة والطيش بسبب هذه الحادثة أسمعت يا فرانك؟

فلم يجبه ماتيو.

ثم نظرت كراب يصعد إلى العربة وصديقه يري السائق الجهة التي يجب أن ينحوها فسارت العجلة من الوجهة المعينة وسار ماتيو في الجهة المعارضة حيث كان دنلسون ينتظره على كثب.

وبقي الرجلان اللذان لم يرياني صامتين بضع دقائق وأحدهما بجانب الآخر ثم شرعا بالكلام معاً وكانت جملهما واحدة تقريباً:

ـ هل أنت أخذت الماسة يا جورج؟ (سأل ماتيو)

ـ هل أنت أخذت الماسة يا ماتيو؟ (سأل جورج)

إن صدور السؤالين في وقت واحد وبتركيب واحد تقريباً لم يغير شيئاً من جد الرجلين، وكان دونلسون أقل صبراً من رفيق فأجاب قائلاً:

أؤكد لك أنني لم آخذ الماسة.

فقال ماتيو ولا أنا أيضاً، وليس في وسعنا أن نقول أن كراب هو السارق لأننا إذا فرضنا أنه همّ بذلك فإنه عاهته تمنعه ذلك.

فأجاب دونلسون: وأنا أسلم بذلك ولكن ما هي هذه اليد الخفية التي سرقت تلك الماسة الشيطانية؟

فقال ماتيو يظهر أن دلمار خولط في عقله فلا يبعد أن يكون وضع الماسة في جيبه وأظن أنه سيجدها بعد أن يملك روعه.

فصرخ دونيلسون إنني أدفع مئة ريال عن طيب خاطر إذا صح افتراضك ووجد هذا التعيس ماسته في جيبه.

فسأله ماتيو أيسرك ذلك ولماذا؟

فأجابه دونيلسون أست تعرف لماذا؟ قالها بلهجة تهديد مخيفة حتى إنني ارتعشت رغم إرادتي.

ثم تمم حديثه قائلاً: لأنني بعد أن حدث ما حدث الليلة أريد أن أعرف موضع الماسة حتى أحول ظنه إلى حقيقة.

فقال ماتيو هذا ما أقصده لأني إذا قدرت أن أغرمه جزاء العار الذي ألصقه بنا فأنا لا أتأخر عن ذلك، فاتبعني الآن يا جورج لنروي ظمأنا الشديد.

وعندئذ سار صديقاي القديمان وذراعهما ملتفان إحداهما على الأخرى.

وإنك ترى الآن يا مسيو كارتر أنني قصصت عليك الحادثة بتفصيلها ولم أسقط حرفاً واحداً، وبذلت الجهد حتى لا أدع شيئاً دون أن أقصه عليك ولم أهمل أمراً لم أنبئك به ولو كان طفيفاً في الظاهر لأنني أخشى أن يكون ذلك الأمر مفتاح السر.

وهنا سكت دلمار كم أنهى حديثه.

فسأله نيكارتر قد مر على هذه الحوادث أسبوع أليس كذلك؟

ـ نعم

ـ وأنا أظن أنك لم تفتر عن السعي في خلال هذه المدة لاستجلاء الغامض.

ـ أنا. . كنت جننت لو لم أدأب في السعي.

ـ إذن فقل لي ماذا صنعت؟

ـ إنني سأشرح لك ذلك بحرية تامة فقد تدرجت في الشوارع بحالة تشبه الجنون وقد ظهر لي أنه من الممكن أن أكون أنا نفسي قد وضعت الماسة في جيب من جيوبي فعدت مسرعاً إلى حيث تناولنا طعام العشاء، وابتدأت أفتش نفسي بدقة لا مزيد عليها فقلبت جيوبي جميعها ومزقت بطانة أثوابي وعريت من كل لبسي حتى صرت في حالة جدينا الأولين، وإن خجلي من قص ذلك عليك لا يوازي خجلي من إخفاق مساعيّ، فقد اختفت الماسة ولم أقف لها على أثر.

ولم أكد أتمم لبس ثيابي حتى قرع الباب ففتحته وإذا بخدام الفندق قادمين ليرتبوا الغرفة وبينما كانوا يدأبون في عملهم كنت أراقبهم بمزيد الانتباه وأقول من المحال أن لا يجدوا الماسة.

ولما أنجز الخدام عملهم ولم يجدوا شيئاً خرجت أتجول في الشوارع وظللت نحواً من ساعتين، وكان الوقت الساعة التاسعة ليلاً، ثم وقفت بغتة لأرى الجهة التي أسلك فيها وتطلعت فإذا أنا أمام مركز البوليس فهممت بالدخول لأقص عليه الواقعة، وبعد أن فكرت بهذا علمت أن لا رجاء لي بمساعدة البوليس العادي في هذه المسألة الغامضة، إذ ليس في يدي برهان يؤكد حدوث السرقة، إن الماسة فقدت دون شك ولكن بعد المبحث المدقق الذي أجريته لم أجد مجالاً لاتهام ضيوفي.

فأتممت نزهتي منفرداً وكان يأسي يزداد من حين إلى آخر وكنت أعزي نفسي بأن فقدان الماسة لم يجعلني مملقاً فما زالت ثروتي في كلكتا ولكن هذه التعزية كانت تزول حين كنت أفتكر أنني خسرت بضياع الماسة نحواً من نصف مليون دولار، ولا سيما عندما أفتكر أن هذه الثروة الواسعة فقدت في بضع ثوان.

فسأله نيكارتر وهل أخبرك الجوهريون في كلكتا أنها تساوي هذا الثمن الفاحش؟

ـ نصف مليون؟ هذا مؤكد وهو ليس بثمنها الفاحش بل المعتدل، وقد أخبروني أن الماسة إذا قطعت قطعاً لا يشوبه خطأ فإن ثمنها يرتقي إلى ثلاثة أضعاف هذه القيمة.

ـ إذن فأنت تعتقد أن عين الشيطان تستحق العناء الذي ستصرفه في البحث عنها.

ـ آه يا مسيو كارتر وهل تريد أن تتولى أمر البحث عنها؟

ـ على الأرجح. . . ولكنك لم تقل لي بعد ماذا فعلت ولعلك قد عثرت على أثر يدلك على مكمنها.

ـ قد حزرت يا مسيو كارتر قد عثرت على أدلة عديدة ولكنك تعرف مبلغها من الصواب أكثر مني.

بعد أن أدرت ظهري لمركز البوليس أتممت المسير فاجتزت المدينة وقبل الساعة الحادية عشرة وجدت نفسي أمام محطة السكة الحديدية وأبصرت عربة مقبلة تقل مسافراً.

ولما وصلت قفز السائق إلى الأرض وساعد الراكب على النزول ولم يكن هذا الراكب سوى كراب الرجل الأعمى.

فصرخ نيكارتر ياللعجب.

فتبسم دلمار عندما سمع ذلك وقال:

ربما افتكرت أنه أراد أن ينجو بالسرقة وأنا أعتقد أنه ربما كان هذا ممكناً وربما كان من الواجب عليّ أن أستعمل المسدس ولكن إصغ: إنني رأيت السائق يأخذ خريطة كراب من العربة ثم أمسكه بذراعه وقاده إلى غرفة الانتظار، فكنت لهما ألزم من ظلهما.

ثم أخذه إلى حيث قطع جوازاً إلى بونبلو وكنت خلفه فسمعته يسأل المأمور عن ميعاد سفر القطار فأجابه سيقوم القطار الأول إلى بويبلو بعد عشر دقائق.

وفي هذه الأثناء كان السائق واقفاً وراء كراب ليقوده إلى القطار وعندما اجتازا غرفة الانتظار أعوزتني السكينة ولم أتمالك نفسي فعارضتهما في الطريق.

وقلت له وأنا أشتعل من الغيظ:

أسعدت صباحاً يا مسيو كراب

فحدق بي الأعمى وأدار نحوي عينيه وظهر عليه أنه عرف صوتي فقال وهو يتردد في القول:

يظهر لي أني أعرف صوتك، ألست المسيو دلمار، فهل خدعني سمعي؟

فقلت له أنا هو.

ـ إذن فقل لي بالله هل وجدت أثراً لماستك تهديك لمخبأها؟

ـ فقلت لا وكنت أراقب ماذا يكون تأثير جوابي فيه.

ـ إن هذا مكدر جداً، إن هذه الضربة هائلة.

ـ نعم ولكن ليس بوسعي إلا أن أتلقى مصيبتي بالصبر، والآن فإني أراك على وشك السفر.

نعم وآسفاه فإنني وجدت في منزلي عند رجوعي إليه هذا النبأ البرقي الذي أجبرني أن أسافر مع القطار الأول.

ودفع إليّ النبأ حين طلبته منه وأنا أعترف لك أنني لم أتردد بل قرأته بمزيد السرعة وكان من بويبلو وهذا نصه حرفياً:

أختك على فراش الموت عجل بالحضور، الطبيب. م. غوردون

فعزيته بكل ما حضرني من عبارات التعزية.

فقال لي: منذ مدة كنت أتوقع ورود هذا النبأ، فوردني اليوم، وبما أنني راحل فأنا أشكر جميلك إذا أنبأتني بالدلائل التي تبدو لك والآثار التي تهتدي إليها وأنت تعرف السبب الذي يهيج هذه الرغبة في نفسي.

فأجبته متململاً نعم أعرفه جيداً.

ثم قال بعد أن أواري أختي المسكينة في التراب أعود إلى هنا ولديك عنوان إقامتي فأرجوك أن تواصلني بما يجد معك في هذا الشأن.

فوعدته أن أنبئه بكل ما يحدث.

فاستتبع حديثه قائلاً: إن إقامتي في بويبلو ستكون في بيت أختي، فإذا اتضح لك كيف اختفت ماستك أو إذا وجدتها كما أتمنى لك، فستكون لك عليّ يد بيضاء إذا أنبأتني على لسان البرق لأنك تعلم أنه ما زالت ستور الخفاء مسدولة على هذه المعضلة تظل العلائق بيني وبين صديقي ماتيو متوترة وإن هذا ليحزني لأنني كنت وإياه دائماً صديقين حميمين.

فهممت أن أخبره بما قاله عنه ماتيو ودونيلسون بعد خروجهما من الفندق ولكنني آثرت الرصانة والسكوت واقتصرت على نسخ العنوان الذي أعطانيه كراب.

وبعد ذلك صافحني وقاده السائق إلى الرصيف حيث كان القطار مزمعاً أن يقف، وعدت إلى الفندق وفي أثناء عودتي عولت أن أراقب دونلسون وماتيو عبثاً كنت أحاول أن أطرد هذا الفكر عن خاطري وهو أن أحدهما كان السارق.

وبينما أنا أسير صادفتهما في الطريق ولكنهما لم يبصراني فتبعتهما على بضع خطوات وأنا أحذر كل ما من شأنه أن ينبههما إلى وجودي.

وكانا آتيين من النادي دون شك ووجهاهما مقطبان فتبعتهما وما زالا سائرين حتى وصلا إلى المنزل الذي يقطنه كراب وكان لماتيو غرفة هنالك أيضاً ففتح ماتيو الباب بمفتاح أخرجه من جيبه ودخل الرجلان.

فلم يمكثا أكثر من خمس دقائق.

وكنت لحظت أن النور قد أضيء وأطفئ بسرعة في ثلاث من الغرف أو أربع فدل ذلك على أنهما كانا يفتشان عن ماتيو الذي لم يبلغهما بعد خبر سفره الفجائي.

فقال ماتيو وهما ينزلان إلى الشارع أن القطار قد نحا بويبلو من ربع ساعة تقريباً.

فأجابه دونيلسون نعم إن هذا الفاجر قد بعد مسافة طويلة فقال ماتيو ولكن لحسن الحظ أن اللحاق به سهل.

وهذا كل ما قدرت أن أسمعه من المحادثة وكان من المؤكد عندي أنهما يتكلمان عن كراب ولكنني لم أعرف هل كانا ينظران ماستي وهما يتكلمان هذا ما أترك حله لك يا مسيو كارتر.

ثم دخلا مسرعين إلى بيت آخر وقد فهمت بعد ذلك أنه مسكن كليمور شريك دونيلسون فلم أحفل بهذا الأخير لأنني لم أعلم كيف يكون له دخل في سرقة الماسة.

فقاطعه نيكارتر قائلاً: حسناً حسناً إنك أنت لا تعرف كليمور ولكننا نحن نعرفه فهو متهم بالتحريض والإغراء على كثير من حوادث القتل والسرقة وهو الآن في السجن ينتظر جزاءه وأن علائقه مع صديقك دونيلسون كانت تدلني على أن في حياة هذا الأخير أموراً خفية غامضة ولكن أرجوك أن تتمم حديثك الآن.

فاستأنف دلمار الكلام وقال إنني انتظرت ساعة قرب بيت كليمور خرج بعدها الاثنان ولكنهما انفصلا في أول عطفة من الشارع فتبعت دونلسون الذي عاد إلى منزله، أما ماتيو فلا أعلم أين انتهى به السير ولم أنظره بعد ذلك ولكنني أرجح أنه ذهب في اليوم التالي إلى بويبلو ليلاقي كراب هناك.

أما دونيلسون فقد أقام عامة اليوم التالي في مكتب المحل الذي يديره هو وشريكه كليمور وفي اليوم التالي نظرت صدفة أن دونيلسون أخذ رسالة برقية وبعد أن قرأها ظهرت على وجهه علائم الاهتمام والتأمل ولم أقدر أن أعرف مصدر الرسالة ولا محتواها ولكنني أعرف أنني لم أر دونيلسون في اليوم التالي ولما ذهبت في اليوم الثالث أطلبه في محله أخبروني أنه سافر إلى بويبلو، وبالطبع ركبت أنا أيضاً القطار الأول وتبعته.

فقال نيكارتر إنه لفكر في غاية السداد فماذا اكتشفت هناك؟

ـ لا شيء في لا شيء أجاب دلمار إنني رمت أن أذهب إلى المحل الذي أعطاني كراب نمرته ولكنني فهمت أنه لا يوجد بيت في المدينة بهذا العنوان، وكان الشارع موجوداً فقط ولكن النمرة التي معي كانت عنوان أرض ما زالت خالية من البناء ولم يكن هناك بيت إلى بعد مئة خطوة من جميع الجهات.

فقلت لعلني أخطأت في نسخ النمرة فسألت عن أخته التي كانت على فراش الموت فلم أسمع أحد يتكلم عن امرأة ماتت أو أشرفت على الموت فسألت عن الطبيب ا. م. كوردون فلم يكن حظ هذا من الوجود أكثر من حظ الأخت الموهومة.

فلم يبق لي إلا أن أسأل عنه فسألت مأموري المحطة هل شاهدوا رجلاً أعمى نزل في الليل من القطار قادماً من نيويورك ووصفت لهم ملامحه.

فلم يذكر أحد في المحطة أنه شاهد رجلاً أعمى بهذه الملامح وبالاختصار فإنني قد أضعت يومين في بويبلو وأنا أفتش دون طائل.

فعزمت على أن أقصد مركز البوليس وأشرح له خبر السرقة وكل ما يتعلق بها، وحين قرأت في الجرائد أعمدة بأسرها ملؤها إطراؤك والثناء عليك ووصف العمل العظيم الذي قمت به قبل الليلة السابقة وعلمت أنك حضرت إلى هنا عاد لي بعض الرجاء وأتيت إليك لأعرض عليك القصة بجميع تفاصيلها.

فقال البوليس لدلمار إنني أقدم لك تحياتي وتهاني لأنني قلما نظرت رجلاً قادراً مثلك على الإحاطة بأطراف الموضوع واستقصاء شوارده وإيضاح دقائقه ووصف ذلك بطريقة سهلة واضحة، وسنقتفي بعد الآن أثر عين الشيطان وإذا ساعدنا الحظ فإننا نرجو أن نهتدي إليها.

ـ إنني أقدم لك شواعر الشكر التي تختلج في صميم الفؤاد، وأرجوك أن تخبرني هل عزمت على السفر إلى بويبلو؟

ـ على الأرجح.

ـ وهل تريد أن أرافقك؟ ـ لا ولكن اترك لي عنوانك وإذا اضطررت إلى الانتقال فأبلغني ذلك، حتى تصلك جميع الرسائل والأنباء البرقية التي يمكن أن أرسلها إليك، ولا أطلب منك غير هذا سوى أن تثق بي.

وثم تحادث الثلاثة سوية بشأن الأمور المادية التي يقتضيها البحث والتنقيب، وبعد ذلك استأذن المالك الشرعي للماسة من البوليس الشهير ومعاونه وانصرف.

وبعد أن خرج دلمار التفت كارتر إلى معاونه الشاب الايرلندي وقال له:

ـ ما رأيك في هذه القضية يا باتسي؟

يظهر لي أنها أقرب إلى الخيال منها إلى الحقيقة فهل صدقتها يا أستاذي؟

ـ صدقتها كما أصدق بالحياة الأبدية التي لا أشك فيها لحظة.

ـ إذا فرضنا هذا فكيف أمكن الثلاثة أن يخفوا الماسة؟

فضحك كارتر طويلاً ثم قال:

يظهر لي أنك تظنهم شركاء في الجريمة قد تعاقدوا عليها سابقاً.

ـ إذن فماذا تريد أن أعتقد في شأن هذه الماسة التي اختفت وغابت آثارها.

اسمع يا باتسي أريد أن أحدثك بشأنها ولكنني لا أتكلم عن لصوص.

ـ عمن تتكلم أعن لص واحد؟

ـ نعم فأنا أعتقد أن كراب هو السارق الوحيد.

ـ أيمكن هذا؟ أيمكن هذا الأعمى أن يسلب الماسة وأمامه ثلاثة رجال يبصرون؟

فقال نكارتر إن كراب هو الذي أخذ الماسة قال هذا وهو يتظاهر بأنه لم يسمع اعتراض المعاون ومع هذا فأظن أنه لم يفكر أن سرقتها بإمكانه لما قبل الدعوة ولا أصدق باتفاق سابق وأؤكد لك أن دونيلسون وماتيو بريئان من وصمة السرقة وهما يعتقدان كما أعتقد أن كراب هو السارق، وقد هاجهما ما صادفاه من الإهانة فعزما على اتباع كراب وإجباره على رد المسروق أو أن يقاسمهما على الأقل ولما علما بسفره إلى بويبلو عرفا أنه قد خدعهما فاقتنع باتسي بتأكيدات أستاذه وقال حسناً يمكننا الآن أن نستنتج النتائج من هذه المقدمة وقد فهمت الآن معنى المحادثة التي دارت بين الرجلين أمام الفندق.

ـ وجلي أن سفر كراب إلى بويبلو هو اعتراف ضمني بذنبه.

ولهذا تبعه ماتيو إلى بويبلو حيث علم أن السبب الذي انتحله الأعمى للسفر كان مختلفاً وهذا الذي عرفه دلمار بعد بضعة أيام.

ـ من الراجح أن يكون ماتيو مرسل النبأ الذي اهتم له دونيلسون كثيراً، فسافر لينضم إلى رفيقه في اللحاق بالأعمى.

ـ أحسنت يا باتسي هذا ما حدث برمته.

ـ ولكن كيف قدر هذا الشيطان كراب أن يسرق الماسة على هذا الشكل الخفي الغامض حتى لم يقدر دلمار أن يجدها في ثيابه حين فتشها؟

وبعد أن توقف لحظة عن الكلام ضرب بيده على جبهته ثم قال:

يخيل لي أن هذا الخبيث المحتال ليس أعمى.

ـ وحسناً وأي فرق في ذلك؟

فقال باتسي لا فرق وضاع سروره باكتشافه حقاً أن الحالين سيان فهل تظن أنه أعمى يا أستاذ؟

ثم ساد سكون قطعته قهقهة باتسي الذي قال وهو يضحك:

ـ آه، آه، إن تفتيشاً كالذي أجراه دلمار لا يتفق حدوثه دائماً، ثلاثة رجال عارين كجدهم آدم قبل أن يخطئ حقاً إنه منظر مضحك.

فأجابه نكارتر ضاحكاً:

لا أظن المشابهة تامة إذ ينقص الأخيرة قليل من الصحة.

فعاد باتسي بعدها إلى الجد وقال:

أنا أرى يا أستاذ أنك فكرت لتبلغ نتيجة فبأي أسلوب تظن كراب سرق الماسة وتمكن من إخفائها.

ولكنه انذهل عندما وجد أن كارتر اقتصر على الضحك وهو يرفع كتفيه ثم خاطبه قائلاً: يا عزيزي باتسي لم أعلم عن ذلك شيئاً.

ـ أفهذا ممكن؟

ـ نعم ممكن للغاية، فقد أرى في الأمر سراً لم أقدر على فهمه حتى الساعة وأنا أحتاج في حله إلى تأمل طويل سأباشره أثناء سفري ولذلك أرجوك أن تستفهم لي عن مواعيد سفر القطر.

فنزل باتسي مسرعاً إلى مكتب الفندق وهناك تقويم لهذه الشؤون فأمعن فيه البوليسان هنيهة وبعدما اختار نكارتر القطار الذي سيقله قال لمعاونه:

أرى أن واحداً منا يكفي لمطاردة هذا الأعمى أما أنت فأقم هنا في دنفر وأخبرني إذا عاد أحد الرجلين واعلم أنه يحتمل أن يحدث هذا بأسرع مما نفكر فتيقظ.

فقال باتسي كن أميناً من هذه الوجهة.

ولم يكن يتعذر على رجل ماهر كنكارتر أن يقفو أثر أعمى ففهم وهو في الطريق أن كراب قبل أن يصل إلى بويبلو طلب من السائق جوازاً عاماً.

فمع اكتفاء البوليس بهذا التصريح توصل إلى علم ما يأتى وهو أنه في يومين مختلفين من الأسبوع الماضي كان في القطار مسافران القيا إلى المفتش هذا السؤال بعينه فتحقق عند ذلك أن ماتيو ودونيلسون قد اجتمعا في بويبلو ومن هناك سارا للبحث عن الأعمى.

وبعد برهة اكتشف على آثار الأعمى وكأن صوتاً داخلياً يناجيه أن كراب هو السارق الوحيد، وعرف أنه اشترى نعالاً محددة واكترى جواداً من قرية صغيرة من قرى مقاطعة الأريزونا الشمالية، وسافر من هناك مصحوباً بدليل توصل البوليس إلى معرفته وطلب منه إيضاحاً وبسط ما يعرفه عن المسافر الذي كان يصحبه.

فقال الدليل:

لم أرافقه مدة طويلة إذ أنه قال لي بعد خمسة أيام من بدء السفر يمكنك أن تعود الآن فترددت في الرجوع وتركه منفرداً لأننا كنا عندئذ في أوحش قسم نم الأريزونا ولكنه أصر عليّ فتركته وعدت.

ففكر نكارتر ملياً في ما قاله الدليل ولم يفهم كيف أن رجلاً أعمى ضعيف القوة يود أن ينفرد في تلك البقعة الكثيرة الأخطار، فسأل الدليل:

ـ هل تعتقد أن الرجل كان أعمى حقيقة؟

فقال الدليل: كل الاعتقاد ودعم حديثه بسرد بعض الحوادث التي جرت على الطريق والتي تؤيد قوله.

ثم استتبع البوليس السير في طريقه.

ولم يكن الذي يلقاه على الطريق قادراً أن يعرف هذا الرجل ذو الشهرة الواسعة في العالم والذي يختلف إلى الأندية العليا في نيويورك وله المنزلة الرفيعة بين الاريستوقراطيين لأن كارتر تزيا بزي سكان الغابات فاتخذ هيئة متوحش يؤثر استعمال السلاح وخشونة العيش على رفاهية الحضارة.

وكان جواده كريماً فأعمل في خاصرته المهماز ليبلغ ذلك المحل الذي يكاد يكون في آخر الدنيا حيث فارق الدليل كراب.

وبينما كان يجد السير صادف فارساً مقبلاً عليه من الجهة المقابلة ناداه وهو يوقف مطيته قائلاً:

أيها الغريب.

فأوقف كارتر جواده وقال له:

ماذا؟

ـ أعندك تبغ؟

ـ مؤكد، عندي قطع كبيرة.

وكان نكارتر يعلم أن رجل الغابات يجب أن تكون معه مؤونة من التبغ فحمل معه كمية منه مع أنه لم يكن يستعمله.

ثم أخذ علبة من جيبه وقال للرجل هو ذا التبغ فخذ حاجتك.

فقال الرجل أشكرك ومد يده وحاول أن يمضغ قطعة منه.

فقال له نكارتر اقطعها إلى قسمين لأنك لا تزال بعيداً جداً عن العمران وعلى ما أظن أن التبغ لا ينمو على الأشجار كما قيل لي منذ هنيهة.

ـ أنت محق، فإن طالما وجدت في هذه البقعة التي هجرها الله والناس وكان قد أخذ نصف قطعة التبغ ورد بقيتها إلى نكارتر.

فسأله البوليس: إذن أنت تعرف المقاطعة.

ـ نعم تقريباً ألا تعرفها أنت؟

ـ لا هذه هي المرة الأولى من مجيئي إليها.

ـ في طلب الذهب؟ ـ ليس تماماً فإنني ألاحق رجلاً أعمى.

ـ ماذا؟ إن هذا لغريب جداً.

ـ إن قدوم أعمى ليختبئ في هذه المواضع الموحشة لهو غريب جداً ولكنه حدث.

ـ ليس هذا الذي أريد أن أقوله ولكنني أفكر بشخصين استأجراني لخدمتهما كدليل وطباخ وهم أيضاً مثلك يفتشون عن أعمى.

ـ يا للشيطان، هذا ما نسميه صدفة قال ذلك نكارتر وهو يلفظ سلسلة من الأقسام تليق بسكان الغاب ثم سأل الرجل وما هي المسافة بيني وبينهما؟

ـ أظنهم أصدقاءك.

ـ تقريباً فإنهم من معارفي.

ـ حسناً فأنتم الثلاثة في هذه الحالة تطاردون شخصاً واحداً وهذا كل شيء.

ـ أصبت أيها الشجاع، وعلينا أن نتابع هذا الأعمى حتى نظفر به ولو اضطرنا الأمر أن نذهب إلى نهاية العالم.

ـ لتسترجعوا منه الماسة أليس كذلك؟

ـ بسم ال. . . وكيف عرفت ذلك؟

ـ أخبرني به صديقاك.

ـ حسناً إن هذه الماسة لا تخص الأعمى.

فأغمض الرجل عينيه وبدأ يقهقه وقد بدت على وجهه أمارات المكر ثم قال: أصدق قولك إن الماسة لا تخص الأعمى، فإذن هي ملك الذي يظفر بها، ولكن هذا لا يهمني فحاول أن تجتمع بأصدقائك.

ـ يدهشني وقوفك على هذا السر.

ـ لا غرابة في ذلك فالمسافرون أياماً عديدة في القفار تنشأ بينهم روابط شديدة، وقد كانا يتكلمان بادئ الأمر سراً فكنت أصغي إلى حديثهما ثم أخذت بسؤالهما ولما وجداني وقفت على شيء من القصة شرحاها لي وأخبراني منها بما كنت لم أعلم بعد.

ـ قصا عليك كيف سرق الأعمى ماستهما أليس كذلك؟

ـ نعم أو بالأحرى ماسة أحد أصدقائهما.

فتعجب كارتر من ثرثرتهما وقال للرجل إن أذنيك لم تخدعاك.

ـ آه آه، أنت هو الصديق صاحب الماسة.

ـ هذا ممكن فأنا لا أنفيه.

ـ حسناً فاسمع إذن إن كنت لا تريد أن تصادف رصاصة توردك حتفك فالأولى بك أن لا تحاول الاجتماع بصديقيك، لأن مصاحبتهما خطرة وقد شعرت بذلك ولهذا فارقتهما هذه الليلة.

ـ يظهر لي أنهما أخبراك بكل شيء وأنا أرجوك أن تخبرني عن واسطة أتجنب فيها ملاقاة هذه الرصاصة وأن تخبرني عن الطريق الذي سلكاه.

فرفع الرجل كتفيه وقال إن فكر ملاحقتهما هو فكر جنوني، ولست أعلم ماذا تفعل إذا وجدت أمام اثنين هذا إذا لم نعد الأعمى، إنني تركت صديقيك أول البارح فإذا أسرعت في السير نحو الشرق تصل إلى مخاضة نزل فيها صديقاك وركبا النهر وسافرا.

ـ أشكرك على هذه التعليمات.

ثم حرك كارتر جواده ولما رآه الرجل سأله هل أنت مصمم على التقدم؟

ـ بلا ريب.

ـ حسناً فهل يلزم أن أعلن خبر موتك؟

ـ لا تتعجل أستودعك الله.

ـ سر بالسلامة أيها الغريب وأشكرك على تبغك، لاحظ أنك واحد ضد اثنين ما عدا الأعمى ولكنني أشتهي لك الفوز من قلبي.

فأرخى نكارتر لجواده العنان وبعد أن قطع ربع ميل التفت وهو على سرجه ونظر الرجل الذي كان يراقبه وهو ثابت في محله فقال البوليس في نفسه إن هذا الرجل ليس أبله كما أظهر لي وقلبي يحدثني أنه سيكون لي وله شأن قبل ختام القصة، آه لله ما أشد حمق ماتيو ودونلسون اللذان يكشفان أسرارهما لكل سائل، واستمر البوليس في سيره حتى أحلولك الليل فاستراح قليلاً ثم ركب جواده وعاد للسير حتى وصل إلى ضاحية كولورادو التي أهداه إليها الرجل ثم ربط جواده في جذع شجرة ثم أوقد قليلاً من الحطب وأعد لنفسه عشاءً من المؤن التي اشتراها ثم التحف بغطائه ونام على الأرض ليريح نفسه بضع ساعات من عناء النهار.

وفي الثلاثة الأيام الأخيرة من إقامته هناك نظر عن بعد ثلاثة بيوت في ذلك القفر ولم يعلم البعد بينها وبين أقرب عمران وعلم أن المخبأ الذي يختاره الأعمى ليكون فيه لا يتسنى لصحيحي النظر أن يقيموا فيه، ثم قال لماذا لم يسافر كراب إلى مدن الشرق الكبيرة حيث يصادف فرصة أوفق لبيع الماسة، وردد هذا السؤال في خاطره دون أن يهتدي إلى حل مرضي وأخيراً أغمض عينيه وتاه حتى انفجر نوماً عميقاً هادئاً وعندما استيقظ تناول قليلاً من الطعام ثم علا ظهر جواده وسار فعرف بفراسته أن فرساناً آخرين قد تقدموه منزهين في نفس الطريق، فسر بهذا وعلم أيضاً أن الفارس أهداه إلى الصراط المستقيم وكان كلما تقدم يزداد منظر البلاد وحشة وانفراداً، وكان النهر يجري بسرعة شديدة بين مضايق صخرية ثم تصب مياهه المزبدة في مصب بعيد الغور فيسمع لها ضجة شديدة.

وبعد الظهر بقليل وصل كارتر إلى سفح رابية صخرية فهمّ أن يتسلقها وهو راكب وقد ظهرت له آثار على الأرض عرفته أن فرساناً آخرين مروا من هنالك حديثاً، وكانت قمة الرابية جرداء تطل على ما جاورها إلى أمد بعيد فوقف كارتر فجأة لأنه نظر على بعد ثلاثة أميال تقريباً خطاً رفيعاً من الدخان يتصاعد إلى الأفق فقال لعل هنالك مفتشاً عن الذهب أو لعل الطريدة التي ألاحقها قد عادت، وكان كل ما حوله يظهر له واضحاً فأبصر نقطاً متحركة تشبه النمل السائر فظنها هنوداً ولكن هذا لم يكن راجحاً لأن البوليس منذ دخوله إلى تلك البلاد المتوحشة لم يشاهد أكثر من ستة من ذوي الجلود الحمراء فتفرس في هذه النقطة بالعين المجردة لحظة من الزمان ثم تناول منظاره ووضعه على عينيه فوجد أنهم أربعة فرسان يسرعون في المسير جنوباً وإذ لم تكن جهة سيرهم هي الجهة التي ينحوها البوليس تأكد أنهم لا يقتفون آثاره وفضلاً عن ذلك فليس لهم من اللحاق فائدة.

وعندما فكر في هذا عاودته الهواجس فتناول منظاره وبدأ بالتفرس فوجد الأربعة يتدرجون إلى اليمين وينحون في سبيلهم مخاضة على بعد عدة أميال ثم وضع منظاره في جيبه وقد ظهرت على وجهه علائم الاهتمام والتأمل العميق لأنه نظر بين الأربعة وعلى زعامتهم الفارس الذي طلب منه تبغاً وقص عليه ما عرفه عن دونلسون وماتيو.

وكان الجو قد طبق بالغيوم مما دل على قرب هبوب العاصفة فتساءل في نفسه عما يجب عليه أن يفعله وهل كان يسير في النهج القويم فإذا كان ذلك فهو يدرك جماعته قبل أن يبلغهم الفرسان الأربعة ولكنه إذا كان يعتسف في طريقه فماذا يحدث؟ وبعد أن فكر قليلاً قال لا، لا، إنني أتبع الآثار ذاتها ثم لكز جواده وأخرج من كيس معلق بسرج الجواد بعض الأمتعة الصغيرة، ثم ساق مطيته إلى سفح الرابية حيثما ربطها في مرجة صغيرة محاطة بالعليق حيث يجد الجواد حوله شيئاً من الكلأ فيمكن لنكارتر أن يتركه هناك برهة طويلة دون أن يخشى عليه شراً ثم اطرد سيره ماشياً.

وقد تبع في مسيره ضفة النهر وما زال يسير حتى وصل إلى مضيق عميق تندفع إليه مياه النهر بسرعة وتنصب فيه فيسمع لها دوي شديد، وكان ممتداً على المضيق جذعا شجرتين كبيرتين قصفهما النهر فأشبها جسراً ورأى نكارتر آثاراً دلت على أن خيولاً عبرت ذلك الجسر حديثاً فتتبع الآثار فقاده تتبعه الآثار إلى غابة كثيفة نظر من خلال أشجارها خطاً من الدخان رآه وهو على الصخرة غير أنه كان الآن قريباً منه وهو يتصاعد من بناية خشبية عاث السوس في عوارضها.

وكانت تجري أمام هذا الكوخ ساقية جميلة مملوءة بالسمك وأمامها ما يشبه الاصطبل قد ربط فيه ثلاث جياد.

ولم يكن غير هذا الكوخ معموراً في الجوار، فاقترب نكارتر بهدوء وأصغى لما يجري داخل الكوخ الذي ظهر له أنه كوخ رجل يفتش عن مناجم الذهب فيسمع من الداخل جلبة وضجة، فتقدم بدون احتراس إلى أن دخل الباب فسمع صوتاً يقول:

قد اكتفينا يجب أن نضع حداً لهذا الإنكار، فاسمع يا كراب الحقيقة إننا نريد أن نقاسمك فإذا أصررت على الإنكار لا نسلبك ماستك فقط بل حياتك أيضاً.

ثم ارتفع صوت آخر يقول:

إننا لم نأت إلى هنا لنسمع ثرثرتك.

فأجاب شخص ثالث:

ـ افعلا ما بدا لكما، إذا لم تخجلا أن تهاجما أعمى مسكيناً وتقتلاه فلا تترددا، ولكنني أعيد عليكم إنني لا أعرف ماذا حدث للماسة وأود أن أبذل جهدي لأبرهن لكم صحة قولي فإنني خلعت ثيابي عندما أمرني دلمار فهل تودون أن أعيد ذلك الآن؟ فصرخ المتكلم الأول:

ماهذه الترهات عندما تسدد حسابك نعلم ماذا نصنع بثيابك وأما الآن فما عليك إلا أن تجيبنا إلى ما طلبنا وتيقن أننا بعد ذلك نكون كرماء جداً حتى أننا نهبك حياتك.

أعطنا الماسة أو أهدنا إلى موضعها وأنت إذا رفضت مائت لا محالة.

فقال الأعمى وهو يتنهد وأي معنى للرفض هنا هل يقدر الإنسان أن يعطي إلا ما يملكه؟

ـ آه

ثم عاد الأعمى إلى الكلام فقال:

فكروا فيما تقدمون عليه وتذكروا أن الدم المهراق ينتقم له دائماً.

ـ هو ذا الرسول الصالح! إننا نعلم ما يجب أن نعمله.

ثم خيم السكوت لحظة على تلك الغرفة.

فقال نكارتر لنفسه يظهر لي أنني وصلت في الوقت المناسب لأمنع هذين الشريرين من ارتكاب جريمة جديدة.

ففتح الباب بلطف ليرى ما يجري داخل الكوخ، فوجد كراب جالساً قرب منضدة في وسط المحل وعيناه الكبيرتان تحدقان بالحائط أمامه، ولا شك أن الأخيرين باغتاه وهو على المائدة إذ كان عليها قطع من الخبز واللحم البارد وقدح ماء ووعاء للقهوة والملح وكان ماتيو ودونيلسون واقفين أمامه وعلى وجهيهما أمارات التهديد فكان واحد منهما رافعاً هراوة ضخمة فوق رأس الأعمى والآخر مستعداً أن يضربه بخشب البندقية.

فقال لا يوجد في القضية ما يقال إن كراب أعمى إذ ليس بيدي أقل ممانعة لهذا الخطر الموشك الحدوث.

فتخطى عتبة الباب وأسرع إلى الداخل وألقى نفسه بين الأعمى وبين الشقيين وصرخ بهما:

ـ اخجلا أيها الشقيان أتضربا أعمى لا طاقة له على الدفاع إن هذا منتهى الجبن والنذالة ونزع الهراوة من يد ماتيو برشاقة وقبض على بندقية دونيلسون وحمى الأعمى الذي لم يعلم ماذا جرى والذي لم يكن يشك أنه أشرف على الهلاك.

فجمد الشريران لمفاجأة هذا الرجل الذي لم يعرفا من أين أتى فخيل لهما أنه هبط من السماء، واستولى الذهول عليهما بضع ثوان، أما كراب فإنه تنهد جزعاً واختبأ تحت المائدة.

وأخيراً تمتم دونيلسون قائلاً:

أي شيطان هذا، من أنت أيها الرجل، من أنت؟

وكان لنكارتر مزية عليهم هي أنه يعرفهم لأنه نظر صورهم وأما هم فلا يعرفونه البتة.

ـ من أنا؟ لا أرى إخباركم بهذا ضرورياً ولكن الذي يهمكم هو أنني لا أقدر أن أسكت عندما أرى شريرين قويين مثلكما يفتكان بأعمى ضعيف ليس له نصير ولا قدرة على الدفاع، إنني لست عظيماً من عظماء الأرض ولكنني لست نذلاً لأدعكما وشأنكما.

فقال ماتيو: إنه لم يكن هنا سوى ضجيج فقط وإننا رمنا أن نخيفه.

ـ أن تخيفاه، حسناً، ولكنني لم أفهم كيف يمكنكما أن تروعا أعمى بمثل ما عملتما.

وكان الرجلان شاخصين بأبصارهما إليه فقال نكارتر:

ـ أصغيت قليلاً قرب الباب فسمعتكما تتكلمان عن ماسة وإذا كنتم تودون أن تتقاسموها وذلك يتعبكم فانا أرضى أن أكون حكماً وإذا كنت أقدر أن أفيدكما فأنا خادمكم.

فقال دونيلسون بحدة:

لا تزعج نفسك فهل يهمك أمرنا وهل لك زمن طويل هنا هلم اهرب بأسرع ما يمكنك.

ـ شكراً لك على هذه الدعوة للهرب، ولكنني أروم أن أمكث قليلاً.

ثم أخذ البوليس كرسياً وجلس بسكون ثم قال: اصغوا لكلامي كل الإصغاء يا رفاقي:

إذا حدث خصام في هذا الكوخ بعد الآن فهو سيحدث بيننا، إنكم سألتموني عن اسمي فأنا أجيبكم على ذلك إنني (جاك الأحمر) من مقاطعة مونثانا المدعو أيضاً (بالدموي الهائل)، وقد تعودت أن ألتهم اثنين أقوى منكما وأضخم غذاءً لي.

وفي أثناء الحديث أسند البندقية إلى المائدة وسحب مسدسه من جيبه.

ـ أتنظران جيداً هذا الكلب الصغير؟ إنه ينبح دون أن يتحرش به أحد، وصوت واحد منه كاف.

ثم ضحك البوليس ضحكاً مرعباً وجلس إلى المنضدة بينما كان ماتيو ودونيلسون يتبادلان النظرات، فقال ماتيو: فلنسافر فلنسافر، إذ ليس لنا مقام هنا بعد.

فاقترب الاثنان من الباب.

فقال نكارتر وهو يعبث بسلاحه:

أرجوكما أن تقيما خمس دقائق هنا أيضاً، فهذا المحل أوفق لكم وأنا أقول لكما السبب فإن عندي شيئاً لأقوله لكما وهو يهمكما جداً.

فنظر الاثنان بارتياب إلى جاك الأحمر الدعي وهما يرغبان أن يفتكا به ولكن سلاحه كان يوحي لهما أن يحترماه.

واستتبع نكارتر الحديث فقال:

عودا إلى محليكما فما دمتما في هذا الكوخ فأنتما في مأمن من خطر الموت إنني أريد أن أقدم لكما اقتراحاً فإذا أردتما أن تساعداني ساعدتكما أيضاً.

وكان انفعال الشقيين يشتد وهما يحدجانه بأبصارهما دون أن يلفظا كلمة.

فقال نكارتر بلهجة تدعو إلى الثقة:

إذا كان أحدكم أمهر من رفيقيه فسلب الماسة دونهما فلا تتخاصموا الآن لأجلها، كونوا أصدقاء، لأن خطراً مهولاً يتهددكم جميعاً.

فقال دونيلسون:

أي خطر هذا؟ عماذا تتكلم يا رفيقي؟ أوضح.

فقال كراب الذي نهض من مخبأه تحت المنضدة:

نعم، أوضح ماذا تريد أن تقول؟ ليس عندنا ماسة قط فقال البوليس وهو يرفع كتفيه:

ـ هذا ممكن ولكن يوجد في هذه النواحي رجال مقتنعون بعكس ما تقرره، أيكفي هذا؟ هل فهمتم معنى كلامي؟

ـ كلا إننا لم نفهم فهل تريد بتلميحاتك إفهامنا أن بوليساً يقتفي آثارنا؟

فقال نكارتر وهو يرفع كتفيه ثانية:

ـ ربما ولكنني لا أعرف شيئاً من ذلك، ولكن الذي أعلمه أن رجالاً آخرين يطاردونكم وهم أشد خطراً بما لا يقدر من أفراد البوليس.

اجلسوا مواضعكم يا رفاقي واسمعوا كيف عرفت ذلك، إنني لا أريد أن أرهقكم فنزاعنا وسلامنا يتوقفان عليكم.

وبعد أن تبادل ماتيو ودونيلسون النظرات وجدا الأوفق لهما أن يتشجعا ويجلسا فجلس الأول على كرسي مخلعة والثاني على صندوق فارغ فأخرج كارتر من جيبه ورقة مربعة يعلوها الغبار مكتوبة بحروف حمراء ومد هذه الورقة لدونيلسون دون أن يقول كلمة.

وكان فيه تصريح من أحد أشراف مقاطعة مونتانا يعد فيه بمكافأة كبيرة ـ خمسمائة ريال ـ لمن يقبض على جاك الأحمر الشهير حياً أو ميتاً.

وكان نكارتر يتلاعب هذا التلاعب وهو أمين أن ينفضح سره فإن عرف أن جاك الأحمر كان في سجن هيلينا من مقاطعة قونتانا فليس في وسعه أن يفسد هذه الوحدة.

ثم قهقه نكارتر وقال لهم مما قرأتم في هذه الورقة يمكنكم أن تثقوا بي واسمعوا قصتي الغريبة: فإنني اضطررت أن أقتل رجلاً كما أقتل ذبابة، وكان هذا الرجل قد صب ماءً في قدح خمري أسمعتم؟ ماءً مع الويسكي! ماءً، ماءً.

فقلت لهذا الشقي الذي تجاسر على مزج الويسكي بالماء: إن قايين ليس شيئاً بالنسبة إليك، إن ما فعلته هو أعظم من قتل الأب أو الأخ وأريد أن أريك أيها الشقي كيف تتجاسر أن تسمم رجلاً شريفاً بالويسكي الممزوج بالماء، ولم أدعه ينتظر كثيراً بل أطلقت عليه رصاصة كانت القاضية.

أنتم ترون أني كنت محقاً فيما فعلت ولكن الشريف وأعضاء محكمته حكموا بغير هذا وبالاختصار فإنني لو لم أقتل اثنين من الحرس لكنت علقت الآن في مشنقة جميلة، وكان موتي خسارة على الوطن أليس كذلك؟

ثم بدأ بطي الورقة وقال:

أما الآن فبما أنني بزي بربري أو وحشي كما يقولون فقد نجوت من الشرور ولم يعد من معارض لي في نزهتي، ولكنني قد صادفت منذ يومين فارساً قص عليّ خبراً غريباً.

قال لي أنه كان في خدمتكما وأكد لي أن في حوزتكما ماسة لا نظير لها في العالم بأسره وحاول أن يقنعني بالاتفاق معه لنسلبكما إياها.

فنظر دونيلسون وماتيو أحدهما إلى الآخر وهما متعجبان، ثم قال دونيلسون:

إصغِ، إننا نعرف حق المعرفة هذا الرجل الذي تتكلم عنه فقد كان معنا وقد وقف على شيء من سرنا فلم يعد لنا مندوحة عن إفشائه لننجو من تعرضه، ولكن هذا ليس بالأمر الخطير.

فقال نكارتر حسناً دعني أتكلم:

على مسافة قليلة من هنا تجد رابية صخرية تتذكرانها دون شك لأنكما وطئتماها بجواديكما، وقد وقفت عندها لأروّح النفس قليلاً فنظرت في السهل أربعة فوارس سائرين بجد ولم تكن هذه الناحية وجهتهم التي يقصدونها رأساً ولكنكم القوم الذين يفتشون عليهم وإذا نكبوا عن الطريق قليلاً فذلك حتى يجتمعوا برفاقهم.

أما متابعتهم لكم فهذا واضح وضوح الشمس وإذا كنت أشك في ذلك فأنا أقسم لكم بالرعد أنني أغتسل غداً وليحرسني الله، وقائد هذه الفرسان هو الرجل الذي كان في خدمتكم، وهنا أقلق كلام البوليس سامعيه الذين لم يشكوا في وشك الهلاك فاقترح دونيلسون سرعة الهرب.

فقال جاك الأحمر الدعي لا تفكر بهذا البتة فهؤلاء القوم يعرفون المقاطعة كما يعرفون جيوبهم فهم يمسكونكم حالاً، لا، لا، فأحسن ما نفعله هو أن نتربص هنا وندافعهم إذا هاجمونا.

ـ ماذا تقول؟ نتربص، إذن فأنت من جملتنا.

ـ مؤكد، فهل تظنون أنني أحتمل أن أراهم يشجون رؤوسكم بالرصاص ويقتلون هذا الأعمى المسكين، إنكم إذا ظننتم هذا فأنتم لا تعرفون جاك الأحمر حق المعرفة، إذا حميتم ظهري قليلاً فلا أتردد عن أن أقف وحدي أمام اثني عشر فارساً.

فقال كراب:

آه يا إلهي لماذا باشرت هذا السفر؟

فسأل ماتيو:

هل أنت متأكد يا مسيو جاك أن هؤلاء الرجال يعرفون طريق رجوعنا.

قال هذا وهو يتبادل النظرات مع دونيلسون.

فقال جاك الدعي:

إنني أحذركم فإن هؤلاء الرجال أقدر على اقتفاء الآثار منكم لأنها حرفتكم! ألا تعتقدون أنهم يعرفون بوجود هذا الكوخ؟

ـ هذا مرجح.

هل يخص هذا الكوخ أحداً منكم؟

فقال دونيلسون لا.

فصرخ كراب:

ـ إنه يخصني أكثر مما يخص غيري، لأنني أنا الذي بنيته حين قدمت منذ بضع سنين إلى هذه الأنحاء طلباً لمناجم الذهب وكنت لم أفقد البصر بعد.

فقال له كارتر شكراً لك على هذه التعليمات فهل يوجد أكواخ في الجوار؟

فأجاب كراب: لا يوجد أكواخ إلى مسافة بعيدة أما إذا كانوا قد بنوا في هذه السنوات الأخيرة فهذا ما لا أعلمه.

فقال البوليس: لا أظن أن أحداً يستعمر هذه البقعة التي هجرها الله فهنا الذئاب تقاطع الدببة حتى أنها لا تحييها تحية المساء، وإذا اتفق أن مسافراً أعوزه الويسكي في هذه القفار فما عليه إلا أن يصلي صلاة الموت.

وكان دونيلسون وماتيو منزويان يتكلمان بصوت منخفض وأخيراً خاطر به دونيلسون جاك الدعي بقوله:

ـ نعم إننا موشكون أن نقع في خطر عظيم وإننا نشكرك يا صاح لأنك أنذرتنا بالخطر قبل وقوعه فإذا رضي كراب أن يدفع إلينا الماسة فمن الممكن أن ننجو جميعاً.

قبل أن. . .

فقاطعه نكارتر قائلاً:

ـ من الجنون أن تفكروا بمثل هذا الآن، إن هؤلاء الأشقياء يتبعوننا إلى مئات من الأميال.

فقال كراب:

ـ كيف يمكنني أن أعطي ما لا أملكه وما لم أملكه البتة.

فخاف ماتيو من إصرار شريكه ففتح فاه ليجيبه ولكن نكارتر أسكته وقال:

سواء وجدت الماسة أو لم توجد فإنها على ما يظهر ستذهب بحياتنا جميعاً. . . إصغوا فعلت وجوه الثلاثة صفرة وأصغوا وقد حبسوا تنفسهم فسمعوا وقع حوافر جياد فأظهر جاك الدعي الضجر وقال:

إذا لم يكن هؤلاء هم الفرسان الذين أخبرتكم عنهم فإني آلو على نفسي أن لا أشرب إلا الماء الصرف بقية أيام حياتي، ولكي أريكم قدر الذي حالفتموه يا أصدقائي وسعادتكم بهذه المحالفة أرجوكم أن تتركوني أفتتح القتال بنفسي.

ولم ينتظر البوليس جواب الثلاثة بل ترك الكوخ وبعد عنه أربعين متراً في طريق ضيق وراء الكوخ.

ثم وقف فرأى الفرسان يقتربون وكانوا اثني عشر وعلى قيادتهم الرجل الذي طلب تبغاً من كارتر، فأبدى كارتر لهم إشارة بمسدسه أدهشت الرجال فأوقفوا خيولهم كأنهم يخضعون لأمر.

فصرخ القائد:

ـ هل وجدت معارفك؟

ـ نعم، أجاب الوحشي الكاذب، صحتهم حسنة وقد كلفوني أن أحمل لك تحياتهم فأين تذهب الآن؟

فهمهم القائد ثم قال:

إنني قدمت إلى هنا مع صديقين لنساعدك.

ـ أوكد لكم أن مساعدتكم لا تفيدني.

ـ لماذا؟

ـ لأنني لست في حاجة إليكم وهذا كل شيء.

ثم أبدى البوليس إشارة من مسدسه في طيها معان كثيرة.

فاقترب الفرسان وتشاوروا بصوت منخفض جداً حتى أن كارتر لم يسمع من محادثتهم كلمة واحدة.

ثم عاد القائد إلى الكلام فقال:

ـ يقولون أنك تقصد أن تتحرش بنا وتغضبنا.

ـ نعم فتكونون لي خبزاً جوهرياً قال ذلك وهو يضحك، إنني منذ يومين لم أقتل أحداً لأقتات به ومعدتي فارغة ومع هذا فليس لكم بقلبي بغض ولا حقد ولا أريكم أسناني إلا إذا قصدتم الشر.

فقاطعه القائد قائلاً:

اقصر عناك وكف عن هذا الكلام أقول لك مرة، مرتين، ثلاث هل تريد أن تتخلى عن طريقنا؟

ـ إنك تقرأ أفكاري أيها الخبيث.

ـ بالنتيجة فماذا تريد منا إننا لم نلحق بك الأذى.

ـ حتى الساعة لا، أما فيما بعد فأنتم موشكون.

ـ إذا مسست شعرة من رأس أحد أصدقائي جعلت لحمك طعمة للعقبان.

فأجابه البوليس ضاحكاً:

ـ فإذن فابدأ.

فصاح رجل كان واقفاً بجنب القائد:

يجب أن نرسل رصاصة لدماغ هذا الخشن.

ثم دفع جواده إلى الأمام قبل أن تبين نكارتر.

فعندئذ أطلق البوليس مسدسه فسمع للرصاصة دوي واختلج الرجل فوق سرجه ثم سقط إلى الأرض لأن الرصاصة سحقت كتفه.

ثم قال نكارتر:

عندي من هذه الرصاصة قدر ما تشاؤون لا أتأخر عن بذلها في سبيل خدمتكم، إن الممر ضيق جداً حتى لا يمكن لأكثر من اثنين منكم أن يتقدما سوية، وعندي لكم مؤونة كافية وأصدقائي عندهم أيضاً كثير منها فإذا أصررتم على غيكم فإننا سنرديكم واحداً بعد الآخر حتى لا يبقى منكم أحد، وسأسر جداً إذا قدرت أن أخدمكم بأن أجمعكم مع أجدادكم السالفين.

فظهر الرعب على وجوه الفرسان عندما شاهدوا مصرع صديقهم وزاد في رعبهم صهيل الخيول واضطرابها، ثم صاح اثنان من مؤخرتهم إننا لا نقدر أن نحتمل أكثر وحاولا أن يتقدما إلى الأمام ولكن جواد القائد أجفل وسد الممر فجعل هذه المحاولة مستحيلة.

ولم يمكن لأحد من الصف المتأخر أن يطلق النار على البوليس خشية أن يصرع أحد رفاقه فلم يجدوا أفضل من العود فلووا أعنة الجياد وانفتلوا راجعين.

ونزل القائد وأحد رفاقه فساعدا الجريح على الركوب وبينما كانا يجدان لينضما إلى الفرقة التفت القائد إلى نكارتر وقال له:

أيها الغريب إنك قد بدأت القتال فاحذر من انتقامنا قبل أن يطلع النهار.

فقال نكارتر بحدة:

جربوا فإن عندنا من (الملبس) ما يكفيكم.

وعندما توارى الفارسان عن نظره عاد إلى الكوخ، فوجد دونيلسون وماتيو وفي يد كل منهما مسدسه وهما واقفان أمام الباب.

أما كراب فلم يتحرك من موضعه وكان وجهه مصفراً وأمامه على المنضدة مسدسه فقال ماتيو للبوليس:

ياللشيطان، إنك عراف شهير دون شك فإنك لو لم تنبئنا بالخطر لقبضوا علينا ونحن في الكوخ كما يقبضون على الثعالب.

فقال كارتر:

لم تنته المعركة بعد فإنهم سيعيدونها.

فسأله كراب وهو يضطرب:

أتظن أن هذه العصبة ستعاود الهجوم قبل الليل؟

ـ لا، لا، إننا الآن آمنون إلى أجل قصير ويحسن بنا أن نغتنم هذه الفرصة لنقتات بشيءٍ وبعدها نعد الوسائل لمصادمتهم، قال البوليس هذا ثم دخل إلى الكوخ.

فقال له دونيلسون:

كل قدر ما تشاء إذا كنت جائعاً، أما أنا فإنني لا أقدر أن أتناول لقمة واحدة وأفضل أن أقوم على حراستكم خارجاً، وأظن أنه من الضروري أن يقوم واحد منا على هذه الحراسة.

فقال له جاك الأحمر الدعي: كما تشاء.

وكان يظن أن دونيلسون يحاول الهرب فلم يهمه ذلك ولم يحاول أن يصده لأن شكوكه كانت تقع على كراب في الغالب وترك أيضاً ماتيو يرافق صديقه.

فقال كراب للبوليس:

ـ هناك في هذا الوعاء قهوة وعلى المائدة تجد لحماً مقدداً فتقدم كارتر بانطلاق، وقد حاول ماتيو أن يأكل ولكنه لم يقدر أن يبلع.

ومع هذا فإن دونيلسون لم يحاول الفرار بل عاد إلى الكوخ بعد أن أتم كارتر عشاءه فسأل البوليس وفمه ملآن:

ـ ماذا يوجد؟

فقال دونيلسون: إنهم سيهاجموننا قبل الليل ـ وكانت هيئته مضطربة ـ فإذا شاء كراب أن يعطينا الماسة فمن الممكن أن ننجو جميعاً.

ـ كيف ذلك؟

ـ يمكننا أن نمر على هذا الجسر المؤلف من جذعي الشجرتين ثم نطلق فيه النار فلا يمكن الآخرين العبور.

فقال جاك الكاذب: أنت تعتقد بذلك يا صديقي؟ يظهر أنك لا تعرف هؤلاء الرجال معرفة يقين، إنهم قادرون أن يمسكونا إذا جازوا من محل آخر.

ـ ولكن يمكننا أن نختبئ بين الصخور وندعهم يتقدموننا.

ـ كان ممكناً هذا لولا أن هؤلاء الرجال يعرفون هذه الصخور ـ منذ ولادتها ـ فهم يحاصروننا حتى نهلك جوعاً، وأقول لكم أن أحسن ما نفعله هو أن نبقى هنا ونصادمهم كالأبالسة، إننا أربعة على اثني عشر فلسنا في غاية الضعف لأننا في هذا الكوخ كأننا في معقل.

ـ ولكن لا يمكننا أن نعد كراب بين المدافعين.

ـ هذا حق إنني نسيت أنه أعمى، ولكن إذا كنتما من الرماة الماهرين مثلي إذن. . . .

فقاطعه دونيلسون قائلاً:

إن هذا كلام في كلام سنهلك جميعنا إذا بقينا هنا.

ـ أجب سؤالي أولاً أيها الجبان هل تعرف أن تطلق النار جيداً؟

ـ ذلك مما لا ريب فيه.

ـ وأنت يا ماتيو.

ـ يا إلهي: إنني عند الحاجة أعرف كيف أستعمل المسدس.

ـ حسناً فليس علينا إلا أن ندافع عن نفوسنا فماذا تقول يا كراب وقبل أن يجيب كراب أفرغ قدح الماء في فيه ثم قال:

ـ ليس لي ما أقوله سوى أنني كنت أود من صميم الفؤاد أن لا أبلغ هذه الأنحاء المقفرة، إنني أنصحكما يا رفيقيّ أن تتبعا نصائح هذا الرجل فأنتما سبب هذه المتاعب، إنكما تريدان أن تجعلاني سارق الماسة وأخبرتما غريباً بما تقصدان فكانت نتيجة ثرثرتكما أن عصبة من الأشقياء تتعقبنا الآن وهذر كما سيأتي على حياتنا.

وكان كراب يتكلم بلهجة ملؤها الإخلاص حتى أوشك أن ينخدع بها نكارتر نفسه لولا أن براهين دامغة كانت تقنعه أن كراب بالرغم عن إنكاره الشديد هو سارق الماسة.

فلمعت شرارات الحقد في نظري دونيلسون وماتيو الموجهين إلى كراب ثم التفت نكارتر إلى دونيلسون وسأله قائلاً: هل تظن أنهم يهاجموننا هذه الليلة؟

ـ إنني نطرت هؤلاء الأشقياء حين صعدت إلى ذروة الرابية فوجدتهم في الوادي مشتغلين بتناول الطعام والعناية بالجريح وسيصلون إلينا في الليل فقال ماتيو لم يبق للظلام إلا ساعة واحدة.

فتنهد كراب تنهداً كثيراً وسأل قائلاً: هل يوجد مظاهر تدل على قرب وقوع المطر؟

ـ نحن معرضون من حين إلى آخر لغيث ساكب.

وكان نكارتر قد أنهى العشا فدخن لفافته بهدوء، وكان من مظاهر السكينة التامة التي تلوح على وجهه أنها أثرت تأثيراً حسناً في نفس البقية، وبعد قليل أقبل الظلام.

وكان نكارتر جالساً قرب الباب فالتفت إلى الداخل وقال: أظن أن العصبة لا تتأخر طويلاً فاستعدوا للمصادمة.

فقال ماتيو والحيرة لا تفارقه.

ـ ماذا نقدر أن نصنع؟

ـ إنهم يعتقدون دون شك أننا سنتحصن هنا فإذا أغلقنا باب الكوخ أحبطنا ما يرومونه من حصارنا ولا أظنهم يعودون إلينا راكبين ولكنهم يترجلون في الوادي ويتسلقون الصخر إلينا.

فقال دونيلسون:

ـ إننا نقابلهم سوية وهم يقابلوننا واحداً واحداً حقاً إن هذا موافق.

ـ هل تنظرون ذلك الصخر على بعد خمسين متراً؟

وكان الليل حالكاً فلم يتبينوه ولكنهم عرفوا عماذا يريد أن يكلمهم.

ـ اثنان منا يلوذان بذلك الصخر فيصيران كأنهما في معقل، فأنتما يا دونيلسون وماتيو تذهبان إلى هناك وأنا والأعمى نتوارى وراء هذا الصخر المقابل وإن يكن أقل مناعة من ذاك إلا أنه كاف، فإذا انحدر المهاجمون من الرابية شويناهم بنار بنادقنا.

فقال ماتيو: فكرة في غاية الإصابة فتعال يا جورج.

ـ نعم إن هذا التدبير حسن ـ قال البوليس ـ إن رصاصي تسوى اثنتين أما الأعمى فيحشو لي السلاح، أليس كذلك يا كراب؟

فأجاب التعس بلهجة اليائس، أفعل كل ما تأمرني به، ثم أفرغ قدح الماء في فمه وسار وهو يتلمس الحائط إلى زاوية من الغرفة، ثم عاد وفي يده حقيبة ملأى بالخرطوش.

فسأله نكارتر: أهذه لي؟

ـ نعم، فقدني الآن إلى الزاوية التي عينتها.

فسار دونيلسون وماتيو إلى الصخر الذي دلهما عليه البوليس وسار كراب ونكارتر إلى الصخر المقابل على بعد خمسين خطوة من الصخر الأول.

ـ لا يوجد في هذا الصخر سوى محل لرجل واحد فتمدد أنت على الأرض.

فسأله الأعمى: وأنت ماذا تفعل يا صديقي؟

ـ أنا أجد ملجأ ليقيني المهاجمة من بعض النواحي.

فتنهد كراب وقال كل هذا من أجل ماسة مشؤومة.

فقال البوليس ضاحكاً:

ـ نعم، إنني بعد كل ما سمعته لا أرى أشأم منها، ولكن كفى الآن! فإما أن يكون سمعي قد خدعني أو أن المهاجمين اقتربوا! أصغ.

وأصغيا فسمعا دوياً من غابة مجاورة وكان خفيفاً جداً في بادئ الأمر ثم أخذ بالاشتداد شيئاً فشيئاً.

وأطلق بغتة طلقان ناريان من وراء الصخر الذي لاذ به دونيلسون وماتيو.

فتململ البوليس وقال ما أشد حمقهما إنهما أهديا الأعداء إلى مكمنهما عوضاً عن أن يجعلاهم البادئين، فهذه الغباوة ستكلفهما كثيراً.

وفي الواقع أنه لم يكد الطلقان يلمعان حتى دوت ست طلقات من المهاجمين وكلها موجهة إلى حيث خرجت النار.

فأيقن نكارتر أن الوقت قد حان فأطلق النار وللحال تصاعد في سكون الليل صراخ ألم شديد، فقال البوليس قد أجدى الطلق على ما أظن، ثم أفرغ من مسدسه الخمس الطلقات الباقية بسرعة مدهشة، ثم أمر كراب أن يحشو السلاح.

وكان يسمع حركة الأعمى وهو يحشو المسدسات، وسمع أيضاً من قمة الرابية صراخاً وتجديفاً فقال قائد العصابة:

ياللداهية، إنهم أكثر مما ظننتهم.

فسأله آخر قائلاً:

هل جرحت يا وان؟

ـ نعم.

ـ وأنا أيضاً مصاب بجرح بليغ.

فظن نكارتر أن الأعداء سيقاتلون وهم متقهقرون فإذا كان ذلك فما عليه إلا أن يطلق طلقاً واحداً، أو أنه يفرغ سلاحه في الهواء.

وفي هذه اللحظة دوى طلق من صخر الصديقين أجابه الأعداء بطلقات شديدة قوية ونظر نكارتر شبحاً يتسلل بين الأشجار فصوب عليه المسدس وأطلقه فاضطرب الشبح وتوارى في الغاب دون أن يهم بصيحة ألم.

ـ هذه خسارة، قال البوليس، كنت أفضل لو صرخ، لأنه كان يلقي الرعب في قلوب المهاجمين.

وهذا الطلق بدل الوجهة التي كان يقصدها المهاجمون فإنهم عرفوا أن الخطر يهددهم من الجهة الأخرى، وللحال لمعت رصاصة وسقطت على الصخر وراء نكارتر والأعمى، فتمدد نكارتر على بطنه أما كراب فإنه حشا الأسلحة وأعطاها لرفيقه الشجاع وهو يتململ وسأله:

هل تظن أنهم يحاصروننا هنا؟ ـ هذا ممكن.

ولمعت طلقات جديدة بالقرب منهما.

فقال البوليس وهو يحاول أن يتبين المهاجمين ـ عمل حسن.

ثم سمعوا طلقاً من وراء صخر الصديقين، فلم يقابله الأعداء بالمثل.

ثم ابتدأ الحصار الذي تنبأ عنه كراب ونكارتر.

وقد سبقه سكون لم يفرغ في أثنائه نكارتر رصاصة من مسدسه ثم نظر بغتة دوران الفتيان المتسرعين.

فنهض قليلاً وهو يحمل في كل يد مسدساً فأفرغهما بالتتابع على المهاجمين بمهارة فائقة، وقد أصاب في الجميع تقريباً فكنت ترى هنا هيكلاً بشرياً ينقلب على الأرض أو يضطرب أو يتوارى في الظلام.

ولم يسكن الأعداء مدة طويلة بل عادوا إلى المهاجمة فانطلقت رصاصة رفعت قبعة نكارتر وطرحتها على الأرض، ولكن في ذات اللحظة سقط الرامي على الأرض وهو يصرخ صراخ الألم.

وكان نكارتر قد أبقى رصاصتين في كل مسدس.

ولكن طلقاً بالقرب منه ألفت أنظاره فوجد كراب قد أطلق النار فسأله:

ماذا صنعت هل أنت مجنون؟ دعني لهذا العمل فعلينا أن نقتصد في الذخيرة.

أنت محق، ولكنني فكرت أن رصاصة تطلق صدفة ربما كان لها بعض النفع وقد تهيجت حتى لم أتملك نفسي.

وظهر أنه قد أصاب المرمى لأن البوليس نظر شبحاً يميل ذات اليمين وذات اليسار ثم سقط وقد كان مؤكداً أنه لم يطلق النار على هذا الرجل فتمتم قائلاً في نفسه:

آه، آه، إنني قد بدأت أفهم.

ولكن الوقت لم يكن وقت تفكير.

فإن ثلاثة أشباح اندفعت نحوه وهي تطلق النار بدون انقطاع حتى كادت تصم أذنا البوليس وكانت الرصاصات تمر بجانبه ولها صوت كفحيح الأفاعي ثم شعر برصاصة قد خرقت قميصه ولامست كتفه، وللحال غير نمط المهاجمة فعوضاً أن يبقى في مكمنه انقض على مهاجميه وهو يثب وثب النمر وأفرغ من مسدسه رصاصة صرعت أقربهم منه.

وكان الثاني قريباً جداً من نكارتر فاستعمل نكارتر مسدسه كهراوة وضربه على رأسه ضربة كانت القاضية عليه فسقط المسكين على الأرض.

أما الثالث فركن إلى الفرار لا يلوي على شيء كأن الموت يقتفيه ثم توارى في الوادي فتركه نكارتر يفر.

وهذه البسالة الفائقة من رجل واحد قررت النصر والظفر.

ثم التفت نكارتر إلى صديقه الأعمى وقال له أما الآن فسنعود إلى الكوخ إذ لم يعد من خطر.

فنهض كراب واستند بيديه على ذراع البوليس، فلاحظ هذا أن الأعمى قام بهذه الحركة بسكون ولم يخامرها شيء من الاضطراب والتردد الذي كان يرافق أقل حركاته.

كان الأعمى يتشكى منذ مدة يسيرة أنه عصبي المزاج سريع التأثر ولكنه في هذه اللحظة كان يظهر أنه ليس أقل جلداً من نكارتر نفسه، فقاده البوليس إلى الكوخ، ولما وصل الاثنان إلى الباب وضع نكارتر يده على فمه ليستجمع قوة صوته ونادى الرفيقين الباقيين أن أخرجا من مخبإكما فكل شيء قد انتهى وللحال أبصر رجلاً يعجل السير نحوه وكان هذا الرجل ماتيو، فسأله نكارتر: أين صديقك؟ فأجابه ماتيو بصوت متلجلج، قد مات، أصابته رصاصة عند الطلق الأول نفذت إلى دماغه.

ـ آه ما أتعسه! ولكن لماذا عرض نفسه للخطر بتصديه لإطلاق النار أولاً.

ـ لماذا، لأنه ظل متهوراً إلى الساعة الأخيرة، فإنني توسلت إليه أن يتربص قليلاً ولكنه أبى إلا أن يكون البادئ، وحالما أطلق النار رفع رأسه ليرى إذا كان أصاب المرمى وفي الدقيقة عينها صاح صيحة مرعبة وسقط بين ذراعي ميتاً.

ـ إنني سمعت تلك الصيحة ولكنني ظننت نشأت عن الأعداء، ماذا تريدون؟ إن الذي لا يصغي إلى النصائح تكون العاقبة وبالاً عليه والآن فلننظر خسائرنا فهل أنت جريح يا رفيقي؟

ـ كلا، وأنت؟

ـ إنني خمشت في ذراعي فهل عندكم مصباح؟ وكان مع نكارتر مصباحه الكهربائي ولكنه فضل أن لا يستعمله لئلا يثير الشكوك في نفس الرفيقين وكان يشعر بحاجة إلى الحذر والاحتراس كل ما تقدم خطوة، وفوق ذلك فإنه لم يتمم وظيفته بعد فبالرغم عن كل ما قام به فالماسة ما زالت مفقودة.

فقال كراب هناك مصباح في الزاوية.

وبعد أن أوقدوا عدداً كبيراً من الثقاب (عيدان الكبريت) وجده ماتيو فأضاءه في أثناء ذلك كان نكارتر قد خلع ملابسه ورفع كم قميصه فظهر على ذراعه جرح خفيف فقال البوليس إن الرصاصة كانت مسددة، ولنخرج الآن لنرى ساحة القتال ثم تناول المصباح واقترب من الباب.

فصرخ ماتيو:

هل أنت مجنون؟ فإذا كان أحد الأعداء مطروحاً على الأرض وله مكنة على إطلاق النار أفلا يتخذ منك هدفاً مناسباً؟

ـ هذا صحيح، ولكنني أشك في بقاء أحدهم حياً وإذا وجد أحد فهو لا يؤثر النزاع، وعند اقترابه من الأشجار أبصر شبحين يقتربان ببطء فصاح به أحدهما لا تطلق النار أيها الغريب فإننا قد نلنا فوق الكفاية.

ـ كما تريدون أيها الأصدقاء إننا قوم مسالمون ولا نود أن نؤذي أحداً ولكن إذا كان جلد أحدكما يأكله فما عليه إلا أن يعود، فما زال لدينا ذخيرة معدة لخدمته ونستأنف الدور، فلم يجيباه وعندها تقدم البوليس فرأى على نور المصباح أن أحدهما كان جريحاً جرحاً بليغاً وأما الجريح الثاني فكان خطبه أيسر فسألهما هل خرج أحد منكم سالماً من المعركة؟

ـ نعم، ثلاثة.

ـ وأين هم؟

ـ إنهم نجوا كالأرانب واختبأوا في الكهف.

ـ كذلك يفعل النبهاء، إنني أراكم قادرين على المسير فاذهبا وادعوا أصدقاءكما، نوباً عني بتحيتهم وناديهم ليرجعوا أو يعنوا برفاقهم ويطمئنوا من جهتنا فإننا سنساعدهم في مهمهتم، ولكن اصغوا: إذا كنتم عازمين أن تعيدوا المشهد فإننا سنجعل أجسادكم قوتاً لذئاب هذه الغابة.

فتمتم أحد الرجلين:

يا إله السماء، إننا نلنا أكثر من حسابنا، فكن مطمئناً، فنحن لا نريد إلا المسالمة على شرط أن تقابلنا بالمثل.

ثم ودعا البوليس ـ وداعا بسيطاً ـ وانحدرا مسرعين إلى منحنى الكهف ثم عادا ومعهما الأصحاب الفارون.

وفي خلال غيابهم جال نكارتر في ساحة القتال ليرى إذا كان في وسعه أن يساعد أحداً من الجرحى، فوجد اثنين منهم ضمد جراحهما بمناديل أحضرها ماتيو من الكوخ خمسة من المهاجمين في جملتهم القائد سقطوا في المعركة.

فقال البوليس وهو يفكر:

يحزنني أن أضطر إلى الفتك بهؤلاء، ولكننا كنا ندافع الدفاع الذي يجيزه الشرع فلو لم ندافع لكنا قتلنا الواحد بعد الآخر وظل الثلاثة الأصحاء نحواً من ساعتين حتى واروا قتلاهم في الثرى وأعانوا الجرحى إلى بلوغ مرابط الخيل، ثم توارى هؤلاء الفرسان عن العيان وكانوا منكسي رؤوسهم حزناً لإخفاق سعيهم فعوضاً أن يلاقوا الماسة لاقوا الضرب والرصاص.

وعندما بعد الأعداء قال جاك الكاذب أول فرض يجب علينا القيام به هو أن ندفن دونيلسون، فاستحسن ماتيو هذا الفكر واشتغل الاثنان بحفر ضريح لجسد رفيقيهما فصرفا في هذا السبيل ساعة من الزمان.

وفي أثناء ذلك كان المطر يتساقط غزيراً.

وكان كراب جالساً داخل الكوخ ووجهه بين يديه وكان مضى الهزيع الثاني من الليل حين عاد كارتر وماتيو إلى الكوخ.

فقال نكارتر لا أعلم يا صديقي إذا كنتما قادرين على السهر أما أنا فسأنام قال ذلك وهو يتثاءب.

فقال ماتيو:

لو أعطوني ذهباً لأنام ما أمكنني ذلك. .

ولكنه بالرغم من هذا الكلام اضطجع في زاوية من الغرفة وبعد بضع دقائق علا غطيطه واستغرق في النوم، ولكن البوليس لم يغمض له جفن.

وكان الهواء يزداد رداءة، وقبل الفجر بقليل هبت عاصفة شديدة يصحبها برق ورعد، ولكن ماتيو لم ينتبه البتة بل ظل مستغرقاً في النوم.

وكان الظلام لم يزل سائداً عندما لحظ البوليس أن الأعمى نهض بتأن ومشى على رؤوس أصابعه نحو الباب، وكان يتقدم ببطء ولكن حركاته ليست حركات من فقد بصره.

وهنا تلاشى الشك الأخير من نفس نكارتر، لقد شك به أثناء المعركة ولكنه تأكد الآن أن كراب كان من النوع المسمى (نكتالوب) والنكنتالوبيا هي خاصة في العين تمنعها من النظر إلا في النور الضعيف أو الظلام الحالك وهي واضحة في الهررة الداجنة التي تبصر ليلاً كما تبصر نهاراً.

وهذه الحالة نادرة جداً بين بني الإنسان ولكن نكارتر نظر مشهدها فكان كراب في النهار أعمى ولكنه يبصر جيداً في الليل.

وقد قدر أن يخدع جميع من شاهده حتى أصدقاءه الأخصاء فإنهم كانوا يعتقدون أنه فقد بصره تماماً، ولكن لما أطلق النار رغم إرادته فصرع الرجل الذي استهدفه كأبرع صياد كشف سره لنكارتر.

وهذا الاكتشاف زاد شبهة كارتر فجزم بأن كراب هو سارق الماسة دون غيره، وكان عليه أن يعرف مخبأها، ولم يفكر بإيقافه بل حاذر كل ما من شأنه أن يلقي الريب في نفس الأعمى قبل أن يعرف مخبأ الماسة.

إن هذا النكتالوب أظهر مهارة فائقة لا في سرقة الماسة فقط بل بتغييبها على شكل غامض حتى لم يجدوها معه ولا في ثيابه، فكان البوليس متكلاً على الصدفة وأن يدع السارق أميناً.

ولهذا لم يعارضه حين خرج تحت المطر المتساقط كأفواه القرب بل نهض بتأن ليتبعه.

إن الثبات الذي كان يسير به كراب في تلك الأرض الوعرة والمغطاة بالعوسج وليس فيها طريق مطروق أذهل البوليس إذ أنه على الرغم من نظره الثاقب ومن اعتياده المسير في الليل والنهار بين الوعور والآكام كان يبذل جهداً شديداً كي لا تزل به القدم.

وكان كراب يتقدم دون تردد ولا تأخر وبدأ بالنزول على الصخر إلى مصب النهر فضاق صدر نكارتر لأنه لم يعلم كيف يتبع النكتالوب في هذه الليلة الحالكة فوقف لحظة ليفكر فسمع بغتة وقع خطوات وراءه، فالتفت وإذا ماتيو قد انقطعت أنفاسه من سرعة الجري وكان قد وصل إلى حيث كان البوليس فقال له بصوت منخفض.

إنني نهضت فجأة ونظرت نور البرق فوجدتك قد خرجت من الكوخ فهل تقدمك ـ بدون شك ـ أجاب نكارتر وهو شديد العجب من تصرف ماتيو أنه قد خبأها في الكهف على ما يظهر.

فآلى ماتيو على نفسه أن يلحق به وكاد يندفع في سبيله فأمسكه نكارتر بيد شديدة فأثبته في محله وقال له ببرودة:

انتظر دقيقة بعد يا عزيزي فعندي شيء أريد أن أوضحه لك فارتعش ماتيو، فغنه رأى أن سلوك جاك الدعي لم يعد هو ذاته حتى أن لهجة صوته تغيرت ثم قال:

ـ ماذا تريد أن تقول؟

ـ إنني بوليس ليس إلا وأنا مكلف أن أعيد الماسة إلى صاحبها الشرعي الذي سلبت منه، فحين تصل الماسة ليدي أعيدها إلى دلمار، أما أنت يا مسيو ماتيو فأنا لا أريد منك شيئاً ولكن إذا حاولت أن تقاومني أو تحبط ما أحاوله فستندم على ذلك، فوقف ماتيو دقيقة دون حراك كأن الصاعقة قد انقضت عليه وحاول عبثاً أن يتكلم.

ـ بو. . . . ليس. . . . بوله. . . . يس ـ تمتم أخيراً، وأنت أنت. . ت. . تر. . . قبنا.

ـ أنا لا أقتفي آثارك ولكنني ألاحق كراب، كنت أفعل مثلكم.

قال نكارتر ببشاشة: فإنني كنت أعلم منذ زمن بعيد أنك لا أنت السارق ولا دونيلسون ولكنكم صممتم أن تستردوا الماسة ولكن لا لتعيدوها إلى صاحبها بل لتبقوها لأنفسكم.

ـ لكن. . . لكن. . . لا أعرف. . . أريد أن أسألك. . . ماذا تدعى؟

ـ أدعى كارتر من نيويورك وعادة يدعونني نكارتر.

ـ يا إلهي.

فارتجفت جميع أعضاء ماتيو واستلقى على صخر وهو يحاول أن يستعيد تنفسه.

ـ صمم الآن ـ قال البوليس إنني قدمت لك نصيحة حسنة وأنا آمل أن تقابلني بالمثل وهذا كل ما أطلبه منك.

ـ اعتمد عليّ يا مسيو كارتر، فلتحرسني السماء من عداوتك.

ـ لا أحقد عليك ـ قال البوليس ـ وقد أخذته الرأفة على ضعف ماتيو ورعبه.

فلنسمع.

ـ كل ما تريد.

ـ هل أنت شريك كراب؟

ـ نعم ولكن لا في سرقة الماسة.

ـ أعرف هذا، ولكنك تعرفه منذ زمن طويل، هل تعرف أنه كان نكتالوب يعني أعمى في النهار ويرى في الليل؟

فنظر ماتيو إلى مخاطبه بعجب.

ـ حقاً إنك لاحظت ذلك؟ إنني اشتبهت به منذ زمن طويل وكدت أتأكد.

ـ وأخيراً تبدل شكك باليقين.

ـ ولا ولكن بالعكس بل كثيراً ما كنت أغالط نفسي، فإن كراب إذا لم يكن سوى نيكتالوب فإنه أمهر ممثل عرفته في حياتي.

ـ أنا على رأيك في هذا الأمر، إنه نكتالوب وأقدر أن أؤكد ذلك.

ـ هل تعرف أين خبأ عين الشيطان.

ـ لم ألاحظ أقل شيء من ذلك، ولا أقدر أن أجزم فيما إذا كانت الماسة في حوزته فليس عندي أقل برهان سوى الاستدلال والاستنتاج.

ـ وأنا من رأيك.

ـ أرجوك ـ إذا كنت تريد الخير لنفسك ـ أن لا تكتم عني شيئاً علمته وأقدر أن أستفيد منه شيئاً.

ـ أقول لك الحقيقة يا مسيو كارتر كما لو كنت أتكلم بعد القسم وأؤكد لك أنني أفادي بكل شيء حتى لا أعاديك.

ـ حسناً ـ وأنا أسمع ـ عندما اجتمعت بصديقك دونيلسون وصادفتما الأعمى هل كان في الكوخ.

ـ لا، كان الكوخ خالياً، ولكننا وجدنا آثاره فجزمنا برجوعه.

ـ ومتى رجع؟ ـ أمس مساءً.

ـ أول الليل.

ـ نعم.

ـ إذن فهو في الليل يرى بجلاء إذ كيف يمكن الأعمى أن يجول وحيداً في هذه المقاطعات المنفردة، أو لم ينبهك ذلك إلى أنه نكتالوب.

ـ نعم إن هذا الفكر داخلني، ولكنني لم أفه لدونيلسون بكلمة.

ـ هل عرفت شيئاً عن المحل الذي كان فيه كراب؟

ـ لا أعرف. . . ولكنه أتى من هذه الجهة، ثم أشار إلى جهة الكهف.

ـ هل نظرته ينزل إلى هذا الكهف؟

ـ إننا راقبناه طول الليل، فلم ينكشف لنا من الأمر شيء حتى وصلت إلينا، وقد تفننا في سؤاله وأخيراً فرغ صبرنا فعولنا على إرغامه ليعطينا الماسة طوعاً أو كرهاً.

ـ إنكما تصرفتما بكل خرق في التذرع بالوسائل ولو لم أباغتكما لكنت الآن قاتلاً شقياً أمام الله والناس.

فارتجف ماتيو وغطى وجهه بيديه ثم قال وهو يتململ.

ـ كنت أود لو لم أتداخل في هذه القضية، مع أنني أنا، أنا الذي زينت لدونيلسون اتباع الأعمى واغتصاب الماسة.

ـ إنني قلت لك وأكرر ما قلت، ليس في صدري شيء عليك لا شخصياً ولا بداعي الوظيفة ويمكنك أن تنسحب الآن دون أن تخشى شيئاً، ولكن كن حكيماً في المستقبل، وأنصح لك الآن بالرجوع إلى الكوخ مسرعاً كما تفر من الموت، أما أنا فسأتابع الأعمى إلى الكهف.

ـ دعني أصاحبك يا مسيو كارتر، إنني فكرت ملياً في ذلك، فقد كانت هذه الماسة مشؤومة فألقتني في هذه الوهدة، وأريد الآن أن أبذل الجهد المستطاع لأردها إلى صديقي القديم دلمار.

فقال البوليس وهو يرفع كتفيه:

ـ كما تشاء إذ لا أجد مانعاً من إجابتك إلى ما تطلب، ولكنني أود أن ألفت أنظارك إلى الخطر الذي تسعى إليه فإن كراب ينقل مسدسه وهو يرى في الظلمة كما يرى الهر.

ـ إذا لم أكن مخدوعاً أقول أنه خبأ أيضاً بندقية في الكهف ولكن هذا لا يثني عزمي عما أروم.

ـ حسناً جداً، ولكننا نحتاج نوراً لئلا نعثر في انحدارنا لأننا لسنا من فصيلة (نكتالوب) كما تعلم.

ـ سأذهب إلى الكوخ وأفتش عن المصباح.

قال ذلك وهمّ بالذهاب فأمسكه نكارتر بذراعه وقال له:

لا حاجة لذلك فإن معي ما يغنينا، وأخذ من جيبه المصباح الكهربائي وأناره بضغطة على الزر.

فأبصرا أمامهما ممراً ضيقاً متحدراً كثير المزالق يؤدي بعد معاناة الأخطار إلى قاع الكهف، فتدرج الاثنان في هذا الطريق وهما متحدران، ولكنهما أسرعا في المسير على قدر الاستطاعة.

فوصلا أيضاً إلى أرض جرداء ولم يكن فيها سوى طريق صغير متعرج ضيق مملوء بالحجارة المحددة الرؤوس التي كانت تمزق الأحذية وكان على يمينها صخر ينهض إلى الأعالي حتى تغيب قمته في السحاب وعلى يسارهما النهر بأمواجه المزبدة فسأل البوليس أي طريق يسلكه كراب عند مروره من هنا.

ولم ينتظر طويلاً حتى يسمع جواباً على ذلك فإن شهاباً لمع للحال قرب النهر وسمع دوي طلق فأرعب نكارتر رعباً شديداً.

وصرخ ماتيو صراخاً هائلاً وأن أنة جزع لا تترجم بالكلام ثم رفع ذراعيه إلى السماء وحركهما هنيهة وبعد أن خطا بضع خطوات إلى الوراء سقط إلى الأرض لأن الرصاصة كانت قد اخترقت قلبه.

ولكن نكارتر لم يفقد صوابه فأدار نور المصباح إلى الجهة التي أتى منها الطلق ولكن النور لم يبلغ المسافة المطلوبة حتى يرى من هو الذي أطلق النار، فعزم البوليس أن يتبع مجرى الحوادث.

وبعد لحظة دوى طلق آخر أصاب المصباح الكهربائي الذي كان في يد البوليس ولحسن الحظ كان نكارتر ماداً يده بالمصباح لتطول المسافة التي يبلغها نوره فرفضت يده الصدمة الشديدة، وحين فقد النور عرف شدة الخطر الذي وقع فيه، إذ كان لخصمه عليه مزية كبرى في أنه يرى بجلاء على رغم الظلام المتكاثف أو بالأحرى بواسطته.

ولكن البوليس لم يكن يرى شيئاً فراح يعدو إلى جهة الصخر ليتحصن به.

فوفق الالتجاء إلى تجويف ضيق في الصخر انسل إليه بصعوبة وهناك ربض ينتظر النتيجة بفارغ الصبر.

فدوى طلق جديد وقع على الصخر الذي كان البوليس على وشك مغادرته فقال:

إذن ينبغي أن أقيم هنا دون حراك فإنني إذا خاطرت في التقدم خطوة إلى الأمام أصابتني رصاصة شدخت رأسي، لأن هذا الحيوان يصيب المرمى أحسن إصابة، ومع هذا فإن مقامي ليس أقل خطراً من التقدم فقد يمكن أن يبلغه كراب دون أن أشعر به.

وفي هذه اللحظة دوى الرعد فرددت صدى دويه الأودية بما يصم الآذان ولمع البرق فأضاء تجويف الصخر وتلك الأرجاء كلها حتى سهل النظر على البوليس.

فغنم كارتر هذه النهزة وحاول أن يستفيد منها عالماً أن كراب لا يستطيع فيها شيئاً بسبب ضعفه، فخطار حينئذ ورفع رأسه قليلاً ليرى خصمه فوجده على بعد خمسين خطوة واقفاً أمام ضفة النهر وهو يحمل باليد الواحدة بندقية ويستر عينيه بالأخرى حتى لا يبهره النور.

فعمد نكارتر إلى الاحتيال الذي خلصه من مواقف أشد خطراً من هذا الموقف فأخذ قبعته وعلقها على رأس صخرة ثم نزل مسرعاً إلى ضفة النهر حيثما لا يرى.

ثم اختفى نور البرق وساد الظلام ولم يعد البوليس قادراً أن يرى كراب فلم تمر لحظة حتى سمع دوي شديد وسمع كارتر صوت قبعته المتدحرجة على الأرض.

ـ لم يخدعني فكري فقد ظننت أنه سيلمح قبعتي، وأومل أن يسقط الآن في الفخ وكان يسمع خطوات تقرب من المحل الذي كان جاثماً فيه كأنها تقتفي آثار قبعته كأن كراب كان آتياً ليرى خصمه قتيلاً.

ولم يكن كارتر قادراً أن يميز شيئاً في الظلمة ففضل أن يستمر على سكونه ولم يشأ أن يصاب بطلق ناري يجعله هدفاً لنار (نكتالوب).

ولكن يجب أن نؤمن بآلاه خاص للبوليس السري فإن لمعة برق أشد من التي سلفتها أنارت الكهف حتى ظهرت أشجاره وعوسجه ورؤوس صخوره.

فوقف كراب فجأة ووضع يديه على عينيه متألماً لأن النور بهرهما وسكن بدون حراك كأن نار السماء قد أحرقته.

وللحال وثب البوليس وارتمى عليه، فشعر كراب بدنو خصمه فصاح صياح الغضب وقد ارتجف غيظاً لأن نور البرق لم يكن قد اختفى بعد فحاول أن يقابل البوليس، ولكن هذا كان أسرع منه فقبض على فم البارودة قبل أن يطلقها كراب فضاع الطلق في الهواء وسمع له دوي اضطربت له تلك الصخور من أسسها.

ولسوء الحظ عادت الظلمة ثانية.

وقام بين الرجلين صراع شديد، وكان اليأس يضاعف قوى كراب وفضلاً عن ذلك فإنه يرى في الظلام بينما كان نكارتر يصادف مشقة شديدة ليقبض على خصمه وقد قاتل كراب بخفة النمر فكان يثب ويضرب ويزمجر ولكنه تعب أخيراً فقبض نكارتر على رقبته بذراعيه الشديدتين، وانهارت التربة التي تحت أقدام الرجلين فجأة لما تخللها من المطر، ففقد كراب الموازنة ولكن البوليس نجا بوثبة وثبها إلى الوراء من خطر التدحرج من رفيقه إلى أعماق النهر.

ولمع البرق فأنار تلك الأرجاء، فأبصر نكارتر خصمه متدهوراً في ذلك المنحدر وهو يحاول أن يتمسك بالعوسج فخاب ما حاوله، وسقط المسكين في النهر وقد صرخ هذا التعس وهو على وشك الهلاك:

فلتكن ملعوناً، فلتكن ملعوناً، إنك لن تظفر بالماسة البتة، البتة، البتة، وطغت عليه مياه النهر فصاح صيحة هائلة جمد لها الدم في عروق نكارتر ثم غاص في الماء.

وبعد بضعة أيام وصل البوليس ـ وهو الوحيد الذي بقي حياً من العصبة إلى مقاطعة في الأريزونا فيها مكتب للتلغراف، فراسل باتسي الذي كان باقياً في دانفر كما أمره وعلم منه أن دلمار سافر إلى سان فرانسيسكو فأجابه نكارتر تلغرافياً بما يأتي.

سأقابله في سان فرانسيسكو وأطلعه على تفصيل الحوادث أما أنت فيمكنك أن تذهب إلى نيويورك.

وكان نكارتر بعد الواقعة قد جاس الأراضي وسنرى نتيجة فعله، ثم عاد يلتمس الجواد فوجده حيث عقله أما سائر المطايا فقد هلكت برصاص المتقاتلين، واستمر البوليس مسافراً على ظهر الجواد حتى وصل أول موقف لسكة الحديد فركبها إلى فرنسيسكو وهو يتنهد تنهد الراحة لأنه وجد أخيراً في غرفة متقنة فيها جميع معدات الراحة والرفاهية.

وفي فرنسيسكو قابل دلمار التاجر الهندي القديم ووضع في يده الماسة الثمينة التي كان يعتقد أنه فقدها إلى الأبد، فكان تأثر التاجر شديداً حتى تعذر عليه النطق بضع دقائق ثم دعا البوليس إلى تناول الطعام وسأله أن يقص عليه الحوادث التي جرت.

فقال نكارتر:

ليست مهمة جداً ـ قال ذلك لأنه كان يكره أن يذكر الأعمال الفائقة التي قام بها ـ ولكنني أقول أنه كان من المستحيل عليّ أن ألاقي الماسة لو لم أعرف كيف سرقت فقال دلمار:

أؤكد لك أني لا أعرف أيهما يسرني أكثر أن تعود الماسة إلى حوزتي أم أن أعرف الأسلوب الخارق الذي سرقت به.

ـ إن اللغز الذي حير ألبابنا كان بسيطاً للغاية، فكانت مظاهر الصعوبة التي تجلله أشبه بالظاهر التي جللت أركاز بيضة خريستوف كولمبوس.

يجب عليّ أن أقول لك أن كراب كان نكتالوب أي أنه لم يكن يرى في النهار ولكنه في الليل يرى بجلاء وعلى هذا فكان يستحيل عليه أن يرى على النور الكهربائي.

ولكنك لما التفت وضغطت الزر فأظلمت الغرفة نظر الماسة تلمع في ذلك الظلام فخطفها ورماها في قدح الماء الذي كان أمامه.

ولما شعر أنك ستعيد النور حالاً وضع القدح على فمه وإذ لم يكن للماسة لون استحال عليك أن تراها في القدح.

فصادق دلمار على كلامه وقال:

والأغرب من ذلك أن الماسة كانت تحت يدك عندما كنت تفتش جيوب أصحابك وثيابهم.

وعندما طلب كراب منك أن تناوله قدح الماء قبل أن بارح الغرفة قدمت له الكأس والماسة معاً وقلبك منسحق للإهانة التي وجهتها لهذا الضعيف أليس كذلك يا مسيو دلمار إن هذا يميت من الضحك.

وإنك تذكر جيداً أنه بعد أن تناول الماء كلمته فاقتصر على الانحناء أمامك وقد عزوت هذا لانفعاله الشديد من الإهانة حتى وقفت الكلمات على شفتيه آه، آه، آه.

وعندما خرج من الغرفة تناول الماسة من فمه ووضعها في جيبه وقد أتى مثل ذلك مراراً في الكوخ حيثما اجتمع عليه صديقاه وإني أؤكد أن الماسة كانت أمامه في الكأس حين شرعنا بالقتال مع البرابرة، وأذكر أيضاً أنه أفرغ القدح في فمه قبل أن يجلب لي حقيبة الرصاص ولا شك أن الماسة كانت عندئذ في فمه ثم خبأها في الكهف.

ولكي أختصر القصة أقول لك أنني خفت خوفاً شديداً لما سقط كراب في النهر من أن تكون الماسة معه فلا يعود في اليد حيلة كما تعلم وأخيراً عزمت أن لا أبارح الكهف بل أنتظر طلوع النهار وأخيراً بدأت بالتنقيب بين الصخور.

ولم يكن لي مطمع أن أجد جثة كراب فإنني لم أقف لها على أثر وبعد أن فحصت الحاجز الصخري وجدت تجويفاً فيه يؤدي إلى مغارة وكان في المغارة قوت وغطاء من الصوف وبندقية ومسدسان وعدة حوائج أخر.

ولا يقتضي فطنة كبيرة حتى يعرف الإنسان أن هذه المغارة هي مخبأ حصين وقد انتقاها كراب عند مبارحة الكوخ وأجاد في انتقائها لأن رجلاً فيها يمكنه أن يحارب جيشاً على شرط أن يكون عنده الذخائر الكافية.

وأخذت أنقب في زوايا الكوخ ومكانه ولكن آمالي خابت في أن أجد الماسة فيه إذ لم يلح لي أقل أثر منها وكدت أيأس لولا أنني لحظت في جانب الكهف صخراً على شكل مائدة وفي وسطه تجويف طبيعي صغير ملآن ماءً.

أقول تجويف طبيعي ولكن الأمر كان بالعكس لأنه كان من المستحيل أن يتسرب الماء من نفسه إلى ذلك التجويف فكان من الواجب أن تكون يد إنسان قد صبتها فيه فوضعت يدي في هذه الماء فوقعت على جسم صلب لا أراه ولكنه كان موجوداً لأنه كان يقاوم أصابعي ولله ذلك السرور الذي شعرت به فإنني عندما جذبت ذلك الجسم من الماء كانت الماسة بعينها التي طالما بكيت عليها وحننت إلى استرجاعها، هذا هو حل اللغز.

ثم استلقى نكارتر على مقعده وأغرب في الضحك.

فاستحوذ العجب والدهشة على دلمار وكان يتنازعه عامل السرور باستعادة الماسة وعامل الاحترام لذلك الشجاع النبيل المهذب فنهض وطوق عنق البوليس بذراعيه وجد في تقبيله قبلات شديدة أما نكارتر فلم يمانعه في ذلك البتة.

ثم قال دلمار:

إن كراب هذا هو أدهى لص لفيته في حياتي أليس كذلك يا مسيو كارتر؟ إنني لا أعرف كيف أعبر عن شكري العظيم.

فتبسم البوليس، ثم استأنف دلمار الكلام فقال:

إن الماسة صارت أعزّ عليّ الآن بعد أن تعرضت لخطر الضياع، ولكنني كنت أود أن أعلم ماذا جرى بكراب.

فقال البوليس وهو يرفع كتفيه ـ إنني لم آل جهداً في التفتيش عنه فذهبت مساعي أدراج الرياح وأعتقد الآن أنه يرقد بسلام في أعماق نهر كولورادو. . . .