مجلة المقتبس/العدد 43/طريقة التعليم

مجلة المقتبس/العدد 43/طريقة التعليم

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 9 - 1909



كان من أول الإصلاح في أوربا أواخر القرون الوسطى وأوائل القرون الحديثة لما شرعت الأمم الراقية فيها تدرس العلوم المادية والأدبية أن أتت على طريقة التعليم تصلحها بما يقتضيه حال الزمن والتجارب فتم لها في أوائل القرن الماضي تنظيم مدارسها على النحو الذي نراها عليه اليوم وأصبحت يدخلها الطالب فيتعلم في بضع سنين لغو أو لغتين أو ثلاثاً معها إلى ما يتحتم عليه معرفته من العلوم الطبيعية والرياضية والاجتماعية والأدبية والاقتصادية فيخرج الطالب بعد هذه الدروس النظامية الأولية ملماً بفروع كثيرة بل بأمهات العلوم وأصولها المقررة لإعداد العقول للتفكير والأنامل للكتابة والألسن للنطق والأجسام للحركة وهذه الدروس التي يسمونها دروس الموضوعات (الأنكلوبيذية) يمر فيها الطالب على كثير من المطالب تغنيه إذا أراد الاقتصار عليها والانصراف إلى أكثر الأعمال التجارية والصناعية والزراعية والعلمية. وإذا سمحت به همته إلى الإخصاء في علم واحد من العلوم التي ذاقها في الجملة يتمحض لها ويدخل مدارسها الخاصة كمدارس الزراعة والتجارة والمعادن والميكانيكيات والأدب والطب والهندسة والقضاء والجندية واللغات والفلسفة واللاهوت والاجتماع وعن ذلك من أصناف العلوم التي جعل لكل فرع منها مدرسة خاصة أوصف خاص يدرس فيها من تصح عزيمته على الامتياز في فروعها ليكون فيها مرجعاً ويبرز على أقرانه فينفع وينتفع.

ولولا إصلاح طريقة التعليم والإلقاء لم يتيسر للشاب أن يدرس في سنين قليلة مثل هذه الدروس الكلية ولكن أصول الكتب التي أُلفت بحسب سني الطلب وسن الطالب وطريقة الإلقاء الشفهي والإملاء الكتابي هي التي تفتح ذهن الطالب وتحبب إليه الدرس والبحث منذ الصغر فلا يتناول من العلم إلا بقدر معلوم ولكنه يتناول اللباب ويطرح القشور ويقرأ المختصرات إبان دراسته كليات العلوم فإذا شب يتناول المطولات فتكون منه على طرف الثمام.

فيمثل هذا التنظيم في التعليم ثم الإخصاء في فرع أو فرع نبغ في الغرب رجال في علوم البشر لأشبه بينهم وبين رجالنا في سعة المدارك وبعد الهمم والعلم الواسع وبتربية بنيه على هذا الأسلوب نبغ في القرون الأخيرة فرادليس في رجالنا من يضاهيهم أو يبلغ علمه ربع علومهم أمثال ديكارت وكونت وكانت وياكون سبينوزا ويبنترلا وأمرسون ونيوتن وهاكسلي وسبنسر وكيتي وشيلر وروسو وفولتير ومئات يتعذر الآن إحصائهم.

هذه المدارس وطرق تدريسها هي التي حرم منها الشرق إلا قليلاً ولا يرجى تأسيسها على ما يجب في البلاد المصرية والعثمانية إلا بعد أن تكون المائة والخمسون طالباً الذين تبعث بهم نظارات الحكومة العثمانية إلى كليات أوربا قد أنجزوا الفروع التي يتمحضون لها ويعود أولئك الذين أرسلتهم الجامعة المصرية للأخصاء في فروعه منوعة من العلم يدرسون في الجامعة بالعربية فيتخرج بهم أرباب الرغبات في العلم كما يتخرج الآن في السلطنة العثمانية أناس كثيرون بالرجال الذين درسوا الفنون العسكرية والطبية في ألمانيا أو يتخرج المصريون بالأساتذة القلائل الذين تعلموا في كليات انكلترا وفرنسا وألمانيا على نفقة نظارة المعارف المصرية.

متى كثر عدد المتعلمين على الطريقة الحديثة وأصبح الأستاذ لا يجلس في حلقة تدريسه وعلى منبر إلقائه إلا إذا كان أفنى شطراً من حياته بالقعود على دكات تلك المدارس الراقية وأسهر الجفن في الليالي وراء المناضد وتخرج بأعظم أساتذتها الأعلام هنالك قل للعثمانيين والمصريين أنكم بلغتم درجات الأمم الحية فجديرون وأنتم ما أنتم أن يهابكم العدو ويحترمكم الصديق. وأي سلاح أمضى من العلم الصحيح والآداب الرافعة وأي عاقل يبجل غير الحري بالتجلة والإكرام ممن امتاز بصفات الرجولية الحقيقية.

لا جرم أن إصلاح التعليم على الأسلوب الجديد وتدريس علوم الدنيا به ينفع إذ ذاك في إحياء العلوم الدينية أيضاً لأن الارتقاء سلسلة لا يتيسر أن يكون بعضها عاطلاً وبعضها حالياً بل هو كالبناء لا يكون صحيحاً إذا تداعى منه جانب.

متى حسنت طريقة التعليم لا يقضي طالب العلم الديني بضع سنين مثلاً في تعلم بعض العلوم الآلية ليحسن مطالعة عبارة معربة فيغوص كما هو الحال في الروم ايلي والأناضول والشام سنين كثيرة في بحر البناء والمقصود العزي والمراح والعوامل والإظهار والكافية والشافية والسمرقندية والمختصر والسنوسية والأيساغوجي وغيرها من كتب النحو والصرف والبيان والمنطق ثم لا يتلو شيئاً من العلوم التي يقصد تعلمها كالتفسير والحديث والفقه والكلام والحكمة. وذلك كما يغوص طالب العلم في الأزهر في قراءة الأجرومية والكفراوي والأزهرية وأبن عقيل والخضري والصبان وغيره من كتب النحو المطولة والمختصرة ينتقل من واحد إلى آخر حتى يفرغ صبره ولو قرأ أحد هذه الكتب المطولة قليلاً كابن عقيل وشرحه مثلاً لأغنته عن هذا التطويل الذي يضيع به وقته ويتبلد ذهنه وتفوته الغاية المقصودة من الطلب واللغة آلة لا غاية. ولكن عقم طريقة التعليم قضى أن لا يتعلم طلبة الجوامع والمدارس سواء كان في الديار المصرية والبلاد العثمانية إلا هذه القوانين والقواعد ويحرموا من تطبيق النظر على العمل.

وليت شعري أليس من فساد طريقة تعليم المشايخ أن لا يعلم الطالب منهم كتاباً أو شذرة من علم الأدب واللغة ليتفهم أثناء دراسته النحو والصرف والبيان معاني الكلام الفصيح ويطبق النحو والصرف والبيان والمنطق على العمل ثم يتأتى له تأليف جملة صحيحة عربية وكيف يتأتى للمرء إتقان لغة دون أن يطلع على كلام أهلها وكيف يؤلف الكلام من لا يفهمه وهل اللغة الإسماع من أصحابها والجري على مناحي بلغائها وما نظن الغزالي وابن رشد وابن سينا وابن الطفيل وابن زهر وأبا حيان وابن جرير الطبري والماوردي ومئات غيرهم في الإسلام كانوا يعرفون فروع النحو ودقائقه مثل ابن الحاجب وابن عقيل والبركوي والصبان وإضرابهم من أئمته ومع هذا انتفعت الأمة بكتب أولئك الفلاسفة والعلماء انتفاعاً يبقى أثره على الدهر ولم تعهد لهم غلطة شائنة ولا أسلوب ركيك.

لا يتيسر إتقان لغة من لغات العالم كلها إلا بالسماع من أفواه أهلها وسلوك الطريقة العلمية في اقتباسها فلو أتقن الطالب جميع قواعد النحو والصرف والبيان والمنطق كما هو الحال الآن في هذا الصنف من المتعلمين ولم ينظر في تحليل الكلام العربي واستظهار القدر اللازم من منثوره ومنظومه ولم يتدبر معاني الكتاب ولا أخذ بقسط من الحديث وغيره ما استطاع الطالب أن يفهم روح اللغة العربية على أصولها ومن لم يفهم اللغة كان حرياً بأن لا يفهم أسرار الشريعة على ما يجب.

إن المدارس الغير نظامية كالأزهر والفاتح صدت الناس عن الطلب لما اعترضهم دونه من العقبات بالطريقة العقيمة المتبعة معهم وأي طريقة أفسد من أن يظل الشيخ يشرح للطالب المبتدئ في أول يوم يشرع فيه بتعلم النحو كيفية إعراب البسملة ووجوه قراءتها على حين يكون الطالب غفلاً لا يعرف الجار من المجرور ولا المرفوع من المنصوب ولا الصفة من الموصوف وهكذا يبقى الشيخ يضيع وقته ووقت الطالب على غير جدوى وقد رأيت من المشايخ من قرأوا العوامل في سنة والعوامل مثل فهرس لأبواب النحو لا يبلغ ثلاث ورقات إلا أن المدرس أوسعها شرحاً وتحشية وتهميشاً حتى صارت كتاب نحو مطول هيهات أن يستوعبه عقل طالب.

ولذا كان من خير ما تم من الإصلاح في الأزهر على عهده الأخير الاستغناء ما أمكن عن الشروح والحواشي. ولعل المشيخة الإسلامية تنظر لطريقة تعليم طلبة الجوامع بما يقوم أودها فتقضي على طلبة العلوم الدينية أن يمتحنوا امتحاناً عملياً لا نظرياً ممزوجاً بشيء من العلوم العصرية كما هو حال مدرستي دار العلوم ولقضاء الشرعي. وتسير على هذا المنهج إدارة الأزهر الشريف فيعود إليه سالف مجده ويخرج في السنين القليلة طلاباً درسوا علوماً كثيرة تنفعهم في جهاد الحياة.