مجلة المقتبس/العدد 43/نهضة العربية الأخيرة

مجلة المقتبس/العدد 43/نهضة العربية الأخيرة

مجلة المقتبس - العدد 43
نهضة العربية الأخيرة
ملاحظات: بتاريخ: 1 - 9 - 1909



سادتي الأخوان (1)

سألتموني سعدت بكم أوطانكم أن أحدثكم بطرف من تاريخ نهضة اللغة العربية في المئة سنة الأخيرة وما منكم إلا من استفيد منه وأتشرف بالأخذ عنه. أنتم من أهل الفئة الفاضلة في وطنكم يتوقع منكم أن تنيروا آفاق جهله بأنوار معارفكم وأن تعمروا أكناف معالمه ومجاهله بما ثقفتموه في هذه العاصمة السعيدة من تجارب نافعة وتلقفتموه من علم صحيح وآداب رافعة. فإنى لي وأنا نازل بينكم متعلماً لا معلماً أن أفوه في حضرتكم بكلام وقد اعتادت آذانكم سماع مصاقع الخطباء وتقرير جهابذة الباحثين والعلماء وما حالي وحالكم لو أنصفتكم وأنصفت نفسي إلا حال من يحمل التمر إلى هجر أو المسك إلى أرض الترك استغفر الله بل أن حال من يلقي محاضرة على جمعية الإخاء المصرية في باريز أعجب وأغرب.

إخواني: تعلمون قرت بكم عيون مصر أنه أتت على اللغة العربية أدوار وأطوار وعرض لها ما يعرض لكل كائن في الوجود من ضعف وقوة وعزة وذلة وأن أتعس أيام ضعفها كانت في القرن العاشر والحادي عشر والثاني عشر للهجرة وهو عهد الفتور في جسم الأمة الإسلامية عامة والأمة العربية خاصة. ثلاثة قرون بل أكثر مضت في مرض مستحكم كانت تكفي لموت هذه اللغة الشريفة التي تعقد اليوم على أمثالكم خناصرها وترجو بمساعيكم أن يكون مستقبلها خيراً من حاضرها وغابرها بيد أن لغة يفرض على زهاء مائتي مليون من المسلمين أن يتعلموها ليفهموا بها كتابهم العزيز يستحيل عليها الاضمحلال ما دام في الأرض مسلم يوحد الله.

لابد لكل حركة من سبب. وسبب ما عرا العربية من الضعف في تلك القرون انقطاع الملوك عن الأخذ بيدها فأصبحت الأمور العلمية صورية ينظر فيها إلى الأشكال لا إلى الحقائق واقتصر الناس على فروع الفقه والكلام والتوحيد وعدوا ما عداها من العلوم فضولاً لا غناة فيه وساعد على انتشار هذا الرأي السخيف ما أصاب البلاد من ضعف الأحكام وفساد النظام ولا علم حيث يفقد الأمن وفي النادر أن يهتم جاهل بتعليم أو يربي من لم يتربَّ.

وكأن قدرة المولى تعلقت بأن هذه اللغة التي نشأ لها الضعف من أبنائها أن تأتيها الصح على أيدي غيرهم. وربما يعجب بعضهم الآن إذا قلنا له أن مبدأ نهوض اللغة العربية كان في مصر أيام محمد علي وقد صحت عزيمته على خدمتها مسوقاً بنابل من سلامة فطرته ودلالة بعض مستشاريه من أهل العلم من الفرنسيس فكان من أعماله الحليلة ما خلد له الفخر على الدهر وجعله من حيث خدمته للغة والعلم لا من حيث منازعه السياسية من أعاجيب الحكام في الشرق. والشرق أبو المعجزات والكرامات.

ليس من يجهل أن محمد علي كان أمياً أو يقرب من درجة الأمية. مات ولم يحسن التكلم بالعربية العامية لأنه كان ارناؤدياً ولم يخط سطراً واحداً لأنه تعلم في الكهولة مبادئ طفيفة من حسن الخط والقراءة فقط. ومع هذا فقد عني بما لم يعن به أحد من ملوك المتأخرين وشرع منذ استتب له أمر مصر يختار الأذكياء من أبنائها ممن قرؤوا الدروس الوسطى فيبعث بهم على نفقة الحكومة إلى أوربا ليخصوا في العلوم التي أولعوا بها حتى إذا عاد أحدهم وأتم تحصيله يحبسه عنده في قلعة الجبل ويخرج له كتاباً بالإفرنجية في الفن الذي أتقنه ويوعز إليه بأن لا يخرج من القلعة قبل أن يترجمه بالعربية ويأمر له بأسباب الراحة والمعينات على الترجمة والتأليف. فإذا ما انتهى الطالب من عمله يعرضه على أمير البلاد وهذا يدفعه بالطبع للعارفين من الناس أو إلى لجنة كانت معروفة إذ ذاك بلجنة الامتحان فبعد أن تنظر فيه ترخص بطبعه في المطبعة الأميرية ويغدق الأمير على المترجم أنواع الهبات ويشرع في ترقيته في المراتب إن كان ممن استعدوا للإدارة أو الجندية أو البحرية وإذا كان من الأساتذة يوسد إليه التدريس في بيوت العلم موسعاً عليه في الرزق ليتخرج به أبناء مصر. وهو عمل يذكرنا بما كان يأتيه المأمون العباسي من الأنعام على المترجمين ولكن ما يصدر عن المأمون وهو أعلم خليفة في الإسلام لا يستكثر منه وعصره شباب هذه الأمة بقدر ما يستكثر ما تم على يد محمد علي الأمي الألباني وعصره عصر شيخوخة الإسلام والمسلمين.

قال لي صديقي الدكتور عثمان بك غالب أحد حسنات مصر الذين نبغوا بفضل الطريقة التي اختطها محمد علي لمن يجيء بعده وشاهد تلك الحركة العلمية في إبانها ثم شاهدها في انحطاطها وهو يشهدها الآن في تجددها: لقد ظلت نهضتنا العلمية سائرة أحسن سر إلى سنة 1882 فما بعدها وبدأ انقطاعها سنة 1887 وقد قام بعدها رجل من أبناء مصر نفسها وهو علي باشا مبارك ناظر المعارف فسعى وربما كان بدون قصد سيء منه لإحلال اللغة الإنكليزية محل اللغة العربية في المدارس الأميرية زاعماً بأن الواجب على المصريين مخاطبة المحتلين بلغتهم وهذا لا يتأتى إلا إذا أتقن المصريون لغة البريطانيين فبدأت نظارة المعارف في أيامه وبعدها تسلب وظائف التدريس من المصريين وتعطيها لأبناء انكلترا وقطعت الإرساليات العلمية إلى أوربا حتى لم يكد يبقى اليوم من أولئك المدرسين المصريين غير شيوخ قلائل إذا عادوا إلى منابر التعليم لا يسدون حاجة مصر وأخذت المعارف في عهد المبارك تطهر المدارس بأمثال دنلوب وارثين من كل ما ينفع اللغة أو كان من آثار النهضة الأولى حتى لقد كانت تطرح الكتب المترجمة أكداساً من مستودعاتها كما يطرح القذى والنوى لتسجل العار على من عقوا لغتهم وأمهم كما عق أخوة يوسف ابن أبيهم عل حين كان علي مبارك من جهة ثانية يؤسس دار العلوم ويؤلف التأليف التي تخدم العربية مثل الخطط وعلم الدين وغيرهما من مصنفاته.

قال غالب بك كان أكثر أساتذة المدارس التي أنشئت في مصر على عهد نهضتها الأولى من الفرنسويين المستعربين يكتب الأستاذ درسه بالفرنسوية والمترجم معه ينقله إلى العربية فيلقي على الطلبة بلغتهم دام ذلك منذ سنة 1830 إلى سنة 1854 وقد كتب فيها الأستاذ بروجر بك الفرنسوي رئيس مدرسة الطب والولادة والصيدلة والمستشفيات المصرية إلى خديوي مصر في عهده يقول له في تقريره السنوي أن الوقت قد حان لأن تكون وظائف التدريس كلها بيد المصريين إذ أصبح فيهم الأكفاء الآن وأن مهمة فرنسا في تربية أبناء مصر في هذه الفروع العلمية قد انتهت أو كادت.

نعم في ذاك العهد تم للعربية ما تريد من تعريب المصنفات العلمية والأدبية على اختلاف أنواعها فأضحت لغة علم بعد أن انقطع سند العلوم منها قروناً وأحيا أولئك المصريون أمثال الطهطاوي والرشيدي والشباسي والهيهاوي والنحراوي وحماد وبهجت والفلكي وندى والنبراوي والبقلي ألفاظاً من لغتنا كانت في حكم الدارس هجرت منذ كان العرب يترجمون وينقلون على عهد الدولة العباسية في بغداد والأموية في قرطبة والفاطمية في مصر وأضافوا إل تلك الألفاظ ما حدث بعد عهد الحضارة العربية من المستحدثات العصرية والمصطلحات الفنية وعربوها على الطريقة التي سلك عليها أجدادنا المعربون غالباً حتى أن الأتراك والفرس لما شرعوا يعلمون العلوم في البلاد العثمانية والإيرانية باللغتين التركية والفارسية لم يجدوا أمامهم كنزاً حاضراً ينتفع به في الحال مثل تلك المعربات المصرية الحديثة في الهندسة والطب والعلوم والاجتماع والفلسفة والتاريخ والجغرافية وغيرها فنقلوا المصطلحات العربية برمتها وأدمجوها في تضاعيف لغتهم.

كان الطلبة الذين أرسلهم محمد علي إلى التخرج في أوربا وتلامذتهم وتلامذة تلامذتهم مدة نصف قرن حملة لواء العلم لا في القطر المصري فقط بل في البلد العربية كافة وأصبحت مصر ببيض أياديهم من هذه البلاد بمثابة باريز من الممالك اللاتينية تفيض عليها النور وتهز أعصابها للارتقاء حتى بلغت الكتب التي ترجمت في فنون مختلفة من الإفرنجة زهاء ألفي مجلد. والأثر الأكبر فيها للشيخ رفاعة الطهطاوي شيخ من ألف وترجم في عهده بما خلفه من قلمه أو عرب في قلم الترجمة برئاسته وما بثه من المبادئ في مدرسة اللغات ومجلته روضة المدارس. وكلها أعمال مهمة تدل على نفس طويل وفضل جزيل. خل عنك تلك الجرائد والمجلات التي صدرت في تلك الأثناء ومنها جريدة وادي النيل لأبي مسعود ومجلة الطب لكلوت بك.

ورب معترض يقول أي علاقة لتعلم العلوم الجديدة ونقلها إلى العربية بحياة اللغة التي يراد منها آدابها المنثورة والمنظومة ليس إلا. والجواب أنه لا أدب لمن خلت لغته من أمثال هذه المعارف. فكما أن للعلوم ارتباطاً كلياً بعضها ببعض هكذا خلت لغته من أمثال هذه المعارف. فكما أن للعلوم ارتباطاً كلياً بعضها ببعض هكذا اللغة دخل عظيم في سلاسة آدابها بما تأخذه عن غيرها بل إن لغة مهما حوت من أنواع البديع والمعاني والبيان لا تعد من اللغات الحية إن لم تكن لغة علم قبل كل شيء.

وهنا مسألة مهمة لا أحب أن أمر بها وأنا منطلق لأن لها علاقة كبرى بموضوع النهضة الأدبية وهي أنا إذا تدبرنا تاريخ محمد علي وحسناته على العلوم والمعارف لا نلبث أن نشبهه من ملوك الإفرنج بالإمبراطور شارلمان ملك فرنسا وجرمانيا الغربية. وشارلمان كما لا يعزب عن علمكم كان من أعظم ملوك دهره وله صلة بملوك المسلمين وهو الذي أنفذ إليه الرشيد العباسي رسولاً من قبله سنة 1801م يحمل إليه هدايا فاخرة ومفاتيح القبر المقدس وهذا الذي كان يحمي الملتجئين إليه من أمراء المسلمين الهاربين من الخلفاء في قرطبة. كان شارلمان لأول أمره أمياً تعلم الكتابة البسيطة على كبر مثل محمد علي إلا أن تنشيط التجارة والصناعة والآداب كان مغروساً فيه بالفطرة فجعل قصره معهد المستنيرين والمتعلمين الذين يستعين بهم على نشر المعارف بما أنشأه من المدارس بإشارة الكوين المشهور أستاذه وأمين سره وباذر الجراثيم الأولى من المعارف في هذه الأرض الفرنسوية وبمساعيه أنشئت المدارس في اكس لاشبل عاصمة البلاد إذ ذاك وتور واورليان وليون واستنسخت الكتب الوافرة لينتفع بها الطلاب.

ومن العجيب أنه حدث لنهضة شارلمان ما حدث لنهضة محمد علي حذو القذة بالقذة وذلك أنه لما مضى لسبيله عادت تلك الحركة العقلية فركدت ريحها جملة واحدة لأن من خلفوه على سرير الإمبراطورية لم يكونوا على قدمه ولا رزقوا سعة عقله وصفاء طبعه ولأن الأعمال العظيمة في البلاد المنحطة قد تقوم بالفرد أكثر من قيامها بالأفراد وعلى العكس منها في البلاد الراقية. أتت خمسون سنة على فرنسا بعد وفاة شارلمان مات في خلالها التعليم أو كاد ولم تدب روح التجديد فيها إلا بانتباه عقول الأمة وعلى يد أناس من أبنائها كما قامت مصر منذ نح عشر سنين تجدد حياة آدابها بيدها بعد محمد علي بنحو خمسين سنة متكلة في مهمتها على نفسها لا على الحكومة وبذلك جاز لنا الاستنباط بأن كل اصلاح يقوم بالأمة في هذا الوجود يكون الأمل في بقائه أكثر مما يقوم بيد الحكومة ولا سيما في الدول الإستبداية التي تجد فيها تمييزاً بين الأمة والحكومة. والحكومات قد تعرض لها عوارض تنسى معها الترغيب في العلم ومنها إلى اليوم من يفضل الجهل على العلم. ولهذه المسألة نظائر كثيرة في تاريخ الأمة العربية فقد رأيناها تسعد وترقى في برهة قليلة على يد فرد عظيم عاقل من ملوكها وشاهدناها تشقى وتنحط بفرد آخر لا يرجع إلى عقل ولا إلى نقل.

كان الأدب العربي قبل دور النهضة الأخيرة عبارة عن سجع كسجع الكهان طول بلا طول ولا طائل وجمل باردة سمجة وشعر ركيك أكثره في الأماديح والأهاجي وإن ارتقى الشاعر انفلق لسانه في وصف الخد والخال وذات النطاق والخلخال من ربات الحجال أو الذكران من الرجال. وما أظنكم أعز الله بكم دولة الأدب إلا قد وقع لكم شيءٌ كثير من أمثال هذه الركاكات والسخافات فضربتم بها عرض الحائط وحمدتم الله على أن خلقكم في زمن قام فيه من الكتاب أمثال محمد عبده وأحمد فارس وإبراهيم المويلحي وإبراهيم اليازجي وإبراهيم الحوراني وطاهر الجزائري وعبد الله فكري ومحمود شكري الألوسي وجمال الدين القاسمي وحفني ناصف ويعقوب صروف وإبراهيم مصور وسليمان البستاني وعبد الرحمن الكواكبي وشبلي شميل وقاسم أمين وأحمد فتحي زغلول ورشيد رضا ورفيق العظم وعبد الحميد الزهراوي وعبد العزيز جاويش وصالح حمدي حماد ولبيب البتنوني وفريد وجدي ومحمد فريد وعلي يوسف وأحمد تيمور وزكي مغامز وشاكر شقير وسامي قصيري وشحادة شحادة وسعيد الشرتوني ورشيد الشرتوني وفرح انطون وجرجي بني وإبراهيم النجار وأديب اسحق ونعوم لبكي ونعوم مكرزل وأحمد فؤاد وسعيد أبو جمرة ومصطفى الغلاييني وعبد الباسط فتح الله ومحمد بيرم وخير الدين التونسي ومحمد المهدي وشكري العسلي وشاكر الحنبلي وعبد الوهاب الإنكليزي ونجيب شاهين واسكندر شاهين وسعيد الباني ومحمد مسعود وحافظ عوض وحسن حسني الطويراني وأحمد سمير وعبد الغني العربي ورزق الله حسون ويوسف البستاني وأنطوان جميل وعادل أرسلان ونسيب أرسلان وجرجي حداد ورشيد عطية ونجيب طراد ويوسف زخم وعبد الوهاب النجار وميشيل بيطار وخليل زينية ومحمد مصطفى وأحمد زكي ومصطفى لطفي المنفلوطي وأمين ظاهر خير الله وعيسى اسكندر المعلوف وديمتري قندلفت ويوسف الخازن وروحي الخالدي ومحي الدين الخياط ومحمد المويلحي وخليل سعداة وداود بركات وبشارة زلزل وبولس زوين وعبد القادر المغربي وبدر الدين النعساني ومرسي محمود ومحمد صادق عنبر وعبد الرحمن البرقوقي وعبد القادر المؤيد وعبد الكريم سلمان وأحمد الصابوني وعشرات غيرهم لا تحضرني الآن أسماؤهم من شيوخنا وكهولنا وشبابنا. وقام من الشعراء محمود سامي وعبد المحسن الكاظمي وإسماعيل صبري وحافظ إبراهيم وأحمد شوقي ومعروف الرصافي وجميل الزهاوي وشكيب أرسلان وفارس الخوري وخليل مطران وعبد الله البستاني ومصطفى صادق الرافعي وبطرس كرامة وناصيف اليازجي وعبد الباقي العمري ونجيب الحداد وأمين الحداد وولي الدين يكن ونقولا رزق الله وشبلي ملاط وداود عمون وفضل القصار ورزق حداد وغيرهم ومن الخطباء جمال الدين الأفغاني وعبد الله نديم وإبراهيم الهلباوي وسعد زغلول وأحمد الحسيني ونقولا توما ومصطفى كامل وعبد الرحمن سهبندر وأنيس سلوم واسكندر العازار وفارس نمر ومحمد أبو شادي وأمين ريحاني ومحمد لطفي جمعة وأحمد لطفي السيد وأحمد عبد اللطيف وعمر لطفي وأحمد لطفي وإبراهيم اللقاني وأحمد محمود وعبد العزيز الثعالبي وغيرهم ممن هم عمدة العربية في نهضتها الأخيرة عملوا لخيرها في مصر والشام والعراق وتونس أعمالاً وخلف أكثرهم من مآثر فضله ما يطرس المتأدبون عليه وينسجون على منواله.

وبينا كانت اللغة العربية تزهر في مصر في الإمارة العلوية عزَّ على الشام أن تكون دون شقيقتها في هذه الخدمة الشريفة فنشأت لهذه اللغة حياة جديدة في سورية لا بواسطة الحكومة كما في مصر بل بواسطة الأفراد والجمعيات وذلك في أواسط القرن الماضي وكانت بيروت مدينة وهي ثغر لبنان وسورية موطن تلك الشعلة وقد جاءها أناس من مرسلي الفرنسيس والأميركان وأنشؤا فيها مدارس جعلوا لغتها الأولى اللغة العربية وأتقنها كثيرون من أهل لبنان فحمد مسعاهم وكانت اليد الطولى في تنشيط لغة قريش للدكتورين كرنيليوس فانديك ويوحنا ورتبات وهما من أعظم مؤسسي الكلية الأمريكية الأنجلية في بيروت تعلما العربية والأول أميركي والثاني أرمني ودرسا بها مع أقرانهما العلوم الطبيعية والرياضية والطبية ومن غيرتهما عليها أن عمدة المدرسة لما عمدت أن تجعل لغة التعليم في الكلية اللغة الإنكليزية بدل العربية قاوما ما وسعتهما المقاومة ولما أخفقا استقالا من وظيفتهما لأنهما أبت مروءتهما إلا أن يمحضا النصح للبلاد وللغتها. والدكتور كرنيليوس فانديك الأميركاني في سورية بفضله على اللغة العربية وما عرب لها من كتب العلم أشبه بالشيخ رفاعة الطهطاوي في مصر ووجه العجب في فانديك أعظم لأنه أميركي والمنشأ غار على لغة العرب أكثر من أهلها ومن الغضاضة على مصر والشام أنهما لم تعرفا لهما حقهما على ما يجب وكان على القطرين أن يرفعا لهما تمثالين كما رفعت باريز لهوغو وروسوا وكما رفعت مصر لمحمد علي وإبراهيم. والعلماء لم يكونوا أحق بالرعاية من رجال السياسة في بلادنا فلا أقل من أن يكونوا على مستواهم.

ولقد كان من أعظم من خدموا الآداب العربية في بيروت على ذاك الدور أيضاً بطرس البستاني وأسرته بما نشره من دائرة المعارف العربية وغيرها من الكتب والجرائد وبثه في مدرسته الوطنية من أصول العلم وفروعه وكذلك يوسف الأسير وإبراهيم الأحدب وناصيف اليازجي وأسرته وغيرهم. فهؤلاء كلهم توفروا على التعليم وتخرج بهم مئات من الطلبة الذين انتشروا بعد في أقطار الشام ومصر وأميركا وكان منهم الكتاب والصحافيون والمحامون والخطباء. ولم تحرم الأستانة - والعواصم مرزوقة منذ خلقها الله_من نزول عالم بالعربية فيها اتخذها مباءة علمه ومثابة درسه وبحثه وأعني به أحمد فارس الشدياق الذي اقترح عليَّ صديقي سيد أفندي كامل من رجال الجامعة المصرية أن أتوسع في الكلام عليه.

أصل هذا الرجل من لبنان من أسرة مسيحية خرج من بلاده مغاضباً فقضى زمناً طويلاً في مصر وتونس ومالطة وفرنسا وإنكلترا وتعلم خلال ذلك الإنكليزية والإفرنسية ثم دان بالإسلام وألف بعض الكتب ومنها اللفيف في كل معنى طريف طبع في مالطة سنة 1839 ومن كتب في أوربا كتاب الساق على الساق في ما هو الفارياق أو أيام وشهور وأعوام في عجم العرب والأعجام طبعه في هذه العاصمة سنة 1270هـ. وضمنه ترجمة حياته وشؤوناً وشجوناً على أسلوب يجمع بين الجد والفكاهة تقدر أن تعده من الإنشاء المعروف عند الإفرنج بالامورستيك (الجد في الهزل) أو الرياليست (الحقيقي) الذي حدث في عهد فلوبر أو الناتوراليست (الطبيعي) الذي تم على يد زولا وانك لتدهش من قدرته فيه على التعبير ورشاقته في التصوير ومتانته في التحرير والتحبير فكأن اللغة التي كان من جملة محفوظات أحمد فارس فيها قاموس الفيروزابادي الذي ألف كتاباً مهماً في نقده سماه الجاسوس على القاموس - كانت نصب عينيه يأخذ منها كل ساعة ما يشاء ويستحضر في دقيقة ما يصعب الإتيان به في ساعة ويتقن ما شاء بيانه وتبيانه. ولفظ الفارياق مقتطع من أول اسمه فارس وآخر اسم أسرته الشدياق. وقد حمل في كتابه على رؤساء الدين حملة منكرة لأن بعضهم قتلوا أخاه ظلماً وتعصباً جعلوه في بناء لهم وبنوا فوقه لأنه دان بالمذهب البرتستانتي (1).

هبط أحمد فارس مدينة الأستانة بعد أن خبر حال أوربا خبرة زائدة وأنشأ جريدة الجوائب التي طار صيتها في الأفاق ورزق الحظوة بعلمه فكان ملوك الأطراف يهادونه ويمنحونه المنائح وممن كان يساعده خديوي مصر وباي تونس وملك باهوبال في الهند حسن صديق خان الذي طبعت له مطبعة الجوائب معظم تآليفه العربية وكان هذا الملك أعلم الملوك المتأخرين بل أشبه بأبي الفداء صاحب حماه في جمعه حكم الناس إلى معالجة التأليف وهو بلا نزاع نابغة العجم والعرب في فهم أسرار الكتاب والسنة.

ولقد كانت جريدة الجوائب مثال الإنشاء العربي البحت سارت جميع صحفنا التي أسست بعدها على نسقها وقلَّ أن نشأت جريدة في صحتها وديباجتها العربية اللهم إلا أن تكون جريدة العروة الوثقى للشيخين جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ومصباح الشرق لإبراهيم بك المويلحي والبرهان للشيخ حمزة فتح الله وذلك لأن جريدته كانت كهاته أسبوعية وله فيها مساعدون في الأقطار العربية كان يهاديهم ويهادي علماء عصره حتى كثر أحبابه من العلماء في شمالي افريقية وغربي آسيا ووسطها وهو الذي يتولى النظر في كل ما ينشر فينمقه ويزوقه وناهيك بكلام تصقله الأنامل الفارسية. فأحمد فارس هذا لو أنصفنا هو واضع أساس الصحافة العربية وباعث روح الحياة في آدابنا بما خلفه من آثاره ومن أراد أن يطلع على شيء من كتاباته في جوائبه فعليه بالرجوع إلى كنز الرغائب في منتخبات الجوائب وهو مطبوع متداول وإن أحب الإطلاع على الجوائب برمتها في حجمها ووضعها فليرجع إليها في خزائن الكتب في أوربا ومصر والأستانة.

ولم يقف عمل أحمد فارس عند حدود نشر جوائبه وكتبه ومنها كتاب سر الليال ورحلة له إلى أوربا جدة محضة وكتاب نحو اللغة الإنكليزية وديوان شعره وغيرها بل نشر طائفة من كتب الأدب واللغة والشعر ككتب الثعالبي والتوحيدي والطغرائي والبديع وغيرهم من أئمة الأدب نشرها على أحسن أسلوب راق في طول البلاد عرضها بأثمان بخسة فعمت بها الفائدة وأنشأ طلاب الآداب يتحدونها في أسلوبها. وما برحت مطبوعات الجوائب إلى اليوم يتنافس المتنافسون ويدخرها غلاة الكتب لينتفع بها الأحفاد والبنون على ممر الدهور والقرون.

ابتلى أحمد فارس بأناس حسدوه وأي عالم خلا من حساد وطفقوا يشنعون عليه ويزيفون شعره ونثره وينتقدون جريدته وكتبه ولكن تلك المناقشات اللغوية والأدبية بينه وبينهم بل بين حزبه وحزبهم لم تزد فارسنا إلا جرأة على الجري في مضماره وقبولاً بين العالمين بمصنفاته وآثاره فكان بنقده بعض كتاب اللغة العربية أشبه بسانت بوف في نقده كتاب عصره من الفرنسويين فاستفاد أرباب الأقلام من تلك المحاورات كما استفادوا بعد مما دار بين التقدم والمقتطف والبيان والضياء والمشرق وبذلك أخذ من يعانون صناعة القلم يتأنون قليلاً فيما يكتبونه وأخذت تخف أغلاط الكاتبين والشاعرين وتسلم عبارة التأليف كلما نقل الناقلون عن اللغات الإفرنجية ونحا المؤلفون مناحي قدماء الكتاب في ترك التكلف والتعسف حتى صح لنا أن نقول اليوم أن أسلوب الكتابة العربية لا ينقص عن اللغات الإفرنجية الراقية بإيجازه واندماجه وتقطيعه وفيه بلاغة قدماء المنشئين وسلاسة المعاصرين وأفكارهم.

نعم عادت للغة العربية ولا سيما في الثلاثين سنة الأخيرة نضرتها الأولى في القرن الرابع والخامس والسادس للهجرة وخلصنا من ذاك السجع المتكلف الذي أتانا به العماد الكاتب الأصفهاني من فارس - وفارس مورد بدع كثيرة في الإسلام منها الزندقة والزنادقة ثم الباطنية ومنها الموسيقى والعود المطرب_ونقله إلى العربية فأجاد في أكثره إلا أن من جاؤا بعده قد أفسدوا علينا لغتنا لأنهم لم يتقنوه.

وإني لا أزال أذكر ما كنت أكثر من مطالعته واستظهاره أيام ولوعي بالأدب من مقامات الحريري ورسائل الخوارزمي ورسائل الصابي وتاريخ اليميني للعتبي ومقامات الزمخشري ومقامات الأصفهاني وقلائد العقيان وذيله مطمح الأنفس للفتح بن خاقان وخطب أبن نباته وفاكهة الخلفاء لأبن عربشاه وخزانة الأدب لأبن حجة والريحانة للخفاجي وغيرها من الكتب التي كنت أطرب لتلاوتها ولا أكاد أفارقها في خلوتي وجلوتي. ولما كتب لي الإطلاع على الآداب الفرنسوية والتركية وأنشأت أبحث عن كتب كتبت بلا تكلف وتعمل ككتابات الجاحظ وابن المقفع وعبد الحميد الكاتب وسهل بن هرون وأبي حيان التوحيدي وابن مسكويه والراغب الأصفهاني والغزالي والماوردي والطبري والمسعودي والصاحب وأبن العميد وأبن خلدون وأبن الخطيب وغيرهم من جهابذة المنشئين غدوت أعجب من نفسي كيف أضاعت وقتها في تلقف تلك الأسفار المسجعة وفي اللغة مثل نهج البلاغة والبيان والتبيين والذريعة والإحياء وغيرها مما لا يتسع المجال لتعداده وهو في الحقيقة ونفس الأمر مادة أدب كما هو مادة عليم لا تبلى على الدهر جدتها ولا تخلق ديباجتها كما كنت أعجب من إقبالي أيام الطلب على تلاوة شعر أبن النبيه وأبن معتوق والصفي الحلي وأبن منجك وأبن مليك والجندي من شعراء المتأخرين وعند العرب من أهل هذا الشأن أمثال أبي الطيب وأبي عبادة وأبي نواس والشريف الرضي وأبن حمديس وأبي فراس الحمداني.

يرجع الفضل الأكبر في انتشار دواوين الأدب والتاريخ واللغة من كتبنا لعلماء المشارقة من الغربيين أمثال دوزي ودساسي ووستنفيلد وعشرات غيرهم من أهل أوربا ولبعض ما نشره اليسوعيون في مطبعتهم المتقنة في بيروت وما نشرته الجمعيات الكثيرة التي أُلفت في أوقات مختلفة في مصر لإحياء الكتب العربية وآخرها تلك الجمعية التي طبعت لنا المخصص لأبن سيده وأحسن كتاب عني بطبعه في شرقنا ولما طبعته المطبعة الأميرية ومطبعة الجوائب ومطابع الجرائد في مصر والشام وتونس. كل هذه الأعمال أعانت العربية على تحسين آدابها وترقيتها. ولا ننسى غيرة أولئك الذين نسجوا في منظومهم ومنثورهم على مناحي الأوروبيين من حيث قلة الكلفة ومجاراة الطبع ومحاكاة الطبيعة ووصف عواطف النفس بإيجاز وإعجاز وأولئك الذين وقفوا أنفسهم منذ عشرات من السنين يعربون لنا كل يوم في جرائدهم ومجلاتهم أفكار الغربيين في سياستهم وعلومهم واجتماعهم فكوَّنوا مجتمعنا الأدبي على ما ترونه وجددوا للغة شبابها بحيث أمنا بفضلهم عليها من العفاء وأصبحنا نرجو لها دوام النماء والارتقاء.

أنا لا أقدم لكم مثالاً من أمثلة ارتقاء لغتنا أكثر من أن أحيلكم على مراجعة مجموعة من جرائدنا العربية قبل ثلاثين سنة مثل الجنان والجنة في سورية والفلاح والمحروسة في مصر وأن ترجعوا إلى كتابة الدواوين في مصر في منتصف القرن الماضي مثلاً وترجعوا إليها اليوم وإن كانت إلى الآن عشيقة الركاكة بعض الشيء. قابلوا المنشورات التي تصدر اليوم في الوقائع الرسمية في مصر وما كان يصدر من أمثالها منذ مئة سنة مما أورد الجبرتي في تاريخه نموذجاً صالحاً منه بنصه وفصه. عارضوا بين لغة القضاء اليوم وما تفيض به ألسن المحامين وأقلامهم في مصر من التفنن في أساليب الدفاع والتأثير الخطابي وبين ما كان للغة من نوعها مما ذكر صاحب كتاب المحاماة طرفاً صالحاً منه يتجلى لكم كيف ارتقت لغة القضاء. استمعوا للخطباء اليوم ممن درسوا الدروس النظامية وتشبعوا بالعلوم العصرية وقابلوها بأكثر ما يحفظه خطباء الجوامع أو يقرأونه من السجعات في دواوين الخطب القديمة. تدبروا لغة التمثيل اليوم وإن كنا فيه دون سائر فروع الآداب تأخراً واسألوا كيف كانت منذ البدء حليفة الضعف والسماجة. اقرأوا المحاضرات التي تتلى اليوم في نادي المدارس العليا ونادي دار العلوم في مصر الخالية من التعقيد والغلط الحالية بالرشاقة والبيان وقابلوها بالخطب التي كانت تتلى زمن الثورة العرابية وبعدها مثلاً تدركون كيف وفقنا الله إلى قيام بناء آدابنا على هذا الأسلوب الرائق والإبداع في الأداء والإلقاء.

أليس مما يعد من نهوض اللغة ما نراه من أحكام ملكتها في طلبة دار العلوم ومدرسة القضاء الشرعي فقد رأينا طلبة أحداثاً تخرجوا من دار العلوم فكانوا والله أعرف بالعربية وفنونها من أكثر من اشتهروا في قرون الانحطاط الأخير على غير حق أما من تمحض منهم للتدريس والنفع فهم مفخر من مفاخر العربية في هذا العصر استحكمت فيهم ملكة البيان استحكامها من العرب العرباء وأحاطوا بعلوم الوقت إحاطة نبهاء الغربيين.

وإليكم أيضاً مثالاً صغيراً أذكره لكم على ما أتت به بعض مدارس مصر في حياة اللغة فقد شاهدت في وادي النيل بعض العمد ممن لم يدرسوا غير الدروس الثانوية يكتبون كتابة صحيحة في الجملة تسقط فيها على روح البيان والتلطف في التعبير مما لا تتلوه في عسلطات المحشين والمهمشين والشارحين من الفقهاء والنحويين المتأخرين وما ذلك إلا بفضل المدارس المنظمة وما تلقيه الجرائد على مسامع الناس وأنظارهم كل يوم من فصح العربية وشواردها وتتفنن فيه من أساليب التعليم. نعم إن مطالعة الجرائد والمجلات أعانت على انتشار الآداب وأدخلت الغيرة على التعلم في نفوس أرباب الاستعداد.

ولذا رأينا البلاد العربية التي لم تنشأ فيها مدارس لتعليم العربية على الأصول الحديثة ولم يولع أهلها بمطالعة الجرائد لقلة انتشارها بينهم ما زال أهلها إلى اليوم يكتبون لغة سقيمة ويتكلمون بلغة سقيمة ومن هذه البلاد مرَّاكش فإن مدينة فاس منذ القديم ما خلت من أفراد يعانون الآداب على الأصول القديمة ولكنهم في الحملة خير من أهل الجزائر الذين لا تكاد تجد فيهم فرداً يعد في الطبقة الثانية في كتابنا فيما علمت وما ذلك إلا لأن اللغة العربية لم تقم لها في بلاد الجزائر في دور من الأدوار سوق نافقة ولأن حكومتها تحاول منذ القديم أن تجعل أهلها فرنسيساً في لغتهم وأفكارهم ومنازعهم.

ولئن ضعفت في تونس تلك الروح الشريفة التي بثها فيها خير الدين باشا التونسي وأشياعه فإن الآمال قويت الآن بارتقاء ملكة العربية لانتباه التوانسة الأذكياء من الخلدونيين وغيرهم. أما طرابلس الغرب وبرقة الصحراء والسودان فهي من أخوات الجزائر في ضعف ملكة البيان وقلة الجرائد فيها بل عدمها ولكن هناك في صحراء مراكش بلد غريب في تلقف ملكة العربية وأعني به شنقيط بلد الشيخ محمد محمود الشنقيطي الحافظ المشهور في عصرنا. وطريقة أهلها طريقة الأقدمين في التلقي والاستظهار وقد شوهدت في شنقيط بعض البنات الشنقيطيات إلى اليوم يحفظن كامل المبرد مع الفهم وأظن من يحسن فهم هذا الكتاب قلائل حتى في شيوخ الأزهر.

أما سورية فقد كاد ينحصر الفضل في إحياء ملكة العربية الجديدة ببعض المدن وبقيت الأخرى غريبة عن تلك الحركة مثل فلسطين وبلاد حلب وداخلية ولاية سورية ومثلها الحجاز واليمن ونجد وحضرموت ومسقط وعمان وزنجبار والجزيرة والعراق إلا أن ذلك لم يحل دون نبوغ بعض أفراد شاركوا أتم المشاركة في حياة العربية ونعني بهم بعض أولئك العراقيين النوابغ الذين ألفوا وكتبوا ولم يعقهم الحجز على الأفكار الذي دام في البلاد العثمانية إلى يوم 23 تموز 1908 ولذلك لا نغالي إذا قلنا أن ثلاثة أرباع ما تم للعربية من الارتقاء في القرن الأخير يرجع الفضل فيه لمصر والربع الآخر يوزع على سورية والعراق وتونس. ومن الأسف أننا لا نزال نرى بعض الجرائد في الولايات العربية تصدر باللغتين التركية والعربية ولكن القسم العربي منها يكاد يكون أشبه بالمالطية والكرشونية منه بالعربية الحجازية فتسقط فيها من الأغلاط في التركيب والتأليف والألفاظ والوضع وما تسأل الله معه السلامة وأقلُّ من ذلك غلطاً تلك الجرائد التي صدرت مؤخراً في طرابلس الغرب وبعض مدن سورية الصغرى وبغداد والبصرة والموصل وأحسن منها جرائد مهاجري سورية في أميركا الشمالية والجنوبية وهي لا تقل عن ثلاثين جريدة وفيها الجيد والرشيق. ومع هذا فإن الآمال قويت بأن لا ينتصف هذا القرن الرابع عشر للهجرة إلا وتكون ملكة الآداب عمت البلاد التي ينطق فيها بالضاد بل بالصاد والحاء والخاء والعين والغين والثاء والذال والظاء ورقيت لغتنا بمساعي المنورين من أبنائها أمثالكم درجة عالية خصوصاً في البلاد التي كانت كعبة هذه اللغة ومنبعث أنوارها وأريد بها الحجاز واليمن ونجداً فإن فيها بقايا من أرباب الذكاء النادر إلى الآن من لو تمرنوا على العمل إذا تهيأت لهم الأسباب لأتى على أيديهم خير كثير للأمة ولا يرجى ذلك إلا متى انقطعت شأفة الفتن من تلك الأقطار وأمن الناس على أموالهم وأرواحهم ليتفرغوا أو أفراد للدرس والإستنارة.

هذا ما أحضرني في موضوع نهضة العربية الأخيرة ألقيته في هذه المحاضرة وربما خرجت عن البحث بعض الشيء وساحة عفوكم تسعني وأنتم تعلمون أني على أوفاز استودعكم الله والسلام عليكم.