مجلة المقتبس/العدد 5/مقاصد المؤلفين

مجلة المقتبس/العدد 5/مقاصد المؤلفين

ملاحظات: بتاريخ: 22 - 6 - 1906



الانتقاد في البشر خلة يجيدون فيه بحسب ما رزقوا من القوى العقلية واستنبطوا من الأسرار العلمية والمرء في الغالب لا يرى عيوب نفسه ويحتاج أن يدله دال معتدل عاقل عليها. وكلك المؤلف وما تأليفه إلا بضعة من نفسه وحسنة من حسناتها أو سيئة من سيئاتها. ولكن ما يسوغ للقرين أن يقوله لقرينه لا يسوغ للعامي أن يقوله للخاصي ولا للغائب أن يعرضه على الحاضر.

ومن الأسف أن سرعة الحكم فاشية في المشرق مستحكمة من نفوس أهله فنرى أحد المتعلمين من أبنائه إذا ألقي إليه كتاب ينظر فيه أسطراً ويحكم على المؤلف حكمه المسمط الذي لا يقبل النقض ولا الرد دون أن يعرف مقصده أو يقرأ كتابه برمته أو مقدمته على الأقل. ولطالما كتب بعضهم تقريظاً على بعض الكتب بمجرد تلاوة صفحة من كتاب وسلق كاتبه بالسن حداد لجملة رآها فيه وربما فاته تدبر السياق والسباق وكان ما انتقده منبهاً عليه فصار الناقد ومقصد المؤلف على طرفي نقيض ينتقد عليه ما لو كان قرأ مقدمته على الأقل لما ألقى القول على عواهنه وحكم ابتساراً وافتئاتاً.

وبعد فإن كتب العلم كالبضائع تعرض في السوق فتتناولها الأيدي بحسب الرغبات فكما أنه لا يحق لمن نزل السوق لابتياع ثوب أن يعترض على قماش لا يوافق ذوقه وحالته إذ أن الناس من لا يرغب في غير هذا الضرب من النسيج فإنه لا يسوغ لمن يعد نفسه من طبقة العالمين أو المعلمين أو المتعلمين أن يزيف قولاً لقائل دون النظر في المبدأ والغاية والأصل والفرع. لابد لكل مؤلف من غاية يرمي إليها في تأليفه يفهم ذلك في الغالب مما رتبوا كما قال ابن ساعد في صدر كل كتاب من تراجم تعرب عنها سموها الرؤوس وهي ثمانية: الغرض والمنفعة والسمة والواضع ونوع العلم ومرتبة ذلك الكتاب وتربيته ونحو التعليم المستعمل فيه. قال وكتب العلوم لا تحصى كثرة ككثرة العلوم وتفننها واختلاف أغراض العلماء في الوضع والتأليف ولكن تنحصر من جهة المقدار في ثلاثة أصناف: مختصر لفظها أوجز من معناها وهذه تجعل تذكرة لرؤوس المسائل ينتفع بها المنتهي للاستحضار وربما أفادت بعض المبتدئين الأذكياء لسرعة هجومهم على المعاني والعبارات الدقيقة ومبسوطة تقابل المختصرة وينتفع بها للمطالعة ومتوسطة لفظها بإزاء معناها ونفعها عام.

فالناظر في كتاب يقتضي عليه بادئ بدء أن يطالعه كله حتى إذا أتى على آخره ورأى المؤلف خالف شرطاً أخذ على نفسه أن يجري عليه كأن يطيل وهو يريد الاختصار أو يختصر وهو يتوخى الإطالة أو يدخل علماً في علم أو يخبط في العبارة ويخلط في الإشارة أو يركب مركباً لا يسوغ ركوبه في التأليف كأن يكون كتابه في الأدب ويودعه صنوفاً من الخلاعة والرقاعة - إذا فعل المؤلف هذا يسوغ للمطالع بعد أن يتلو كلامه حق تلاوته أن يصدر رأيه فيما طالع ويعتدل في حكمه على كل حال.

كنت مرة أطالع تاريخ ابن جرير الطبري وهو في عشرين مجلداً فلم أكد أقرأ جزأين أو ثلاثة حتى كاد يعروني الملل لكثرة ما قرأته من الأسانيد ولقيته من الحوادث قبل البعثة وأكثرها مأخوذ عن الإسرائيليات معدود في نظر المحققين من الأخبار الضعيفة. فشكوت أمري لأحد الأدباء وأشرت إلى ما ألقاه من العنت والتعب فعذلني على تطلبي لمثل هذه الأسفار المطولة وعجب من توفري على دراستها والأخذ منها فما أجبته بغير السكوت إلا أنه لحظ بالحال أنني وإياه على طرفي نقيض في هذا التصور. ثم ذكرت مثل ذلك أمام إمام من أئمة العلم فأغضى عن خطابي وتلهى عن جوابي إلا أنه قال حبذا لو ظفرنا له بمختصر فإن بعض العلماء اختصروه قديماً. وما كدت أتصفح الجزء الرابع من كتابي حتى ارتاحت نفسي إليه بعد انقباضها ولانت بعد شموسها وأخذت أطالع فيه الساعات الطويلة واستفيد منه ما لم أره غيره من قبل. وأنشأت أقيم الأعذار للمؤلف رحمه الله في إطالته لأنه جعله مأخذاً للمؤرخين والمطالعين فعدَّ كتابه من الأمهات كما أنه هو من الإثبات الثقات.

مضت على ذلك أيام فذاكرت الإمام المشار إليه فيما وقع في نفسي فاندفق يهدر بما جاش به صدره وأفاض في هذا الموضوع إفاضة أبانت عن ضعف المتسرعين في الأحكام على المؤلفين بما تمنيت لو كنت كلي أقلاماً تكتب ما أملاه في ساعة فمما قاله: هذا كتاب الحيوان للجاحظ ضمنه ما يلزم الطبيب والأديب فجاء عبد اللطيف البغدادي فاختصره مقتصراً فيه على ما هو أمسُّ بحاجة الطبيب وأعلق بغرضه وربما يجيء غيره فيكتفي من كتاب الحيوان بما يروق الأديب. ولما ذكرت له ما نقله الدميري من ذكر ملوك الإسلام في كتاب حياة الحيوان قال: الحق معك في ذلك لكن لا يفوتك أن الدميري ليس من علماء الحيوان ولذلك كان كحاطب ليل جمع بين النافع والضار وما كان أحراه لو كان من أهل التحقيق أن يجرب بنفسه خواص الحيوانات التي ذكرها فقد كان يتيسر له هذا وإن لم يكن ذا إلمام بهذا الفن فيخفف من عناء قراء كتابه ويضمنه فوائد حسنة نافعة على أن كتابه على ما فيه قد وقع في أيدي فئة من المطالعين فاستفادوا منه واشتهر بينهم.

قال وليس من الصواب الأخذ على المقري صاحب نفح الطيب لأنه لم يذكر في كتابه تاريخ الأندلس وما توالى عليها ولو أنعم الناقد نظره في مقدمة الكتاب بل في اسمه وأكثر أسماء الكتب تدل على مسمياتها لما حكم هذا الحكم وما كان نفح الطيب إلا كتاب أدب خص فيه بالذكر الوزير لسان الدين بن الخطيب وأورد بحسب ما اقترح عليه بعض أهل الأدب في الشام طرفاً صالحاً من نثره ونظمه واستطرد إلى ذكر بعض رجال الأندلس إلى عهده وجملة من أخبارها بالعرض.

ثم قال وكذلك الحال في قلائد العقيان للفتح بن خاقان فإنه كتاب توخى فيه مصنفه إظهار الصناعة اللفظية وأن المترجمين هم من أهل حرفته فاقتصر من ترجمتهم على إيراد طرف من منثورهم ومنظومهم وليس كتابه كالذخيرة لابن بسام فإن هذا ترجم حقائقهم وقصد بذخيرته أن تكون نافعة في الوقوف على أحوال الأندلسيين وتصوير صفاتهم فإن تأفف بعض من تصفحوا قلائد العقيان وعابوا عليه خلوه من تاريخ مواليد المترجم بهم ووفياتهم فإن من الناس من لا يرتضون من مثل هذه الكتب إلا بهذه الطريقة الأدبية. ولكل فئة من المطالعين طائفة من الكتب تروقها ويستهجنها غيرها.

هذا مثال في النقد السليم وقد كتب في القديم محمد بن ساعد الأنصاري كتاباً في أنواع العلوم وذكر النافع من كتبها كما كتب عبد اللطيف البغدادي مقالة في إحصاء مقاصد واضعي الكتب في كتبهم وما يتبع ذلك من المنافع والمضار وكتب الفارابي في إحصاء العلوم والتعريف بأغراضها واليوم علينا أن نتدارس ما انتهى إلينا من علم أسلافنا الأقدمين ونضيف إليه ما وصل إليه العلم عند أهله من المتأخرين ونتعلم عن الغربيين صحة النقد والحكم كما نأخذ عنهم العلم والفهم فليس العيب في الحركة وإنما العيب في الجمود والله يسددنا حتى لا ننطق عن هوى.