مجلة المقتبس/العدد 53/الكتابة والكتب ودورها
مجلة المقتبس/العدد 53/الكتابة والكتب ودورها
أفرأيتم المصريين الأقدمين وقد تركوا لنا كتبهم منقوشة على صفحات الجبال وفي بطون المغارات وعلى أحجار البرابي والأهرام والمسلات؟
أم هل أتاكم حديث الآشوريين؟ فقد اكتشف النقابون في هذه الأيام مصافحهم مرقومة على اللبن، وهو الطوب المشوي أو المطبوخ. وذلك لأن أرض ما بين النهرين مكونة من طمي جبلة والفرات وليس فيها جبل ولا حجر. ولكن ذلك لم يقف عثرة في سبيل الغرام بالكتب. فصاروا يرقمون بالمسمار على الطين وهو نيئ ثم يطبخونه في النار، استباقاً لكتابتهم على مر الأدهار والأعصار.
ثم انتشر هذا الغرام في مصر وعم ومط، فاحتاج القوم لزيادة الكتابة، وأسوا بما في النقش على الأحجار من صعوبة، فعادوا إلى الطبيعة، وهي الهادي الأكبر إلى البشر، أخذوا البردي وعالجوه بما جعله صالحاً للكتابة، وها هي آثاره في دار العاديات المصرية بقصر النيل في القاهرة، وأكثرها في متاحف أوربا، وأما الصين والهند، فقد كفتهم دودة القز هذه المئونة، في القيام بما يدعون إليه الولوع بالكتب والكتابة، وإذا نظرت إلى بني الأصفر وأعني بهم اليونان والرومان تجدهم قد استعانوا بالحيوان، فعالجوا الجلود وصنعوا منه ما نسميه بالرقوق.
وأول من استنبط ذلك الأغارقة من أهل فرغانة، وهي مدينة بآسيا الصغرى تسمى عندهم برجامة فصار اسمها على اسم هذا المصنوع من الرقوق، ولا يزال باقياً عند جميع الإفرنج إلى الآن، فإن أهل إيطاليا يسمون الرق (بفتح الراء) بزجامينو أي الفرغاني لأن العرب تقلب الباء الفارسية إلى فاء لقرب المخرج كما قالوا في أفلاطون وهكذا. وأما الاسم العربي فهو مأخوذ من ترقيق الجلد بعد دبغه.
أما العرب فبلادهم جرداء قحلاء فلم ينقشوا على الأحجار، ولم يطبخوا الطين على النار، ولم يهتدوا إلى صناعة الترقيق. ولكن ذلك لم يكن حائلاً دون غرامهم بالكتابة والكتب. فكانوا قبل الإسلام في عصر النبوة يكتبون على عسيب النخل أي قحوف الجريدة لكثرة هذه الشجرة المباركة في بلادهم. ويكتبون على ألواح العظام (وكثرتها ناشئة عن ذبح الأضاحي) ويكتبون على نوع من الأشجار المصقولة التي يلتقطونها من فيافيهم وبواديهم.
ونقف بالكلام على العرب دون سواهم من الأمم الأخرى. فإنهم ما لبثوا في خلافة الصديق ومن جاء بعده من الخلفاء، أن انتشروا في الأرض فأخذوا على جعلها أسليب الحضارة. ثم احتاجوا إلى التبسط في الكتابة، لاتساع الملك واستبحار العمران فكتبوا في العراق على الحرير وسموه بالمهراق. وكتبوا في مصر على البردي ولا تزال آثاره باقية في أوربا وبعضها في القاهرة في دار الكتب الخديوية. وكانوا يكتبون على هذا البردي باللغة العربية وحدها تارة، ومصحوبة بالترجمة الرومية أو القبطية تارة أخرى. ولا تزال هذه سنة مطردة في ديارنا، أعني بها سنة الاحتياج إلى لغتين مثال ذلك: الأحجار وأوراق البردي في عهد اليونان، نراها مكتوبة بلغتهم وباللسان المصري القديم، وفي عهد الرومان حل اللسان اللاتيني محل اليوناني. حتى جاء العرب فكان من شأنهم ما ذكرنا. ثم انقضت مدة طويلة من أيام المأمون إلى آخر الدولة الأيوبية استقل فيها اللسان العربي. حتى جاءت دولتا المماليك البحرية والجركسية فاندمجت في اللغة العربية بعض ألفاظ واصطلاحات دخيلة من التركية. ثم جاءت دولة العثمانيين فكانت السيادة في مصر للمماليك الأتراك حينئذ طما بحر اللغة التركية وصارت تزاحم لغة البلاد. واستمر الحال على ذلك بعد جلوس الفرد الفذ الأعظم محمد علي نابغة العصر الجديد إلى أيام سعيد وبعد ذلك بدأت الفرنساوية تحل قليلاً محل التركية. وها هي الآن تتأخر في الميدان أمام الإنكليزية. والحق يقال أن لغة البلاد أخذت في الانتعاش كثيراً بفضل خديوينا المحبوب عباس الثاني وبفضل حكومته الرشيدة السعيدة. وبفضل المحاكم والجرائد سترون عما قليل حسنة جليلة من أكبر محاسن الحكومة الحاضرة يرفع بها منار هذا اللسان وتتجدد معها آداب العرب وعلومهم.
نرجع إلى الكتابة والكتب ونقول أن العرب ما عتموا أن استخدموا الجلود بعد ترقيقها وكان من مزاياها عندهم أنهم كانوا يغسلونها ويجددون الكتابة عليها. فرأوا أن ذلك إن كان صالحاً في بعض المعاملات الوقتية ففيه ضرر كبير على العلم كما رأوا من جهة أخرى أن الحرير يدعو إلى مئونة كبيرة مع أن الحاجة ماسة إلى الإكثار منه ومن الرق بل رأوا في أيام هارون الرشيد أنهم مقلدين لغيرهم من الأمم وإن ما وصلوا إليه من الحضارة والرجحان يوجب عليهم الأخذ بأسباب الاختراع والاستنباط. فكانوا أول من اصطنع الورق على هذا الشكل الباقي إلى أيامنا هذه وحسبهم ذلك فخاراً. وقد سموه بالكاغد ثم بالقرطاس ثم شاع اسم الورق وانتشرت معامل الورق من الخرقة أي من الكهنة في سمرقند وبغداد والقاهرة ودمياط ثم انتقل إلى بلاد الغرب فكان لهذه الصناعة شأن كبير في بلاد الأندلس واشتهرت مدينة شاطبة بمعاملها ومصانعها التي فاقت في الجودة والإحسان والإتقان واربت على ما بلغه أهل المشرق من هذا الباب ومن شاطبة كان الكاغد يحمل إلى سائر بلاد الأندلس. ومن هناك انتقل إلى أفرنجة (فرنسا) ثم إلى بقية ديار أوربا وقد ابلغه القوم في هذه الأيام إلى نهايات ما يخطر بالأحلام وأتوا في ذلك بالعجب العجاب حتى صاروا يصنعونه من الأخشاب وانعدمت هذه الصناعة من ديار المشرق كلها فصار عالة على غيره فيها وفي غيرها.
حينئذ توفرت عند العرب الأسباب المادية والعقلية فأبدعوا في التصنيف وأغربوا في التأليف وتهافتوا على جمع الكتب وتطلبها وتساوى في ذلك السلطان والسوقة والخاصة والعامة والرجال والنساء وجميع الطبقات حتى كثرت دور الكتب في القاهرة وأمهات المدائن المصرية بدرجة لا تتصورها الآن لأن بلادنا أصبحت خلواً منها بالمرة لولا تلك الصمامة القليلة الباقية في دار الكتب الخديوية وفي الأزهر الشريف تتلوها المكتبة الحديثة التي أنشأتها البلدية في الإسكندرية. أما البيوتات فقد أصبح عددها أقل من أصابع اليد الواحدة وأولها بيت السادات يتلوها بيت البكري فبيت المرحوم رفعة وعبد الله فكري. وأما الأفراد فقد قلب النظر فلم أر غير المرحوم لطيف باشا سليم وبعده الفاضل أحمد بك تيمور.
وقد أردت أن أجري على هذا المنوال وإن كانت خطواتي صغيرة ويدي قصيرة ولكني خشيت أن تذهب مجموعتي من بعد للعطار والزيات والبقال أو تتفرق شذر مذر كما حصل للمجموعة النفيسة التي كانت تزدان بها دار المرحوم علي مبارك باشا في حياته. لذلك جعلتها من الآن خاصة بالأمة ولا أزال دائباً إلى آخر ساعة من حياتي على توسيع نطاقها والزيادة فيها.
إذا رجعنا ببصرنا إلى التاريخ رأيناه يحدثنا عن دور الكتب في القاهرة فتأخذنا لوعة لمجرد هذا الوصف وتبكي على ذهاب العين والأثر.
فدور الكتب التي أسسها الفواطم يحدثنا المقريزي عنها بما يثير الأشجان ويستمطر الدموع من الآماق. فقد كان في قصر الخلافة وحده أربعون خزانة كانت فيها النوادر والذخائر فأخذ معظمها بعض الموظفين وبعض الأجناد الأتراك بدل مرتباتهم في أيام الشدة التي وقعت للخليفة المستنصر.
وقد نهبت عرب لواتة شيئاً فشيئاً منها أغرب المقريزي في وصفه ثم قال: إن عبيدهم وإماءهم أخذوا جلوها برسم عمل ما يلبسونه في أرجلهم وأحرقوا ورقها تاولاً منهم أنها خرجت من قصر السلطان أعز الله أنصاره وإن فيها كلام المشارقة الذي يخالف مذهبهم سوى ما غرق وتلف وحمل إلى سائر الأقطار وبقي منها ما لم يحرق سفت عليه الرياح التراب فصار تلالاً باقية إلى اليوم بناحية آثار تعرف بتلال الكتب.
هذا عدا خزائن القصر الداخلة التي لا يتوصل إليها أحد وعدا خزائن دار العلم بالقاهرةوهي مماثلة لما نسميه اليوم أكاديميا أو كما يقول صاحب كشف الظنون وابن أبي أصيبعة قبله: (أقاذيميا) وسوى خزانة المارستان العتيق وقد بقيت إلى أن بيعت في أيم صلاح الدين فاشترى القاضي الفاضل وحده منها مائة ألف كتاب مجلد وأودعها في المدرسة التي أنشأها بالقاهرة. وفضل القاضي الفاضل ومكانته في الدولة الأيوبية يدلان على أنه اختار أفضل الكتب وأحسنها ولكنها ذهبت بها الأيام أيضاً فإن الغلاء لما وقع بأرض مصر سنة 694 صار طلبة هذه المدارس يبيعون كل مجلد برغيف من الخبز. وبقيت منها بقية تداولتها أيدي الفقهاء بالعارية وكان فيها مصحف اشتراه القاضي الفاضل بنيف وثلاثين ألف دينار على أنه مصف الخليفة عثمان وكان في خزانة مفردة له غربي المحراب. وهذا القاضي الفاضل كان يقتني الكتب ومن كل فن ويجتلبها من كل جهة وله نساخ لا يفترون ومجلدون لا يبطلون. وقد بلغ مجموع كتبه قبل موته بعشرين سنة 124000 مجلد طلب ابنه مرة أن يقرأ ديوان الحماسة وتوسل إلى ذلك ببعض المقربين لديه فأمر القاضي الفاضل فأحضر له خازنه 35 نسخة فصار ينفضها واحدةً واحدة ويقول هذا بخط فلان وهذه بخط فلان حتى أتى على الجميع ثم قال: ليس عندي ما يصلح للصبيان وأمر بشراء نسخة بدينار لولده وقد أحضرت مجموعة رسائله في جملة ما أحضرته من الكتب.
وقد بقي بعض الكتب من آثار الفاطميين في مصر وزاد عليها المماليك وجعلوا لها خزانة عمومية ولكنها احترقت في سنة 691 فتلف بها من الكتب الفقه والحديث والتاريخ وعامة العلوم شيءٌ كثير جداً كان من ذخائر الملوك. والذي نجا من النار انتهبه الغلمان وباعوه بأبخس الأثمان فظفر الناس منها بصحائف محرقة فيها نفائس غريب.
ولم تكن هذه المدرسة الوحيدة في القاهرة فقد كانت خزائن الكتب في المساجد والجوامع والمدارس فضلاً عن القصور والمنازل. وحسبي الإشارة إلى بعض المدارس التي امتازت بجمع الكتب النادرة فمنها المدرسة التي أنشأها بمصر القديمة في سنة 654 الوزير الصاحب بهاء الدين علي محمد بن سليم بن حنا (بكسر الحاء المهملة وتشديد النون المفتوحة كما ضبط الثقات من المؤرخين) فقد كانت فيها خزانة جليلة من الكتب النادرة ثم نقلها فبقيت عنده حتى مات فتفرقت بين الناس وكذلك الملك الظاهر بيبرس البندقداري جعل في مدرسته الظاهرية خزانة كتب تشتمل على أمهات الكتب في عامة العلوم.
فلما تولى السلطان قلاوون جعل في قبته البديعة خزانة الكتب في جميع أنواع العلوم ولكن معظمها تفرق في أيدي الناس واقتدى به ابنه محمد فأنشأ خزانة كتب في مدرسته التي شادها بجوار هذه القبة في الجهة المعروفة الآن بالنحاسين.
وأما أسماء الأمراء والأفراد فهي كثيرة جداً مثل الأمير متكوتمر سيف الدين الحسامي والحاج سيف الدين آل ملك والأمير سيف الدين الجاي والطواشي سابق الدين مثقال والطواشي سعد الدين بشير الحمدار. وأهم الكل الأمير جمال الدين الأستادار.
ولا أنتقل من هذا الموضوع قبل أن أذكر لكم أن نساء مصر كانت لهن مشاركة في هذه المأثرة وحصة كبيرة في الغرام بالكتب وأكتفي الآن باسم الست عاشوراء بنت ساروج الأسدي وكانت عائشة في أيام صلاح الدين والست الجليلة الكبرى عصمة الدين مؤنسة خاتون بنت الملك العادل الأيوبي وكانت من فضليات أهل العلم واشتهرت بالبراعة والفصاحة وفنون الأدب والسيدة الجليلة الكبرى خوندتتر الحجازية بنت السلطان الناصر محمد بن قلاوون والست بركة أم السلطان الملك الأشرف شعبان والست أيديكين زوجة الأمير سيف الدين بكجا الناصري.
وقد بدد الزمن آثار تلكم السيدات الكريمات فلم أقف على كتاب من تلك الخزائن الكثيرة وغاية الأمر أن في دار الكتب الأهلية بباريس تحت نمرة 2751 كتاباً في علم تعبير الرؤيا وهو مرتب على حروف الهجاء بشكل معجم ومكتوب وفي سنة 833 هجرية برسم خزانة أميرة من أميرات مصر (إحدى البرنسات) وهي بنت السلطان الملك الظاهر جقمق.
كان هذا الغرام عاماً في مصر وفي جميع بلاد المشرق. وخصوصاً في الممالك الخاضعة لصولجان صاحب التاج في القاهرة. التي كانت عاصمة للإمبراطورية المصرية. والشواهد كثيرة على هذا الولوع وحسبي أن أذكر لكم اسماً واحداً من باب التدليل. وهو أبو الفدا سلطان حماة وصاحب التاريخ المشهور بالمختصر في أخبار البشر وصاحب الجغرافيا المسماة بتقويم البلدان الذي طبع وترجم في باريس قد مع في خزانته من الكتب ما لا يزيد عليه في خدمته ما يناهز مائتي معمم من الفقهاء والأدباء والنحاة والمنجمين والفلاسفة والكتبة.
ولو أردت أن أستقصي ما أعرفه عن الكتب وغرام المولعين بها أيام كانت الحضارة الإسلامية زاهية زاهرة لطال المقام ولم تكفني الأيام تتلوها الأيام.
وقبل الختام أذكر لكم قضية وقعت بمصر وهي من أغرب ما سطرته سجلات القضاء.
وقفت على كتاب اسمه كنز الدرر وجامع العبر لأبي بكر بن عبد الله بن أيبك الدوادار وهو في تسعة أجزاء ثلثاها بمكتبة آيا صوفيا والثلث الباقي بمكتبة طوب قبو بالقسطنطينية وهو في تاريخ مصر وفيه تفصيل غريب وبيان واف لا نراه في التواريخ التي وقعت إلينا. وليس هذا محل الشرح عن هذا السفر الجامع النافع. وقد كان هذا الكتاب موقوفاً على إحدى المدارس بالقاهرة فاغتصبه بعض الأكابر وأوقفه على مدرسته وقفاً صحيحاً شرعياً مرعياً فأقيمت عليه قضية بمجلس الحكم وحصلت المرافعة والمدافعة ثم اصدر القضاة حكمهم ببطلان الوقف الثاني وإعادة الكتاب إلى مقره الأول باسم واقفه الأول. وقد قضت الأيام ببطلان هذين الوقفين وبانقسام الكتاب إلى شطرين وفي خزانتين ولكن في غير مصر.
إن العرب في اجتماع أهل الفضل في دور الكتب كانوا مقلدين لليونانيين في أثينة وللرومانيين في رومية وكل منهما قد نهج على سنة أجدادنا المصريين.
أول من مدح الكتب على ما أنبأ به التاريخ الصحيح هو أول من أسس لها داراً خصوصية بديار مصر وجعل منفعتها عمومية.
أنا لا أجاري بعض الغلاة من العرب ومن أربى عليهم من المتهوسين الألمانيين الذين قالوا بوجود دور الكتب قبل حدوث الطوفان وأخذوا يتصيدون الأقاويل من هنا ومن هناك ويقيمون الدلائل على غي طائل محتجين على ذلك بتعليم آدم الأسماء وبالأعمدة التي نقشها شيث وبالصحف التي نزلت على إدريس ويكفينا أن نقنع بما هو وراء ذلك وهو قديم بل قدموس حتى لا نخوض بحور الخيال ونهيم في أودية الأوهام. حسبنا أن نرجع إلى ما هو قبل اليوم بأكثر من 3200 سنة فهنالك نصل إلى التاريخ الثابت المنقوش على الأحجار وهو مما لا جدال فيه ولا مراء. فتلك الأطلال الماثلة إلى الآن في صعيد مصر تنطق بلسان هيروغليفي مبين وتقول أن أوسيماندياس فرعون مصر الذي سماه اليونان سيزوستريس ورمسيس الثاني هو أول من أسس دار الكتب في مدينة طيبة بالصعيد وهو أول من مدح الكتب بعبارة وصلت إلينا. وذلك أنه نقش على باب تلك الدار كلمتين اثنتين جعلهما رمزاً عليها وتلخيصاً لكل ما فيها وهما:
(شفاء الأرواح).
ولعمري أن هاتين الكلمتين هما أبلغ من كل ما جادت به القرائح بعده في شرق البلاد وغربها وما هو مأثور عن عجم الأمم وعربها.
وعن المصريين اقتبس اليونان علومهم ومعارفهم ونظامهم ولكنهم لما جاء الدور لهم لم يتيسر لهم إنشاء مكتبة عمومية إلا بعد الفرعون المصري بربوات من السنين لا تقل عن الخمسة قرون وذلك أن طاغية بيسترات هو أول من أحدث بمدينة أثينس (أي أثينا) داراً من هذا القبيل لاستفادة الخاص والعام وكان ذلك قبل القرن السادس للميلاد وجمع فيها أشعار أوميروس بعد أن تلقفها من أفواه الرواة كما كان شأن العرب من بعده باثني عشر قرناً في أيام بني أمية وبني العباس. وما لبثت هذه الدور أن انتشرت بأرض اليونان كما يشهد بذلك بيت قال شاعرهم ارسطوفان:
وفي يد كل إنسان كتاب ... يلقنه أفانين العلوم
وتولع اليونان بجمع الكتب والحث عليها لدرجة لا تكاد تكون محمودة: دخل حاكم إلى مدرسة النحو بأثينا فطلب من الأستاذ نسخة من ديوان أوميروس. فأعلمه المعلم بعدم وجودها فما كان من الحاكم في هذا الإهمال إلا أن صفعه وخرج.
ثم تهوس القوم بجمع الكتب من غير استفادة أو إفادة حتى رأى أديبهم لوسيان الشميشاطي أن يكتب رسالة بليغة في هجو رجل جمع من الكتب طائفة وفيرة لمجرد الاشتهار بأنه جماع للكتب. قال ذلك الأديب يخاطب ذلك المذموم بما ترجمته:
في وسعك أن تعير الكتب لغيرك فتكسب أجراً وفيراً ولكن ليس في طاقتك أن تستفيد منها فتيلاً ولا قمطيراً. على أنك ما أعرت منها أحداً شيئاً مذكوراً فكان مثلك كالكلاب التي تنام في إسطبل الدواب فهي لا تقدر على أكل ما فيه من الشعير ولكنها تمنع منها الخيال وهي قديرة على الانتفاع بأكله.
ولو تأخر هذا الأديب المجيد لخر ساجداً إذا سمع قول الكتاب المجيد مثلهم كالحمار يحمل أسفاراً فانظروا يرعاكم الله إلى حسن الديباجة وإلى هاتيك الإجادة: وأما قول لوسيان فما أشبهه بقول الجاحظ ولكن في ذم الخصيان ولا ازيد على هذا البيان بغير الإشارة عليكم بمراجعة كتاب الحيوان وإليكم مثالاً مما قاله العرب في ذم من يجمع الكتب وهو لا يدري بما فيها:
زوامل للأخبار لا علم عندهم ... بحيد إلا كعلم الأباعر
لعمرك ما يدري البعير إذا غدا ... بأحماله أو راح ما في الغرائر
فلما جاء دور الرومان أنشأ الإمبراطور يوليان المنبوز بالمرتد وفي كتب العرب بالمارق دار كتب في القسطنطينية وأراد أن يتشبه بفرعون مصر ولكنه لم يبلغ شأوه فكتب على بابها هذه العبارة:
لبعض الناس صبابة بالخيل ولبعضهم ولع بالطير ولآخرين غرام بالوحش وأما أنا فقد تدلهت منذ نعومة أظفاري بشراء الكتب واقتنائها.
ومما امتازت به مدينة القسطنطينية أنها في ايم النصراني حفت في كنائسها علوم الأقدمين حتى جاء العرب فاستفادوا منها ونشروها من قبورها وكان لهم بهذه الوسيلة القدح المعلى في ترقية الحضارة وبني الإنسان وكذلك امتازت في أيام الإسلام بحفظ ما جادت به قرائح العرب الكرام في مساجدها وما علينا سوى اقتفاء أثرهم وإتباع سنتهم. وقد فتحت لكم الباب وحسبي ذلك فخراً.
جاء العرب في أيام العباسيين فانتهت إليهم كلمة عن سقراط فكانت محركة لعزائمهم وجعلتهم أئمة العلم وقادة الأفكار.
قيل لهذا الفيلسوف: أما تخشى على عينيك من إدامة النظر في الكتب فقال: إذا سلمت البصير لم أحفل بسقام البصر.
وفي هذا المقام لا يصح إغفال ذكر المأمون فهو أول من أسس دار كتب عامة في الإسلام وسماها بيت الحكمة كما أنه أول من أسس مجمعاً للعلوم (أقاذيميا) وسماه دار العلم. هذا فضلاً عن خزانة كتبه الخصوصية التي يروي لنا عنها ابن النديم كل معجب ومطرب.
كان بمدينة الإسكندرية حاكم يسمى خليل ابن شاهين الظاهري اشتهر بتأليفين أحدهما في عالم اليقظة والآخر في عالم المنام فأما الأول فهو كتاب زبدة كشف الممالك في بيان الطرق والمسالك ثم اختصره وسماه زبدة كشف الممالك وهو كتاب مفيد في وصف بلادنا وأعمالها ودواوينها ووظائفها ونظاماتها وغير ذلك من محاسن هذه المملكة مع سرد أبيات مما نظمه بعض ملوكها وسلاطينها إلى غير ذلك من النوادر والفوائد ولا حاجة لي بأن أقول لكم أنه لا يوجد من هذا الأثر النفيس ولا نسخة واحدة مخطوطة بديار مصر كلها وهي وطنه ووطن مؤلفه بل هي موضوعه ومدار بحثه.
أما لكتاب الثاني فقد سماه الإشارات في عالم العبارات والعبارة هي تعبير الرؤيا وتفسير الأحلام واسم العلم بالفرنسوية مأخوذ عن اليونانية.
قال صاحب كشف الظنون: إن كانت العرب في صدر الإسلام لا تعتني بشيءٍ من العلوم إلا بلغتها ومعرفة أحكام شريعتها وبالطب فإنها كانت موجودة عند أفراد منهم لحاجة الناس طراً إليها. وذلك منهم صوناً لقواعد الإسلام وعقائد أهله عن تطرق الخلل من علوم الأوائل قبل الرسوخ والأحكام وأقول أن الشارع هو الذي دعاهم إلى تقييد العلم على إطلاقه فقد جاء في الحديث الشريف:
العلم صيد والكتبة قيد. قيدوا رحمكم الله علومكم بالكتابة.
أخذ الشاعر قول الشارع فصاغه في بيت سائر ونظم بارع:
العلم صيد والكتابة قيده ... قيد صيودك بالحبال الواثقة
ثم مدحوا الكتب كما مدحها فرعون مصر وقياصرة الروم من قبلهم فقال العتابي وهو من أجلاء عصر الأمين والمأمون:
لنا ندماء لا نمل حديثهم ... أمينون مأمونون غيباً ومشهداً
يفيدوننا من علمهم علم ما مضى ... ورأياً وتأديباً وأمراً مسددا بلا علة تخشى ولا خوف ريبة ... ولا نتقي منهم بناناً ولا يداً
فإن قلت هم أحياء لست بكاذب ... وإن قلت هم موتى فلست مفندا
ومدحها ابن طباطبا العلوي:
لله أخوان أفادوا مفخراً ... فبوصلهم ووفائهم أتكثر
هم ناطقون بغير السنة ترى ... هم فاحصون عن السرائر تضمر
إن ابلغ من عرب ومن عجم معاً ... علماً مضى فيه الدفاتر تخبر
حتى كأني شاهد لزمانها ... ولقد مضت من دون ذلك أعصر
خطباء إن أبغ الخطابة يرتقوا ... كفي كفي للدفاتر منبر
كم قد بلوت بها الرجال وإنما ... عقل الفتى بكتاب علم يسبر
كم قد هزمت بها جليساً مبرماً ... لا يستطيع له كالهزيمة عسكر
وهو ينظر بقوله الأخير إلى جواب جالينوس فقد قيل له: لم كان الرجل الثقيل أثقل من الحمل الثقيل فقال لأن ثقله على القلب دون الجوارح، والحمل الثقيل يستعين القلب بالجوارح عليه.
وفي ذلك المعنى الذي أشار إليه ابن طباطبا وهو في مصر قول لمونتسكيو (ابن خلدون فرنسا) وهو في باريس قال ما ترجمته: ما حل بي جيش الهموم إلا بددته بساعة واحدة من القراءة.
ومدح الكتب للعرب كثيراً جداً اكتفى منه بكلمة واحدة منثورة: أهدى بعض الكتاب إلى صديق له دفتراً وكتب إليه: هديتي هذه أعزك الله تزكو على الإنفاق وتربو على الكد. لا تفسدها العواري ولا تخلقها كثرة التقليب. وهي أنس في الليل والنهار والسفر والحضرة وتصلح للدنيا والآخرة. وتؤنس في الخلوة وتمتع في الوحدة. مسامرة مطواع ونديم صديق.
وقال آخر: الكتب بساتين العلماء.
ولكن كل هذه الأقوال وما شابهها مما نرويه عن المتقدمين والمتأخرين لا تعادل الكلمتين اللتين قالهما فرعون مصر عن الكتب.
شفاء الأرواح.
ولقد قام رجل من مشاهير الإنكليز في أوائل القرن التاسع عشر وهو بلور لينون فأشار بمطالعة الكتب لإزالة أنواع لأمراض قال ما خلاصته: لقد اختلج في ضميري أن أنظم دور الكتب على نسق جديد مفيد فبدلاً من أن يكون مكتوباً على الخزائن والدواليب والرفوف هذه الكلمات. لغة. علوم طبيعية. فن التقريظ ونحو ذلك أشير باستبدال هذه الكلمات بأسماء الأمراض التي تنتاب الجسم والروح مما يمكن مداواته بالمؤلفات الموجودة فيها من داء النقطة إلى أخف النزلات فهذا النوع الأخير من الأسقام يصلح له قراءة الكتب الهزلية مع منقوع الشعير في قليل من اللبن الحليب فإذا غشي النفس هم من الهموم التي يمكن إزالتها مثل عدم تحقيق الأماني أو معاكسة الأخوان أو معاندة الزمان ففي هذه الحال يحسن بالمصاب أن يتلو تراجم العيان والأفراد فيتسلى بما أصابهم من البلايا ويزول مرضه بإذن الله. فإذا ما طم الهم وعم الغم فالروايات أنجع دواءٍ لهذا السقم. ولكن إذا حلت بالإنسان مصيبة فادحة وجب عليه أن يستغرق كل عقله ولبه وقلبه في عمل من الأعمال العقلية التي تجعله ينسى نفسه وما حل به من الأرزاءِ.
واستشهد المستنبط لهذا الطب الجديد الغريب بما حل بشاعر الألمان (جيته) فإنه حينما مات ولده تفرغ لدراسة علم جديد وقيل أنه أكمل فصول بعض رواياته البديعة فجاءت في نهاية البلاغة والإعجاز.
فانظروا إلى ما صنعه الإسكندر الأكبر عندما هزم دارا ملك الفرس فإنه ظفر في جملة الغنائم الملوكية بصندوق بديع الصنعة فقال للمقربين إليه: لأي شيءٍ يصلح هذا الصندوق؟ فأجاب كل منهم بما رآه. ولكن سيد الفاتحين لم يعجبه قولهم وقال إنما يليق هذا الصندوق لحفظ إلياذة أوميروس.
وفي أيام الإسلام ظفر الحجاج بن يوسف عامل بني مروان بصندوق عجيب من ذخائر الفرس فأمر بفتحه فوجد صندوقاً آخر ففتحوا فوجدوا صندوقاً آخر ثم رابعاً وخامساً وسادساً وسابعاً فقال الأمير: لعل فيه حماقة من حماقات الفرس. ففتحوا وإذا فيه بطاقة مكتوب عليها هذه العبارة: من مشط لحيته في كل يوم طالت: ونحن لم نخرج عن هذا الموضوع لأن هذه الوصية كانت مكتوبة على قطعة من الحرير وإنني أقلب الطرف يميناً وشمالاً فلا أجد من أوصيه بها ليخبرنا بصحتها بعد العمل بها.
ولا يخفى عليكم أن عرب الشرق هم الذين أحيوا علوم العرب ونشروها وها هم عجم الغرب يعملون على هذه السنة الآن في ألمانيا وفرنسا وإنكلترا وإيطاليا وهولاندة وإسبانيا والروسيا وسائر بلاد أوربا وأميركا ولا أمل لي إلا أن أرى أهل مصر يشاركونهم فهم أحق بتراث أجدادهم ولا يكون ذلك ولن يكون إلا بالعناية بالكتب.
هل أتاكم حديث فرنسا وناهيكم بها في العلم والحضارة والعرفان؟
إنها مدينة لمصر الإسلامية بدينين عظيمين في إنشاء دور الكتب العمومية.
أولهما يرجع إلى أيام الحروب الصليبية. فإن الملك القديس لويس وهو التاسع بهذا الاسم شن الغارة على مصر في أول دولة المماليك البحرية ثم عاد أدراجه مهزوماً ولكنه رجع ظافراً بفكرة حميدة ومأثرة جميلة. وهي أن اقتبس عن أجدادنا فكرة جمع الكتب بعضها مع بعض في دار واحدة وفتحها في وجه الجمهور لينتفع بها الخاصة والعامة.
اترك الكلام لكاتب سيرته وإمامه في صلواته فقد قال ما خلاصته:
إن الملك الورع التقي لويس وصل إلى سمعه وهو فيما وراء البحار أن سلطاناً من سلاطين الشرقيين يبذل عنايته في البحث عن الكتب المختلفة الأنواع وفي استنساخها على نفقته ثم يضعها في دار عمومية ليستفيد من مراجعتها علماء بلاده فإنه كان يجعل هذه المجاميع تحت تصرف جميع الطالبين. فأراد القديس لويس أن يتشبه بهذا السلطان وعزم على بذل المال بمجرد عودته إلى فرنسة لنسخ الأسفار النافعة وصحاح الكتب المقدس التي يتأنى له العثور عليها في الأديار ليتمكن هو ورعاياه العاكفون على علوم الأدب من درسها وحرثها للانتفاع بها وأفاد الجار والقريب بمعارفهم وقد أنجز هذا القصد فأمر بإعداد مكان لائق أمين في باريس جمع فيه كثيراً من تصانيف القديس أغسطينوس وأمبرواز وجيروم وغريغوار وبقية أئمة المذهب الأرثوذكسي. وكان يذهب في أوقات الفراغ للقراءة في هذا المكان ويسمح لغيره عن طيبة خاطر بمشاركته في مناجاة المؤلفين. وكان يؤثر استنساخ الكتب على شراء أصولها لأن ذلك في رأيه من شأنه أن يزيد في عدد الكتب المقدسة ويجعلها أكثر فائدة. وكان حينما يقرأ في تلك الكتب بمحضر من خدمه وحشمه الذين لا يفهمون اللاتينية يترجم لهم بالإفرنسية ما لا يدركونه من العبارات.
غير أنه في آخر عمره أصابه دخل في عقله فبدد شمل تلك المجموعة وأمر في وصيته بتوزيع الباقي على الأديار.
وأما الدين الثاني الذي لنا على فرنسا فيرجع إلى عهد قريب منا وبيان ذلك أن القائد بونابرت عند هجمته على مصر في فجر القرن الماضي على التاريخ الميلادي نهب كثيراً من بقايا الكتب النفيسة التي كان أجدادنا أخفوها أو وجدوها بعد الفتح العثماني. وكل من ذهب إلى باريس واطلع على فهرس دار الكتب الأهلية فيها يأخذه العجب والعجاب إن لم تساوره الأشجان والأحزان. فلقد أصبحنا إذا احتجنا إلى شيء من مؤلفات المصريين الخاصة بمصر لا نرى منها شيئاً في بلادنا ولا بد لنا من الرحلة والتغرب لتطلبها في بلاد الغرب.
ولقد أدرك محمد علي ذلك عندما أراد أن يجدد العلم في ربوع مصر فأرسل نفراً من نابغي الأزهر الشريف فعادوا وأفادوا جدد الله عهدهم. ورافع رايتهم هو المرحوم رفاعة بك فطالما أنشأ وأنشد وصنف وألف وترجم وعرب وكلنا عيال عليه وعلى أولاده.
اعلموا أن للعرب والإسلام سراً عجيباً في تاريخ الحضارة والعمران. فالعرب أينما حلو انتشرت لغتهم قليلاً قليلا ثم سادت رويداً رويدا ثم انتهى أمرها بالانفراد والاستقلال. كذلك الإسلام أينما انتشرت رايته استهوى العقول والألباب. ولكن الغريب أن العجم هم الذين ينشرون علوم العرب ودين العرب حتى لقد قال الخليفة الأموي سليمان بن عبد الملك: عجبت لهذه الأعاجم ملكت الدهر فلم تحتج إلى العرب وملكت العرب فلم تستغن عنهم. وماذا كان يقول هذا الخليفة ودولته أموية عربية محضة: وماذا كان يقول لو عاش حتى رأى عصر العباسيين أو لو بعثت من قبره هذه الأيام ورأى حاجة العرب إلى الأعاجم في كل شيء من مرافق الحياة وحاجتهم إليهم حتى في إحياء آثارهم والتهافت على اقتناء مآثرهم.
ماذا كان يقول لو علم بالقصة الآتية؟
تعلمون أن التتار هم الذين خربوا دولة العرب ودكوا معالم الإسلام ومع ذلك فمن أغرب الغرائب وأعجب العجائب أنهم ما لبثوا أن دانوا بدين العرب المغلوبين وتشبهوا بملوكهم البائدين في إحياء العلوم وتوسيع نطاق العمران. سر من أسرار الطبيعة لا نراه إلا في شؤون العرب ومعارفهم. فبعد أن هلك هولاكو وبعد أن مارت الأرض تيمور فأدخلته في تامورها جاء أحفادهما فدخلوا في دين الله أفواجاً وأقوامهم وارتفع بهم مناره في بلاد آسيا الوسطى وفي بلاد الهند إلى أوائل الجيل الماضي ومن أشهرهم في العلم والعلماء الغ بك واسمه محمد بن شاهر روخ اعتنى هذا الرجل بعلم الفلك وألف فيه زيجاً باللغة الفارسية ترجمه إلى العربية بعض أفاضل المصريين والترجمة في خزينتي مصر وجمع هذا الرجل خزانة من الكتب النفيسة رأيت بعض بقاياها كتاب الصور السمائية لعبد الرحمن بن عمر بن محمد بن ابن سهل الصوفي ويسمى بأبي الحسين ويعرف بكتاب صور الكواكب وبكتاب الكواكب الثابتة وهو الذي أريد أن أحدثكم عنه في هذه الساعة.
هذا الكتاب لا أبالغ في فضله ولا اذكر شيئاً من محاسنه وإنما أقول لكم أن الروس عرفوا قدره فطبعوه في بلادهم ثم أوعزوا إلى أحد علما الفرنسيين فترجمه إلى اللغة الفرنسية وطبعوا هذه الترجمة أيضاً في بطرسبرج. وهذا الصنيع المزدوج يدلكم على فضل الكتاب وفائدته. وإذا بحثتم في ارض مصر من الشلالات إلى الأشاتيم ومن بادية العرب إلى صحراء لوبيا لا تجدون سوى الترجمة الفرنسية وسوى الترجمة الفارسية في دار الكتب الخديوية أما الأصل العربي فقد لبس طاقية الاختفاء وتطاير في الفضاء وهجر ديارنا وواصل غيرنا فيما وراء البحاتر ورحل عن أرض أهين بها إلى بلاد ظهرت قيمته بين أهلها بحيث أن العرب الذين صدر الكتاب بلغتهم إذا احتاجوا الآن لمراجعته وجب عليهم أن يتلقنوا إحدى الفرنسية أو الفارسية أو أن يذهبوا إلى بطرسبرج وأن استبعدوها فإلى باريس وهنالك تجدون منه خمس نسخ استغفر الله بل ستاً لأن السادسة هي التي سأتكلم عليها. ففي سنة 1891 عثر يوسف بك خلاط على نسخة ملوكية من هذا الكتاب مكتوبة على ورق الحرير بألوان مختلفة بالنسخ والثلث وقد بلغ الكتاب فيهما نهاية الإجادة والإتقان وازدانت بصور ملونة باهية زاهية يتدفق فيها الذهب واللازورد على أحسن شكل وأجمل مثال.
وفوق هذه المزايا التي تجعل للنسخة قيمة يتنافس فيها المتنافسون ويتعشقها العارفون فإنها حوت أثراً آخر يزيدها قيمة لأهل الدراية. ولكن أين هم في ديارنا. . . وذلك أنها مكتوبة برسم خزانة الملك العالم المؤلف (الغ بك) وعليها اسمه بخطه فصارت بذلك نادرة النوادر وذخيرة الذخائر.
عرضها يوسف بك على دار الكتب الخديوية فقومتها إني لأستحي من ذكر القيمة. . . .
ولكن أقولها لكم لتعلموا مقدار تفريطنا. قومتها بخمسة عشر جنيهاً مصرياً. وظننت أن ذلك شيء كثير. وكيف لا وهذا المبلغ يساوي اللف ونصف الألف من القروش أو خمسة عشر ألف مليم: توجه صاحب الجوهرة إلى الغزي مختار باشا فزاده الربع. توجه إلى الإرسالية العلمية الفرنسية بالقاهرة القائمة الآن بجوار دار ناظر المعارف الحالي فضاعفت له الثمن أربع مرات ووعدته فوق هذه المساومة بوسام المجمع العلمي الفرنسي. فقبض الثمانين جنيهاً ولا أدري إذا كان أحرز النشان ولكنه اشترط أن يكتب اسمه ببنانه على تلك النسخة فقبل القوم شرطه وأرسل الكتاب إلى باريس تكميلاً لنصف الدستة وأصبحت نسخه ستة.
روى صاحب تاب الفهرست أن أبا زكريا يحيى بن عدي النصراني المتوفى ببغداد سنة 364 قال أنه رأى في تركة إبراهيم بن عبد الله الناقل النصراني كتاب السماع الطبيعي كله لأرسطو مشروحاً بقلم الإسكندر الأفروديسي وعندي قطعة وافرة من (كتاب البرهان) وأنهما عرضا عليه بمائة دينار وعشرين ديناراً فمضى يحتال في الدنانير ثم عاد فأصاب القوم قد باعوا الشرحين في جملة الكتب على رجل خرساني (أعجمي من الفرس) بثلاثة آلاف دينار وكانت هذه الكتب مما يحمل في الكم.
قال القاضي الأكرم الوزير القفطي المصري بهذه المناسبة في كتابه المترجم بتراجم الحكماء المطبوع في ليبسك من أعمال ألمانيا ما نصه:
فانظر إلى همة الناس في تحصيل العلوم والاجتهاد في حفظها والله لو حضرت هذه الكتب المشار إليها في زمننا هذا وعرضت علي مدعي علمها ما أدوا فيها عشر معشار ما ذكر وما كان يقول لو سمع الحكاية التي رويتها لكم عن كتاب الصوفي. نعم إن الخرساني اشترى الكتب بثلاثين ضعفاً وأما الفرنسيين اشتروا كتاب الصوفي بأربعة أضعاف لأنهم لم يجدوا في مصر من يزاحمهم كما جرى في بغداد.
وأقول لكم أن يحيى بن عدي النصراني المذكور كان من أكابر المؤلفين والمترجمين ومحققي الفلاسفة وكان من المغرمين بجمع الكتب ونسخها بيده وكان أوحد دهره ومذهبه من مذاهب النصارى اليعقوبية. رآه ابن النديم في سوق الوراقين فعاتبه على كثرة نسخه فقال: من أي تعجب في هذا الوقت. من صبري؟ قد نسخت بخطي نسختين من التفسير للطبري وحملتهما إلى ملوك الأطراف وقد كتبت من كتب المتكلمين ما لا يحصى ولعهدي بنفسي وأنا أكتب في اليوم والليلة مائة ورقة. .
ونحن نعلم أن النويري المصري صاحب كتاب نهاية الرب في فنون الأدب كان من يكتب في اليوم والليلة ثلاثة كراريس أي ستين ورقة. فلم يبلغ شأو هذا المتقدم مع أن جميع المؤرخين يعجبون بابن وطننا الذين سترون أثره الجامع لكل العلوم والمعارف في السنة المقبلة إن شاء الله.
كل هذه الأعمال وهي قطرة من بحر تدلكم على مقدار الغرام بالكتب وأنه إذا استولى على العقل فلا يجد المدنف العاشق لذة في شيء آخر. وهذا الغرام ليبس قاصراً على الشرق أو على الغرب بل هو داء مستحكم في نفوس الناس على اختلاف الأوطان والأديان والأجناس.
نرجع إلى ذكر السرفات في الكتب وأروي لكم حادثتين وقعت إحداهما لرجل من أفاضل الإسكندرية وكان للثانية شأن كبير بالجامع الأزهر في القاهرة.
فمن الرجال الذين يحق للإسكندرية أن تفتخر بأنها أنجبتهم أبو الفتح نصر بن عبد الرحمن الإسكندري النحوي الجغرافي ألف كتاباً فيما اختلف وائتلف من أسماء البقاع وقد ضبطه وافنى في تحصيله وتحقيقه عمره فأحسن فيه كل الإحسان فجاء أبو بكر زين الدين محمد بن موسى الهمداني المشهور بالحازمي المتوفى سنة 584 فسطا عليه برمته وادعاه واستجهل الرواة فرواه نبه على ذلك ياقوت الحموي في صدر معجم البلدان بقوله: ولقد كنت عند وقوفي على كتابه أرفع قدره من علمه وأرى أن مرماه يقصر على سهمه إلى أن كشف الله من خبيئته وتمحض المحض عن زبدته أقول أنه رغماً عن التنبيه ما زال الكتاب مشهوراً باسم السارق فإن صاحب كشف الظنون لم يذكر غيره وسماه كتاب ما اتفق لفظه واختلف مسماه في الأماكن والبلدان المشتبهة في الخط. وعلى كل حال فالكتاب لم يصل إلينا.
وأما الحادثة الثانية فقد وقعت في القاهرة في ختام القرن التاسع للهجرة. وذلك أن الإمام شهاب الدين أبا العباس أحمد بن محمد القسطلاني المصري المتوفى سنة 923 ألف في السيرة النبوية كتبه المشهور المتداول بيننا الآن وهو المواهب اللدنية بالمنح المحمدية فما راعه بعد أن فرغ تبييضه في سنة 899 إلا وقد رفع جلال الدين السيوطي دعوى عليه أمام شيخ الإسلام زكريا الأنصاري. وهاك بعض ما ورد في صحيفة الدعوى إنه يسرق من كتبه ويستمد منها وينسب النقل إلى نفسه طالبه شيخ الإسلام ببيان ما ادعاه. فقال أنه نثقل عن البيهقي وله عدة مؤلفات فليذكر أنه نقله عنه. ولكنه رأى ذلك في مؤلفاتي فنقله فكان الواجب عليه أن يقول نقل السيوطي عنه.
ماذا كانت النتيجة؟ انظروا واعجبوا.
صدر الحكم على القسطلاني بالترضية اللازمة للسيوطي وإزالة ما في خاطره.
كيف كان التنفيذ؟
مشى القسطلاني من القاهرة إلى الروضة (جزيرة النيل) وكان السيوطي معتزلاً عن الناس بها فوصل إلى بابه ودقه فقيل له من أنت؟ فقال أنا القسطلاني جئت إليك حافياً ليطيب خاطرك. قال له: قد طاب. ولم يفتح له.
فأين أين ذلك الزمان مما نحن فيه الآن؟ أفرأيتم لو رفع المجني عليهم قضاياهم من هذا القبيل على السارقين الذين فاقوا القسطلاني قولوا لي بربكم هل كانت تكفينا المحاكم الشرعية والبطريركية والأهلية ولمختلطة والقنصلية ولجنات النفي الإداري؟
لعمري أن تجار الأحذية كانوا يفلسون كلهم في يوم واحد لو اقتدى السراق بما فعله القسطلاني!! ولكن التبجح وانتهاك الحرمات وص في زماننا إلى درجة لا مزيد ليها خصوصاً وإن انتشار الطباعة ساعد على نمو هذا الطبع.
وتلك الصناعة قد كان لها أصل عند العرب في مصر والأندلس وإن كان الأثر الناطق بذلك قد ذهب من بلادنا ولكن الإفرنج حفظوه لنا أثابهم الله عنا خير الثواب ووقفنا إلى اقتفاء خطواتهم في النافع بدلاً من تهالكنا على تقاليدهم في كل ضار.
أخبرني الأستاذ الفاضل حقي بك ناصف أنه رأى خشبة محفوظة بمكتبة ويانا عاصمة النمسا في جملة ما ازدانت به من آثار العرب وثمرا عقولهم وهذه الخشبة منقوشة عليها بالتجويف كتابة عربية مقلوبة على الطريقة المألوفة في اصطناع الأختام وأنها كانت مستعملة لطبع الأوامر العسكرية وتوزيعها على الجنود كما هو الشأن في أيامنا هذه في الغازته العسكرية وذلك يستفاد من العبارة المنقوشة عليها وهذه الخشبة يرجع عهدها إلى الفواطم وربما نشر صورتها عن قريب بعض علماء المستشرقين فتكون برهاناً على تولد هذا الفن بديار مصر.
وأما الأندلس فقد ترقت إلى ما وراء هذه الخطوة الأولى فقد كان للأندلس في هذا الباب ثلاث خطوات.
الأولى أنهم قلدوا مصر في عهد الفواطم ولكن أثرهم لا زال باقياً في ديارهم وها أنا أطرفكم بصورة فتوغرافية منه كهدية للعهد السعيد وهي صورة الطابع الذي كان يستعمله أهل الأندلس في مدينة المرية عثروا عليه في أطلالها وخرائبها وهو مصنوع من الخشب والكتابة التي عليه تدل على أنه كان مستعملاً في قيسارية المرية ولفظة قيسارية تدل على السوق ولا تزال مستعملة بهذا المعنى في القاهرة وفي كثير من مدائن الشرق وأصلها مشتق من اسم قيصر كما أنه اسم موضوع للدلالة على مدائن كثيرة بآسيا الصغرى منسوبة إلى قيصر ورشك أن هذا الطابع كان مستعملاً بصفة الدمغة (التمغة) التي كانت مستعملة في مصر إلى عهد قريب لوضعها على الأقمشة الزعابيط في نظير تأدية الرسوم المطلوبة لخزينة الحكومة.
كذلك كان ذلك الطابع يوضع على الأقمشة والطرود التي يجب دفع الرسوم عليها قبل دخولها إلى السوق أي القيسارية في تلك المدينة مدينة المرية كما يستفاد من الكلمات المكتوبة فيه وهي: طابع قيسارية المرية عام خمسين وسبعمائة.
وأما الخطوة الثانية فهي أن الإشراف على دار الطباعة كان من خطط الدولة. بدلكم على ذلك النص العربي الذي نبه إليه العلامة جايانجوس الإسباني وهذا النص وارد في كتاب (الحلل السيرا) لابن البار الأندلسي المشهور وقدطبع العرمة دوزي الهولاندي قطعة وافرة من هذا الكتاب الثمين في مدينة ليدن من سنة 1847 إلى 1851. وأنتم تعلمون أن الأبار هو الذي أرسله صاحب الأندلس ليستنجد بصاحب تونس. وهو ذلك الرسول الذي وقف بحضرة ملك تونس وأنشده تلك القصيدة الطنانة الرنانة التي تستفز الجبان ويلين لها قلب الجماد. قال في مطلعها:
أدرك بخيلك خيل الله أندلسا ... إن السبيل إلى مناجاتها درسا
وحل الشاهد أن ابن الأبار يقول في كتابه المذكور أن عبد الرحمن الناصر الخليفة الأكبر (ولى بدر بن أحمد الوزارة الحجابة والقيادة والخيل والبردوكان ينفرد (أي بدر) بالولايات فتكتب السجلات في داره ثم يبعثها للطابع فتطبع وتخرج إليه فتبعث العمال وينفذون على يديه. نعم إن هذا النص سقيم ويحتاج إلى تقويم ولا بد من مراجعة الأصل وتقويته بنصوص أخرى. وربما كان المراد وضع الطابع عليها. ولكن هذا الغرض بعيد لأن الطابع عل ما نفهم لا يصح وجوده بيد غير الوزير كما هو معهود في الدول الإسلامية حتى إلى الآن في الباب العالي. والأظهر أن ذلك يشير إلى إخراج نسخ متعددة من مطبعة حجرية لتبليغها إلى أهل الولايات ورؤوس الواحات.
أما الخطوة الثالثة النهائية فلنا عليها دليل مما أورد لساد الدين ابن الخطيب في كتابه المترجم بالإحاطة في أخبار غرناطة قال في ترجمة الشيخ أبي بكر القدسي ما نصه:
وألف كتاب الدرة المكنونة في محاسن أسبطبونة وألف تأليفاً حسناً في ترحيل الشمس ومتوسطات البحر ومعرفة الأوقات بالأقدام ونظم أرجوزة في شرح ملاحن ابن دويدار وأرجوزة في شرح كتاب الفصح ورفع الوزير الحكيم كتاباً في الخواص وصنعه الأمدة وآلة طبع الكتاب غريب في معناه).
هذه العبارة اكتشفها اثنان من علماء الإفرنج تمكنا منها بشرح طويل في جرنال آسيا سنة 1852 فأنتم ترون فضل عجم أوربا في البحث والتنقيب عن مآثر العرب. نعم إنهما أرادا تصحيح العبارة العربية من حيث استقامة الكلام وتصورا أن فيها بعض الالتباس والإبهام. فأخذ أحدهما يصحح الجملة الأخيرة بما ليس له محل من الإعراب فقال (كتاب باقي خواس وصنعة آلة طبع الكتب كتاباً غريباً في معناه) ولا يصح لنا أن هزأ بهم بسبب هذا التصحيح العليل السقيم وما فاته من الأعراض أما الجوهر هو أنهما اكتشفا هذا البرهان الدال على أن هذه الصناعة وجدت في أيام العرب ولو من باب النظريات العلمية إذ لم تجد لها للآن أثراً علمياً محسوساً ومن المعلوم أن الأمدة (جمع مداد) تحتاج لتركيب مخصوص لكي تخرج منها نسخ متعددة فلذلك كان المؤلف الأندلسي بين صنعتها وبين طبع الكتاب. ولما كان هذا الاستنباط البديع الغريب لم يسبق له مثال بالأندلس رأى صاحب الإحاطة وجب التنبيه على فضل الكتاب فقال: غريب في معناه.
فأين أين ذلك الكتاب الذي ألفه القدسي ووصفه لسان الدين ابن الخطيب بأنه غريب في معناه.
لاشك أنه ذهب طعمة للنار حيثما علت كلمة الإسبانيين وطردوا المسلمين من تلك الديار فإنهم كانوا كلما وقع لهم كتاب مكتوب بحروف عربية قالوا هذا قرآن وبادروا لطلب الغفران بإحراقه بالنيران وبهذه الكتابة أحرقوا تسعة أعشار ونصف وثلث وربع وخمس وسدس وسبع وثمن وتسع الكتب العربية فلم يدك يخلص إلينا منها واحد في الألف وكانوا يتهافتون بارتياح وتقوى إلى ارتكاب هذه الجريمة الكبرى وهم يظنون أنهم يحسنون صنعاً حتى أن أحد كرادلتهم أحرق في يوم واحد بمدينة غرناطة نحو ألفَ ألف كتاب. وكان هذا الصنيع بعمل الإيمان.