مجلة المقتبس/العدد 53/نظرة في النظرات

مجلة المقتبس/العدد 53/نظرة في النظرات

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 7 - 1910



تتمة ما ورد في الجزء الماضي

أراد المنفلوطي في كلامه هذا أن يخطئ الإمام بأن ما دعا إليه من المبادئ الدينية لم يحن بعد وقتها وأن سواد هذه الأمة لم يتأهلوا لقبول هذه المبادئ جاعلاً ذلك علة العلل في إلحادهم ومروقهم من الدين وهذا قياس منطقي أعيذ للمنفلوطي عن أن يحشو فكره بمثله من الأوهام والخيالات التي أبان فيها عن فكر ليس له حظ من التجربة والاختبار.

لا يستطيع صاحب النظرات فيما أعلم أن ينكر أن جل الداعين إن لم أقل كلهم أنجبهم الدهر وولدتهم العصور في أوقات كانت فيها الأفكار حين يقارع بعضها بعضاً في ميدان الحياة. ومن هنا نعلم الحاجة الماسة إلى المرشدين في مثل هذه الأحوال الحرجة والمآزق الضيقة وأنهم متى قاموا بفكرة إصلاحية لا بد أن يلاقوا في طريقهم من عثرات الفريق المخالف ما يستهدفون معه لضروب الإيذاء فيقومون بين مثالب الطعن والقد حتى تتسرب الفكرة إلى بعض من يعمل على نشرها في سرهم وجهرهم ليبقوا من سعيهم هذا خميرة حيوية في المجتمع الإنساني لمن يأتي بعدهم ممن تجد لها من عقولهم مباءة فتتأصل في نفوسهم فستفيدون إذ ذاك ويفيدون بما يدعون إليه ويسعون وراء أشرابه النفوس ما وجدوا إلى ذلك سبيلاً.

بمثل هذا قامت المذاهب والأديان وتأيدت الآراء العلمية والنظريات الفلسفية. وإذا لم يكن الأمر كذلك فليدل لنا المنفلوطي برهاناً يبين مصلحاً قام بفكرة جديدة ولم يقم في وجهه في بيئته حتى من بني جلدته من يعمل على محاربته أو مناهضته بكل ما فيه من قوة وقدرة.

ويا لله كيف جاز له أن يحكم على المبادئ السامية التي دعا غليها الشيخ محمد عبده كانت مدعاة للإلحاد والمروق من الدين بدعوى أن دعوته لم يحن بعد وقتها أو أنه يوجد ثمة من يمقتها وينبذها أو أنها نشرت بين فئة واتخذوا من هداها ضلالاً ومن نورها دجى حالكاً. وهؤلاء تلامذته مصريهم وشاميهم وعراقيهم وحجازيهم في عامة الأقطار يتنازعون مبادئه ويتدارسون كتبه لم ينظر إليهم الأستاذ المنفلوطي ونظر إلى فئة ضالة مضلة لا بد من وجودها في كل عصر ومصر.

وكان الواجب على من لم يفهم ما أراد الأستاذ الإمام أو اشتبه عليه بأن يسأل عنه أه العلم فقد قال أحد شيوخ العلم: يستحيل في نظر العقل أن يدعو الحق إلى الباطل والهدى إلى الإلحاد وأصول الدين الصحيح إلى المروق منه، بل ما أبطل مبطل ولا ألحد ملحد ولا مرق مارق إلا بجهله بالأصول الصحيحة ونبذه التعلم السديد وسلوك جواده القويمة.

ولو كان من شروط الدعوة فقد المناوئين خشية مناهضتهم ومحاربتهم لما قام نبي بدعوة بإرشاد وتعليم لكانت الفكرة الإصلاحية التي قويت وشاعت بالمناهضة ثوت في سرى الرمس قبل أن يلحد القائم بها ولما كنا رأينا كتاباً منزلاً ولا أدباً غضاً ولا علماً صحيحاً وبالجملة ما كانت للأمم مدنية زاهرة ولا عمران زاخر.

ولا وجه لإنكاره على مثل هذا الإمام لأن اتخاذ التأويل قاعة مما لا نكران فيه في كل تأويل جرى اللسان في مثله ووسعته اللغة وهي لثروتها وغزارة مادتها وسعت من المجاز ما يربو على الحقيقة حتى صرح أئمة البيان بأن المجاز أكثر من الحقيقة. حتى صرح أئمة البيان بأن المجاز أكثر من الحقيقة. ولو أعار نظره إلى من سبق ذاك الإمام في مسألة الجن والملك كحجة الإسلام الغزالي والراغب الأصفهاني والقاشاني ونحوهم لما أكبر هذه المسألة وقد أوضح ذلك الأستاذ الشيخ جمال الدين القاسمي في كتابه مذاهب الإعراب وفلاسفة الإسلام في الجن وأفاض في هذه المسألة بما لا يبقى معه ريبة لمرتاب فليرجع إليه من شاء.

وأما ما قام به الإمام من بيان الأسرار وحكمه فذاك فن قديم عني به أئمة الإسلام وفلاسفته كالأئمة الذين تقدم ذكرهم وأضرابهم وهو عندهم من أجل الفنون التي يجب درسها والتوسع فيها. وقد أخذوا على أنفسهم أن يفهموا الأمة أن الدين مؤاخ للعقل مؤازر للحكمة ليس فيه ما يعلو عن العقل أو ينبو عن الفهم وحجتهم في ذلك أن القرآن الكريم هو الذي مهد السبيل للتعليل وصرح بذلك في آيات لا تحصى كما أوضحه الإمام ابن القيم في كتاب التعليل وقد حذا حذوه من المتأخرين حتى برع في هذا العلم_علم الحكمة والأسرار_الإمام ولي الله الدهلوي فألف كتابه المشهور حجة الله البالغة وأفرغ جهده في استنباط الأسرار في العبادات والمعاملات حتى جاء في مجلدين كاملين حافلين.

ولقد سفه المنفلوطي رأي قاسم بك أمين أيضاً وأنحى له لأنه دعا المرأة وقد رآها في أحط دركات الجهل إلى أن تلم بمعرفة ما يلزمها جهاد الحياة وجلادها من تربية وتعليم لتكون المرأة صالحة لهذا المجتمع فتدير شؤون منزلها أو تضرب في الأرض لترتزق إن عضها ناب الفقر وفجعت بموت من يعولها ويكفلها وهو لم يدعها إلى ذلك_كما يعلم المنفلوطي_إلا خشية أن يمزق الحجاب وهي من الجهل المريع بمكان.

وما ذنب قاسم بك أمين أن بين رأيه ولم يأبه لكيد الكائدين من تجار الأدب والدين والمرأة أخذت بالأسهل من رأييه والألصق بنفسها من نصيحته فتبرجت ورفعت برقعها قبل أن تنسج لها برقعاً من الأدب والحياة.

ومما لا مشاحة فيه أن رجل المرأة قاسم أمين قام بدعوته أحسن قيام فوصف الدواء بعد أن شخص الداء ولو كان في البلاد الأوربية لأقيمت له النصب والدمى_وإن كان صاحب النظرات لا يقول بالتماثيل_احتفاءً به واعترافاً ببيض أياديه وسابقة فضله عليهم أو لو كان المنفلوطي يقدر عمل العامل وفضل الفاضل لما جرأ على أن يقول فيه: ما رأيت باطلاً أشبه بالحق من باطله.

3 ـ

آراؤه

ذهب الأستاذ المنفلوطي في طائفة من أفكاره مذاهب فريق من فلاسفة القرن السابع عشر والثامن عشر من أوربا حتى قابله بعضهم بروسو من حيث نظره إلى المجتمع الإنساني ومما قالوه: إن ما كتبه روسو في فن التربية والتعليم قائلاً: أيها الرجال، لا ترهقوا النشء الصغار على أن يفكروا كما تفكرون ويعتقدوا ما تعتقدون ولا تحاولوا إفساد ملكاتهم بهذه الفضيلة الموهومة والحرية المطلية التي هي في مذهب العقل غاية العبودية ومنتهى الاسترقاق الخ. . ._إن ما قاله روسو تعرض له المنفلوطي في فصل له عنوانه مدينة السعادة وأغرب ما لفت نظري أني لم أر في تلك المدينة ذات التمايز الذي أعرفه من مدائننا بين الناس في منازلهم ومراكبهم وأزيائهم كأن جميع سكانها سواء في حالة المعيشة ودرجة الثروة.

وفي المنفلوطي نزعة اشتراكية تتجلى على أشدها في هذا الفصل في قوله: وحسب الرجل من البشر بيت يؤويه ومزرعة صغيرة يقتات منها ودابة تحمل أثقاله ثم لا شأن له فيما سوى ذلك.

وقالوا: يرى روسو أن الدور العالية التي شيدتها الحكومات للتعليم هي التي تغرس مبادئ الجهالة في النفوس وتبعد الإنسان عن عقله وفطرته والمنفلوطي يقول: وأي حاجة إلى المدارس في مثل هذا المجتمع وليس بأبر بآبائنا منا فنحن الذين نتولى تعليمهم وتهذيب نفوسهم وتمرينهم على العمل النافع فلا مدارس عندنا غير المصانع والمزارع نعلمهم كيف يرمون البذور وكيف يستنبتونها وكيف يصنعون الآلات الزراعية وكيف يستعملونها الخ. . . .

وبالجملة فمن رأي الشيخ المنفلوطي أن لا يكون في هذا المجتمع سيد ولا مسود ولا غني ولا فقير ولا حاكم ولا محكوم فالشطر الأكبر الذي يقتفي أثرها هي فلسفة خيالية لا تأثير لها في أبناء القرن العشرين إلا بقدر ما للأساطير من التأثير في العلوم الرياضية. وهي إن جاز أن يكون لها أنصار قبل مائتي سنة أو يزيد فلن تجد لها فيما أحسب من هذا الجيل الجديد الناشئ على أفكار داروين وهيكل وهكسلي وسبنسر ورانكي ومومسن وبالزاك وزولا نصيراً وظهيراً لأنها مخالفة لسنن الطبيعة والحياة العملية.

وقد ذهب مذهب (إسكندر دوما فيس) ولفيف من مفكري المتأدبين الغربيين في مقالته غرفة الأحزان في المرأة المجرمة من حيث يمهدون لها الأعذار ويرون الرجل أجدر باللائمة منها لأنها ضعيفة مفرطة الشعور ولأنه هو الذي هم بها فراودها عن نفسها واراد أن ينزل بها السوء فخدعها إذ عاهدها أن تكون له زوجة ويكون لها بعلاً فسلبها قلبها وشرفها وعفتها وغادرها حين علم أن في أحشائها جنينها يضطرب بين جنينها ناراً تضطرم وكان سبب شقاءها حتى أصبحت حزينة ذليلة تفضل الموت على عيش لا تستطيع معه أن تكون زوجة لرجل أو أماً لولد وأخذ لمجتمع البشري يتهكم بها ويعبث مما زادها حزناً واكتئاباً.

وقد مثل لنا هذا البغي وقد تركت وراءها ما تراه من النعمة الواسعة والعيش الرغد في ذلك القصر الذي كانت متمتعة فيه بعشرة أمها وأبيها إلى منزل حقير في حي مهجور لا يعرفه أحد ولا يطرقه طارق لتقضي فيه البقية الباقية من حياتها.

ولم يكتف ببيان هذه الجناية وحدها بل جعل أن أمها وأبيها قضيا حزناً لفقدها ويأساً من لقاها وختم الحادثة بأن أضاف على الجنايات جناية أخرى وهي هلاك المرأة المجرمة بعد أن أودع نفسها من العواطف الشريفة ما شعرت معه بمصيبة ساورتها الهموم وبلغت منها مبلغاً أودى بحياتها وهكذا ضاعف الجرم على الرجل وعله كاذباً وخادعاً ولصاً وقاتلاً وختم المقالة وهو يمحض الرجال القاسية قلوبهم النصح للرفق بضعيفات النفوس من النساء.

والظاهر أن الأستاذ المنفلوطي كان لا ينظر إلى الحقيقة من حيث هي بل كان قلمه حين يأتي على وصف حادثة يختلف باختلاف المظاهر والمؤثرات فبينا نرى صفحات مقالته هذه مكتظة بما لا يملأ النفوس شفقة ورحمة وعطفاً وحناناً على العاهرات إذا به يضني عليها بجندي يقف ليخفرها ممن يريد أن يسلبها من الحقوق ما لم يبق منها إلا الذماء ويستكثر عليها ذلك في موقف هي خليقة بالشفقة والعناية أكثر من كل المواقف.

ولقد رأيناه وهو يتكلم على المرقص في الأزبكية يحمل على الحكومة المصرية حملة منكرة ويحتدم غيظاً وحنقاً لأن هذه الحكومة المدنية المادية (على رأيه) التي هي مسؤولة أمام القانون عن استقرار الأمن واستتبابه تبعث بجندي يحمي أبواب العاهرات لئلا يعبث المشاغبون بالأمن والسكينة أو يعيثوا في الأرض فساداً.

ومما قاله: إن العين لا تكاد تملك مدامعها سحاً وتذارفاً كلما أبصرت هذا الجندي الشريف واقفاً هذا الموقف الذليل يسمع قراع الدفوف، لا قراع السيوف ويرى حمرة الصهباء لا حمرة الدماء ويحمي الفسق والفجور لا القلاع والثغور. وما أعجب لشيء عجبي لهذه الحكومة التي تضن بجنديها أن يشتمه شاتم أو يلمسه لامس فتغضب له غضبة مضرية تتراءى فيها الشهامة والحمية والعزة والنخوة ثم لا تضن أن تؤجره نائحة في الجنائز، أو قوادة في المراقص.

هذا ما قاله المنفلوطي وما يحدوه إلى هذا إلا أنه ودّ أن يكون في طليعة من يعمل بالدرس الذي ألقاه على الرجال القاسية قلوبهم ليعلمهم فيه الشفقة والرحمة والإحسان!!! وما رآه في مبدأه هذا الأكتولستوي الفيلسوف الروسي الشهير الذي يهيج هائجه على الحكومة الروسية ويصمها بالمعرة والدعارة لأنها تبعث بالأطباء إلى المواخير العامة وتعهد إليهم أن يعنوا بتطهيرها خفية أن تنتقل جراثيم الأدواء الدوية من هؤلاء البغيات الباغيات فتعم الشعب بأسره وتراه يرمي الأطباء بكل مكروه بدعوى أنهم يسعون وراء إشاعة الموبقات وتسهيل أسباب الفسق والفجور.

ويقضي علينا الأخذ برأي هذا المصلح الأخلاقي الروسي أن نهمل تعهد أماكن الفسق والمواخير وأن ندع الجراثيم تفتك بمن ملكت عليهم أمرهم لتسري العدوى في الآخرين وتنتشر الأمراض الوبيئة الوبيلة في الأمة حتى تهلك عن آخرها بدعوى صون أخلاق الشعب كيلا يتطرق إليها الفساد والخلل.

وقد رحم المنفلوطي المرأة البغي في غير هذا الموضع أيضاً وحض على التزوج بها ليرد إليها عرضها وزعم أن ذلك من أعظم القربات وعد الرجل الذي يرد العرض الضال إلى صاحبه المفجوع فيه أشرف ممن يمنح الحياة فاقدها. على شرط أن يكون الباعث على الزواج الرحمة والرأفة والحنان والشفقة لينظر في إصلاح قلبها ويحاول أن ينزع من جنينها ملكة الفساد الراسخة في نفسها ويداخلها مداخلة المؤدب المهذب الذي يصور في نظرها معيشة الفساد بصورة تنفر منها وتشمئز لها.

ومما قال: ليت الرجال يأتمرون جميعاً على أن يستنقذوا بهذه الوسيلة الشريفة (الزواج) كل امرأة ساقها فقرها وعدمها أو فقد عائلتها إلى البغاء.

وقد صرح في هذه المقالة أن بغاء البغي شقاء ما جناه عليها إلا الرجل فجدير به أن يغرم ما أتلف ويصلح ما أفسد وتعرض للمرأة أيضاً في مقالة التوبة فكأن بين جنينه جذوة نار من الحقد والموجدة تتقد على الرجل لأنه قتلها وعلى المجتمع الإنساني لأنه لا يعاقب القاتل على جرمه ولا يسلكه في سلسلة المجرمين.

والغالب أن ثقته بالجرائد المصرية ضعيفة جداً فهو يراهاً نادياً من أندية القمار والكتاب جماعة اللاعبين والرؤوس المصرية موضوعة على مائدة الألعاب كما توضع الأكر على طاولة منضدة (البلياردو).

والسيد وطني سلمي معتدل يفضل اتفاق الأحزاب السياسية على اختلافها وتعارفها على تناكرها ما دامت الغاية من تأليفها تحرير الوطن من رق العبودية.

ومن رأيه أن العلماء والجهلاء سواء وليس بين الفريقين من الفرق إلا أن هؤلاء لا يعرفون كيف يعبرون عن آرائهم وأفكارهم وأولئك أعرف منهم في كيفية إفضاء الحكمة إليهم وسعيهم وراء وعظهم وإرشادهم وإن ما ينطق به الحكيم العالم من جوامع الكلم هو نفس ما يأتي به الجاهل من الأمثال لولا أن كلام الأول في أسلوب مجود ومقال الثاني في تعبير مبتذل.

يقول قوله هذا ثم يكتب في مقالة موت العظماء ما نصه: ليست هذه العشرة ملايين (يعني المصريين) التي تراها إلا أطفالاً رضع، وسوائم رتع لولا علماؤها وأذكياؤها الذين يقودونها إلى الخير ويأخذون بيدها في ظلمات الحياة.

فليت شعري إذا كان العلماء والجهلاء في مستوى واحد من العلم والتربية فلماذا ينحي على أمته وأبناء دياره وينزلهم منزلة الحيوانات العجم وفيهم العالم والجاهل. وإذا كان المنفلوطي قد وجد في معاجم اللغة مادتي العلم والجهل من الألفاظ المترادفة فيكون كلامه حينئذ جامعاً لمتناقض الأحكام.

4 ـ

لغته

لم أر فيما رأيت من الكتب الممتعة التي وعت نتاجها قرائح أهل الأدب في هذا العصر كالريحاني وأمثاله أفصح لغة وأصح تركيباً من كتاب النظرات.

فإنك ترى في فصوله مسحة العربية الأولى وقد خلت في الغالب من ركاكات الكتب الجدد والمبذوء من تراكيبهم وجملهم المتعاظلة التي اعتورتها العامة حقبة من الزمن انسلخت فيه عن العربية الخالصة حتى أصبحت إلى الأعجمي أقرب منها إلى اللسان العربي المبين.

بيد أننا نرى من الواجب أن لا نمسك القلم في نقد ما رأيناه من سقطاته في جمل نزلت منزلة أقوال العامة وألفاظ لغوية كان الأجدر بكاتب أدبي مثل هذا أن يكون مصوناً عنها.

فما نأخذه به استعماله فعل (ازدرى) متعدياً بالباء والعرب لا يعرفونه إلا متعدياً بنفسه في قوله في مقالة النبوغ من العجز أن يزدري المرء بنفسه واستعماله (الوظيفة) بمعنى (المنصب) وقوله: خرج في المنطق عن الحيوانية الناطقية والصواب أن يقال: من الحيوانية الناطقية وقوله جداً عجيب والأولى أن يقال عجيب جداً لأن جداً إذا قدمت أضيفت إلى ما بعدها ونسبته بديهة على بديهي وكان عليه أن يقال (بدهي) كما يقول في بجيلة (بجلي) واستعماله (تلائم) بمعنى التأم في قوله من مقالة الجمال غير متناسبة ولا متلائمة وقوله: ويحبس عليها أنفاسها فإن حبس هنا لا تتعدى إلا بـ عن فإذا تعدت بـ على كانت بمعنى الوقف واستعماله البسيط بمعنى الساذج وقوله ودققت النظر والعرب تقول. دقق الشيء إذا أنعم دقه واستعماله تربى بدل ربي وجمعه لفظة مثل على أمثلة والمسموع أمثال وقوله في السنة العامة والصواب على السنة العامة واستعماله الأعوج بدل الاعوجاج وتعرج عوضاً عن تعوج واحتجز بمعنى منع وقوله لا تسلم إلا الحياة وهي عامية والأفصح ولا تفادي إلا بالحياة وإدخاله واو الحال على الماضي بعد إلا كما أنها لا تدخل على المضارع المثبت في قوله: فما رايت سطوراً مقطوعة الأواسط إلا متشابهة الأطراف إلا وقرأتها وقوله نهشه في إصبعه والصواب نهش إصبعه واستعماله الأعراض بمعنى العلامات وقوله يودعه الله في فطرة الإنسان والصواب يودعه الله فطرة الخ. . . .

هذا ما رأينا أن ننبه على ما ورد في كتاب النظرات من الألفاظ والجمل مما لا عهد للعرب به كما أن ثمة ألفاظاً أغفلناها ذكرها كاستعماله لفظة (المراسح) بدل (المسارح) و (البالونات) عوضاً عن (المناطيد) و (المكروبات) بدلاً من (الجراثيم) و (الطاولة) بدل (المنضدة).

والعاقل يغتفر له هذه الهنات اليسيرة إذا عرف أن الكاتب بين ظهراني أمة معظم صحافييها وأدبائها وكتابها يرون أن في هذه اللغة التي يكتبون بها الغناء والكفاء عن أن يتحدوا العرب العرباء في مناحي أساليبهم وأقوالهم ولله في خلقه شؤون.

5 ـ

وصفه

وهب السيد المنفلوطي ملكة خارقة في الوصف تكاد تكون فيه طبعاً وسليقة. وإني لأقرأ له القطعة الأدبية فيخيل إلي أنها من سحرها أن نفحة من قلم هيكو تهب عليَّ فلا أكاد أتم قراءتها حتى أهم بإعادتها المرة بعد الأخرى وأحمد الله على أن وجد في هذا العصر من ينفح هذا الهيكل البالي من الأدب روحاً جديدة ليحيا حياة رغد وهناء.

قال في مقالة الغد: الغد بحر خضم زاخر يعب عبابه وتصطخب أمواجه فما يدريك إن كان يحمل في جوفه الدر والجوهر أو الموت الأحمر.

ولقد غمض الغد عن العقول ودق شخصه عن الأبصار حتى لو أن إنساناً رفع قدمه ليضعها لا يدري أيضعها على عتبة القصر أو على حافة القبر.

الغد صدر مملوء بالأسرار الغرار تحوم حوله البصائر، وتتسقطه العقول، وتستدرجه الأنظار فلا يبوح بسر من أسراره إلا إذا جادت الصخرة بالماء الزلال.

يقول في نفسه: لو علم هذا الجامع أنه يجمع للوارث وهذا الباني أنه يبني للخراب، وهذا الولد أن يلد للموت ما جمع الجامع ولا بني الباني ولا ولد الولد.

إلى أن قال: أيها الشبح الملثم بلثام الغيب، هل لك أن ترفع عن وجهك هذا اللثام قليلاً لنرى لمحة واحدة من لمحات وجهك. أولاً فاقترب منا علناً نستطيع أن نستشف خيالك من وراء هذا اللثام المسدول فقد طارت قلوبنا شوقاً إليك، وذابت أكبادنا وجداً عليك.

أيها الغد، إن لنا آمالاً كباراً وصغاراً، وأماني حساناً وغير حسان. فحدثنا عن آمالنا أين مكانها منك، وخبرنا عن أمانينا ماذا صنعت بها أأذللتها وأهنتها. أم كنت لها من المكرمين. لا لا، صن سرك في صدرك وأبق لثامك على وجوهك ولا تحدثنا حديثاً واحداً عن آمالنا وأمانينا حتى لا تفجعنا فيها فتفجعنا في أرواحنا ونفوسنا فإنما نحن أحياء بالآمال وإن كانت باطلة، وسعداء بالأماني وإن كانت كاذبة.

وحسنا هذه القطعة الذهبية التي أوردناها هنا دلالة على مكانة الكاتب من ملكة الوصف ومبلغ ما وهب من القوة الطبيعية في النثر الشعري أو الشعر المنثور.

وللمنفلوطي في بعض فصول كتابه تشابيه جميلة واستعارات جديدة ربما غمضت على عقول من اعتادوا تمجيد القديم من المتأدبين أو تعامى عنها بعض من يرى المعاصرة حرمان فلم يرفعوا لها شأناً ولم يقيموا لها وزناً كقوله: فتشت عن الفضيلة في قصور الأغنياء فرأيت الغني إما شحيحاً أو متلافاً أما الأول فلو كان جاراً لبيت فاطمة (رضي الله عنها) وسمع في جوف الليل أنينها وأنين ولديها من الجوع ما مد أصبعيه إلى أذنيه ثقة منه أن قلبه (المتحجر) لا تنفذ إليه عاطفة الرحمة، ولا تمر بين طياته نسمات الإحسان وربما أنكروا عليه وصفه القلب المتحجر وعد جعله للإحسان بسمات إغراقاً منه في المجاز ومبالغة في الاستعارة ولكن الحقيقة في غير ما يزعمون.

ومثل قوله: فقد عقد رياء الناس أمام عيني سحابة سوداء أظلم لها بصري حتى ما أجد في صفحة السماء نجماً لامعاً ولا كوكباً ساطعاً وقوله درع منسوجة من نجيع وقوله: بهذه الصواعق التي يمطرنها علينا من سماء الصحف ومن جمله الجميلة قوله: وما نشر الظلام أجنحته السوداء في الأفق حتى رأيتني أحير من دمعه وجد في مقلة عاشق يدفعها الحب ويمنعها الحياء. لا أعلم هل أنا سر كامن في باطن الظلماء، أو حوت مضطرب في أعماق الماء وقوله أيضاً: وهناك أحسست بسلسبيل بارد من الأمل يتسرب إلى قلبي فينقع غلته ويطفئ لوعته وقوله في مقالة يخاطب بها المحزون: أنت حزين لأن نجماً زاهراً من الأمل كان يتراءى لك في سماء حياتك فيملأ عينك نوراً وقلبك سروراً، وما هي الأكر الطرف إن افتقدته فما وجدته وقوله: ابتسامة هادئة الخ. . .

وقد أجاد الشيخ في مقالة غرفة الأحزان أيما إجادة حتى أن قارئ القصة ليجد أثرها في نفسه بعد قراءته لها في دمعة تترقرق في جفنه فتنم عن عواطفه وشعوره. وما هي لو علمت إلا جائزة القلب إلى البراع الذي خط تلك السطور بأسلوب يتدفق شعراً وشعوراً. ولا يسعه إلا أن يكبر ذلك الوصف الذي ألم بعامة أطراف الحادثة إكباراً فكان جائعاً لما تشعر به النفس من دبيب الآلام واعياً لما يصدر عن النفس السامية من شريف العواطف.

6 ـ

روح المؤلف

إذا صحت النظرية القائلة الكتابة صورة الكاتب جاز لنا أن نحكم على المنفلوطي أنه من جماعة المتشائمين ولكن لا في مذهب من المذاهب الفلسفية أو التاريخية أو السياسية بل هو من يرون أن لا سعادة في الحياة ولا هناء وإن من العبث أن يلقي المرء بنفسه إلى التهلكة في معترك الحياة ما دامت الرذائل آخذة من النفوس مآخذها وإن ما نسميه فضيلة ليس إلا خداعاً ورياءً ونفاقاً دعيت بالفضيلة وهي ليس لها ظل في هذا الوجود.

هو ينظر إلى المجتمع نظر الحانق الناقم لأنه يعتقد أنه مصاب بالسقم في فهمه والاضطراب في تصوره فلا عبرة بحكمه ولا ثقة بوزنه وتقديره إذ هو يسمي الفقير سافلاً وطيب القلب مغفلاً وطاهر السريرة بليداً والحليم عاجزاً.

وإنك لترى في مقالته أين الفضيلة روح اليأس مجسمة وما يتخيله أو يفكر به هو قد مر بخاطر كثيرين من أدباء المشارقة والمغاربة وكثيراً ما أجهد الكاتب من هؤلاء نفسه ليضع قصة يأتي بها على شرور العالم ومفاسده وكنت كلما مررت بسطر من سطوره تصب اللعنات على هذه الحياة التي تراها مثل الشقاء وتتمثل آنئذ بقول الشاعر العربي الحكيم:

إنما نحن بين ظفر ونابٍ ... من خطوب أسودهن ضراء

نتمنى وفي المنى قصر العمر ... فنغدو بما نسر نساء صحة المرء للسقام طريق ... وطريق الفناء هذا البقاء

بالذي نغتدي نموت ونحيا ... أقتل الداء للنفوس الدواء

ما لقينا من غدر دنيا فلا كا ... نت ولا كان أخذها والعطاء

من فساد يحويه للعالم الكو ... ن فما للنفوس منه اتقاء

قاتل الله لذة لأذانا ... نالها الأمهات والآباء

نحن لولا الوجود لم نألم الفقد فإيجادنا علينا بلاء_الخ. . .

يدلك على هذا أيضاً ما تقرأه له أيضاً في مقالة الشعر البيضاء ويعني بها شعرة المشيب التي رآها تلوح في فوده فخاطبها مؤنباً إياها بأنها تدني له الموت وبالغ في تأنيبها وتعنيفها، وأغرق في عتبها ولومها ثم رجع بعد ذلك لنفسه وكأنه ندم على ما فرط منه بجنبها وأخذ يخاطبها قائلاً: ما الذي يحمله في صدرك لك من الحقد والموجدة رجل لم ينعم بشبابه فيحزن على ذهابه، ولم يذق حلاوة الحياة فيجزع لمرارة الممات ولم يستنشق نسمات السعادة غضاً رطباً فيأسى عليها عوداً يابساً.

ما الذي ينقمه عليك من الشؤون رجل يعلم أنك وحي الأمل الذي يبشره بقرب النجاة من حياة ليس فيها من السعادة والهناء إلا لمحات قليلة يكدرها ما يحيط بها من الهموم والأكدار كما تكدر أنفاس الحزن الحارة صفحة المرآة.

أليس كل ما أعده إليك من الذنوب أنك طليعة الموت الذي يخلصني من منظر هذا العالم المملوء بالشرور والآثام، الحافل بالآلام والأسقام، الذي لا أغمض عيني فيه إلا لأفتحها على صديق يغدر صديقه وأخ يخون أخاه وعشير يحدد أنيابه ليمضغ عشيره، وغني يضن على الفقير بفتات مائدته وفقير يقترح على الدهر حتى بلغة الموت فلا يظفر بأمنيته وملك لا يفرق بين رعيته وماشيته، ومملوك لا يميز بين ملك الملك وربوبيته ونفوس تتفانى قتلاً على لون حائل، وظل زائل، وغرض سافل، وعيش باطل وعقول تتهالك وجداً على نار تحرقها، وأنياب تمزقها وعيون حائرة في رؤوس طائرة تنظر ولا ترى شيئاً مما حولها، وتلمع ولا تكاد تبصر ما تحتها.

هكذا رأينا المنفلوطي يرمي هذا العالم بنظرات كلها شؤم كما هو شأن جماعة المتشائمين في عامة شؤونهم وأطوارهم وأحوالهم. ولولا أنه لا يقول إلا ما يعتقده ولا يعتقد إلا ما يسمع صداه من جوانب نفسه لقلنا أنها خاطرات شاعر وجدت لها من سماء مخيلته مطلقاً ثم ما لبثت أن أدركها الغروب. أم وأن هذا الكلام هو صورة من صور نفسه فلا جرم أنها حالة نفسية كثيراً ما تعرو من يميلون إلى التجرد عن المادة ويرون في سكوت الموت وظلمته حياة مفعمة بالحركة والنور والرغد والسرور.

دمشق:

صلاح الدين القاسمي.