مجلة المقتبس/العدد 54/مخطوطات ومطبوعات

مجلة المقتبس/العدد 54/مخطوطات ومطبوعات

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 8 - 1910



روضة العقلاء ونزهة الفضلاء

للإمام أبي حاتم محمد بن حيان البستي المتوفى سنة 354هخـ

صححه محمد أمين أفندي الخانجي بعد قراءة الأصل على الشيخ طاهر

الجزائري طبع بمطبعة كردستان العلمية بمصر.

سنة 1328 ص267.

علم الأخلاق كما قال ابن ساعد علم بعلم منه أنواع الفضائل كيفية اكتسابها وأنواع الرذائل وكيفية اجتنابها وموضوعه الملكات النفسية من الأمور العادية ومنفعته أن يكون الإنسان كاملاً في أفعاله بحسب إمكانه لتكون أولاه سعيدة وأخراه حميدة. وجميع ما طبع حتى الآن من كتب هذا الفن الجليل مفيد في بابه نافع لطلابه مثل كتاب الذريعة في مكارم الشريعة للراغب الأصفهاني وتفصيل النشأتين له وأدب الدنيا والدين للماوردي والفوز الصغر لا بن مسكويه وتهذيب الأخلاق له أيضاً ومداواة النفوس لابن حزم ورسائل إخوان الصفا وحكم ابن عطاء الله السكندري وقواعد التصوف لا بن زروق والطب الروحاني للشيرازي ومعظم إحياء علوم الدين للغزالي وبعض فصول الفتوحات الملكية لابن عربي وغير ذلك من كتب التصوف الصحيح.

وهذا السفر من أجل التي أحييت في هذه الآونة بمعرفة أستاذنا الشيخ طاهر الجزائري فجاء الفرع والأصل متساويين في المحاسن وقد قال عنه في التذكرة الطاهرية الذي وضعه أستاذنا في فوائد متفرقة في وصف المكتب النافعة الكثيرة التي يطلع عليها قوله: وقفت في ذي الحجة سنة 1327 على كتاب روضة العقلاء للإمام الحافظ الأجل ابي حاتم محمد بن حيان التميمي ألبسني أحد أفرادها الدهر فوجدته كتاباً من أجل الكتب وأنفعها قصد فيه مؤلفه بيان ما يحتاج غليه العقلاء في أيامهم على اختلاف أحوالها وهو من المطالب العالية التي يحرص عليها كل عاقل غير غافل. وليس الرجال بأحق بالاستفادة منه من ربات الحجال وقد ابتدأ كل مط لب بحديث ثابت يتعلق به وابتعه بما قصد بيانه ووشاه بشواهد كثيرة مما قاله شعراء الحكماء وحكماء الشعراء وجرى في عبارته على نهج من أ الحظ الأدنى من البيان فيجدر بالعقلاء أن يرضوا أنفسهم في روضتهم مجتنين من أثمارها ومجتلين لأزهارها.

المؤلف من جلة العلماء المكثرين من التأليف المجودين فيما كتبوه وكتابه هذا على ما نعلم طبع لأول مرة وقد ترجم له ياقوت الحموي في معجم البلدان فقال ما محصله:

أبو حاتم محمد بن حيان التميمي العلامة الفاضل المتقن كان مكثراً من الحديث والرحلة والشيوخ عالماً بالمتون والأسانيد أخرج من علوم الحديث ما عجز عنه غيره ومن تأمل تصانيفه تأمل منصف علم أن الرجل كان بحراً في العلوم سافر ما بين الشاش والإسكندرية وأدرك الأئمة والعلماء والأسانيد العالية وكان من أوعية العلم في اللغة والفقه والحديث والوعظ ومن عقلاء الرجال صنف فخرج له من التصنيف في الحديث ما لم يسبقه إليه وولي القضاء بسمرقند وغيرها من المدن وكانت الرحلة بخراسان من مصنفاته. قال أبو بكر أحمد بن ثابت: ومن الكتب التي تكثر منافعها أن كانت على قدر ما ترجمها به واصفها مصنفات أبي حاتم محمد ابن حيان البستي التي ذكرها لي مسعود بن ناصر السجزي ووقفني على تذكرة بأسمائها ولم يقدر لي الوصول إلى النظر فيها لأنها غير موجودة بيننا ولا معروفة وأنا أذكر منها ما استحسنه سوى ما عدلت عنه أو طرحته. فمن ذلك كتاب الصحابة خمسة أجزاء وكتاب التابعين خمسة عشر جزءاً وكتاب أتباع التابعين خمسة عشر جزءاً وكتاب تبع التباع سبعة عشر جزءاً وكتاب تبع التبع عشرون جزءاً وكتاب الفصل بين النقلة عشرة أجزاء وكتاب علل أوهام أصحاب التواريخ عشرة أجزاء وكتاب علل حديث الزهري عشرون جزءاً وكتاب علل حديث مالك عشرة أجزاء وكتاب علل مناقب أبي حنيفة ومثالبه عشرة أجزاء وكتاب علل ما استند عليه أبو حنيفة عشرة أجزاء وكتاب ما خالف الثوري شعبة ثلاثة أجزاء وكتاب ما انفرد به أهل المدينة من السنة عشرة أجزاء وكتاب ما انفرد به أهل مكة من السنن عشرة أجزاء وكتاب ما عند شعبة عن قتادة وليس عند سعيد عن قتادة جزءان وكتاب غرائب الأخبار عشرون جزءاً وكتاب ما أغرب الكوفيون ثمانية أجزاء وكتاب أسامي من يعرف بالكنى ثلاثة أجزاء وكتاب كنى من يعرف بالأسامي ثلاثة أجزاء وكتاب الفصل والوصل عشرة أجزاء وكتاب التمييز بين حديث النضر الحمداني والنضر الحزاز جزءان وكتاب الفصل بين حديث أشعث بن مالك وأشعث بن سوار جزءان وكتاب الفصل بين حديث منصور بن المعتمر ومنصور بن راذان ثلاثة أجزاء وكتاب الفصل بين مكحول الشامي ومكحول الأزدي جزءٌ وكتاب موقوف ما رفع عشرة أجزاء وكتاب آداب الرجالة جزءان وكتاب ما أسند جنادة عن عبادة جزء وكتاب الفصل بين حديث نور بن زيد جزء وكتاب ما جعل عبد الله بن عمر عبيد الله بن عمر جزءان وكتاب ما جعل شيبان سفيان أو سفيان شيبان ثلاثة أجزاء وكتاب مناقب مالك بن أنس جزءان وكتاب مناقب الشافعي جزءان وكتاب المعجم على المدن عشرة أجزاء وكتاب المقلين من الحجازيين عشرة أجزاء وكتاب المقلين من العراقيين عشرون جزءاً وكتاب الأبواب المتفرقة ثلاثون جزءاً وكتاب الجمع بين الأخبار المتضادة جزءان وكتاب وصف المعدل والمعدل جزءان وكتاب مفصل بين حدثنا وأخبرنا جزء وكتاب وصف العلوم وأنواعها ثلاثون جزءاً وكتاب الهداية على علم السنن قصد فيه إظهار الصناعتين اللتين هما صناعة الحديث والفقه يذكر حديثاً ويترجم له ثم يذكر من يتفرد بذلك الحديث ومن مفاريد أي بلد هو ثم يذكر كل اسم في إسناده من الصحابة إلى شيخه بما يعرفن نسبته ومولده وموته وكنيته وقبيلته وفضله وتيقظه ثم يذكر ما في ذلك الحديث من الفقه والحكمة فإن عارضه خبر ذكره وجمع بينهما وإن تضاد لفظه في خبر آخر تلطف للجمع بينهما حتى يعلم ما في كل خبر من صناعة الفقه والحديث معاً وهذا من أنبل كتبه وأعزها.

قال أبو بكر الخطيب: سألت مسعود بن ناصر يعني السجزي فقلت له: أكل هذه الكتب موجودة عندكم ومقدور عليها ببلادكم فقال إنما يوجد منها الشيء اليسير والنزر الحقير.

قال وكان أبو حاتم بن حيان سبل كتبه ووقفها وجمعها في دار رسمها بها فكان السبب في ذهابها مع تطاول الزمان وضعف السلطان واستيلاء ذوي العيث والفساد على أهل تلك البلاد. قال الخطيب: ومثل هذه الكتب الجليلة كان يجب أن يكثر بها النسخ فيتنافس فيها أهل العلم ويكتبونها ويجلدونها إحرازاً لها ولا أحسب المانع مكن ذلك كان إلا قلة معرفة أهل تلك البلاد بمحل العلم وفضله وزهدهم فيه ورغبتهم عنه وعدم بصيرتهم به والله أعلم.

قال الإمام تاج الإسلام: وحصل عندي من كتبه بالإسناد المتصل سماعاً كتاب التقاسيم والأنواع خمس مجلدات وكتاب روضة لعقلاء وحصل عندي من تصانيفه غير مسندة عدة كتب مثل كتب الهداية إلى علم السنن من أوله قدر مجلدين وله وهو أشهر من هذه كلها كتاب الثقات وكتاب الجرح والتعديل وكتاب شعب الإيمان وكتاب صفة الصلاة. وكان من فقهاء الدين وحفظ الآثار والمشهورين في الأمصار والأقطار عالماً بالطب والنجوم وفنون العلم جعل داره مدرسة لأصحابه ومسكناً للغرباء الذين يقيمون بها وأهل الحديث والمتفقهة ولهم جرايات يستنفقونها داره وفيها الصفة خزانة كتبه في يدي وصي سلمها إليه ليبذلها لمن يريد نسخ شيءٍ منها الصفة من غير أن يخرجه منها. قال الحاكم: أبو حاتم كبير في العلوم وكان يحسد لفضله وتقدمه. وصنف لأبي الطيب المصعبي كتاباً في القرامطة وتوفي سنة 354 (ايري فيه) ودفن في الصفة التي ابتناها بمدينة بست بقرب داره اهـ.

هذا هو الرجل العظيم الذي اغفل ذكره كتاب التراجم والباحثون في آثار السلف كصاتكحب وفيات الأعيان وفوات الوزفيات وصاحب الفهرست وصاحب كشف الظنون ومع هذا لم يغفل عنه يباقوت وترجمه بما هو أهله. وكم في هذه الأمة من ضاعت ترجمته وغابت عنا أعمالهم بضعف في مدارك أهل بلدهم وعقم النفوس في ديارهم وحسد نالهم وهي العلامة المميزة للمصلحين والصالحين التي كثيراً ما أصيبوا بتأثيراتها الضارة.

أنا الكتاب الذي نشر اليوم فهو روضة علم وأدب وأخلاق قسمه إلى مطالب في أدب النفس ناهزت الخمسين مطلباً مثل لزوم التقوى والعلم والصمت والصدق والحياء وترك القحة ولزوم التواضع ومجانبة الكبر والتحبب إلى الناس ومداراتهم وإفشاء السلام والمزاح المباح والاعتزال عن الناس ومؤاخاة الخاصة وكراهية المعاداة والتلون ومجانبة الحرص للعاقل والتحاسد والتباغض ومجانبة الغضب والطمع ولزوم القناعة والتوكل والرضا والعفو وصفة الكريم واللئيم والزجر عن قول الوشاة وكتمان السر والنصيحة للمسلمين كافة والزجر عن التهاجر ولزوم الحلم عند الذى وإباح جمع المال للقائم بحقوقه والحث على إقامة المروءات والزجر عن قبول الهدايا وقضاء الحوائج والحث على مطالبة لمعالي وإطعام الطعام والمجازاة على الضائع والحث على سياسة الرياسة ورعاية الرعية غير ذلك مما يستفيد منه الكبير والصغير ويتأدب به الأمير والأجير ويغني غناءه للرجال والنساء على السواء.

يفتتح المؤلف كل فصل بحديث صحيح ثم يشفعه بكلام منظوم أو منثور ينقله بالرواية ومنظومه كله مما يجدر بالناشئة حفظه لسلاسته وكثرة حكمه ثم يتكلم ابو حاتم من عنده كلاماً يدل على العقل الواسع والعلم النافع وحسن المأتى ولطف الأداء وقد يورد في أكثر الفصول قصصاً تروق العامة والخاصة معاً. نسق تأليفه تنسيقاً عجيباً لم يخل به من أوله إلى آخره حتى جاءت المطالب كلها متساوية بالحجم والفائدة آخذة من الحسن والإحسان بنصيب وافر. فجودة الأسلوب التي عرفت بها مصنفات الإفرنج لعهدنا تجدها على أتمها في المجودين للتأليف في عصور الارتقاء الإسلامي وهذا الكتاب نموذج صالح منها.

وإليك الآن مثالاً من عبارة المؤلف تستدل منها عل مبلغه من الحذق والعلم والبيان. قال أبو حاتم: لا يكون المرء بالمصيب في الأشياء حتى تكون له خبرة بالتجارب والعاقل يكون حسن المأخذ في صغره صحيح الاعتبار في صباه حسن العفة عند إدراكه رضي الشمائل في شبابه ذا الرأي والحزم في كهولته يضع نفسه دون غايته برتوه (خطوة) ثم يجعل لنفسه غاية يقف عندها لأن من جاوز الغاية في كل شيءٍ صار إلى النقص ولا ينفع العقل إلا بالاستعمال كما لا تتم الف5رصة إلا بحضور الأعوان. ومن لم يكن عقله أغلب خصال الخير أخاف أن يكون حتفه أقرب الأشياء إليه. ورأس العقل المعرفة بما يمكن أن يكون كونه قبل أن يكون والواجب على العاقل أن يجتنب أشياء ثلاثة فإنها اسرع في إفساد العقل من النار في يبس العوسج: الاستغراق في الضحك وكثرة التمني وسوء التثبت. لأن العاقل لا يتكلف ما لا يطيق ولا يسعى إلا لما يدرك ولا يعد إلا بما يقدر عليه ولا ينفق إلا بقدر ما يستفيد ولا يطلب من الجزاء إلا بقدر ما عنده من الغناء ولا يفرح بما نال إلا بما أجدى عليه نفعه منه والعاقل يبذل لصديقه نفسه وماله ولمعرفته رفده ومحضره ولعدوه عدله وبره وللعامة بشره وتحيته ولا يستعين إلا بمن يحب أن يظفر بحاجته ولا يحدث إلا من يرى حديثه مغنماً إلا أن يغلبه الاضطرار عليه ولا يدعي ما يحسن من العلم لأن فضائل الرجال ليست ما أدعوها ولكن ما نسبها الناس إليهم ولا يبالي ما فاته من حطام الدنيا مع ما رزق من الحظ في العقل. أنشدني عبد الرحمن ابن محمد المقاتلي:

فمن كان ذا عقل ولم يك ذا غنى ... يكون كذي رجل وليست له نعل

ومن كان ذا مال ولم يك ذا حجى ... يكون كذي نعل وليست له رجل

قال أبو حاتم: كفى بالعاقل فضلاً وإن عدم المال بأن تصرف أعماله إلى المحاسن فتجعل البلادة منه علماً والمكر عقلاً والهذر بلاغة والحدة ذكاء والعيُّ صمتاً والعقوبة تأديباً والجرأة عزماً والجبن تأنياً والإسراف جوداً والإمساك تقديراً فلا تكاد ترى عاقلاً ولا موقراً للرؤساء ناصحاً للأقران مواتياً للإخوان متحزراً من الأعداء غير حاسد للأصحاب ولا مخادع للأحباب لا يتحرش بالأشرار ولا يبخل في الغنى ولا يشره في الفاقة ولا ينقاد للهوى ولا يجمح في الغضب ولا يمرح في الولاية ولا يتمنى ما لا يجد ولا يكتنز إذا وجد ولا يدزخل في دعوى ولا يشارك في مراء ولا يدلي بحجة حتى يرى قاضياً ولا يشكو الوجع إلا عند من يرجو عنده البرء ولا يمدح أحداً إلا بما فيه لأن من مدح رجلاً بما ليس فيه فقد بالغ في هجائه ومن قبل المدح بما لم يفعله فقد استهدف للسخرية. والعاقل يكرم على غير حال كالأسد يهاب وإن كان رابضاً وكلام العاقل يعتدل كاعتدال جسد الصحيح وكلام الجاهل يتناقض كاختلاط جسد المريض وكلام العاقل وإن كان نزراً خطوة عظيمة كما أن مقارنة المأثم وإن كان نزراً مصيبة جليلة ومن العقل التثبت في كل عمل قبل الدخول فيه وآفة العقل العجب بل على العاقل أن يوطن نفسه على الصبر على جار السوء وجليس السوء فإن ذلك مما لا يخطيه على ممر الأيام ولا يجب للعاقل أن يحب أن يسمى به لأن من عرف بالدهاء حذر ومن عقل عاقل دفن عقله ما استطاع لأن البذر وإن خفي بالأرض أياماً فإنه لا بد من ظاهر في أوانه وكذلك العاقل لا يخفى عقله وإن أخفى ذلك جهده وأول تمكن المرء من مكارم الأخلاق هو لزوم العقل اهـ.

ومن الحكايات التي ساقها قوله: سمعت إسحق بن أحمد القطان البغدادي يتيسر يقول: كان لنا جار ببغداد نسميه طبيب القراء كان يتفقد الصالحين ويتعاهدهم فقال لي: دخلت يوماً على أحمد بن حنبل فإذا هو مغموم مكروب فقلت: مالك يا أبا عبد الله. قال: خير. قلت: ومع الخير. قال: امتحنت وبتلك المحنة حتى ضربت ثم عالجوني وبرأت إلا أنه بقي في صلبي موضع يوجعني هو أشد عليّ من ذلك الضرب. قال: قلت اكشف لي عن صلبك. قال: فكشف لي فلم أر فيه إلا أثر الضرب فقلت: ليس لي بذي معرفة ولكن سأستخبر عن هذا قال: فخرجت من عنده حتى أتيت صاحب الحبس وكان بيني وبينه فضل معرفة فقلت له: ادخل الحبس في حاجة قال: أدخل فدخلت وجمعت فتيانهم وكان معي دريهمات فرقتها عليهم وجعلت أحدثهم حتى أنسوا بي ثم قلت: من منكم ضرب أكثر قال: فقلت له اسالك عن شيءٍ فقال: هات فقلت: شيخ ضعيف ليست صناعته كصناعتكم ضرب على الجوع والقتل سياطاً يسيرة إلا أنه لم يمت وعالجوه وبرأ إلا أن مواضعاً في صلبه يوجعه وجعاً ليس عليه صبر قال: فضحك فقلت: مالك قال: الذي عالجه كان حائكاً. قلت: أيش الخبر. قال: ترك في صلبه قطعة لحم ميت لم يقلعها قلت: فما الحيلة قال: يبط صلبه وتؤخذ تلك القطعة ويرمى بها وإن تركت بلغت إلى فؤاده فقتلته. قال: فخرجت من الحبس فدخلت على أحمد بن حنبل فوجدته على حالته فقصصت عليه القصة. قال: ومن يبطه. قلت: أنا. قال: أو تفعل قلت: نعم قال: فقام فدخل البيت ثم خرج وبيده مخدتان وعلى كتفه فوطة فوضع أحدهما لي والأخرى له ثم قعد عليها وقال استخر الله فكشف الفوطة عن صلبه وقلت ارني موضع الوجع فقال: ضع إصبعك عليه فإني أخبرك به فوضعت إصبعي وقلت: ها هنا موضع الوجع. قال: ههنا أسأل الله العافية قال: ههنا قال: هاهنا أحمد الله على العافية فقلت: هاهنا قال: هاهنا أسأل الله العافية قال: فعلمت أنه موضع الوجع قال: فوضعت المبضع عليه فلما أحس بحرارة المبضع وضع يده على رأسه وجعل يقول: اللهم اغفر للمعتصم حتى بططته فأخذت القطعة الميتة ورميت بها وشددت العصابة عليه وهو لا يزال على قوله اللهم اغفر للمعتصم. قال: ثم هدأ وسكن ثم قال: كأني كنت معلقاً فأصدرت قلت: يا أبا عبد الله إن الناس امتحنوا محنة دعوا على من ظلمهم ورأيتك تدعو للمعتصم قال: إني فكرت فيما تقول وهو ابن عم رسول الله فكرهت أن آتي يوم القيامة وبيني وبين أحد من قرابته خصومة هو مني في حل اهـ.

ومن أجمل الفصول التي استشهد بها المؤلف وصية الخطاب بن لمعلى المخزومي ابنه قال: أخبرتني محمد بن المنذر بن سعيد حدثنا أبو حاتم محمد بن إدريس الحنظلي حدثني عبد الرحمن بن أبي عطية الحمصي عن الخطاب بن المعلى المخزومي القرشي أنه وعظ ابنه فقال: يا بني عليك بتقوى الله وطاعته، وتجنب محارمه بإتباع سنته ومعالمه، حتى تصح عيوبك، وتقر عينك، فإنها لا تخفى على الله خافية، وإني قد سمعت لك وسماً، ووضعت لك رسماً، إن أنت حفظته ووعيته وهملت به ملأت عيون الناس، وإنقاد لك به الصعلوك، ولم تزل مرتجيا مشرفاً يحتاج إليك، ويرغب إلى ما في يديك، فأطلع أباك، واقتصر على وصية أبيك، وف رغ لذلك ذهنك، واشغل به قلبك ولبك، وإياك وهذر الكلام، وكثر الضحك والمزاح، ومهازلة الإخوان فإن ذلك يذهب البهاء، ويوقع الشحناء، وعليك بالرزانة، والتوقر من غير كبر يوصف منك، ولا خيلاء تحكي عنك، والق صديقك وعدوك بوجه الرضى، وكف الأذى، من غير ذلة لهم، ولا هيبة منهم، وكن في جميع أمورك في أوسطها، فإن خير الأمور أواسطها، وقلل الكلام، وافش السلام، وامش متمكناً قاصداً ولا تخبط برجلك، ولا تسحب ذيلك ولا تلو عنقك ولا رداءك، ولا تنظر في عطفك، ولا تكثر الالتفات، ولا تقف على الجماعات. ولا تتخذ السوق مجلساً ولا الحوانيت متحدثاً. ولا تكثر المراء. ولا تنازع السفهاء. فإن تكلمت اختصر. وإن مزحت فاقتصر. وإذا جلست فتربع. وتحفظ من تشبيك أصابعك وتفقيعها. والعبث بلحيتك وخاتمك. وذؤابة سيفك. وتخليل أسنانك. وإدخال يدك في أنفك. وكثرة طرد الذباب عنك. وكثرة التثاؤب والتمطي. وأشباه ذلك مما يستخفه الناس منك. ويغتمزون به فيك. وليكن مجلسك هادياً. وحديثك مقسوماً. واصغ إلى الكلام الحسن ممن حدثك بغير إظهار عجب منك. ولا مسالة إعادة. وأغض عن الفكاهات. من المضاحك والحكايات. ولا تحدث عن إعجابك بولدك ولا جاريتك. ولا عن فرسك ولا عن سيفك.

وإياك وأحاديث الرؤيا فإنك إن أظهرت عجباً بشيءٍ منها طمع فيها السفهاء فولدوا لك الأحلام واغتمزوا في عقلك ولا تصنع تصنع المرأة. ولا تبذل تبذل العبد. ولا تلهب لحيتك ولا تبطنها، توقى كثرة الحلف، ونتف الشيب، وكثرة الكحل، والإسراف في الدهن وليكن كحلك غياً، ولا تلح في الحاجات، ولا تخشع في الطلبات، ولا تعلم أهلك وولدك فضلاً عن غيرهم عدد مالك، فإنه إن رأوه قليلاً هنت عليهم، وإن كان كثيراً لم تبلغ به رضاهم، وأخفهم في غير عنف، ولن لهم في غير ضعف، ولا تهازل أمتك، وإذا خاصمت فتوقر، وتحفظ من جهلك، وتجنيب من عجلتك، وتفكر في حجتك، وأري الحاكم شيئاً من حلمكن ولا تكثر الإشارة بيدك، ولا تجفل على ركبتيك، وتوق حمرة الوجه وعرق الجبين، وغن سفه عليك فاحلم، وإذا هدأ غضبك فتكلم، وأكرم عرضك، وألق الفضول عنك، وإن قربك سلطان، فكن منه على حد السنان، وإن استرسل إليك، فلا تامن انقلابه عليك، وأرفق به رفقك بالصبي، وكلمه بما تشتهي، ولا يحملنك ما ترى من ألطافه إياك، وخاصته بك، إن تدخل بينه وبين أحد من ولده وأهله وحشمه، وإن كان لذلك منك مستمعاً، وللقول منك مطيعاً، فإن سقطة الداخل بين الملك وأهله صرعه لا تنهض، وزلة لا تقال، وإذا وعدت فحقق، وإذا حدثت فأصدق، ولا تجهر بمنطقك كمنازع الصم، ولا تخافت به كتخافت الأخرس، وتخير محاسن القول، بالحديث المقبول، وإذا حدثت بسماع فانسبه إلى أهله، وإياك الأحاديث العابرة المشنعة التي تنرها القلوب وتقف لها الجلود، وإياك ومضعف الكلام مثل نعم نعم ولا لا وعجل وعجل وما أشبه ذلك. وإذا توضأت من الطعام، فأجد عرك كفيك، وليكن وضعك الحرض من الأشنان في فيك كفعلك بالسواك، ولا تنخع في الطست، وليكن طرحك الماء من فيك مسترسلاً، ولا تمج فتنضح على أقرب جلسائك، ولا تعض نصف اللقمة ثم تعيد ما بقي منها منصبغاً فإن ذلك مكروه، ولا تكثر الاستسقاء على مائدة الملك. ولا تعبث بالمشاش. ولا تعب شيئاً مما يقرب غليه على مائدته بقلة خل أو أتابل أو عسل. فإن السحابة قد صيرت لنفسها مهابة. ولا تمسك إمساك المبثور. ولا تبذر تبذير السفيه المغرور. واعرف في مالك واجب الحقوق وحرمة الصديق واستغن عن الناس يحتاجون إليك. واعلم أن الجشع. يدعو إلى الطبع. والرغبة. كما قرر تدق الرقبة. ورب أكلة تمنع أكلات. والتعفف مال جسيم وخلق كريم. ومعرفة الرجل قدره. يشرف ذكره. ومن تعد القدر. هوى في بعيد العقر. والصدق زين. والكذب شين. ولصدق يسرع عطب صاحبه أحسن عاقبة من كذب يسلم عليه قائله. ومعاداة اللئيم. خير من مصادقة الأحمق. ولزوم الكريم على الهوان. خير من صحبة اللئيم على الإحسان. ولقرب ملك جواد. خير من مجاورة بحر طراد. وزوجة السوء الداء العضال ونكاح العجوز يذهب بماء الوجه. وطاعة النساء تزري بالعقلاء.

تشبه بأهل العقل تكن منهم. وتصنع للشرف تدركه. واعلم كل امرئٍ حيث وضع نفسه. وغنما ينسب الصانع إلى صناعته. والمرء يعرف بقرينه. وإياك وإخوان السوء. فإنهم يخونون من رافقهم. ويحزنون من صادقهم. وقربهم أعدى من الجرب. ورفضهم من استكمال الأدب. واستخفار المستجير لؤم. والعجلة شؤم. وسوء التدبير وهن. والأخوان اثنان فمحافظك عليك عند البلاء. وصديق لك في الرخاء. فاحفظ صديق البلاء. وتجنب صديق العافية. فإنهم أعدى الأعداء. ومن اتبع الهوى. مال به الردى. ولا يعجبنك الجهم من الرجال. ولا تحقر ضئيلاً كالخلال. فإنما المرء بأصغريه قلبه ولسانه. ولا ينتفع به بأكثر من أصغريه. وتوق الفساد. وإن كنت في بلاد الأعادي. ولا تفرش عرضك لمن دونك ولا تجعل مالك أكرم عليك من عرضك.

ولا تكثر الكلام. فتثقل على الأقوام. وامنح البشر جليسك والقبول ممن لاقاك. وإياك كثرة التبريق والتزليق. فإن ظاهر ذلك ينسب إلى التأنيث. وإياك والتصنع لغازلة النساء وكن متقرباً متعززاً ومنتهزاً في فرصتك رفيقاً في حاجتك. متثبتاً في حملتك. والبس لكل دهر ثيابه. ومع كل قوم شكلهم. ولا ترد حتى ترى وجه المصدر. وعليك بالنورة. في كل شهر مرة. وإياك وحلاق الإبط بالنورة. وليكن السؤال من طبيعتك. وإذا استكت (؟) فعرضاً. وعليك بالعمارة. فإنها أنفع التجارة. وعرج الزرع خير من اقتناء الضرع. ومنازعتك اللئيم تطعمه فيك. ومن أكرم عرضه أكرمه الناس. وذم الجاهل إياك أفضل من ثنائه عليك. ومعرفة الحق من أخلاق الصدق. والرفيق الصالح ابن عم. ومن أيسر أكبر. ومن افتقر احتقر. قصر في المقالة مخافة الإجابة. والساعي إليك. غالب عليك. وطول السفر ملالة. وكثرة المنى ضلالة. وليس للغائب صديق. ولا على الميت شفيق. واجب الشيخ عناء. وتأديب الغلام شقاء. والفاحش أمير. والوقاح وزير. والحليم مطية الأحمق. والحمق داءٌ لا شفاء له والحلم خير وزير. والدين أزين الأمور. والسماجة. سفاهة. والسكران. شيطان. وكلامه هذيان. والشعر. من السحر. والتهدد هجر. والشح شقاء. والشجاعة بقاء. والهدية من الأخلاق السرية. وهي تورث المحبة. ومن ابتدأ المعروف صار له ديناً. ومن المعروف ابتداء غير مسألة. وصاحب الرياء. يرجع إلى السخاء. ولرياء بخير. خير من معالنة بشر. والعرق نزاع. والعادة طبيعة لازمة. إن خيراً فخير وإن شراً فشر. ومن حل عقداً احتمل حقاً. ومراجعة السلطان. خرق بالإنسان. والفرار عار. والتقدم مخاطرة. وأعجل منفعة. أيسار في دعة. وكثرة العلل. من البخل. وشر الرجال. الكثير الاعتلال. وحسن اللقاء. يذهب بالشحناء. ولين الكلام من أخلاق الكرام.

يا بني إن زوجة الرجل سكنه. ولا عيش لها مع خلافها. فإذا هممت بنكاح امرأة فسل عن أهلها فإن العروق الطيبة تنبت الثمار الحلوة. واعلم أن الناس اشد اختلافاً من أصابع الكف. فتوق منهن كل ذات بذا. مجبولة على الأذى. فمنهن المعجبة بنفسها. المزرية ببعلها. إن أكرمها لرأته لفضلها عليه. لا تشكر على جميل. ولا ترضى منه بقليل. لسانها عليه سيف صقيل. قد كشف القحة ستر الحياء عن وجهها. فلا تستحي من إعوارها. ولا تستحيي من جارها. كلبة هرارة. مهارشة عقارة. فوجه زوجها مظلوم. وعرضه مشتوم. ولا ترعى عليه لدين ولدنيا. ولا تحفظه لصحبه ولا لكثرة بنين. حجابه مهتوك. وستره منشور. وخيره مدفون. يصبح كئيباً. ويمسي عاتباً. شرابه مر. وطعامه غيظ وولده ضياع. وبيته مستهلك. وثوبه وسخ. ورأسه شعث. إن ضحك فواهن. وإن تكلم فمكتاره. نهاره ليل. وليله ويل. تلدغه مثل الحية العقارة. وتلبسه مثل العقرب الجرارة. ومنهن شفشليق شعشع سفلع ذات سم منقع. وإبراق واختلاق. تهب مع الرياح. وتطير مع كل ذي جناح. إن قال: لا قلت: نعم وإن قال: نعم وقالت: لا. مولدة لمخازيه. محتقرة لما في يديه. تضرب له الأمثال. وتقصر به دون الرجال. وتنقله من حال إلى حال. حتى قلى بيته. ومل ولده. وغث عيشه. وهانت عليه نفسه. وحتى أنكره أخوانه. ورحمه جيرانه. ومنهن الورهاء الحمقاء. ذات الدال في غير موضعها. الماضغة للسانها. الآخذة في غير شأنها. قد قنعت بحبة. ورضيت بكسبة. تأكل كالحمار الراتع. تنتشر الشمس ولما يسمع لها صوت. ولم يكنس لها بيت. طعامها بائت. وإناؤها هاضير. وعجينها حامض. وماؤها فاتر. ومتاعها مزروع. وماعونها ممنوع. وخدامها مضروب. وجارها محروب. ومنهن العطوف الودود. المباركة الولود. المأمونة على غيبها. المحبوبة في جيرانها. المحمودة في سرها وإعلانها. الكريمة التبعل وخيرها دائم. وزوجها ناعم. موموقة مالوفة. وبالعفاف والخيرات موصوفة. جعلك الله يا بني ممن يقتدي بالهدى. ويأتم بالتقى. ويجتنب السخط ويحب الرضى. والله خليفتي عليك والمتولي لأمرك ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وصلى الله على محمد بني الهدى وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً اهـ.

هذه أنموذجان من الكتاب والغالب أن للمؤلف مصنفات غير ما ذكر في ترجمته ويؤيد ذلك ما قاله آنفاً مسعود بن ناصر من أن ما أورده من اسماء مؤلفاته هو عدا ما أطرحه منها بيد أن المؤلف نفسه يحيل في خلال كتابه هذا على بعض مصنفاته مثل كتاب محجة المبتدئين العالم والتعلم الوداع والفراق التوكل مراعاة الأخوان مراعاة العشر. فكم يكون قد قدر جميع ما خطته أنامله يا ترى. وقد علق عليه أستاذنا المنوه بقدره حواشي نافعة وشكل محلها الأشكال منه وحلاه بالفواصل فجاء هذا السفر الجليل وافياً بالغرض من كل جهة حرياً بالمتأدبين أن يتدارسوه ويتنافسوا في اقتنائه لنفاسة طبعه ووضعه.

السياسة الإسلامية

تأليف المسيو لشاتليه طبع في باريس سنة 1910 ص165.

28

نشر صديقنا صاحب هذا الكتاب وهو من رجال الاجتماع والاستعمار في فرنسا مؤلفاً جديداً بهذا الاسم جعله ملحقاً لمجلة العالم الإسلامي الباريزية وقدمه إلى أحد أعضاء مجلس الشورى الدولة الفرنسية فقال فيه إذا كان لفرنسا سياسة ألمانية وسياسة إنكليزية بل وسياسة لاتينية فلماذا لا تتخذ لها سياسة إسلامية أمام مجموع العالم الإسلامي فإن مائتي مليون مسلم أحرياء أن يساسوا وتخرج فرنسا في سياستهم عن الأوهام الاستعمارية والسياسية.

وتكلم على تاريخ امتداد الإسلام في قارتي آسيا وأفريقية فقال أن شواطئ البحر الأبيض كانت عمالات للمسلمين من الأندلس حتى صقلية وشواطئ أفريقية ولما فتحوا بلاد الروم (بيزانس) وأخذوا بخناق البلقان زاد المسلمون من جهة أخرى ثم تراجعوا فلم يبق في أوربا غير ستة ملايين وإن مسلمي روسية ليتكلموا اللغة الروسية ويتحضرون بالحضارة السلافية ما عدا البوادي منهم وإن كان بعضهم يتسامحون يتعلم اللغة التركية العثمانية وقد احتفظوا بعقائدهم وأخلاقهم. قال: وقد اتهم الألبان الذين كانوا أعظم قوة تحرس عبد الحميد في المدة الأخيرة بانتحال العقيدة البكداشية على حين كان من ألبانيا أن سعت كل السعي في الانقلاب العثماني الأخير.

وقال أن أحرار العثمانيين ليدعوا إلى وطنية عنصرية يطبقونها على مصلحتهم حتى خاب ظن من كانوا يوافقونهم بادئ بدءٍ وقاموا يريدون أن يبقوا عثمانيين لا أتراكاً وإن الأحرار أرادوا حياة الإسلام في أوربا الشرقية بعد أن كان يضمحل أمره منها ولكنه عاد وعليه المسحة الأوربية وذلك لاختلاط أهله بأهل أوربا فكان من تأثيرات المحيط في هذا الدين أن رزق حياة جديدة ونهضة رافعة فقد أحدث الانقلاب العثماني من حيث الاجتماع والعلم فشلاً للدين المحمدي على نحو ما كان معروفاً على عهد الخلافة الحميدية ولكنه ظفر ظفراً ثميناً من حيث السياسة والوطنية فبدا في صورة جديدة أكثر انطباقاً على الروح الغربية وغدا نفوذه وقوته أكثر مما كانت على العهد الحميدي. ولم يقتصر مسلمو روسيا في نشوءهم الاجتماعي فأبدوا العواطف التي فرطوا ليها في مطبوعاتهم ودار الندوة الروسية ومؤتمراتهم حتى ضاهى الإسلام بروسيا في قوته الإسلام في الأرض العثمانية فتقوى هناك بخلاصه من العوائق التي كانت تضفه وبإشراك أهله في حركة الشعوب الأوربية وضعف في تقاليده إلا أنه نشط من عقاله.

وإن الدارسين في مدارس أوربا من السوريين والمصريين والهنود والفرس والأتراك وإن كانوا قلائل في عددهم إلا أنهم أرباب مكانة بعقولهم سيعيدون إلى الأمة الإسلامية شبابها. وعقد فصولاً كبرى أفاض فيها في شيءٍ من ماضي بلاد الإسلام وحالتها الاجتماعية والمادية والمعنوية اليوم فتكلم على السياسة الاستعمارية في الجزائر وتونس ومراكش وأفريقية الغربية وأفريقية الشرقية وآسيا كلاماً لم يخرج عن استحسان تلك الطريقة التي اتبعتها فرنسا في الاستعمار وتلقين الأمم المحكومة مدنيتها بالقوة والعنف ونزع عاداتها وتقاليدها لتجريعها جرعة من الآداب الفرنسية وإن لم تطلقها وفرنسة كل من يخفق على رأسه علم الجمهورية. وبحث في المملكة العثمانية ومصر وبلاد العرب وفارس والصين والهند ومسلمي والملايو والروس بلسان اجتماعي ينظر إلى مصلحة قومه من الوجهة الاستعمارية.

وقال في النتيجة أن الواجب على حكومته أن تفتح اعتماداً بعشرين ألف فرنك تقطعها لكلية الجزائر لتستعين بها على نشر المطبوعات التي تجعل الجزائر مورد العالم العربي ومصدره وما ندري كيف يتسنى ذلك بين قوم يقضى عليهم أن ينسوا لغتهم العربية ولا يدرسونها نصف أو ربع الحضارة الحديثة.

ولفت أنظار من قدم له كتابه إلى إصلاح حال مدرسة اللغات الشرقية في باريس وزيادة العناية بدراسة اللغات الإسلامية أي العربية والفارسية والتركية على نحو ما سعت إنكلترا وأصلحت في هذا الشأن كليتي لندرا وأكسفورد وسعت ألمانيا فأصلحت كلية برلين وقال أن الواجب إنشاء نادٍ يأوي إليه من يدرسون في فرنسا من المسلمين كما أنشأت برلين ولندرا مثله لهذه الغاية وقال أن اللغة العربية هي لغة التعارف والتعامل بين المسلمين كاللغة الإنكليزية بين السكسونيين فينبغي صرف العناية لها. وأحسن ظنه كما هي عادته بارتقاء المسلمين ولاسيما في الشؤون الاقتصادية فقال أن مجموع تجارتهم لم يكن في منتصف القرن التاسع عشر في العالم أكثر من ثروة أفقر أمة أوربية وعدد المسلمين نحو مائتي مليون ولا يبعد أن لا ينتصف هذا القرن العشرون إلا ويصبح مجموعها خمسين مليار فرنك إلى غير ذلك من الإيضاحات التي تنتفع بها فرنسا وتستفيد في مستقبلها الاقتصادي والاستعماري. والكتاب محلى بمصورات بلاد الإسلام وببعض رسوم الجوامع والأشخاص والكتابات الإسلامية وهو يدل دلالة واضحة على مبلغ غيرة المؤلف على مصلحة أمته ودرجة علمه بأحوال المسلمين اليوم وأمس كما هو شهادة ناطقة بأن الاخصاء في فرع من فروع العلم الكثيرة أنفع للعالِم وللعالَم من الخطف من هنا ومن هناك.

النسائيات

مجموعة مقالات في الجريدة في موضوع المرأة المصرية بقلم باحثة البادية.

أو العقيلة ملك حنفي ناصف سنة 1328 ص176.

من نعم الله على مصر أن فيها عاملين في كل فرع من فروع الحضارة وأنها تقلد الغرب في خطواتها نحو الارتقاء حتى كادت تكون قطعة من ديار الغرب لو كان نساؤها متعلمات كرجالها ولكن مصر الغنية بتربتها الذكية لم تقصر في ذكاء عقول أبناءها وبناتها فقد نشأ لها بفضل عقول رجالها ناشئة من النساء يأخذن بأيدي بنات جنسهن إلى مهيع التقدم وفي رأسهن مؤلفة ها الكتاب العقيلة ملك حنفي ناصف نسبة لوالدها أحد شيوخ العلم في القاهرة أو ملكة باسل نسبة لزوجها. عني بتأديبها والدها فجاءت أديبة بزت الأدباء وكاتبة يقلُّ في الكتاب مثلها وقد نشرت الآن ما أملاه قلبها على لسانها وقلمها في تعليم المرأة على الأسلوب الجامع إلى الدين الصحيح آداب الدنيا والمدنية الحديثة.

وقد طالعنا مات خطته يراعتها في هذا الشأن ولاسيما محاضرتيها في المقارنة بين المرأة المصرية والمرأة الغربية تكلمت فيها كلام العاقلة الحفيصة عن المولودة ودور الطفولة والمراهقة والخطبة والزواج والاقتصاد المالي والمنزلي والعمل البيتي والعادات والأخلاق ودور الأمومة. ومحاضرتها التي ألقتها في نقد عادات النساء وختمتها بقولها لو كان لي حق التشريع لأصدرت اللائحة الآتية:

(المادة الأولى) تعليم البنات الدين الصحيح أي تعليم القرآن والسنة الصحيحة.

(المادة الثانية) تعليم البنات التعليم الابتدائي والثانوي وجعل التعليم الأولي إجبارياً في كل الطبقات.

(المادة الثالثة) تعليمهن التدبير المنزلي علماً وعملاً وقانون الصحة وتربية الأطفال والإسعافات الوقتية في الطلب.

(المادة الرابعة) تخصيص عدد من البنات لتعلم الطب بأكمله وفن التعليم حتى يقمن بكفاية النساء في مصر.

(المادة الخامسة) إطلاق الحرية في تعلم غير ذلك من العلوم الراقية لمن تريد.

(المادة السادسة) تعويد البنات من صغرهن الصدق والجد في العمل والصبر وغير ذلك من الفضائل.

(المادة السابعة) إتباع الطريقة الشرعية في الخطبة فلا يتزوج البنات قبل أن يجتمعا بحضور المحرم.

(المادة الثامنة) إتباع عادة المساء الأتراك في الآستانة في الحجاب والخروج.

(المادة التاسعة) المحافظة على مصلحة الوطن والاستغناء عن الغريب من الأشياء والناس بقدر الإمكان.

(المادة العاشرة) على إخواننا الرجال تنفيذ مشروعنا هذا.

طالعنا كل هذا ورأينا السيدة المؤلفة أجادت فيه من وراء الغاية لأن أقوالها نتيجة تجارب وخبرة بل هي القانون النافع في إنهاض المرأة من كبوتها وفي الكتاب مطالب كثيرة في إصلاح المرأة والاعتدال يقرأ من تضاعيفه والأدب يقطر من خلاله.

وقد قدم له أحمد لطفي بك السيد مدير الجريدة والكاتب الخطيب العامل مقدمة لطيفة أبان فيها الغرض من هذه الأبحاث فقال لقد أجادت باحثة البادية في جعل بحثها مرتباً على هذا النمط المعين فإن الاعتدال في تعليم المرأة وتربيتها وتقرير الحد اللازم الذي تقف عنده في المساواة بينها وبين الرجال الاعتدال في ذلك كله أمان من الزلل والوقوع في نتائج سيئة قد لا تكون أقل في سوءِ الأثر من نتائج خمول المرأة وقعودها عن السعي إلى كمالها الخاص. قال أما الدين فإنه ملاك أخلاق المرأة ومناط آدابها وطرق كمالها وموجب الثقة بها. إن تقوى المرأة أكبر الأدلة على صونها ومعرفتها بالواجب وحسن قيامها به. إن شهود المرأة صلاة الجماعة في المسجد الجامع مرة واحدة أصلح لقلبها من سماع واعظ أخلاقي في الدار أو في المدرسة سنة كاملة. وإن تقليد المرأة الشرقية لأختها الغربية نافع ولكن هذا التقليد إلى اليوم ليس بحسنة جديدة ما دام أنه خلا من النوع الخاص بالدين. فإن الغربية تذهب إلى معبدها مرة في الأسبوع على الأقل في الشهر والمسلمة الشرقية لا تذهب إليه في مصر أبداً. كأن دأن أقل في الشهر ولالمسلمة لاشرقية لا تذهب إليه في مصر أبداًبها من سماع واعظ أخلاقي في الدلار أو من نتائج خمول المرأة وقعودها عنخول بيت الله أثقل كلفة عليها وأبعد عن رضى وليها من دخول بيوت التجارة وشهودها مسارح اللهو. إلا وأن حضور النساء صلاة الجماعة على صورة لائقة ومن غير إسراف هو أول عمل حسي تأتيه المرأة لتقرب به مسافة الفرق بينها وبين الرجل ولتقرر به المساواة المنشودة. وعلى الجملة فالكتاب من أنفع ما كتب في عصرنا حريٌّ بكل آنسة وعقيلة بل بكل رب بيت أن يتدارسه ويعمل به فبالأمس قام في مصر المرحوم قاسم بك أمين يحرر المرأة من قيود رقها واليوم قامت ملك ابنة حنفي بك ناصف تبين الخطة العملية فمتى يا ترى يكتب لهذه الديار أيضاً أن يقوم فيها من بنات حواء من يسعين لإصلاح بنات جنسهن على الطريقة الملكية فالكلام يفضل بفضل مصادره وأحسنه ما صدر عن ربات الحسن والإحسان.