مجلة المقتبس/العدد 55/سير العلم والاجتماع

مجلة المقتبس/العدد 55/سير العلم والاجتماع

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 9 - 1910



المدارس الصناعية في ألمانيا

كتب أحد رجال الفرنسيس كتاباً سماه ألمانيا العاملة جاء في بعض فصوله ما تعريبه:

إن السائح الذي يجتاز ألمانيا يدهش في العادة من أنه لا يرى بيتاً قائماً وحده في الأراضي الزراعية بل أن جميع المساكن في الحقول منضمة بعضها إلى بعض بحيث يتألف منها أحياناً مدن وهذا مما يدل عَلَى فكر الاشتراك المتأصل في العنصر الجرماني الذي يستغرب حال شخص يريد الابتعاد عن أخيه وهناك شيءٌ آخر وهو أن معظم حكومات ألمانيا تحظر إنشاء المساكن بعيدة عن مراكز القرى حتى لا يحرم الأولاد من الاختلاف إلى المدرسة في الأيام الممطرة العاصفة وهناك يسأل الوالدان عن ولد تأخر عن المدرسة فإذا تخلف أحدهم يجب عَلَى أقربائه أن يبينوا معذرته وإلا فيجازون أشد الجزاء. وعلى رؤساء المعامل الذين يستخدمون في الخلاء عملة أو موظفين أن يضمنوا لأولادهم حملهم كل يوم إلى مدرسة القرية القريبة وإذا كثر العملة في بقعة بعيدة وزاد سودهم تؤسس في الحال مدرسة عامة وتكون في العادة بإعانة من صاحب المعمل. وكان من أثر هذه العناية أن قل عدد الأميين في ألمانيا بحيث لا تجد واحداً في الألف عَلَى أنهم لم يكتفوا بتعليم مبادئ فقط بل إنك لا تدخل قرية ولا معملاً ولا بيتاً إلا وترى الجرائد والكتب في الأيدي تتدلى ويستفاد منها وذلك بين جميع طبقات الألمان.

للتعليم الابتدائي والأوسط في ألمانيا ميزتان لا نظير لهما في سائر الممالك وهي أنه لا يبعد المتعلم عن العيشة البيتية بين ذويه وهو سلم للتعليم الصناعي الذي تختلف درجاته وتراه نظرياً وعملياً في آن واحد.

وماذا أقول في دروس الأشياء والمجاميع النفسية التي تراها في المدارس الألمانية والتعليم بالنظر والذهن والعمل والنزهات المفيدة وغير ذلك من أنواع التربية. وما من ألماني إلا ويتعلم شيئاً من التعليم الصناعي ففي هذه البلاد التي يكاد الناس كلهم يعملون قد وقع في النفوس أنه لا يجوز لأحد أن يتعاطى صناعة من الصنائع المقررة قبل أن يتعلمها بالنظر والعمل وهذا ما أدى إلى إنشاء كثير من المعاهد الملوكية والإمبراطورية والبلدية والخصوصية تقصدها الأمة فتستقي من مواردها قوتها المنتجة والعقلية.

وأعظم هذه المعاهد وأقدمها وأشهرها هي كلياتها وعددها اثنتان وعشرون كلية وكانت كل إمارة من الإمارات الألمانية فيما مضى تحاول أن تكون لها كلية فأقدمها كلية هايدلبرغ أنشئت سنة 1386 وأحدثها كلية بون أسست سنة 1818. وقدم الكلية عنوان شرف لها وقد بقيت كلية هايدلبرغ أكثر الكليات محافظة عَلَى منزلتها السامية أما كلية برلين التي أنشئت سنة 1809 فطلابها أكثر. ومن أشهر كليات ألمانيا كلية ليبسك أنشئت سنة 1409 وهي تفاخر بأنه كان من جملة أساتذتها الفيلسوف لايبنتز ومن جملة طلابها كيتي وريتشارد فانير.

ولئن كانت الكليات في ألمانيا مستقلة حرة عَلَى صورة لم تحصل عليها كليات فرنسا فهي منظمة بنظام واحد فالكليات مهما كانت وجهتها في تعليمها نظرية أو عملية لا تتنافس في إعداد المهندسين وصناع والمباحث التي يستفيد منها أمثالهم لا يظفرون بها إلا في المجامع الكيماوية والطبيعية في المدارس الصناعية هي التي يتخرج فيها أرباب الهندسة والصناعات وهذه المدارس تابعة لكل إمارة وهي في بلادها تدير شؤونها وتعطي الدارسين فيها شهاداتهم بعد دراسة أربع سنين وعددها اثنتا عشرة مدرسة وهي في مدن إكس لاشبل برلين برنسويك كارلسروح درامستاد درسد هانوفر مونيخ ستوتكار دانزيكبرسلو فريبورغ في هذه المدارس زهاء اثني عشر ألف طالب فيخرج منهم كل سنة ثلاثة آلاف مهندس عدا من يتخرجون من المدارس الثانوية الصناعية.

وقد كانت الكليات هي التي تمنح لقب دكتور أشرف الألقاب وأعلاها في ألمانيا وبعد جدال طويل في مجلس النواب تقرر أن من حق تلك المدارس الصناعية أن تمنح هذا اللقب وبذلك خرجت ألمانيا عن تقاليدها القديمة بعض الشيء ولا تسل كيف ينظر أولئك الفلاسفة واللاهوتيون واللغويون أخلاف الفلاسفة هيكل وكانت وليسنغ لمن نالوا شهاداتهم عَلَى طريقة أميركا الشمالية لأنهم أتقنوا صناعة من الصناعات. والألمان أحرص الأمم عَلَى لقب دكتور حتى أنك إذا لم تطلق هذا اللقب الشريف عَلَى من ناله عد ذلك منك سخرية وفي ذلك دليل كبير لميل هذا الشعب للعلم والتلقب بألقابه وقد كان للإمبراطور غليوم الثاني يد طولى في إعطاء المدارس الصناعية حق إعطاء هذا اللقب الشريف حتى قال في خطاب له ألقاه عَلَى تلامذة المدرسة الصناعية قرب برلين: إنني أغتبط لأنني استطعت أن أمنح للمدارس الصناعية العالية لقب دكتور أنتم تعلمون أنني تحملت مقاومات شديدة في هذا السبيل أما اليوم فقد اضمحلت وقد أردت أن أجعل للمدارس الصناعية المقام الأول لما لها من المنزلة السامية لا من حيث العلم العملي بل من حيث الوجهة الاجتماعية. ونظام هذه المدارس واحد وتعليمها واحد اللهم أن بعضها تبذل العناية في فروع تمس حاجة أقطارها لها مثل مدرسة أكس لاشبل التي تعنى بتعدين المناجم كل العناية ومدرسة دانزيك التي تعنى ببناء السفن. وكان من ظفر هذه المدارس بإعطاء لقب دكتور أكبر دليل عَلَى غلبة الحديث عَلَى القديم.

ومدة الدراسة في المدارس الصناعية أربع سنين يدخلها من بيده من الوطنيين أو الأجانب شهادة من مدرسة ثانوية وفيها يتجلى ميل الألمان للإخصاء فيعلمون ما يعلمه غيرهم من الأمم فرداً واحداً لخمسة أفراد قائلين أن الذهن لا يتسع لإكثار المواد عليه ففي مدرسة هانوفر مثلاً أناس يتعلمون فن البناء وآخرون الهندسة وغيرهم علم الحيل (الميكانيك) وغيرهم الكيمياء الصرفة وآخرون الكيمياء الكهربائية وغيرهم إجماليات وفيهم 908 تلامذة و194 تلميذة و155 مستمعاً وبين الجميع 59 أجنبياً من أمم مختلفة والدروس عملية أكثر منها نظرية وهذه المدرسة خارجية يتناول التلامذة طعامهم قبل الدخول إليها وينقطعون عن العمل بعد ظهر السبت إلى صباح الاثنين كل أسبوع والألمان لا يحرصون عَلَى تعليم الهندسة لأذكى أذكيائهم بل يريدون أن يجعلوها قريبة المنال من كل أحد وهم يستعملون كل الطرق التي يرونها نافعة لئلا يتعبوا الفكر غير طائل بإغراقه مدة ساعات في قراءة صورة لذلك ترى الأساتذة يأخذون تلامذتهم إلى معامل خاصة وكثيراً ما تكون بعيدة عن المدرسة ليطلعوهم بالعمل عَلَى ما ينبغي لهم الاطلاع عليه من الآلات والأدوات كل معامل المدرسة وغرفها وحجر كتبها وصفوفها منارة بالكهربائية أو الغاز عَلَى صورة لا تضر بصحة عيون الطلبة حتى أنه ليقل جداً عدد الحسر بين الألمان لشدة العناية بصحة العيون. ومثل ذلك يقال عن مدرسة دانزيك وهي خاصة بأعمال الهندسة للعمارات البحرية وأعمال الري والمرافئ ومجاري الماء وهي كسائر مدارس الصنائع الكبرى أشبه بقصور الملوك منها بالمدارس لما حوت من المرافق والردهات والمماشي والساحات والأدوات وهذه المدرسة قد كلف بناؤها فقط سبعة ملايين فرنك ويكفي أن يتصور القارئ عظمتها إذا قلنا له أن فيها 94 ألف متر من الأسلاك الكهربائية و20450 متراً من اللوالب و2905 مصابيح بيضاء متأججة و372 مصباحاً ذات قوس قوتها 285850 شمعة. وقصارى القول أنك لا تمر بقرية ولا قصبة ولا مدينة ولا عاصمة في ألمانيا ولا تجد فيها مدارس صناعية كبرى وصغرى عَلَى نفقة الحكومة أو البلديات تعلم الصناعات المختلفة بحيث فاض عددهم عن حاجة البلاد وذلك لأن الشعب الألماني موقن بأن الواجب أن يسلح كل ولد في الوطن الألماني بالأسلحة الضرورية في الجهاد الاقتصادي.

مخطوطات نادرة

في المدرسة الأحمدية في حلب خزانة كتب عربية مخطوطة نجت من عوادي الدهر فكانت أحفل مكاتب الشهباء. وإلى القارئ المخطوطات التي لها علاقة بموضوع هذه المجلة ننقلها من فهرست سليم أفندي البخاري من علماء دمشق منذ بضع عشرين سنة كتب الأدب والدواوين: شرح نهج البلاغة نسختان. شرح ديوان المتنبي لابن جنى. أيضاً للواحدي. تمثيل المحاضرة للثعالبي. انتخاب حياة الحيوان. مسليات الحزين. شرح درة الغواص. الجزء الأول من المسعودي عَلَى المقامات. الجزء الأول من مناهج الفكر. جواهر العقدين في فضل الشرفين. مجموع ابن شمس الخلافة. طبقات الملوك للثعالبي.

كتب التاريخ: الأول من مرآة الزمان. تاريخ ابن الخطيب المسمى بدر المنتخب مجلدان والثاني مخروم الآخر. من الوافي بالوفيات للصفدي جلد 4. مختصر تاريخ الذهبي المسمى بالعباب. من مختصر تاريخ الذهبي جلد 6. من تاريخ الذهبي جلد 5. الإعلان بالتوبيخ لمن ذم أهل التاريخ. مجموعة في طبقات العلماء. منتخبات تواريخ آل عثمان. تحفة الكبار في أسفار التجار لكاتب جبلي. من عيون التواريخ جلد 7.

كتب منوعة: تذكرة السويدي في تقويم الأبدان. تشريح الأفلاك لبهاء الدين العاملي. صور الكواكب لعبد الرحيم الصوفي. المباحثة الشرقية للرازي. المصارع في المطارحات للسهروردي. لمعة ابن الشاطر. رسالة وضع خطوط صف الجائرة لابن مجدي المسمى بزاد المسافر. رسالة خطيب العدلية في وضع المزاول ومعها رسالة في الإصطرلاب. زيج ألوغ بك. ملخص ألوغ بك. مجموع رسالة في الإصطرلاب في الربع المقنطر وأخرى في الربع المجيب. رسالة في ربع المقنطرات. رسالة في الإصطرلاب للطوسي. فراسة ابن شيخ دبوس. فراسة قيلمون. كتاب الفروسية ورماية النشاب. كتاب في فروسية المجاهدين وتحفة المجاهدين.

ذهب المصارف

أغنى مصارف العالم بنقوده مصارف فرنسا ولذلك تهرع إليه كل دولة تريد أن تعقد قرضاً فقد بلغ ما في خزائنه من الذهب سنة 1910_134. 818. 000 جنيه وما في مصرف روسيا 122. 320. 000 جنيه وما في مصرف النمسا والمجر 55. 456. 000 وما في مصرف إيطاليا 48. 320. 000 وما في مصرف إنكلترا 37. 348. 740 وما في مصرف ألمانيا 32. 250. 350 وما في مصرف إسبانيا 16. 760. 000 وما في مصرف هولندة 10. 067. 330 هذا في أرقى ممالك أوربا وقد بقيت البلجيك والبرتقال وسويسرا والدانيمرك واسوج ونروج والصرب وبلغاريا ورومانيا والجبل السود فكم تبلغ النقود الموجودة في المصارف العثمانية يا ترى؟

أمالي تاريخية

المعتصم سمي المثمن.

ذكر أبو الفرج: أن المعتصم لخليفة العباسي المتوفى سنة 227هـ 841م كان يسمى لأنه كان الثامن في إحدى عشر أمراً أولها أنه ثامن ولد العباس والثاني أنه ثامن خلفائهم والثالث أنه ولي الخلافة سنة 218هـ (833م) وكانت مدة خلافته ثماني سنين وثمانية أشهر وثمانية أيام. وولد له ثمانية بنين وثماني بنات وكان عمره عند وفاته 48 سنة وكان مولده في شهر شعبان ثامن الشهر من السنة.

ابن مقلة المثلث

من غري ما روى المؤرخون أن ابن مقلة الخطاط الشهير تولى الوزارة ثلاث مرات لثلاثة خلفاء المقتدر والقاهر والراضي وسافر ثلاث مرات ودفن ثلاث مرات لأنه دفن أولاً بموضع فجاء أهله ونبشوه ودفنوه في موضع آخر ثم نبش ثالثة ودفن في موضع ثالث.

الخليفة الراضي بالله

من غريب ما نقله المؤرخون أن الخليفة الراضي بالله العباسي المتوفى سنة 329هـ 940م ختم الخلفاء في أمور منها أنه آخر خليفة كان له شعر يدون. وآخر خليفة خطب كثيراً (وأما من بعده فخطبوه نادراً). وآخر خليفة جالس الجلساء ووصل إليه الندماء. وآخر خليفة كانت له نفقته وجوائزه وعطاياه وجراياته وخزائنه ومطابخه ومجالسه وخدمه وحجابه وأموره عَلَى ترتيب الخلفاء المتقدمين.

عيسى اسكندر معلوف.

المرأة اليابانية

كتب عالم ألماني في تربية النساء في يابان فقال: لم تكن المرأة اليابانية إلى أواسط القرن التاسع عشر غير سجينة بيتها وأسرتها فكان اليابانيون يعتقدونها من عنصر أحط من عنصر الرجال ولما أرادت يابان أن تدخل مضمار الترقي حقيقة تغيرت وجهة الأفكار بسرعة في التربية كما تغيرت في السياسة وفي سنة 1902 كان في يابان 70 مدرسة عالية للفتيات وكان عدد الطالبات في مدرسة المعلمات 321 ألف طالبة سنة 1903. وبعد أن ساح الأستاذ ناروس سياحة علمية في أميركا عاد إلى يابان فعضده أناس من كبرائها مثل الكونت أوكوما والبرنس إيتو فأنشأ سنة 1901 أول مدرسة كلية للنساء التي أصبح المتعلمات فيها والمستمعات بعد ثلاث سنين ألف امرأة. والذي يزيد في العجب من هذا الإصلاح السريع هو أن يابان لم تغفل في تربية النساء عن الوجهة العملية فالفتيات يدرسن دروساً عالية ولا يفوتهن استعدادهن لوظيفة الزوجة والأم وهن يعشن عيشة أسرة واحدة وليس في المدرسة تعليم ديني بل يعلم فيها التسامح وخفض الجانب!.

مدارس الغابات

كان الأولاد في كل زمان ومكان يهربون من المدرسة والكتاب لأن منهم من لا يقدرون أن يخالفوا ما ركز في غرائزهم من تطلب الهواء الطلق والحركة وذلك لرداءة بناء مدارسهم ولأن وضعها غير طبيعي ونظامها مختل معتل وقد أخذ علماء التربية والتعليم في أوربا يدركون كل الإدراك أن من مدارسهم ما يجلب السقم ويميت الهمم وكان السابق إلى ذلك أناس في ألمانيا وإنكلترا وسويسرا فقاموا يطبقون بين الضروريات الطبيعية ومطالب المدنية الحديثة حتى يحولوا دون الأولاد والهرب من الكتاتيب والمدارس فيتمتعوا في مدارسهم بما تتطلبه أجسامهم من الهواء والنور ويسرحون ويمرحون تحت غابات الصنوبر والزان.

قالت مجلة التربية ونشأت هذه الفكرة في برلين لأن هذه المدينة القديمة ضيقة النطاق فاسدة الهواء لما فيها من تراكم الأنفاس حتى أن خمسة عشر ألف نسمة من أهلها يعيشون في أقبية تكون دافئة في الشتاء ورطبة بعض الشيء في الصيف فمدينة شارلوتنبرغ الملاصقة لبرلين هي التي منها نشأت هذه الفكرة لأن أبناءها كانوا بضعفهم الناشئ من رداءة هوائهم لا يستطيعون أن يسيرون مع أقرانهم عَلَى حين أن مدينتهم هي أم التعليم وفيها أعظم كلية صناعية فلم يستطيعوا أن يجاروا أقرانهم فرأى أحباب الإنسانية هناك أن يتنقلوا أولئك الأولاد إلى مدارس في الغابات تكون لهم بمثابة مصاح أو مصيف عَلَى سواحل البحار فإذا قويت أجسامهم يقوى ذكاؤهم والعقل السليم بالجسم السليم.

رأوا أن أبناء هذه المدينة اضعف من غيرهم بذكائهم وما سبب ذلك إلا ضيق حاراتهم وفساد أهويتهم وأن الأولى نقلهم من المدن إلى الفلاة وها قد أصبحوا الآن يبعثون بالأولاد ممن ليسوا مرضى حقيقة وهم مصابون بالهزال أو ضعف الرئتين والقلب أو ظهرت عليهم أعراض داءِ الخنازير أو غيره من مفسدات الدم_يبعثون بهم إلى مدرسة الغابات بدلاً من أن يذهبوا إلى المدارس الخاصة بالتلامذة المتأخرين فالمدارس الجديدة ليست للمرضى الذين يعدي بعضهم بعضاً ومعاملتهم من أقسى ما يكون من الشدة بل هي مدارس المرشحين للسل وغيرها من الأمراض كما يقول الأطباء فتداوي فيها صحتهم وينقذون مما يتهددهم بدون أن يحولوا بينهم وبين دروسهم أو يضيعوا عليهم سنة كاملة.

قام الشارعون بهذا العمل وهم يتخوفون الفشل والناس في ألمانيا لا ينظرون في الأعمال الجديدة إلا إلى ثمراتها الأولية وساعدهم البنك الألماني في مشروعهم بأن ابتاع لهم أرضاً وأعطاهم إياها بلا ربا والأرض واقعة في غابة عَلَى بضعة كيلومترات من شارلوتنبرغ يسير بينها وبين الغابة ترمواي كهربائي يصل بين المدينة وأول الغابة في عشرين دقيقة ثم يسير الإنسان من المحطة إلى المدرسة عشرين دقيقة عَلَى قدمه وسط الغابة وهواؤها عليل أكثر من المدينة وصاف للغاية.

ومن أهم ما فيها انبعاث رائحة القطران والصمغ من الصنوبر والرتينج وليس في هذه المدرسة أكثر من مئة طفل وطفلة جعلوهم في أكواخ من خشب سدوها من الداخل بقماش ولم ينفق عليها كثيراً بل بل بذلت العناية للتوقي فيها من الضباب والمطر وهناك بنايتان من الخشب وهما عبارة عن صفين يفصل بينهما غرفة للمعلم أو المعلمة وفي الجدران بعض المصورات الجغرافية والألواح وموقدة من القاشاني لا من الحديد المصبوب لأن الحديد مضر باتفاق علماء الصحة وهناك تجري الدروس ففي المطر تقام الصفوف بين هاتين البنايتين عَلَى أن تترك النوافذ مفتحة ما أمكن وفي أوقات الصحو تقام الدروس في وسط الغابات تحت أغصان شجر الصنوبر القديمة والأولاد جلوس عَلَى العشب وعلى المروج اللينة وعلى مقربة من غرف المدارس أنشئوا سقيفات مفتحة من أطرافها الأربعة لأنها إذا كانت مفتحة من جهة واحدة تكون معرضة لمجرى الهواء وتكون سطوح هذه السقيفات متينة تقاوم الأعاصير والأمطار ويكون من تحتها بمأمن من الرطوبات والرطوبات هي عدوة مدارس الخلاء. وهناك أيضاً بعض سقيفات اخف من الأولى وأصغر وبجانبها سقيفة واسعة طولها 27 متراً وعرضها 6 مفتحة نحو الجنوب ويمكن أن تؤوي 200 إلى 250 طفلاً.

فتحت هذه السقيفات البرية المبثوثة في الغابة يتسلى الأولاد عندما يتعذر عليهم أن يخرجوا من المطر إلى تحت السماء وهناك يستريحون فيجلسون عَلَى الكراسي المستطيلة كلما حالت الرطوبة دون تنزههم تحت الأشجار ولكن تصل إلى عيونهم ورؤوسهم رائحة الصنوبر وبعض أشعة الشمس. وفي إحدى السقيفات مناضد مستطيلة ودكات جعلت بيتاً للغذاء وفيها صحاف وكؤوس منمرة عَلَى نظام تام يجلس إليها الأولاد أوقات الطعام كل واحد في مكانه الخاص به وفي وسط هذه البنايات الخفيفة أنشئت بناية أكثر متانة وهي من خشب أيضاً قسموها أقساماً فمنها قسم للمديرة وآخر للمطبخ وثالث لحفظ الطعام ورابع قبو وحمام أو حمامان للذكور وآخر للإناث أما الحمام فعلى غاية من النظافة. وعلى هذا كان الماء الحار والماء البارد والحركة والرائحة والهواء والشمس مساعدة عَلَى تقوية تركيب الأولاد. وفي هذه المدرسة مستشفى صغير موقت لما قد يطرأ من الأمراض والعوارض عَلَى الأولاد.

وليس لهذه المدارس وفيها 250 ولداً سوى المديرة وإليها يعود أمر التربية والصحة وملاحظة الخادمات والمطبخ وستة معلمين وثلاث معلمات.

تبدأ هذه المدرسة بالدروس عندما تعود الحياة إلى الغابات والخضرة في الربيع أي بعد عيد الفصح وتدوم بحسب مساعدة الجو وربما دامت إلى النصف الأخير من كانون الأول ولكن من العادة أن تطول مدة الدرس إلى آخر شهر تشرين الأول في شمالي ألمانيا وإلى منتصف تشرين الثاني في جنوبيها فيأتي الأولاد نحو الساعة السادسة ونصف صباحاً فتطوف بهم إدارة المدرسة فقي الغابات إلى الساعة الثامنة راكبين في ترمواي معد لهذا الغرض وفي تلك الساعة تبدأ الدروس وفي العادة ألا تطول مدة كل صف أكثر من 25 دقيقة فبعد الصف الأول يعطى التلميذ خمس دقائق للراحة والنزهة وبعد الصف الثاني عشر دقائق. والأطفال الصغار ومن بعدهم لا يدرسون في اليوم أكثر من ساعتين والأكبر منهم سناً يدرسون ساعة زائدة. والصف لا يتألف من أكثر من عشرين تلميذاً ليتيسر للمعلم أن يعنى بكل واحد من المتعلمين عناية خاصة ويدير شؤونهم وأعمالهم. وقد رأت إدارة المدرسة أن أربعة دروس يدوم كل واحد خمسة وعشرين دقيقة أفضل من دروس يدوم كل واحد منها 55 دقيقة وفيها 40 إلى 50 تلميذاً وإن الأحرى ترك التلميذ يسرح ويمرح في الغاب لا أن يقعد عَلَى الدكة يستمع 35 من أترابه يسمعون دروسهم مما لا يزيده إلا ثلم حاسة الانتباه فيه ويدخل عَلَى نفسه الاشمئزاز من الدرس مهما كان جذاباً أما الدروس التي يدرسونها في هذه المدرسة فهي دروس المدارس الابتدائية في ألمانيا ومختصر اللغة المحلية الألمانية وتاريخ ألمانيا ومختصر التاريخ العام والجغرافيا والحساب والتاريخ الطبيعي والغناء والرسم ودروس الأشياء وقليل من اللغة الإفرنسية لبعض الطلبة ويعنون عناية خاصة بتدريس اللغة الألمانية والتاريخ والجغرافيا والغناء. وإن كان الغناء من دروس التسلية أكثر من الدروس الجدية. والتاريخ الطبيعي والنبات والغناء والرسم في الغابة غالباً وفي جوار المدرسة بالعمل ومعلوماتهم أكثر بخلاف عقول من يتربون من الأولاد عَلَى هذه الطريقة أثقب ومعلوماتهم بخلاف عقول من يتربون في المدن وما يحصلونه.

وقد جعلت الألعاب بحيث تقوي نشاط الأولاد وتلقيفي نفوسهم فكرة الإبداع والاختراع فترى المدرسة قد خصت صغار الأولاد بقطعة من الأراضي مرملة يلعبون فيها ويحفرون ويطمون ويبنون بأغصان الخلاف جسوراً أو حصوناً وأنفاقاً ومجاري وكثيراً ما تستحيل هذه المسليات إلى صورة درس في الجغرافيا أو الطبوغرافيا فيرسمون بعض أنهار بلادهم وما عَلَى حفافيها من الأراضي والمصايف والحصون. وكبار الأولاد يدربون صغارهم عَلَى هذه الألعاب كما أن المعلمين يلاعبون كبار الطلبة بدون أن يظهروا بأنهم في صدد درس بل أنهم في لعب ونزهة.

ولطالما لاحظ علماء التربية أن جهاد المرء إذا صرف إلى غاية نافعة يكون عليها في نفس الطفل لذة زائدة فتؤثر في تربيته أكثر مما تؤثر الأعمال التي لا نتيجة لها فقد قال أرسطو أن كل حي يحب نشاطه. فإذا كان العمل فرحاً فهو كذلك عَلَى شرط أن يتم لا بالإكراه بل بحرية أي أن يتم بإرادة المرء مدفوعاً إليه بغايته الطبيعية وهي الإيجاد والإيلاد والإحداث.

ولذا اختصت المدرسة كل تلميذ بقطعة صغيرة من الأرض حديقة يزرعها ويستنبتها ما يريد فهو مالك هذه الروضة الذي لأراد لحكمه وله ريعها زهوراً كان أو ثماراً فترى أحدهم يزرع قرنفلاً أو ورداً ليقدم منها باقة لكبار أسرته وآخر يميل إلى العمليات فيزرع فجلاً أو بقولاً وبقوة الماء والعناية يستخرج من تلك الأرض الرملية المحرقة غلات نافعة حتى إذا تقدم في السن يدرك كم بذل الفلاح من العناية حتى أتاه بخبز عمل من الجاودار وصفحة من البقول. وهناك طفل آخر مولع بالنبات فيربي في روضته نباتات نادرة من الغابة ويدرس كيفية نشوءها. وهكذا أُشرب أخلاق كل واحد من هؤلاء المتعلمين وكلهم يفكرون فيما يستنبتون أن يقدموا من أول غلة لأقربائهم وأبويهم دليلاً عَلَى مهارتهم وحذقهم. ولا تسل عما يبذله أولئك الأطفال من الهمم ليدخلوا الشرور عَلَى قلوب غيرهم وكم لها من الشأن والقيمة الأدبية التي لا تضاهى.

أما الطعام الذي يتناوله فقد اختارته المدرسة من أقلها نفقة وأكثرها تغذية لأن المقرر الذي يدفعه التلامذة وأكثرهم من الفقراء لا يكفي لتقديم المأكولات الثمينة. وطعام الغذاء الذي يقدم الساعة الثانية عشرة ونصف وقت الظهر هو أكبر طعام وما عداه فالأولاد يأكلون كل يوم أربع وجبات الأولى الساعة السابعة يقدمون له كأساً من اللبن الحليب وقطعة خبز ومربيات لأنهم يعتبرون السكر مادة من مواد الغذاء ومقوياً. وفي الساعة العاشرة يقدمون أكلة خفيفة أيضاً وعند الظهر طعام مغذ مؤلف من ثريد ولحم لا يقل عن مئة غرام لكل ولد وبقول معدلها من 150 إلى 200 غرام وفاكهة أو حلويات أو مربيات. وفي الساعة الرابعة يعمونهم لبناً حليباً وخبزاً بالزبدة وفي الساعة الخامسة والربع يطعمونهم قطعة من الخبز وشيئاً من اللوز الهندي (كاكاو). وأنت ترى أن اللبن والخبز أكثر الأطعمة تغذية واقلها تكلفة.

ولقد كان من نتائج هذه التربية والحياة المدرسية أن كان الأولاد يأتونها ضعاف الأجسام تقرأ في وجوههم عبوسة وفي نفوسهم انقباضاً وفي أرواحهم ذلة وصغاراً لا تميل أنفسهم إلى شيء ولا تنبسط شهواتهم لشيءٍ وبعضهم لا يعرفون كيف يلعبون أيضاً فيهم خليط من أبناء الأحياء القذرة لا يعرفون الزهور ولا المروج ولا تغريد الأطيار في الأشجار ولا الحبوب ولا كيف تغيب الشمس فتسحر بمنظرها ولا كيف تشرق فيبهج النفس مرآها ولا كيف تسرح الحيوانات في الغابات ولا كيف تطن الهوام والحشرات في الشمس أو تعبث بالأوراق وها قد أصبحوا منذ أول دخولهم المدرسة وأفكارهم منتبهة ونشاطهم موفوراً وكل شيءٍ جديد لديهم كأنهم في عالم جديد يهتز منهم من لا يهتز لأمر من قبل وينبه أكثرهم رخاوة ويعود غليهم الذوق في الحياة فلا يجدون في العمل سخرة مملة عقيمة وكلما زادت قواهم الطبيعية يعود ذكاؤهم العادي إلى حالته الطبيعية.

وقد أخذ وزن أجسام الأولاد يزيد من أسبوع إلى أسبوع فكان الواحد يزيد نصف لبرة وكثير منهم زاد ثقلهم من 9 إلى 10 لبرات في خلال ثلاثة عشر أسبوعاً وكما أخذت المدرسة تراقب وزن التلامذة أنشأت تراقب كمية الدم فيهم فظهرت لها نتائج حسنة وأخذوا يشفون من الأمراض وتتحسن صحتهم تحسناً ظاهراً عَلَى اختلاف أسقامهم فثبت أن المقام في تلك الغابة نفع في أكثر المصابين بداء الخنازير وفقر الدم والمستعدين للسل. هذه هي النتائج الخارجية ويصعب تعيين ما حدث للأولاد من النمو في إرادتهم ومقدرتهم عَلَى العمل وحسن خلقهم وفرحتهم بالحياة وهذا من القوى أو النتائج الأدبية لم يتيسر لأداة أن تضبط عَلَى التحقيق نموها وضعفها ومع هذا فإن لها تأثيراً كبيراً لا في صحة الأخلاق بل في الصحة الطبيعية.

فالمحيط الجديد الذي انتقل إليه الأولاد وتأثير الطبيعة في نفوسهم والسكون والعمل المعقول والجهاد الحر النافع كل هذا يفعل أحسن فعل في الأعصاب التي هي كثيراً ما تهيج من هواء المدينة وضوضائها أو تضعف لقلة الهواء النقي. فمدار الغابات هي أشبه بأسرة كبرى كل امرئ سعيد أن يكون منها وكل واحد من أبنائها يحرص عَلَى أن لا يسوئ سمعتها وفي هذه الدار يتجلى للأنظار ما للعناية النسائية بالأطفال لأنهم يبوحون للمديرة التي تحنو عليهم حنو المرضعات عَلَى الفطيم بذات أنفسهم ونياتهم وأعمالهم فترشدهم وتنشطهم وتحاول أن تجعل منهم أهل حشمة من الرجال وجد من الفتيات. وإدارة المدرسة تفكر في أن تجعل مدرستها داخلية لأن الهواء النقي ينفع في حالة النوم ضعفي نفعه في حالة الإغفاء بالنسبة لهواء المدن القذرة فقد ثبت أن الطفل أثناء عودته في المساء إلى دار أبويه يفقد أحياناً ما ادخره من القوى لرداءة الغذاء أو الهواء ولانحطاط المحيط في الأخلاق والتربية أو لأسباب أخر من أسباب انفعال النفس. هذا وإن يكن الألمان أميل إلى أن يجعلوا أولادهم في مدارس خارجية أكثر من الداخلية وقد اشتهر أمر هذه المدرسة في بلاد الألمان وأخذت كثير من المدن الصناعية تحذوا حذوها كما فعلت مدينة البرفلد وكيل ولوبك ومومنيخ ومولهوس وغيرها وعمدت كلها إلى اقتصار الدرس والدروس وإشباع المواد فيها ودوام الراحة وتكثير وجبات الأكل المغذي وأجمل مدرسة تحت الغابات في ألمانيا_وكلها غابات جميلة_مدرسة غلادباش.

وذلك أرسل الإنكليز أناساً من رجال التربية عندهم ودرسوا طريقة هذه المدارس وأخذوا يقلدونها لأن طريقتها أشبه بطرائقهم في التربية والاعتماد عَلَى رياضة النفس فيها أكثر من الإكثار من الدرس فلم يحبوا أن يكون الأطفال في الارتياض اقل عناية بأمرهم من الفتيات في كليتي أكسفورد وكامبريدج حتى أن بلدية لندن نفسها أنشئت ثلاث مدارس من هذا النوع وكذلك فعلت مدينتا برادفورد وهاليفاكس واختيرت أماكن نزهة فيها الأشجار الهائلة وصرف بعض الإنكليز في هذا السبيل عن سخاء. ومتى قصر الإنكليز في بذل الجنيهات كالمطر إذا كانت نتيجتها تربية القوى الطبيعية في الأطفال؟

ولقد أخذت هذه المدارس تعلم الرسم في الطبيعة والطبوغرافية عَلَى شواطئ السواقي والحساب بقياس الأشجار الضخمة وتقدير حجم جذوعها بالمتر المربع والجغرافيا بخط خطوط في الرمل ناتئة. وللاستحمام بالمضخات وغيرها المقام الأول في هذه المدارس. وللشغال العملية مكانة كبرى فالبنات يتعلمن غسل الثياب وترقيعها والعناية بالأولاد. ومن مبدأ هذه المدارس أن الواجب أن يعرف كل ولد كيف يعمل عملاً بأصابعه العشرة ولهذا من الشأن العظيم من حيث الأخلاق وتقوية العقل أكثر مما يتوهم المتوهمون. وكانت نتيجة هذه المدارس باعثة علة الرضى إذ قد ثبت أن تسعة أعشار تلامذتها زادوا زيادة محسوسة في وزنهم ونشاطهم. ولئن كان نمو القوى الطبيعية سهلاً تحقيقه بواسطة الدينامومتر ودل البحث عَلَى أن الأولاد لم يزيدوا وزناً مثل مدرسة شارلوتنبرغ الألمانية فذلك لأن الجنس الإنكليزي في الغالب غير مستعد للسمن كالعنصر الألماني وكان من التلامذة الضعاف في عقولهم أن أخذت تنشط من عقالها كلما زاد نشاط أجسامهم.

وقد اغتبط الإنكليز بما تم من النجاح عَلَى أيدي مدارس الغابات ولا تلبث كل مدينة في إنكلترا أن يكون لها مدرسة من نوعها كما أن أناساً من رجال المال في أميركا قد أحدثوا في سان فرانسيسكو وغيرها أندية للأولاد تضمن لضعاف الحال والصحة السفر لاستنشاق الهواء الطلق وربما كان ذلك مقدمة لاحتذاء أميركا حذو ألمانيا وإنكلترا في إنشاء مدارس في الهواء الطلق بين أشجار الغابات. وقد أخذت سويسرا وفرنسا تفكر في إنشاء مدارس من هذا النوع لأن العناية بالصحة هيب فوق كل عناية حتى قال ديكارت الفيلسوف أنه مقتنع كل الاقتناع بأنه إذا كان ثمة واسطة لجعل البشر أذكى وأنبه مما هو فليس غير الطب يجب أن يعض عليه بالنواجذ ويلتمس منه الشفاء.

عقول الأطفال

في مجلة الأقرباء الإنكليزية ثلاث مقالات في إعداد عقل الطفل. الأولى في الجور الذي يجيء عَلَى الطفل من سن 18 شهراً حتى يبلغ ثلاث سنين وهي سن تعلمه الكلام ومقدرته عَلَى التقليد وغريزته في البحث عما لا يعلم وتكون قواه في التصور والتعقل في مبدأها وإرادته جرثومة تبدو في صورة عناد وبعد سن الثالثة تتأصل فيه قوة التعقل بمظهر أكبر وهذه هي السن التي يكون للتفكر فيها شأن رئيسي وتظهر الإرادة في مظهر أجلى ويأخذ الولد في تقرير أمور بدون أن تحمله إليها ضرورة لاحقة ولا يتيسر لهذا النشوء في عقل الطفل أن يتم عَلَى أصوله إلا بإجادة تغذيته ونومه فلطول رقاده شأن مهم في هذا السن.

أما من حيث الأخلاق فالذي يجب عَلَى الوالدين هو أن يعطيهما بدون خشية لأن للخشية نتائج سيئة في مستقبله وعلى الوالدين أن يوقنا بأن عقل الطفل صغير كجسمه وأن الواجب عليهما أشياء كثيرة وهو لا يسأل معهما عن شيءٍ.

والمقالة الثانية في تهذيب الطفل جاء فيها أن المهذب الحقيقي هو الذي يعلم قليلاً من كل موضوع وكثيراً في موضوع واحد. وتكون تربية الطفل تربية حرة بأن لا يغفل عما يعلمهم من الاهتمام بكل الموضوعات الكبرى والصغرى مثل القصص والرحلات والتواريخ في الحيوانات والنباتات ويجب أن تؤثر الكتب التي لها قيمة أدبية فإن الذوق يتكون منذ الطفولية كالمفردات التي يستعين بها المرء أن يعبر بعد عن أفكاره. ويجب ألا يعتقد بأن الفضيلة تحبب إلى النفس بالتنفير من الرذيلة بل بتحبيب الفضيلة نفسها وما فيها من الخيرات فإن الأبطال الذين أحببناهم وأعجبنا بهم وحاولنا تقليدهم في شبيبتنا يظلون أصدقاءنا يوم نبلغ أشدنا. وبالجملة فالواجب أن يذكر أن القراءة تعلم الأولاد وتسليهم وأن لا يكثر عليهم من الكتب المعلمة ويترك لهم اختيار ما يروقهم منها عَلَى شرط أن تكون لها قيمة أدبية أو أخلاقية أو علمية.

والمقالة الثالثة في تعليم الطفل بالحديث والحوار لأنهما تؤثران في تربيته ولكتن لا مباشرة فإن الدائرة التي يلعبون فيها ويدرسون وبدائع الصنائع التي تلقنهم الجمال والنظام لا اثر لها في إمداد نفوسهم وأذواقهم بقدر حديثهم فإذا تركوا وشأنهم في حديثهم يصبحون وحديثهم نسقاً واحداً غير لائق فعلى المعلم أن يعنى بحديثهم بحيث يكون عاماً أحسن الأحاديث ما كان بحضور النساء لأن بعض مدارس إنكلترا جربت هذه الطريقة فنشأت منها خيرات كثيرة في تربية عقل الطفل.

الأخلاق والعادات

يرى بعضهم اختلافاً في تعيين معنى الطبيعة والعادة وأن الطبيعة والمزاج أو الأخلاق لا تؤثر فيها التربية أو أن التربية إذا استطاعت تغيير الإنسان فلا تعمل إلا عَلَى إبطاله وتلاشيه وعلماء الأخلاق عَلَى اختلاف بينهم في هذا الشأن فقد قال روسو أن التربية ليست سوى العادة لا طائل تحتها وهي عاجزة عن التأثير في المرء لأنها تجد أمامها سدوداً من مقاومات الطبيعة فلا تستطيع تغيير الميل والاستعداد ولا تقف عثرة في سبيل النشوء فليس في مقدرتها إلا أن تنير المرء وتهيئ له سبيل للانبعاث والعمل أو أنها تنشئ للمرء طبيعة ثانية وتبيد الأولى وتشحذ العقول وتعجن الأرواح وتحث الإرادات وتقويها.

فقد اعتاد من يقول بأن الإنسان غير قابل للتربية أن يحتج بأن الشر مغروس في فطرته وهذه هي الحاكمة المتحكمة في تكوين أخلاقه ولكن هذا الزعم فاسد لأن الدلالة عَلَى تأثير التربية وفعلها في تغيير الطباع أمر لا ينكره مفكر. قالوا أن العادة طبيعة ثانية ومن المحقق منه أنه إذا كانت للمرء طبيعة وهذه الطبيعة متحولة بالعادة فهو من بين سائر الحيوانات خاضعة للتأثيرات الخارجية الكثيرة المنوعة التي لها الفعل الأكثر في هذه الأسباب والتخلق بها واحتذاء مثالها فإن الحس الحي اللطيف وتركيب المرء اللدن المرن المستعد بدون عناءٍ لجمع أنواع التكون وقوة الحافظة التي هي طبيعية في المرء وبها يعتاد العادات عَلَى أيسر وجه كل هذا يجتمع ليكون أخلاقاً ومظاهر في المرء متشابهة لما يحيط به من الأخلاق والأشكال وما يحفه من الأجسام. وهذا هو جملة القوى العظمى في التربية الطبيعية ومنها تنشأ في الحال التربية الأخلاقية وبذلك يكون المرء قابلاً للكمال إلى ما لانهاية له ويستطيع القيام بكل أمر.

ويعتدل النظام الحيواني بالعادة خاصة فهي بطول الزمن تؤثر التأثيرات النافعة والتأثيرات الضارة. فتركيب الإنسان خاصة يستعد أن يظهر في كل من المظاهر. والمرء يستطيع أن يألف تناول السم وربما صعب عليه الإقلاع بعد من عادة كان ألفها بالتمرس بها والرجوع من القبيح إلى الأحسن فسكان البلاد الرديئة الهواء قد لا تجود صحتهم أبداً في بلاد أجود بهوائها فالمصابون بالربو (ضيق التنفس) الذين تناسبهم الأماكن الشاهقة في العادة قد يرون حاجتهم ماسة إلى هواء كثيف ثقيل كانوا اعتادوه أيام صحتهم والهواء الشديد قد يزيد أوجاعهم ويحدث لهم اختناقاً مدهشاً ولقد رأينا سجناء خرجوا من محابسهم ومطابقهم العفنة أقوياء أشداء بعد أن قضوا مدة طويلة مسجونين بجرائمهم ثم ضعفوا وهزلت أجسامهم من الهواء الطلق ولم تعد إليهم صحتهم إلا بعد أن ارتكبوا جنايات أخرى أعاداتهم إلى مطابقهم الأولى التي أصبحت لهم كأنها مساقط رؤوسهم.

وهكذا ففي الواسع أن تدخل عَلَى الطبيعة تعديلات أصلية كثيرة ويمكن تجديدها وقلبها والأخذ بها في طريق غير طريقها وذلك بالعادة. ثم أن الطبيعة خاضعة لجميع المؤثرات وقابلة لاعتياد أنواع العادات فهي_خلافاً لما يقال_مرنة قابلة للتحول لا تظل عَلَى حال واحدة بل تفعل فيها الأخلاق والتقاليد ومؤثرات المحيط والعادات الشخصية. وقد قال أحد علماء التربية أن للمرء مزاجين طبيعي أو أصلي وكسبي فالأول ينشأ من مزاج الإنسان فلا يؤثر فيه إلا إذا تكرر عليه غيره وعندئذ يظهر المزاج الآخر أي أن المزاج الأصلي يؤخذ بالمزاج الكسبي وهذا الذي يعتبر كأنه مزاج الأهواء الطبيعية والعادات المكتسبة التي يقضى علينا أن نلاحظها فقط فالمزاج الطبيعي يعرف ويظن ويغلط وهو مفترض مثل شروط التربية ولكن المزاج الكسبي هو نتيجة التربية نعرفه ونثبته فهو عمل من أعمال التجارب الثابتة.

فالمزاج الكسبي هو عبارة عن التبدلات التي تفعل في المزاج بحكم الوراثة_وإن كان يمكن اعتبار الوراثة جزأ من المزاج الطبيعي_ومن التبدلات الطبيعة الخاصة المشتركة بين جميع الناس وهي تنشأ من السن ومن الانقلاب الذي يحدث في الإنسان عند البلوغ مثلاً ثم من مجموع التبدلات العارضة التي تترك آثاراً باقية كنمو المرض أو الأسباب المنتظمة الثابتة كالمناخ وأصول المعيشة والأعمال العادية من جسدية وعقلية.

وقد أدمجنا في جملة أسباب المزاج الكسبي المرض والمانخ وذلك لأنهما يعدلان طبيعتنا وإن كان في اليد تعديلهما لأنه في استطاعة المرء أن يقاوم المرض ويتوقاه بمراعاة قواعد الصحة ويضعفه أو يشفيه بالعرج الخاص به كما أنه يصلح أو يخفف تأثيرات المناخ أو يجعله بحيث يناسبه وإن كان ي الأكثر عرضة لتأثيراته. والمرض بغير تركيبه ويقطع الموازنة بين الأعصاب الحاسة والمحركة وتغلب الأول عَلَى الثاني وهكذا تجد في الأولاد والمعرضين للأمراض حساً رقيقاً وشعوراً قبل أوانه وذكاءً حسناً ويتحول المزاج أيضاً بحسب المناخ فترى في البلاد الباردة القوى العصبية عاملة قوية والقوى الحسية مخدرة ضعيفة وبالعكس ترى أهل البلاد الحارة أما البلاد الرطبة العفنة فالمزاج فيها بلغمي.

ومهما كان من تأثير الأسباب الطبيعية في طبيعتنا فالتربية لها مدخل كبير في إعداد الرجال بل إنها هي المادة والعامل فإنا نجد فيما يستبعدنا سبباً لتحرير رقنا فمن ثم كانت التربية العامل الأكبر في طبيعتنا وإذا كان للمرض والإقليم تأثير فذلك يشعر بأن طبيعتنا قابلة للتحول. فالحرية ليست سوى اسم أطلق عَلَى مرونة تركيبنا الطبيعية والأخلاقي. وفي مكنتنا أن نعارض بين مختلف التأثيرات التي نخضع لنظامها ونكون لها سادة ونطبعها وننجو من تأثيراتها المضرة ونحرر نفوسنا من قيودها.

يكاد يكون تأثير طراز المعيشة كتأثير الإقليم وأحدهما يتغلب عَلَى الآخر فإنك تجد في عرض واحد من الكرة أناساً مختلفين في طبائعهم من مثل اليابانيين والصينيين واليونان والأتراك. لا جرم أن ينسب ذلك إلى اختلاف العناصر وربما كان لأسلوب المعيشة دخل كبير أيضاً لا تقوم إلا بعض التدابير والذرائع وما قط ازدهرت إلا بين الشعوب المعتدلة.

فالعادة الشائعة باستعمال الأفيون في البلاد العثمانية والصين والهند قد أثرت كالمناخ أو أكثر بل ساعدت كالحكومة أو أشد في تلك البلاد عَلَى توحيش سكانها وجعلهم غير صالحين للمدنية. واستعمال الألكحول هو أيضاً عند أمم أوربا مسألة حياة وموت. وبلسان أعم إن ضرره يلحق بالصحة عن اختياره وكل خطيئة طبيعية لها نتائج أخلاقية واجتماعية. قال سبنسر: قلائل في الناس من يظهر أنهم يفهمون في العالم شيئاً يمكن أن يسمى الخلق الطبيعي. والظاهر أن الناس يعتقدون عَلَى الجملة بأنه يباح لهم بأن يعالجوا أجسامهم عَلَى نحو ما تدرك عقولهم. وأنت ترى الفلاح طماعاً شديداً يقتل نفسه في العمل ويستعمل القسوة مع امرأته وأولاده فستنفد قواهم ويخرب صحتهم كما نرى العامل يضع كسبه في الحانة ويخل بأصول قواعد الصحة في مأكله ومسكنه بل إن عامة الطبقات في البشر تسرف عَلَى نفسها وتبذر في قواها وتعجل الخلل والهرم والعقر إليها وهكذا ضربت المدنية ضربة شديدة بأيدي السواد الأعظم الذين لا يقدرون حق قدرها واختل نظامها المادي بل إن التقدم المادي هو شرط ظاهر في التقدم المعنوي يبعث في الحقيقة من التربية والأخلاق حتى أن الأمم كإنكلترا التي تحترم الرفاهية الحديثة وتتعبد بها وتقصد من ذلك عنايتها بأمور الصحة كعنايتها بالرفاهية نراها تكاد تكون وحدها سائرة في طريق المدنية بقدم راسخة أحسن من الأمم التي لها أفكار خيالية في الحضارة. فخير ما ينظر إليه في التربية أن يلاحظ ما انطوت عليه جوانحنا ومزاجنا وأن نبني نظامنا عَلَى أساس الحياة الطبيعية.

للمزاج تربية أو لا بد له من تربية وقد شوهد بأن المزاج غير ثابت من فطرته لأنه نتيجة المرض والإقليم والنظام الصحي. يثبت ذلك أن المزاج قابل للتحول غير راسخ ما نراه من تحويله لا بوسائط طبيعية بل اجتماعية كالصناعات مثلاً. فالصنعة تروض الإنسان بأجمعه وتتحكم في أذواقه وأفكاره وتقوده في سلوكه بل تعمل في تركيبه الطبيعي. ومن البديهي أن ليس الحداد والمطرز متوحدين في القوة العضلية كما ليس لهما مزاج واحد وأمراضهما ليست متشاكلة والاختلاف بين ابن الأدب الفلاح والأول ينهك عقله والآخر يتعب عضلاته يختلفان بتركيبهما الطبيعي كالاختلاف المشاهد بين فرنسوي وألماني وإنكليزي وهولاندي وربما كان أكثر.

إذاً فما هو المزاج؟ الظاهر أنه يصعب ضبطه وتحديده ولا يتأتى تعيينه إلا بالفكر فيحدد لا بما هو فيه بل بما يمكن أن يستحيل إليه. ولقد نظر المشرعون والحكماء في القديم إلى التربية بأنها تدريب منظم تام لا تختل قواعده ولا يضل قاصده وعلى أيدي القدماء تحققت الأعاجيب التي تنشأ من التربية كالجندي والوطني والإنسان الذي يقصد إلى غاية كالدفاع والعظمة ومجد البلاد ولا يعيش الطامح إليها إلا لأجلها ولا يستنشق الهواء إلا لتحقيق أمنيته منها وبلوغ أربه. ولقد كان المثال البديع الذي ظهر من تربية الجندي الإسبارطي خير مثال تحدثه الأمم فأعجب تدربه القدماء والمحدثون وحق لهم أن يعجبوا لا لما تم عَلَى يديه بل لما بدا فيه من تأثير التربية أو تدريب الإنسان بالإنسان وهكذا دربت رومية رجال شحنتها. وفي إسبارطة ورومية يجب عَلَى الأخلاقي أن يفكر في تأثير التربية لأن هذه التربية لم تظهر قط بأعظم من مظاهرها في تينك العاصمتين ولم يمتد سلطانها حتى ولا في عهد اليسوعيين الذين كانوا يعجبون بما يتم عَلَى أيديهم من جعل أعضاء رهبنتهم عبيداً خاضعين وأدوات تامة.

نعم فعلت التربية فعلها حتى أخرجت المرء عن طبيعته الأصلية وعدلت في مزاجه حتى اشتهى الفيلسوف ميستر ذات يوم أن يرى الإنسان في نفسه أو عَلَى فطرته فقال أنه رأى فرنسياً وإنكليزياً وإيطاليين وروسيين ولكنه لم يوفق إلى رؤية الإنسان المجرد العام بل رأى الإنسان بحسب المحيط والتعليم والتربية المكتسبة والمزاج ولكن إذا كان الإنسان الحقيقي هو محصول التربية ومجموع العادات وإذا كان أبداً ابن الأحوال الطارئة عليه والعادات والمناخ والقوانين ألا يجب أن يقال بأنه ليس له خلق خاص وأن شخصيته تضمحل بما يعدو عليها. فالظاهر أننا لا ننظر للشخصية إلا عند مقاومتها للتربية ونراها مباينة بتعريفها للمؤثرات التي تؤثر فيها.

ترجع التربية إلى العادة وهنا انقسم علماء التربية إلى قسمين فمن قائل بتأثير العادة ومن قائل بعدمها. فزعم روسو بأن للتربية دخلاً قليلاً في إعداد الإنسان قائلاً أن التربية استعباد له وأن خير عادة يعودها الطفل أن لا يعود أمراً ما حتى ولا الأكل والشرب ولا النوم في ساعات معينة بل أن يعد للاستمتاع بحريته وأنت تلاحظه من بعيد كما تلاحظه في استعمال قواه تاركاً لجسمه العادة الطبيعية وأن يكون أبداً مالك قياد نفسه وأن ترى إرادته عندما يكون مالكاً لها قال والعادة الوحيدة النافعة للأولاد هو أن يستعبدوا لضرورة الأشياء بدون عناء والعادة الوحيدة النافعة للرجال هو الاستعباد للعقل بدون كبير أمر. ومثل لذلك بالنبات الذي تثنيه وتكرهه عَلَى ميل خاص فلا يلبث أن يعود إلى أصله إذا أطرحته من يدك.

وقواعده هذه تنطبق عَلَى التربية بل هي قواعد التربية بذاتها إذ لا فرق بين التربية والعادة وما التربية إلا العادة فمن ثم كانت التربية تربيتين تربية ظاهرة مؤقتة وتربية حقيقية دائمة فالأولى هي التي تقاوم الطبيعة والثانية هي التي توحي إليها الطبيعة ولا تعمل إلا عَلَى ترقيتها وموافقة قانونها ولذا قال روسو أن من النسا من ينسبون تربيتهم أو يضيعونها ومنهم من يحتفظون بها. عَلَى أن الابتعاد عن الفطرة ما ينافي العقل فالحكمة تقضي بأن نعمل مع الطبيعة ولأجلها وكل تربية لا تجري عَلَى هذا النظام لا تكون عبئاً ثقيلاً فقط بل تكون عبثاً لا نتيجة لها. ومن الباطل أن نعتقد أن مخالفة الطبيعة في التربية تعني غناءها وما هي إلا ظواهر فإن معظم العادات كما قال روسو التي تعتقد أنك تلقنها الأولاد ليست عادات حقيقية لأنهم أخذوا بها بالعنف وجروا عليها عَلَى غير إرادتهم فهم يتوقعون الفرص لينزعوا ربقتها. وقوله هذا صحيح لا غبار عليه فإن بدريتو الذي أخذ وهو طفل من محيطه المتوحش وربي التربية الأوربية الدقيقة تخلى يوم خلا له الجو ونجا من أيدي مدبريه عن عيش الرفاهية الظريف وراح يعود بين أهله إلى عيش الكسل والعطالة والشقاء التي قادته إليها ميوله الإرثية ولم يعد قط إلى حالته الثانية. وكذلك كان من حال الصيني الذي تزوج من امرأة فرنسوية وأخذه معها إلى بلاده فلما بلغها أخذ ينظر إلى زوجه بأنها غير مساوية له وانقطع عن معاملتها معاملة متمدنة. وبهذا تبين أن التربية ليست غالباً إلا طلاء يزول لأقل عارض. وقد قال الفيلسوف ريبو أيضاً أن الطبيعة لا تعاند وإن للإرث والميول الطبيعية دخلاً كبيراً في التربية. ومن رأي روسو أن العادة لا يمكن إلا أن تكون منطبقة عَلَى الطبيعة.

وقالت العقيلة نكرسوسور التي ناقضت روسو في نظرياته وجعلت للعادات في التربية الشأن الذي أراد روسو أن يسلخه عنها أن الولد ليس إلا كائناً لدناً رخيصاً قابلاً للتحول مستعداً إلى التطبع بالعادات يتناول ذلك عَلَى أيسر وجه بدون نكير وليس في العادات عائق عادي يخدر قواه بل إن الاتفاق يتم أبداً بين الخلق والعادات وكلما كان الولد فتياً في السن انبعثت عاداته من أخلاقه ومن نفسه. وبالجملة فإنه يحصل للولد ذوق في العادات التي يعتادها فيقع استحسانه عَلَى ما يراه. قالت إنها رأت طفلاً في الشهر التاسع من عمره يبكي بكاءً شديداً ويأبى أن يتناول غذاؤه لأن الفنجان والصحفة الملعقة لم تكن موضوعة في محلها التي جرت العادة أن توضع فيه. فاستدلت بذلك عَلَى أن ذوق النظام كان بذرة في الطفل فالواجب عَلَى المربي أن يربيه ويقويه وهكذا تجد ذوق النظافة والحياة فطرية في الإنسان قالت إنها شاهدة طفلة في الشهر الثامن عشر من سنها تبكي إذا مس أحد مقطف مربيتها في النزهة وقد رأت هذه الطفلة امرأة مجهولة دخلت ذات يوم وسرقت من البيت قفطان والدتها فأخت تصيح صياحاً هائلاً. ومن هذا يستنتج أن العادة ليست في الأصل عارضية دخيلة فينا بل إنها تدخل وتنساب في حياتنا بقدر ما تصادف من الائتلاف وتنبهه فينا من الشعور ويتفق مع إرادتنا وهكذا هي مادة من شخصيتنا ولكن تلك العادات لا يجب أن تخرج عن الطبيعية فلا تتمازج وإياها كما يتمازج قلبان كأنهما تراضعا لبناً واحداً ويتعلق المرء بالعادة مختاراً لا مضطراً فتظل عاداتنا كما كانت في الأصل بهجة وظرفاً لا سلسلة وقيداً ليكون لسان حال كل امرئٍ أن عبوديتي حلوة وعبئي غير ثقيل. نعم يعتاد الأمور وهي محببة إليه ولا يعتادها متكارهاً.

ولقد كان القدماء ينظرون إلى التربية بأنها تدريب مدقق شديد أو تجريب عَلَى أسلوب تام ولنهم يشفعون تربية الجسم بتربية الروح فلم يكونوا يكتفون بتربية العضلات بل كانوا يلقنون المربى العبادة واحترام القوة ويرون أن التدريب أو العادة ليس بشيء إذا لم تظهر بأنها ترجمان للروح.

قال الكاتب الفرنسوي الذي احتذينا عن مبحث له هذه النبذة: وطريقتنا في التربية هو أن لا ننظر إلى العادة والخلق موجودة بذاتها ومستقلة بنفسها بل أن نعتبرها بأن أحدهما يقوم بصاحبه وهو متمم له.

إصلاح حوران

تمت لسورية أمنيتها التي لطالما نشدتها من إدخال حوران ولاسيما جبل الدروز في الطاعة وإصلاحه إصلاحاً إدارياً ليسعه بعد الآن ما يسع عامة الأقاليم العثمانية. فوفق القائد العام في الحملة عَلَى جبل الدروز سامي باشا الفاروقي الذي انتدبته الدولة لتأديب العصاة بالنظر لمعرفته اللغة العربية ولأنه استعان عَلَى تحقيق رغائبه بقواد من أبناء هذه الديار أو ممن سكنوها زمناً وعرفوا أحوالها وساعد عَلَى ذلك انتظام الجندية في العهد الأخير انتظاماً يغبطنا عليه المحب فقابل الدروز العسكر بإطلاق الرصاص بالقرب من السويداء قاعدة الجبل كما قابلوهم في قنوات والكفر وما والاهما فاستولت الحملة عَلَى تلك البلاد وأحرقت بعضها لما بدا من أهلها من المقاومة ومن سلم للحملة عومل بالرفق والعدل ولما أيقن الدروز بأنهم كانوا عَلَى ضلال في مقاومة الدولة استسلموا كلهم ودخلت بلادهم في الطاعة وعادوا إلى أعمالهم الزراعية فجمعت الحملة أسلحتهم وأحصت نفوسهم وساقت إلى الجندية نحو ألف من شبانهم كما اعتقلت من ثبت كل الثبوت اشتراكه في الفتنة الأخيرة وعصيانه وربما حكمت عَلَى عشرات منهم بأحكام مختلفة بما أقامته في السويداء من الديوان العرفي ولا يعرف بالتحقيق عدد من هلك من الدروز في هذه الوقائع لأن من عادتهم أن ينقلوا جرحاهم وقتلاهم في ساحة النزال مهما كانت النيران متهاطلة عَلَى الرؤوس عَلَى أن الأخبار الرسمية ترجح أنه قتل منهم نحو ألف كما استشهد من الجنود 57 بينهم ضابط وجرح نحو مائة بينهم أربعة ضباط وبلغ عدد الجيش الزاحف نحو عشرين ألف جندي.

وقد دعم الإصلاح لواء حوران بهذه الواسطة وخيم الأمن عَلَى تلك الربوع فأحصيت نفوس سكان السهول منه وسكان جبل عجلون كما أحصيت نفوس جبل الدروز ويقال أن من يدخلون الجندية من شبان حوران هذه المرة وكانوا لا يخدمونها من قبل نحو أربعة آلاف جندي وستربح الدولة من هذه الحملة أموراً كثيرة أولها انتشار الأمن في سورية كافة وثانيها زيادة الأعشار والأموال والضرائب من هذا اللواء الخصيب فيزيد دخل هذه الولاية لحكومة فقط زهاء مائتي ألف ليرة مسانهة.

سكان الولايات العثمانية

الولايات والمتصرفيات بالكيلومتر متر المربع عدد السكان المساحة

ـ في الروم إيلي ـ 169. 3006. 130. 200

ولاية الآستانة309001. 203. 000

متصرفية جتالجة 1. 90060. 000

ولاية أدرنة38. 4001. 028. 200

= سلانيك35. 0001. 130. 800

= مناستر28. 500849. 000

= قوصوه32. 9001. 038. 100

= أشقودرة 10. 800194. 100

= يانيه17. 900527. 100

ـ في آسيا الصغرى ـ 501. 4009. 089. 200

ولاية الأرخبيل (بحرسفيد) 6. 900322. 300

متصرفية أزميت8. 100222. 700

= بيغا6. 600129. 500

ولاية خداوندكار65. 8001. 626. 800

= آيدين 55. 9001. 396. 500

= قونية 102. 1001. 069. 000

= أطنة 39. 900422. 400

ولاية أنقرة 70. 900932. 800

= قسطموني 50. 700961. 200

= سيواس 62. 1001. 057. 500

= طرابزون 32. 400948. 500

ـ في أرمينة وكردستان ـ 186. 5002. 470. 900

ولاية أرضروم49. 700645. 700

= معمورة العزيز32. 900575. 200 = بتليس 27. 100398. 700

= ديار بكر 37. 500471. 500

= وان39. 300379. 800

ـ في سورية زما بين النهرين_637. 800 288. 600

ولاية حلب 86. 600995. 800

بيروت16000533500

متصرفية لبنان3100 200000

القدس17100341600

ولاية سورية 95900719500

متصرفية الزور78000100000

ولاية بغداد 111300614000

= الموصل 91000351200

= البصرة 138800433000

ـ في بلاد العرب ـ4411001050000

ولاية الحجاز 250000300000

= اليمن 191100750000

ـ إيالة طرابلس الغرب 10510001000000

ـ سيسام 468 55000

ـ قبرص 9600 210000

ـ كريت 8618 310056

ـ مصر 3114011287359

ـ تونس 1674001830000

التربية الجديدة

لا ينبغي للمدرسة أن تكتفي بالتعليم بل أن تعد رجالاً عاملين للحياة ولذا قامت إنكلترا وفرنسا وألمانيا وسويسرا وإيطاليا والولايات المتحدة بإنشاء مدارس جديدة تريد أن تتناول من التلميذ حياته بأنجعها لا أن تربي عقله فقط تريد أن لا تكون المدرسة دار تعلم بل دار احتذاءٍ تهمها الحياة قبل التعليم. وقد وضع فروبل أعظم باحث بالتربية في العصر الماضي قاعدة من شأنها أن الواجب التعلم مع العمل فالمدارس الجديدة وجدت لتطبق هذا الفكر وتدفعه إلى نتيجته الطبيعية وهي أن الواجب التعلم مع الحياة فيقتضي من ثم للإنسان الكامل الذي يحب أن يعمل عملاً مثمراً ويجد السعادة في علاقاته الشخصية ويصبح وطنياً صالحاً_يقتضي له جسد سليم وذكاءٌ شديد وصفات لازمة له في ضروريات الحياة. وهذه القوة والمقدرة الطبيعية والصفات الأخلاقية لا يتأتى الحصول عليها إلا بالعمل فيجب أن يعيش الولد حياة الصحة الجسدية والجهاد العقلي والأخلاقي حتى إذا دخل في سن الرجولية تكون له قدرة واعتياد عَلَى استخدامها في الغايات الحسنة.

وقد كان ينظر حتى الآن إلى المدرسة بأنها جعلت لترقية العقل وأن سائر شؤون الحياة هي في الطفل من عمل الأسرة ولكن أسباب الحياة قد تبدلت في العصر الأخير حتى لم يعد في طاقة الأسرة أن تجهز الطفل بجهاز من الصفات اللازمة في جهاد الحياة فاقتضى من ثم للمدرسة أن تقوم بهذا الواجب فتنشئ عادات صالحة وتعلم الأسباب إليها ولا غنية في تلقين هذه التربية الآن فلا يجد فيها ما يخالف الغرض الذي يرمي إليه بخلاف من يقضي شطراً من حياته الأولى في البيت وقد يكون هذا في الأكثر جارياً عَلَى غير سنة المدرسة في الآداب وهناك فوائد أخرى في التربية المدرسية وهي أنها تساعد الأولاد عَلَى أن يكبروا في الفلاة ويتعاطوا الأعمال المطلوبة منهم ويفهموا فائدتها ويعيشوا في ظل الطبيعة خلال السنين التي تتأثر الروح بالانطباع بطابعها.

ومنذ أمد طويل عرفت التربية الطبيعية في أحسن المدارس الإنكليزية مكانة. فإنكلترا هي بلد الرياضات والحياة في الفلاة والبراري ومن هذه المدارس نشأ في الإنكليز حب اللعب في الهواء الطلق فينظم الأولاد لأنفسهم ألعابهم دون أن تتدخل في شؤونهم إدارة المدرسة حتى أصبحت الألعاب والرياضات أهم جزء من التربية في المدارس الثانوية في البلاد التي يتكلم بها باللغة الإنكليزية وفي غيرها أيضاً.

وبعد فإن النزهات (الفسح) في الفلاة والحمامات في الهواء الطلق ولعب الرماية والهدف والشغل اليدوي عَلَى اختلاف أنواعه واختيار الغرف المعرضة للتهوية عَلَى الدوام واستعمال اللباس الساذج المعقول والطعام اللطيف الصحي ومراعاة قواعد الصحة في استعمال الوظائف الجسدية كل هذا مما يجب أن يعم أمره في المدارس كما تعم الألعاب وهي لازمة لبقاء الصحة ولاسيما لإيجاد عادات راسخة متى زالت سلطة المدرسة عن رأس التلميذ وتلقي في نفس الأولاد حب الحياة السليمة النشيطة فينبغي لنا محيط يسمح بكل ما تقدم عَلَى أن يترك شيءٌ منه للمصادفات فالمدرسة التي لا تضع في قوانينها ما عددناه تخل ولا جرم بواجبها الأول.

قال العالم الإنكليزي الذي ننقل كلامه هنا عن مجلة التربية الفرنسوية وليس أحسن ذخيرة عقلية يحملها الفتى من المدرسة هي مجموعة معلومات علمية وإنشاء جميل بل القدرة عَلَى التفكر بنفسه فيكون له إرادة عَلَى الابتكار ويستعد لأن يقوى عَلَى حل المشكلات كلما عرضت. وهذه القوة لا يحصل عليها بالبحث في الكتب بل بأن يعمل الولد الشيء بذاته عَلَى اختلاف ضروبه والواجب أن يتسع خطط المدارس فتكون دروسها منوعة وتولي كفاءة كل امرئ حرية أوسع. فدماغ الولد لا يقوى بالقراءة بقدر ما يقوى بالعمل والدماغ في الأصل لم يبحث عن عادات اليد بل أن اليد علمت العادات للدماغ وهكذا يجب العمل عَلَى تنشئة الطفل ليكون رجلاً فيجب أن يكون لنا في خطط الدروس أعمال يدوية منوعة كثيرة لا لأنها أساس العلوم والفنون التي توصلنا إليها بل لأنها في حد ذاتها أدوات ثمينة في التربية. ففي الأعمال العلمية والأعمال الكتابية ينبغي لنا ميدان نشاط وروس لنكون عَلَى بصيرة من بلوغ القوى والمصالح الحقيقية في الطفل ونكشف استعداده الشخصي. يجب أن لا ننسى أن القيمة الرئيسية في عمل ما ليست بنتائجها المادية بل بطريقة إنتاجها في طريقتها وإن أهم نتيجة وأدومها هي العادة العقلية التي ساعدت عَلَى الإنتاج. يجب للمدرسة والمعمل عمل شخصي وأن يعطى للتلميذ مسائل ليحلها بالاختبار أكثر مما يحلها بالتعقل فتحصيل العلم يجب أن يعتبر بأنه سياحة اكتشاف أكثر مما ينظر إليه بأنه تعلم ما اكتشفه الغير فلا يجب أن يطلب من التلميذ أن يتعلم لينتفع بعد بمعارفه إذا سنحت لها لفرص بل أن يعلم ضرورة العلم بالعمل السريع الذي يرى نفسه مضطرة أن تقوم به.

فالتربية الجديدة لا ترمي إلى تنشئة رجال ونساء ذوي كفاءة وقدرة بل تريد إعداد وطنيين صالحين ينتفعون بخصائصهم لا لينالوا منها فوائد خاصة لهم بل ليعاونوا الناس ويساعدوهم. يعود الأولاد أن يقدروا أنفسهم بأنفسهم وأن تهيأ لهم أسباب العمل فلا يكفي أن يتعلم ما هو صالح إذا لم تقو الإرادة وتتأصل عادة عمل الخير في المرء بالفعل فقد كان سقراط يقول أن المرء لا يختار عمل الشر من نفسه وبذلك نتج أن معرفة الخير هي ضرورية فقط ونحن نتعلم دروس الحياة كلما عشنا.

نلقن الولد أن يعمل ونساعده أن يرى بنفسه ضرورة الوقوف عند حد والاعتراف بقيمة سلوكه. وهذا خير من استعمال الضعف في التلقين ويفرض علينا أن نمتع الولد بحريته لأنه إذا لم ينشأ وهو يختار الخير لا ينمو في الأخلاق نمواً حقيقياً وإذا خالفنا ذلك نصوغ من الطفل أداة مدهشة لا رجلاً عاملاً ولا يتأتى ذلك إلا بتبادل الثقة بين المتعلمين فيخلص الأولاد بعضهم لبعض ويخلص المعلمون في مراعاة حرية من يعلمونهم. سيجب عَلَى الأساتذة أن يقتنعوا كل الاقتناع بأن الأولاد يرون من شمم نفوسهم أن يكونوا أحرياء بالثقة عندما يشاهدون أنه يوثق بهم وأن يدربوا من دون عنف وقسوة ولا ينظر لهم كمن ينظر إلى من يشك في حاله.

قال وأرى أننا في حاجة إلى نفوذ المرأة حيثما وجد أولاد وذلك لا في السنين الأولى للطفولية بل في خلال مدة التربية وإذا صح كما نعتقد بأننا لا نستطيع أن نتعلم إلا إذا عشنا فنحن في حاجة في المدرسة إلى جميع العوامل والمؤثرات الرئيسية في الحياة فليس تجديد الحياة المدرسية وقصرها عَلَى جنس واحد إلا عبارة عن خنقها وفلجها منذ بدايتها فتربية البنين مع البنات ضرورية والمدارس التي سرت عَلَى الأسلوب الجديد في التربية تقوم بهذا المطلب من عدة وجوه بحسب حالتها واعتقادها وعاداتها القومية ويترك للتلميذ أن يعتقد ما يشاء من دين آبائه ولا يبحث في الأديان بل يبحث في إعداد رجال على أنه يعلم نفع التدين كما يعلم الأجنبي عنا احترام وطنية الغير لا تقديس وطنيتنا فقط.