مجلة المقتبس/العدد 55/نهضة سورية

مجلة المقتبس/العدد 55/نهضة سورية

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 9 - 1910



لم يبق مجال للشك بأن بلاد الشام ناهضة نحو الترقي ثابتة وعزم أكيد فقد بدأت تباشير النهضة من بيروت بُعيد حوادث سنة الستين التي انتهت بمنهج الاستقلال الإداري لجبل لبنان وضعف أمرها في أواخر مدة السلطان المخلوع عدو المعارف اللدود ثم سرت نفحة من تلك الروح الطيبة بعد إعلان الحرية إذ أيقن بعض الأهالي أن العهد عهد كفاءات لا عهد شفاعات والدور دور نشاط وإقدام لا دور جمود وإحجام وأن من لا يعهد للدهر عدته يهلكه الدهر ولا من يرحمه.

ولقد نال من نعمة الدستور في السلطنة كل بلد بقدر استعداد أهله وكان من توفرت لهم ذرائع التعلم أكثر ركوضاً إلى ورود مناهل العلم وليس في سورية مدينة استقام لها أمر التعليم كثغر بيروت الذي حمل إليه الإفرنج ولا يزالون يحملون علمهم وأموالهم ليربوا بها ناشئة الشرق ويخرجوهم عَلَى المنازع الغربية مازجين إلى تلقين المدنية تلقين النصرانية وقد وفقوا إلى ما قصدوا إليه منذ نحو نصف قرن.

ولكن أهل البلاد انتبهوا إلى ما يلحقهم من الغضاضة إذ لوا عيالاً عَلَى ما أسسه لهم الإفرنج من المدارس فبدؤوا بتأسيس مدارس طائفية أهلية سبق إليها المسيحيون أولاً في بيروت وبعض المدن السورية ثم حذا حذوهم المسلمون في بيروت فدمشق فغيرهما ولكن البيروتيين عَلَى قلة عددهم وغناهم بالنسبة للدمشقيين فاقوا جيرانهم هؤلاء لأن اعتمادهم كان عَلَى أنفسهم واعتبروا حق الاعتبار بما حمله إليهم المرسلون من الأميركان والألمان والروس والفرنسيس وقدروا المبادئ والخواتيم فرأوا أنه لا ينقذهم من سوء المصير إلا العمل لتثقيف عقول أبناءهم عَلَى الطرق الوطنية الحديثة.

أما الدمشقيون فقد استمروا وظائف الحكومة فكانوا ولم يزالوا إذا تعلموا شيئاً لا يقدرون له من الفوائد إلا بقدر ما يقربهم زلفى من الحكام ويوليهم التصدر في دست الرئاسة ولذا يرجح أن يكون مستقبل البيروتيين أكثر ثماراً جنيه في مستقبل جيرانهم اللهم إلا إذا اعتمد الدمشقيون عَلَى أنفسهم وحسبوا التوظف ثانوياً وقللوا من توقيره في نفوسهم.

هذا مثال ضربناه أما سائر مدن سورية كالقدس وحيفا ويافا وصيدا وعكا وطرابلس واللاذقية وحمص وحماة وحلب واسكندرونة وزحلة وغيرها فقد هبت للتعلم بقدر ما تساعدها أسبابها ومن كان أقرب للاختلاط بالغربيين كانت نهضته أقوى وأرقى كما المشاهد في حال حمص إذا قيست بغيرها بالنظر لموقعها وحالها وكثرة المهاجرين منها إلى مصر وأميركا فإنا نراها آخذة نحو الرقي وهي لا تتجاوز الخمسين ألف نسمة أكثر من حلب التي تربو عَلَى مائتين وشتان بين مركز قضاء من أعماله عشرات من القرى والمزارع وبين قاعدة ولاية عظمى من بعض عمالاتها إنطاكية والرها ومرعش بل ألوف من القرى والمزارع العامرة الغنية وتجارة واسعة تمتد إلى بغداد وإلى ولايات الأناضول كافة بل كانت فيما مضى دار ملك بني حمدان.

ولكن الحلبيين ابتلوا بما ابتليت به من قبل بعض الحواضر والعواصم كالآستانة التي يعول أهلها عَلَى الحكومة في ترقيتهم وكاد بعضهم يتناسون لسانهم ليتعلموا اللسان الرسمي فيتسنى لهم به أن يتوسد إليهم الوظائف التي تتلمظ بحلوائها شفاه كل وكلة تكلة يحب أن يعيش كالحلمات الطفيلية بامتصاص دم غيره.

أمام الأمة اليوم طرق ثلاث تسلكها أو أحدها للخلاص من ربقة الجهل ومصافحة أنامل الحضارة عَلَى ما يجب وبقدر ما يجب وهي إما أن تضع جميع أمانيها بالحكومة وتنتظر الفرج يأتيها عَلَى يد نظارة معارفها وهو بعيد الحصول قليل الثمرة مهما برقشه المبرقشون وزينه السائسون والحاكمون.

فنظارة المعارف العثمانية قد سنت نظام التعليم الابتدائي والثانوي والعالي بحيث يلاءم الآستانة وبعض ولايات الأناضول التي يتكلم أهلها بالتركية ولم تسنه بحيث لم ينطبق مع حاجة ابن قوصوه ويانيا ومناستر وأشقوردة مع حاجة ابن وان وأرضروم وتبليس ومعمورة العزيز أو سورية وبيروت وطرابلس الغرب واليمن. فالذين سنوا قانون المعارف كانوا متأثرين بعوامل حب قوميتهم ولسانهم فلم ينظروا إلى الأثر النافع الواجب إعطاؤه لأهل كل إقليم بحسب محيطهم ومزاجهم بل سنوه وأكثرهم لا يعرف من حال الولايات إلا النزر اليسير الذي لا يخول صاحبه حق التشريع لأنة مختلفة اللهجات والحاجات.

وبعد فإنا لا نعرف كيف نعلل إجبار ابن جبل عجلون عَلَى دراسة التركية قبل أن ينال حظاً من لغته. فإذا حملناه عَلَى تلقف لغة أجنبية قبل أن يحكم أصول لغته هل يكون فائدة منه لأمته ووطنه يا ترى؟ وهل بدراسة مختلة الأسلوب يتيسر لنا أن نترّك هذا العجلوني مادام لا غنية له عن بلاده وقد لا يخرج منها إلا لقضاء الخدمة في الجندية ثم يعود لمحراثه وسكته وثوره وجمله وحماره.

أليس الأولى له أن يتعلم من لغته القدر اللازم من كتابة وقراءة وبعض العلوم العملية الضرورية؟ وكيف يتيسر عن غريب عن لغة لا يعاينها ولا يسمع لهجتها ولا يقرأ آدابها أن يستطيع بها التعبير عن مقاصده في مثل هذه المدة القصيرة من دراستها. أما هو أنفع للدولة والأمة إذا تعلم هذا الفلاح باللغة التي هي أقرب إليه وانصرف إلى أرضه وزرعه أكثر من تعليمه لغة صعبة عليه لا تنفعه إلا إذا طمح للاستخدام في الوظائف الإدارية والعسكرية ومن يبقى عند ذلك يا ترى للتوفر عَلَى إخراج ثروة البلاد والإنفاق عَلَى هذا الجيش الكثير العدد والعدد وسائر ما يشترك العثمانيون في تسديده في ميزانيتهم من النفقات.

إن معنى الوقوف بالعجلونيين عند حد تلقين مبادئ التركية هو أن الحكومة تريد أن تجعل من جمهور الأمة حكاماً وأمراءَ وضباطاً حتى تكون مادة حياة البلاد آخذة بالدثور ويصبح الناس كلهم كمسلمي الآستانة لا يحلمون بغير الوظائف ولا يرون السعادة إلا من طريقها.

هذا مات كان من إصلاح نظارة المعارف في البلاد العربية أما مدارس الأجانب فلا تخلو أيضاً من مضار لأن معظمها يأتينا باسم النصرانية ليلقنها الموافق والمخالف وينشر آداب لغته وحب بلاده فترى التلميذ يتخرج من تلك المدارس وهي أرقى من المدارس العالية في الآستانة أيضاً ملماً بلغته ولكنه محكماً اللغة التي تلقى مبادئ العلوم وجاهلاً كل الجهل بما ينفع بلاده وقد لا يعرف من تاريخها وعمرانها واجتماعها أكثر مما يعرف عامة الطليان والأسبان عنا فلا يلبث وقد زينوا له حال الغرب أن ينقلب إليها مهاجراً فكأن هذه المدارس برزخ تنقل الدارسين فيها من وطنهم لتعدهم خدمة لأوطان أخرى وبفضل تلك المدارس هاجر من سورية زهاء ثلثمائة ألف نسمة وبعضهم من المتعلمين يطلبون الرزق في جمهوريات الشمال والجنوب من أميركا ومستعمرات أفريقية فخربت بذهابهم بلادهم وهم لم يستفيدوا بقدر ما فادوا به.

ومن ثم لم يبق لنا سوى الأمر الثالث الذي يجب علينا الاعتماد عليه الآن لنهوضنا ونعني به المدارس الأهلية والسعي في تحسين حالتها المادية والأدبية فهذا النوع من المدارس هو هو معقد آمالنا ومنه تنبعث شعلة نور الحق وتأييد كلمة الوطنية وتحيا اللغة العربية فلو أنشئت مثلاً في كل بلدة وقرية مدرسة أهلية كالمدرسة العثمانية والمدرسة العلمية في دمشق والمدرسة العثمانية ودار العلوم في بيروت مثلاً ووسد التدريس فيها إلى خيرة رجال العلم والأدب يثقفون العقول عَلَى منازع الفضيلة وحب الوطن والسعي إلى الكمال العقلي لنشأ لنا منها بعد زمن وإن كانت بدرجتها أدنى من المدارس الثانوية وأرقى من الابتدائية ناشئة تستطيع أن تعمل كل عمل وتستعد إلى التبريز فيه لأنها تكون عارفة بتاريخ بلادها وعظمة أمتها ومنزلة لغتها من لغات الشرق والغرب تنفع بما تعلمته العامة قبل الخاصة.

شاهدنا غير واحد من أهل هذه البلاد ممن درسوا في مدراس الأجانب العالية فأحكموا لغة أوربية أو درسوا في مدارس الحكومة العالية فأحكموا اللغة التركية فما رأيناهم إلا قاصرين غير نافعين لأنهم ضعفاء في التعبير عن مقاصدهم بلغتهم وشاهدنا من عانوا لغتهم وشدوا شيئاً من آدابها فاقتدروا عَلَى الكتابة والخطابة فيها مع ما أحكموه من اللغات الأجنبية والعلوم الحديثة وأصبح العلم الذي درسوه ملكاً لهمم لا ملكاً لهم يصورونه متى شاؤا في المظهر اللائق به فينتقلون من أسباب المدنية ما يطبقونه عَلَى مصلحة بلادهم لأنهم يعرفون داءها ودواءها ويشعرون بالواجب عليهم لها.

رأينا أكثر من أحكموا اللغات الأعجمية الأجنبية إحكام أبنائها لها إذا قضي عليهم أن يبقوا في أرضهم بعد سن الدراسة صماً بكماً في المجالس عمياً عن مصالح الأمة والبلاد لا يحسنون المدخل والمخرج دأبهم التأفف من أهل بلدهم لأنهم لا يفهمونهم وما ذلك إلا لأن تلك اللغة التي أحكموها وزهدوا في لغة آبائهم قد نقلتهم إلى عداد أهل تلك اللغة فكثروا سواد العرفين بها ولو تعلموا العلوم بلغتهم لنقلوها إليها فزادوها قوة بدلاً من أن تزيد بضعفهم ضعفاً.

وأحسن واسطة لإرضاء العناصر العثمانية التي لا تقل عن اثني عشر عنصراً تتكلم باثنتي عشرة لغة مختلفة أن تترك حرية التعلم لكل عنصر يتعلم لغته وبعض ما يبدو غناؤه من اللغات الأخرى والعلوم وبذلك يسهل إشراب القلوب محبة الوطنية وتحضير العامة عَلَى أسرع صورة مقبولة وربطهم برباط الوحدة العثمانية ومن أحب الاستخدام يدخل المدارس الثانوية فيحكم التركية ومن أحب الاتجار والتمحض للعلم يحكم لغة راقية من لغات أوربا مشفوعة بالعلم الذي يلزمه الإخصاءُ فيه فإن الفلاخي والبلغاري والرومي والأرناؤدي والأرمني واللازي والجركسي والتركي والكردي والبشناقي والإسرائيلي والعربي يصعب جداً تحضيرهم في قرون كما صعب عَلَى النمسا أن تربط الجرماني بالمجري بالتشيكي بالبوهيمي بالبوشناقي بالكرواسي بالبولوني إلا بعد أن أطلقت لأهلها حرية أن يتعلموا بلغتهم وبدون ذلك لا تنهض البلاد.