مجلة المقتبس/العدد 57/تولستوي

مجلة المقتبس/العدد 57/تولستوي

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 11 - 1910



فقدت الحكمة عضواً عاملاص من دعاتها وعمدة ثقة من أعز أنصارها ورعاتها وإنساناً كاملاً خدم الإنسانية بأفعاله وأقواله وأدهش اربا ابتقاليد بحسن مثاله وراع قلوب أهل السلطة بحظوته وإقباله ونعني به فيلسوف روسيا وأحد رجال الأخلاق في هذا العصر الكنت ليون نيكولايفتش تولستوي الذي هز نعيه أرجاء العالم المدني وأكبر رجال الإصلاح هول المصاب به.

ولد هذا الحكيم في اياسيانا بوليانا من أعمال ولاية تولا الروسية سنة 1828 فيتم منأمه وهو ابن سنة ونصف وفقد أباه في العشرة وهو من بيت وجاهة وغنى وكان جده سيء الإداترة يميل البى البذخ والإسراف ففقد ثروته حتى اضطر إلى التوظف فعينته روسيا والياً لقازان وجاء ابنه والد تولستوي ولم يكن على شيءٍ من العفاف حتى العشرين من سنه. ورزق ابناً من خادمة زوجه منها أهله ثم تخلى عن الوظائف وتزوج بوالدة تولستوي وكانت غنية تحسن الروسية كتابة وقراءة كما تحسن الإنكليزية والألمانية والإفرنسية والإيطالية والفنون والضرب على البيانو وكانت على جانب من حرية الفكر وسلامة الوجدان والسذاجة.

واشتغل والد تولستوي بالزراعة في الأملاك الواسعة التي ورثها عن أبيه واتصلت إليه من زوجه وكان يحب المطالعة واقتنى مكتبة فيها شيء كثير من آداب الفرنسيس وكان من عادته أن لا يقتني بكتاباً قبل أن يأتي على مطالعة ما اقتناه من قبل فنشأ ليون تولستوي على اللغة الإفرنسية وكان يفهم كتب الفيلسوفين الفرنسيين روسو وفولتير كم يفهم شعر بوشكين شاعر الروس وأخذ الإفرنسية عن أستاذ فرنساوي اسمه سان توما ولم يبلغ الخامسة عشرة حتى كان متشبعاً بآدابها.

ربي في المذهب الأرثوذكسي ولكن لم يكد يبلغ التاسعة عشرة من عمره حتى تجرد عن الاعتقاد بالكنيسة ولكنه عمد إلى التقية فلم يكن يظهر ما يضمر وكان وهو طالب يقوم بالفروض والواجبات وغادر سنة 1847 الكلية التي كان يدرس فيها ليلتحق بالفلاحين ويحسن إليهم إلا أنه لم يفلح وفي سنة 1851 سافر إلى قفقاسيا حيث عين ضابطاً في المدفعية واشتهر ببسالته في حصار سواستبول فعين قائد فرقة وكان خلال تلك المدة قد نشر باكورة كتبه موقعة بالحروف الأولى من اسمه واسم أسرته ثم أقام في بطرسبرج مدة فكتب عدة مصنفات وقصص له وساح سنة 1858 في ألمانيا وسويسرا وفرنسا وعاد إلى روسيا بعد تحرير الفلاحين فأنشضأ في بلده مدرسة نموذجية للفلاحين ومجلة في التربية والتعليم وعين قاضي صلح. وفي سنة 1862 تزوج وطابت نفسه وحسن سلوكه ولم يكن من قبل كما قال عن نفسه على حالة حسنة في آدابه وكانت كتبه التي كتبها لأول عهد زواجه أحسن ما خطته يده وأسلمها فكراً وفي سنة 1874 أخذ يتساءل عن مصير الحياة فصارت تبذر بوادر ذلك على أسلة قلمه ولسانه حتى إذا كانت سنة 1883 تعرف على فلاحين كانا أنشأ لهما مذهبين دينيين من مقتضاهما تر جيح العهد القديم على العد الجديد وأن إصلاح العالم لا يتم إلا بالعمل اليدوي والشخصي وبعد أن جاهد تولستوي نفسه تخلى في رواية عن بعض أملاكه فوزعها على الفلاحين وترك جزءاً منها لأسرته كان يعمل فيه بنفسه على نحو ما يعمل صغار الفلاحين بأيديهم ومنذ ذاك الحين لم يترك بلده وطفق يحرث الأرض كما يحرث الآداب ويبث الفضيلة وصار قصره مجمع العلماء والفضلاء وفي 24 شباط 1901 حرم المجحمع المقدسي الروسي تولتسوي لإلحاده وخروجه عن ربقة التقاليد الأرثوذكسية وتخوفت الحكومة الروسية عادية أفكاره فصارت تراقبه حتى كادت تنفيه مع ألوف من كانت تنفيهم إلى سيبيريا لولا أن لطف الله به ونفس خناق الحرية عن أمته بإنشاء مجلس الأمة.

ويعتب رتولستوي بأنه من أقجدر القصصيبن الذين نبغوا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وقد أجاد في ذكر الماضي من حياة أمته ووصف الروح الروسية والأخلاق الروسية بحسن مأتاه وجودة اختياره وتفصيله وتصويره فكان بما رزق من هذه الهبة يصور ابطاله كأنهم أحياء بل يصور الأشخاص من الدرجة الثانية والجمهور.

وهو قليل العناية بإنشاءه ولذلك لا نقرأ عليه مسحة التفنن وإذ قد نشأ تولستوي لاهوتياً تراه يحاول يقترب مما يراه بأنه النصرانية الأصلية. وتتطالبه الفلسفة الطبيعية بأنه أحد دعاتها والنمافخون في ضرامها وأن تولستوي ليبحث في كل مكان عن الطبيعة. والجوهر في قاعد حياته هي الطبيعة الصوفية وللأخلاق عنده المقام الأول وجماع القول في فلسفته أن لا يقاوم الشر بالشر. وقد ظهرت كتبه كلها باللغة الروسية في ثمانية عشر مجلداً وترجم معظمها إلى لغات أوربا الراقية وترجم بعضها إلى العربية ولاسيما قصصه.

وهذا الدور الأخير في حياته هو الذي تمنى أن يموت عليه قال في ترجمته نفسه: لما ذكرت ما أوتيت منن خير وما تم على يدي من شر رايتني أقسم أدوار حياتي الطويلة بأسرها إلى أربعة أدوار: أولها ذاك الدور العجيب خصوصاص إذا قيس بالدور الذي يليه_البار البهج الشعري واعني به دور الطفولية. ثم الدور الثاني عشرون سنة كان فيه من الغشاء الغليظ والخدمة والطمع بالمعالي وخصوصاً في المكاسب ما كان. ثم جاء الدور الثالث وهو ثماني عشرة سنة أي منذ تزوجت إلى نشور الروح وهوالدور الذي يحق أن يدعى في نظر العالم دور الأخلاق بمعنى اني عشت في هذه البثماني عشرة سنة كما تعيش الأسرة بالاحشمة والنظام غير مستسلم لمفسدة ينبذها الناس ولكن جميع مصالحي كانت مقصورة على عنايتي عناية مقرونة بحب الذات ممزوجة بالأنانية وعلى زيادة ثروتي وعلى نجاحي الأدبي وعلى مختلف حظوظ تنالها نفسي والدور الرابع يرد إلى عشرين سنة التي أنا فيها الآن وأود أن أموت عليها وبها يتمثل لي ما فغي الحياة الماضية من عظيم الخطر وهو الدور الذي لا ابغي سواه ما خلا اعتيادي الشر الذي اندمج في روحي في الأدوار الأخيرة.

هذا مجمل من طفولية تولستوي وشبابه وكهولته وشيخوخته وقد نشأ فيه القيام على الظالمين ومجاهدة المستبدين من الرؤساء الدينيين والدنيويين مما ثقفه عن حالته تاتيانا ألكسندروفنا وكانت من نساء المتهذبات وعلمته الحب والميل إلى الوحدة والتأثر من المظالم كما علمه روسو وفولتير نزع ربقة التقاليد الموروثة. ولكن تولستوي لم يتحرر كل التحرير من رق العبودية للمحيط والمنشأ وبقيت فلسفته تربح من صبابات النصرانية ومدارها لا تقابل الشر بالشر. ولو سارت أوربا على هذه الفلسفة لما قام عمرانها وانبسط سلطانها على ما نرى. فلسان حال الغرب وجزاء سيئة سيئة مثلها فحكمة تولستوي ليست كحكمة معظم أنصار الحكمة في الغرب اليوم مادية صرفة بل هي روحية ممزوجة بطرف من آداب النصرانية تتخللها عقائد اشتراكية متطرفة فهو لا يرى أن يملك الأرض أحد لأنها لله بل تترك وشانها ينتفع بها عباها ويرى أن لا يعاقب المجرمون بالسجن بل أن يصفح عنهم الصفح الجميل ولا يعتقد بألوهية المسيح بل يرى أنه إنسان ذو مذهب هو خير المذاهب للناس ومن أفكاره الاشتراكية بل الفوضوية أن أحسن الطرق في الخلاص من ظلمك الحكومات أن يمتنع الناس عن الخدمة العسكرية وعن أداء الضرائب وبذلك تضطر الحكومات إلى إصلاح أمرها.

ومن تعاليم تولستوي الأدبية أن يبتعد المرء عن مغازلة النساء ويتحد بزوجه قلباص وقالباً لأن هجرها مفسدة واي مفسدة وأن الواجب أن لا يفرق افنسان بين مواطنيه والغرباء لأن الناس ابناء أب واحد وأم واحدة ويسعى كل امرء بإزالة عدم المساواة بين البشر حتى يعيشوا بسلام. وله آراء في المعاد بعضها مما لا يقرها عليه رجال الدين.

ولقد ضاق صدر تولستوي قبيل وفاته من شؤون بيته ويقال إن ما نشأ ذلك من مقاومة أسرته له في أمر خيري كان يريد أن يختم به حياته وهو أن يجعل ريع كتبه مادام الدهر وقفاً على أمته فلم يوافقه على هذا الفكر أهل بيته ولاسيما زوجته المشهورة ببخلها فقام تولستوي ذات يوم ورافق طبيبه على نية الهرب من بيته وركب في الدرجة الثالثة من القطار ليساوي الفقراء ولكن كانت المركبة مكتظة بالركاب حتى لم يكن فيها محل يجلس فيه الشيخ الحكيم فعرض موظف السكة الحديدية عليه أن ينتقل إلى الدرجة الأولى أو الثانية فأبى ونزل في إحدى المحطات وهي إسكابوفا وبصق دماً وزادت حرارته ثم اسلم الروح في غرفة مدير المحطة ويقال أن الفيلسوف كان ينوي أن يلحق بأحد الأديار لينضم إلى من فيه يعبد الله على مناحيهم وأنه قابل ابنة له راهبة في طريقه وفاوضها بضع ساعات كما خلا ساعات برئيس دار ثان.

والأقرب إلى الذهن أن تولستوي عزفت نفسه عن الدنيا وأحب التجرد عنها وعن الملاذ وعن الأبهة في قصره وعن عيشة المحفوف بالخدم والحشم شاء أم أبى وأراد أن يفعل الخير بوقفه مداخيل كتبه على المدة فعاكسته زوجته وكان منه أن هام على وجهه لا يدر يكيف يسير فوافاه حمامه وشق نعيه على أمته البالغة مئة وخمسين مليوناً من البشر وعلى كل من اطلع على طرف من أفكاره وفلسفته العملية من منوري الأرض ولا عجب إذا عدته أمته مفخراً من مفاخرها جاد به الزمان وعده أهل الأخلاق الحكمة والإصلاح من أعظم من عملوا لأب النفس وإصلاح المجتمع الإنساني.