مجلة المقتبس/العدد 7/حسنات القرن الماضي وسيئاته

مجلة المقتبس/العدد 7/حسنات القرن الماضي وسيئاته

مجلة المقتبس - العدد 7
حسنات القرن الماضي وسيئاته
ملاحظات: بتاريخ: 20 - 8 - 1906



لقد تناول الانقلاب الذي طرأ على الأخلاق العامة أسلوب الطعام أيضاً فإن سرعة المواصلات وسهولتها وميل الحواس الظاهرة وارتقاءها قد أبدل ضرورة الطعام بضرورة الحس الظاهر بمعنى أن الإنسان رجاء إرضاء شهواته الذوقية قد تعدى حدود القناعة بأن آثار الشهوات الصناعية بالتوابل الخاصة والمنبهات الداعية إلى النهم حباً بالإكثار من ضروب الأطعمة والملاذ فقد انتشر فن الطبخ وإجادة الألوان في الأقطار على اختلافها من حيث الحرارة والبرودة وما اختلفت كمياته وكيفياته. كل ذلك لتحقيق شهوات النفوس وأذواق السكان في أنواع الطعام دون النظر إلى ما يحول دون ذلك من عدم الملاءمات الشخصية والمكانية مع هذه الطريقة في التغذية المختلفة الألوان والأشكال. وما أصدق ما قاله أحدهم من أن ما نتناوله اليوم من الأطعمة ينقسم إلى ثلاث درجات أحدها لضرورة الغذاء وثانيها لضرورة الذوق وثالثها توقعاً للأمراض التي تصيبنا في المستقبل. وقال شيشرون الخطيب الروماني: لقد أحدث الشره من المصائب أكثر مما أحدث الحرب فإنه مصدر كثير من الأوصاب والأدواء. فأرباب الشره مستسلمون لعاداتهم في طعامهم وشرابهم بحكم الذوق لا بحكم الضرورة ولذلك تراهم عرضة لكثير من الأمراض ومنهم من يغتر بما يكرعه من المياه المعدنية في فرنسا والنمسا (في فيشي وكارلسباد) وسائر البلاد التي تنبجس فيها أمثال تلك المياه فترى في كل سنة يزور كلاً من تينك البلادين زهاء خمسين ألف زائر ويغرهم تسهيلها الهضم معهم حتى إذا رجعوا إلى أهلهم قريرة أعينهم بما شاهدوه من التحسين في صحتهم يعودون إلى سالف عاداتهم من النهم والبطنة والبطنة كما قيل تأفن الفطنة فيندمون على ما فرطوا في جنب معدهم ولكن بعد أن يسبق السيف العذل.

وإن السواد الأعظم من العاملين الذين يتألف منهم جيش المجاهدين في الحياة ليقضون النهار في أماكن محصورة بعضهم في مصنع وآخر في غرفة عمله وفريق في مكتب وغيره في مخزن وكلهم يعملون بلا انقطاع بأيديهم أو بعقولهم فيصرفون جميعاً جزءاً عظيماً من قواهم الطبيعية والعقلية ولا يتناولون أطعمتهم في أوقاتها ولا يرتاحون بعد غذائهم راحة كافية لتعمل الأعضاء الهاضمة عملها ولا يألفون من أنواع المسليات غير أماكن القهوة ودور التمثيل فيستنشقون هواءً ملوثاً بأكسيد الكربون وحامض الكربون وغ من الهواء المنبعث من تضايق مئات من الأنفاس المجتمعة في أماكن مغلقة يعوزها الترويح والهواء النقي المستنشق مما يؤدي بمن يختلفون إلى تلك المحال إلى اختلال أحوال الهضم والبنية والقوة وتكون أبدانهم مرتعاً خصيباً لجراثيم الأمراض وفي مقدمتها السل.

وما جاء به هذا القرن من الأعمال العلمية والعقلية والطبيعية قد أثر في محيط الناس كل التأثير وخصوصاً في الغذاء والمجموع العصبي. وما أحلى ما قاله أرسطو من أن الإنسان يريد إمتاع حواسه ويبحث عن أسبابه إذ من الملذ للباصرة أن تنظر وللسامعة أن تسمع وللجلد أن يمس وللسان أن يذوق وللشامة أن تستنشق.

وجملة الأمر أن نشوء المجتمع الإنساني في القرن التاسع عشر قد جرى بقوة الجهاد المتواصل الذي أودى بحياة مئات الألوف من الضحايا البشرية وقد نبه في المجاهدين وفي أخلافهم حب الارتقاء والتهذيب العقلي بحيث دخل الفكر الإنساني في دائرة من الحركة المعجلة تسير أبداً إلى غاية لا حد لها وأهلها أبداً في قلق حرصاً على كشف أسرار الطبيعة والانتفاع بقواها المكنونة والوقوف على القوانين القائمة بها. ولئن عني الإنسان بقمع جماح الطبيعة وفتح الترع وحفر القنوات وابتناء الطرق الحديدية في القفار والسهول الواسعة المتجمدة حباً بربط القارات بعضها ببعض فإنه لم يعمل كل هذا رغبة في توسيع ميدان جهاده وزيادة في مصادر الثروة العامة والخاصة بإيجاد مصارف لمصنوعاته بل هناك شيءٌ من سائق الفطرة دعاه أن ينقل بذور التمدن إلى البلاد الشاسعة في آسيا وإفريقية لأنها ظلت مباينة لأفكار الارتقاء والشعور الإنساني وهما من خير ما أنتجه القرن من صالح الأعمال ولكن هذا الجهاد العظيم الذي اضطرت الإنسانية أن تتحمله مدة قرن كامل قد أحدث أمراضاً مختلفة كما أنه زاد الشقاء الاجتماعي واشتدت حرب الحياة بما لم يعهد له نظير. نعم وقف ولاة الأمر على فساد النظام الاجتماعي الحاضر وأيقنوا بالحاجة الماسة إلى مداواته بيد أنهم تضاءلوا عن الإقدام عليه بداعي قلة ما لديهم من الأسباب في تخفيف نتائج حركة الارتقاء وضعف الأساس الذي يقوم عليه بناء المجتمع الحديث. على أن الفطرة هدتهم إلى الأخذ من معارف حملة العلم في فروع المعارف الاجتماعية المختلفة والاهتداء بهديهم وخصوصاً فيما من شأنه أن يكون فيه النظافة العامة وإصلاح حال الطبقة النازلة من العملة وكانت البلجيك أول الدولات التي دعت الدول إلى مؤتمر صحي دولي سنة1851 و1852 ثم حذت فرنسا حذوها ومذ ذاك أصبحت المؤتمرات الصحية الدولية تجتمع كل سنتين في عواصم أوربا. وتنقسم هذه المؤتمرات بحسب معارف من تتألف منهم فيعنى بعضها بالمباحث المتعلقة بالأمم وبإحصاء حركة الشعوب العامة في كل قطر وبأسباب موت الأولاد في سن الطفولية وبحفر القنوات في المدن وإروائها بماء طاهر عذب. ويعنى البعض الآخر بالأمراض السارية وطرق الوقاية منها. ويدرس بعضها الإنسان من حيث صنعته أو حفظ صحته في صناعته من تغيير هواء المعامل والمصانع حيث يقيم العامل ويمس بيده مواد مضرة أو تركيبات كيماوية تفعل فعل السموم أو مواد نباتية أو معدنية تخرج منها غبرة تسبب أمراضاً رئوية. ويعنى بعضهم ببناء بيوت للعملة ومساكن رخيصة. ويبسط بعضهم جناح حمايته على الأطفال في المد الكبرى ويقوم على حفظ الصحة في المدارس. ويهتم بعضهم بوقاية الناس من السل والأمراض الزهرية. ويبحث بعضهم في الطرق التي تحول دون انتشار تعاطي الكحول. وبالجملة فكلهم يد واحدة يسيرون نحو غاية واحدة ألا وهي درس كثير من المشكلات الصحية وتدبير الصحة العامة ليوفروا لكل مملكة سكانها ويكثروا سوادها ولينقبوا عن أسباب من شأنها أن تؤدي بالجنس البشري إلى الكمال بإصلاح ملكات الطبقة النازلة وتحسين غذائهم وتطهير الأرض والهواء والماء استبقاءً لصحة سكان المدن العظمى وتقوية للمقاومات الحيوية في الأفراد ومقاومة لغارة جراثيم الأمراض السارية.

وبالنظر لارتفاع كلمة الاشتراكية في أوربا اضطرت حكوماتها والطبقة العالية من علماء الاقتصاد فيها إلى القيام بأعمال تضمن سلامة العملة ومستقبلهم وبعنايتهم تألفت عدة جمعيات تتوخى بذل الإحسان للبائس والفقير وجمعيات متعاضدة على حب الخير. ووافقت دور الندوة والأندية السياسية في ممالك كثيرة على قوانين تقي الشيوخ والزمنى مصارع السوء وموارد الهلكة وتقوم بأودهم في أوقات مرضهم ومصائبهم. ومتى عرف الناس كافة قيمة الهواء النقي والماء الجيد السائغ وما يفعلانه في الصحة والخطر الذي تتعرض له الحياة البشرية من فساد الأرض بالمواد الأولية العفنة متى عرف الناس هذا يقدرون الانطباع على الاعتدال حق قدره في إطالة الأعمار. ولا مندوحة للبشر إذا توفروا على أسباب النظافة والاعتدال أن يعنوا بتطهير الأخلاق العامة والخاصة من الشوائب وترقية الشعور الأدبي في الأفراد ومن مجموع هذه الصفات تتحقق نيات زعماء التمدن الحديث والداعين إلى البلوغ به أوج الكمال. وإذا لقيت رائد الطرف على ما تم في الأعوام الأخيرة أدركت أن ما انبعث في النفوس من المضاء يقوي الملك في أن يتمم القرن العشرون ما فات شقيقه الأكبر.

وإن ما ساعد الإنسان على بلوغ درجة من الترقي فاق بها أسلافه في القرون الماضية هو التعاضد والتكافؤ فهو العمل الذي كلل هامة التمدن في هذا القرن. ورمز هذا النظام: أن من الاتحاد قوة وغاية هذا التكافؤ تقوية صلات الأسرات بالمعارف الاجتماعية ومساعدة المرء العاجز عن العمل من مرض وحادث أو عطلة أو شيخوخة أو هرم فتألفت جمعيات حديثة غايتها أن تعطي رواتب ضماناً للحياة أو في حال الوفاة وقامت بعضها بأعمال خيرية وتهذيبية صناعية وبذل بعضها مجهود لنشر المعارف العلمية في مدارس عملية وتأسيس خزائن كتب وحدائق العملة وبعضها أخذت على نفسها القيام بالأعمال الصحية وتطهير المساكن وتحسين الشروط الحيوية في العملة وتعاهد بعضهم على مقاومة السل وذلك أولاً بالبحث عن أسباب الشقاء الاجتماعي ثم بإحداث ملاجئ ومصاح. وتألفت بعض جمعيات للقيام بحماية الأمومة والطفولة. ناهيك بأن مبدأ التكافل الاجتماعي قد أشربت النفوس حبه في البلاد الإفرنجية حتى أن فرنسا بعد أن كان فيها عام 1891، 9144 جمعية وأعضاؤها 1. 472. 285 ورأس مالها 183. 587. 450 فرنكاً قد صارت سنة 1904 18500 جمعية وأعضاؤها 3. 700. 000 ورأس مالها 380 مليوناً ودخلها 54 مليوناً. وكفى بأنه تألف في شهر أبريل فقط سنة 1904 في فرنسا 117 جمعية جديدة.

هذا ولا ريب أنه ستعظم صلات التكافؤ بين صالح الأفراد ومصالح الأسرة البشرية العظمى بكثرة تلك الجمعيات الراقية وتأصل ملكة التكافل الإنساني فتزيد تلك الصلات في كل يوم عن امسه توطيداً. وكيفما دارت الحال فإن هذا يعد من الارتقاء العظيم في السلم الاجتماعي على حين كان معدوداً من قبل من الخيالات الباطلة ولابد أن يأتي يوم يعد فيه من الضرورات للسلامة العامة. فإن افتخر القرن التاسع عشر بأن بسط المشاكل الاجتماعية ومثلها على بساط الوجود فمن الفروض المحتمة على القرن العشرين أن يأتي على حلها إلى عالم الشهود.