مجلة المقتبس/العدد 71/مخطوطات ومطبوعات
مجلة المقتبس/العدد 71/مخطوطات ومطبوعات
المسالك والممالك
نشر علماء المشرقيات مئات من كتب العرب وقلما نشروا شيئاًَ إلا وفيه فوائد جمة يتمم نقصاً في العلم ويسد ثملة في الآداب والفنون. وممن غنوا بنشر كتب الجغرافية التي ألفها علماء العرب الأستاذ دي غوي الهولاندي نشر في ليدن ثماني مجلدات لعلماء منوعين في صور بلاد الإسلام وسماها الكتبة الجغرافية العربية كما نشر مستشرقو الإسبان بضعة عشر مجلداً في تاريخ الإندلس وسموها المكتبة الاندلسية ومن جملة تلك المجلدات الثمانية كتاب المسالك والممالك لأبي القاسم محمد بن حوقل البغدادي من أهل القرن الرابع وقد اعتمد فيه على كتاب أبي القاسم محمد بن خرداذبة وقدامة بن جعفر الكاتب وأبي عثمان بن بحر الجاحظ وأفاض فيه بذكر المفاوز والمهالك والأقاليم والبلدان وطبائع أهلها وخواص البلدان في نفسها وذكر جباياتها وارجاتها ومستغلاتها وذكر الأنهار الكبار واتصالها بشطوط البحار وما على سواحل البحار من المدن والأمصار ومسافة ما بين البلدان للسفارة والتجارة مع ما ينضاف إلى ذلك من الحكايات والأخبار والنوادر والآثار.
هذا أقل من يقال في كتاب المسالك والممالك وأهم ما فيه أن مؤلفه رحمه الله كان في الجغرافيين كما كان المسعودي في المؤرخين ممن رحلوا من بلدهم وضروبوا في طول الأرض وعرضها ولذلك تكلم فيما تكلم عنه من البلاد عنم ذوق ونر واختيار فخرج من بلده وطاف كثراً من أقطار العراق والجزيرة وأرمينية وخرسان والجبال وفارس وما وراء النهر والسند والشام ومصر وبرقة وإفريقية والمغرب الأقصى وصقلية والأندلس وغيرها من بلاد الإسلام ولم يتعرض للكلام على سائر الأقطار إلا بحسب ما بلغه من الثقات عنها ولذلك جاء كتابه من أصح ما كتب في عصره لأنه ميز ين الحق والباطل والحالي والعاطل.
وللمؤلف طريقة في التأليف والتحرز من الوقوع فيما يقع فيه أغلب مؤلفي القرون الوسطى ما لا يكاد يداينه فيه كثيرين وكانت رحلته في التجارة على نحو ما كان شأ، ياقوت الحموي صاحب معجم البلدان من أ: بر المساعدات له على إحراز هذه المملكة وإليك نموذجاً من احترازه خوف السقوط عند صيارفة النقد من بعد أن قال في كلام على اليمن: ويحكى عن بعض الغيلان بها ما لا استجيز حكايته لأن المنكر لما لا يعلم أعذر من المقر بما يجهل وهكذا تجدده إذا شك في الأخبار يقدم بين يدي نجواها قوله ويزعمون أو يقال أو يروى ليكون المطالع على بصيرة مما يقرأه.
وكتاب المسالك والممالك على صغر حجمه (406 ص من قطع الوسط) فيه عدا وصف البلدان ذكر خراجها وثروتها كما مر آنفاً فهو ليس كتاباً في جغرافية المماليك بل في جغرافيتها الاقتصادية والسياسية والطبيعية يدهش المطالع لتقريرها ويتراءى له أن المؤلف من أهل القرن التاسع عشر أو العشرين في أوروبا وأكثر ما ذكره من هذا القبيل مما حققه بنفسه من مصادر لأن رحلته وعمله وبعد نظره مكنته من الاجتماع بالطبقة العالية من الحكام في عصره فوقف على ارتفاع الملك وما تخرجه البلاد من الخيرات قال: وفي ذكر البلد ما يدل على ما كان عليه من العتاد ووصف ارتفاعه ما يعرب عن حاله ومكانه ويغني عن ذكر شرفه وشأنه وكذلك كل بلد ذكرته وأذكره فالعبرة بارتفاعه وجباياته هي التي تدل على قوته أهله إذ قوام الدنيا بالمال وهذه عبرة لجميع العقلاء ومرآة لسائر الفهماء وإن خرج بالخصوص عن بحر العموم في هذه القصية لم نحكم بهم وبم نلتفت إليهم.
وإذ كان المؤلف ممن يشتغلون بالمال وتنميته مع العلم والتأليف تراه يستدل أحياناً على ثروة قوم ينزل بينهم بالسفاتج والأوراق المالية التي لهم فمما ذكر من هذا القببيل أنه رأى في أيدي بعض التجار وسمى أسماءهم في صقلية والمغرب وغيرهما سفاتج كل سفتجة بأربعين ألف دينار وأكثر لصاحبها دين على آخر فإذا كان تاجر واحد له على آخر مثل القدر فكم تكون ثروته. وإليك هذه القصة التي رواها أهل سيراف ومنها تعلم عظم نفسه وصورة من سور أخلاقه قال: ولقد رأيت بالبصرى منهم (أهل سيراف) أبا بكر أحمد بن عمر السيرافي في سنة 305 وقد قدمت عليه بكتاب ممن يعز عليه في مهم له فأخذ الكتاب من حيث لم ينظر إلى فقرأ ثم وضعه من يده ولم يعرني لحظاً وسأله في الكتاب مخاطبتي على معاينة واستعلام ما عرض فيه من مخاطبته وما بينهما مما يحب وقوفه عليه من جهتي كالمستشهد بعلمي بعد تعريفه في الكتاب صورتي ومحلي منه ثم أقبل على بعض خدمه وذكر مراكبه وحاله فوثبت غيظاً وأنا لا أبصر ما بين يدي من شدة ما نالني وداخلي بإعراضه فكأنه لحظ مكاني فقال: ما فعل الرجل فقيل: ومن هو فقال: صاحب فلان فقيل له: وبصاحب فلان ما فعلت هذا الانقباض لقد خرج وهو لا يبصر ما بين يديه حنقاً فقال: على به فلحقني كتابه وقد بث جماعة في طلبي في الطريق التي قصدت له فقال إن الشيخ تألم من خروجك بغير إذنه وعرفناه ما ظهر لنا منك فأنفذها لردك فقلت: والله لقد رأيت ملوك الدنيا وأكثرهم ممن تحت أيديهم الآلاف من الناس على اختلاف أطوارهم وتباين أحوالهم وهم قطب الصلف فما رأيت رجلاً أكثر زهواً وبأواَ وأقبح صلفاً منه فقال: وحق له ذلك هذا رجل أعتل في سنة 48 على خفيف عليه منها فأوصى فبلغ ثلث ماله مع شيء واستزاده على الثلث لأنه لا وارث له بألف ألف دينار مركب قائم بنفسه وآلته ووكيل معلوم ما عنده وتحت يده بالحسابات الظاهرة والمقبوض المعروفة المعلومة من جهاتها وأوقاتها إلى بربها ومتاع من جوهر وعطر في خانباراته ومخازنه وقل مركب خطف له إلى ناحية من نواحي الهند أو الزنج أو الصين فكان له فيه شريك أو كري إلا على حسب التفضل على المحمول بغير أجره فافحمني قوله وعدت إليه فاعتذر مما كان وهذا وإن زاد على الثلث فلعله أوصى بنصف ماله فما سمعت أن أحداً من التجار ملك هذا المقدار ولا تصرف فيه ولا من وديعة سلطان لأنها حكاية إذا اعتبرت كالخرافات يستوحش من حكاها منها.
وكثيراً ما يتعرض المؤلف لخصائص سكان البلاد وعاداتهم ومن ذلك ما ذكر في فارس من أن الأكراد في عهده كانوا يحكمون ويجبون خراجها وأنهم تغلبوا على الجزيرة وأرمينية مما دل على أنهم هناك الآن منذ عهد ليس بطويل وأن معظمهم كانوا في بلاد فارس وما ندري ما طرأ من الأحوال حتى انتشروا في هذا القسم من البلاد العثمانية اليوم فقد قال المؤلف: وأما أحياء الأكراد بفارس فلاكورمانية ومدثر وحي محمد بن بشير والبقيلية والبندامهرية وحي محمد بن إسحاق والصباحية والإسحاقية والأدركانية والهركية والطماهنية والزبادية والشهروية والبندادقية والخسروية والزنجية والصفرية والشهارية والمهركية والإستامهرية والشاهونية والفراتية والسلمونية والصيرية والأزاددخثية والبرازدختية والمطلبية والممالية والشاهكانية والجليلة فهؤلاء المشهورون ولا يتهيأ تقصيهم إلا من ديوان الصدقات ويزيدون على خمسمائة ألف بيت ويخرج من الحي الواحد ألف فارس وأقل من ذلك وأكثرهم ينتجعون في الشتاء والصيف المراعي إلا القليل منهم على حدود الصرود وأما أهل الجروم فلا يزالون ولا ينقلبون بل يترددون فيها لهم من النواحي ولهم من العدة والبأس والقوة بالرجال والدواب والكراع ما يستصعب على السلطان أمرهم إذا أراد أن يخيفهم. ويزعم ابن دريد أنهم
من العرب وأنهم من لد كرد بن عمرو بن عامر في حماسته وأبو بكر محمد ابن الحسن بن دريد ممن يستنبط علوم العرب وأخبارها محتج به ومسلم له ما يدعيه وهم أصحاب أغنام ورماك والإبل فيهم قليلة وليس للأكراد خيل عتاق إلا عند المازنجان المقيمين بحديد أصفهان وأما دوابهم فبراذين ومهاري وهم على حسن حال ويسار ومذاهبهم في القني والنجعة مذاهب العرب ويقال أنهم يزيديون على مائة حي وذكرت نيفاً وثلاثين حياً.
وقال في فارس أيضاً: فأما زيهم ولباسهم وأحواله فالغالب على خلقهم النحافة وحفة الشعر وسمرة اللون وأهل الصرود أعبل أجساماً وأكثر شعوراً وأشد بياضاً ولهم ثلاثة ألسنة الفارسية التي يتكلمون بها. وجميع أهل فارس يفقهونها ويكلم بعضهم بعضاً بها إلا ألفاظاً تختلف لا تستعجم على عامتهم ولسانهم الذي به كتب العجم وأيامهم ومكاتبات المجوس فيما بينهم هو الفلهوية التي تحتاج إلى تفسير حتى الفارسي ولسان العربية الذي به مكاتبات والدواوين وعامة الناس وأما زيهم فكان السلطان زيه الأقبية وقد تلبس سلاطينهم الدراريع وإن كانوا فرساً ومن لبس الدراريع منهم أوسع فروجها وعرض جرباناتها وجيوب الكتاب والعمائم تحتها القلانس المرتفعة ويحملون السيوف بحمائل وفي أوساطهم المناطق وخفافهم عن خفاف أهل خرسان وقد تغير زي سلطانهم في وقتنا هذا لأن الغالب على أصحابه لبس الديلم وقضائهم يلبسون الدنيات وما أشبها من القلانس المشمرة عن الإذنين مع الطيالسة والقمص والجباب ولا يلبسون دراعة ولا خفاً بكسرة ولا قلنسوة حتى تغطي الإذنين وكتابهم يلبسون ملابس كتاب العراق ولا يستعملون القباء ولا الطيلسان وتناؤهم بين لبس كتاب والتجار من الطيالسة والأردية والأكسية التونسي والخز والعمائم والخف التي لا كير فيها والقمص والجباب والمبطنات ويتفاضلون في جودة الملابس والزي واحد كزي أهل العراق والغالب على أخلاق ملوكهم وخدمهم والبناء منهم والمخالطين للسلطان من عمال الدواوين والداخلين عليهم واستعمال المروة في أحولهم وإقامة الوظائف والطابخ وتحسين الموائد بالمطاعم وكثرة الطعام وإحضار الحلوى والفواكه قبل الموائد والنزاهة عما يقبح به الحديث من الأخلاق الدنية وترك المجاهرة بالفواحش والمبالغة في تحسين دورهم ولباسهم وموائدهم والمنافسة فيما بينهم في ذلك والآداب الظاهرة فيهم والعلم الشائع في جميعهم وأما تجارتهم بالغالب عليهم محلة الجمع للمال والحرس فوق من سواهم من أهل الأمطار.
وقال في كلامه على البلاد الشامية ما نصه: وطرابلس وهي كثيرة الخير والغلات والفواكه الجيدة بينه الخصب والرخص وهي قريبة من مدينة بيروت التي على ساحل بحر الروم وهي فرضتها وساحلها وبها يرابط أهل دمشق وسائر جندها وإليها ينفرون عند استنفارهم وليسوا كأهل دمشق في جفاء الأخلاق وغلطة الطباع وفيهم من إذا دعي إلى الخير أجاب وإذا أيقظه الداعي أناب، ولنفس دمشق خاصية بطابعها الجاري وضيائه وقل وصلقية وقال لا تصلح لسلاطينها ولا يستقيم سلاطينها بها وأكثر هذه المدن ولكن كيف كان الحال لم يخل كتابه من ذكر طبائع أهل البلاد أوردناه للدلالة على ذلك.
وقد أجاد المؤلف من وراء الغاية في وصف المسافات بين البلاد بحيث جاء كتابه في عصره بل وإلى اليوم أشبه بدليل سائح لما عرف من بلاد الشام وإن أورث ذلك بعض الفصول طولاً أحياناً ولكن المؤلفات لا تكون كلها سلسلة واحدة في الجودة والفائدة والتسلية. كما أجاد في وصف معادن وهوائه وذكر نبذة من تاريخ عمرانه بحيث جاز كتابه لا في الجغرافيا فقط بل في المنيرولجيا (علم الأحداث الجدية) والكرونولوجيا (التاريخ والسير) والمنيرولوجيا (علم المعادن) والإينتوغارفيا (علم خصائص الشعوب) والأركيولوجيا (علم الآثار) والنوميسماتيك (علم النقود) وهكذا حوى من كل فن خبراً ولكن مع الثبيت والتنفيح على الأغلب ومما ذكره في تاريخ بني حمدان أمراء الجزيرة وهم الذين خلد مجدهم أبو الطيب المتنبي بشعره لما أغدقه عليه مقدمهم سبف الدولة المشهور من المكارم فقال فيهم ما لم نذكر أننا أطلعنا عليه في شيء من كتب التاريخ ما نصه: ولم تزل (نصيبين) على ما ذكرته من أول الإسلام تضمن بمائة ألف دينار إلى سنة 360 فأكب عليها بنو حمدان أن بصنوف الجور وتجديد الكلف إلى أن حمل ذلك بني حبيب وهم بنو عم بني حمدان إلى أن خرجوا بذراريهم ومواشيهم وثقلهم في اثني عشر ألف فارس على فرس عتيق وسلاح شاك من درع وجوش مذهب ومغفر مدبج وسيف فارد ورمح خطي وآلة وعدة على بلد الروم مطلة فقمع بها شكوكهم وسيبوم بها ذراريهم ويخربون حصونهم ويخوضون ديارهم تقدمهم كهذه العدة من جنائب عتاق وبغال فره عليها الخدم والوالي فتنصروا بأجمعهم وأوثقوا ملك الروم من أنفسهم بعد أن أحسن لهم النظر في أنزالهم على كرائم الضياع ونفائس الحباء والمتاع وتخبيرهم في القروي والمواشي ورفدهم بلا نواحي والمواشي العوامل وعادوا إلى بلد الإسلام على بصيرة بحضارة وعلم بأسباب فاده وخبرة بطرقه ومعرفة بدقة وجله وقلوبهم تضطرم حقداً وضياعه فأطمعوهم فسما نالوه وعرفوه ما رجعوا إليه وجاؤوا فيه من قصد بلاد الإسلام واجتياحه واصطدم بقاعه ونواحيه وإن الملك أيدهم وقواهم وأنعم عليهم وآواهم فلحق به كثير من المخلفين عنهم وانتمى إليهم من لم بك منهم فشنوا الغارات على بلد الإسلام وافتتحوا حصن منصور وحصن زياد وصاروا إلى كفر توثا ودار فأتوا عليها بلا سبي والقتل وألحقوا أسوارها بالأرض وصارت لهم تلك عادة وديدناً يخرجون كل سنة عند آوان الحصاد إلى جزيرة ابن عمر فأهلكوا ظاهرها وسحقوا رأس عين وأعمالها وساروا إلى الرقة وبالس وعادوا إلى ميافارقين وأرزن فأخربوا قراها وضياعها وأحرقوا أشجارها وزروعها إلى أن جعلوها كالخاوية على عروشها وتزايدت ثقة الملك بهم والروم إلى أن جعلوا الأرزاق والأعطية وصاروا خاصة الملك وفتحوا له المضايق وتقدموا في المسالك وأطمعوه على مر الأيام وتعاقبت الأعوام وهلاك السلطان والإسلام في إنطاكية والمصيصة وحلب وطرسوس فدار لهم عليها ما كان القضاء قد سبق به والمقدار قد نفذ فيه وكان عمد المعروف بناصر الدولة الحسن بن عبد الله ين حمدان إلى نصيبين فاكتسح أشجاها وبذل ثمارها وغور أنهارها واستصفاها عمن دخل إلى بلد الروم واشترى من بعض قوم واغتصبت آخرين فملكها إلا قليل وجعل مكان الفواكه الغلات والحبوب كالقطن والسمسم والأرز فصار ارتفاعها أكثر مما كانت عليه وزادت ربوعها فسلمها إلى من بقي من أهلها ولم يمكنهم النهوض عنها وآثروا فطرة الإسلام ومحبة المنشأ حيث قضوا أيام الشباب على مقاسمة النصف من غلاتها على أي نوع كانت وعلى أن يقدر الدخل ويقومه عيناً إن شاء أو ورقاً ويعطي الجواب لمن وجب له حق القاسمة فيكون دون الخمس فلم يزالوا على ذلك معه إلى ألحقه الله لسلفه فما بك عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين وأهلها مع ولده في وقتنا هذا على أقبح ما كانوا عليه مع والده من تقدير يستغرق أكثر الغلة وتقويم ما يبقى من سهم الزارع بثمن يرونه ويحمل إلى مخازنهم وأرائهم إصابته فيقبض منه ما يحتاج لبذره ويرضخ له ما يقدر متمسكاً لرمقه وعيشه بالجهد.
إرشاد الخلق
إلى العمل بخبر البرق
تأليف الشيخ جمال الدين القاسمي طبع بمطبعة المقتبس سنة 1329 ص104 كما تأملنا في حل المسلمين وما بلغه بعض مشايخ الجمود من الضعف العلمي والعقلي نحكم بأننا اليوم كأهل أوربا في القرن الثاني عشر والثالث عشر للميلاد نكابر في البديهيات ونحارب المصلحين ونود أن ندخل كل شيء في الدين ومن ذلك إن قوماً جعلوا العمل الاعتراض على كل شيء يقولون في مثل هذا العصر بتحريم التمثيل وينكرون العمل بالأنباء البرقية في إثبات الآهلة ولذلك ترى دعاة الإصلاح الديني أمثال مؤلفنا صاحب هذا الكتاب تضيق صدورهم من هذه المماحكات في المحسوسات فيتوفرون على رد شبههم وافتراءاتهم بالنقول على الدين الذي صوروه بما أوحت إليهم عقولهم القاصرة.
وقد أتى المؤلف بالنقول الصحيحة جاعلاً العقل رائده في حجاج المكابرين وذكر فتاوى بعض علماء العصر في جواز العمل بالتلغراف بما دل على نظره وتحريه في بحثه وكأنه أدرك أن بعض المماحكين يرمونه بالاجتهاد وهو بزعهم مسدود باب منذ قرون فقال مبيناً غرضه في جملة. قد يطن من لا خلاق له وبعض الطن أثن أن مراد دعاة الإصلاح العلمي الآن بالاجتهاد هو القيام بمذهب خاص والدعوة له على انفراد والذوذ عن أقوال الأئمة والغض من كرامة من سلف (نعوذ بالله من الجهل وسوء الفهم) فإن من يفهم هذا لا ضل من الأنعام. وأي عاقل يدعو لتكثير الشيع والفر وزيادة الانقسام وإنما المراد إجهاض همم رواد العلم لتعرف المسائل بأدلتها والبحث عن مدركها ومآخذها والتنقيب عن كتب السلف والأئمة في الأصول والفروع وتعرف طرق التخريج والاستنباط وحجج الموافق والمخالف ثم توخي الأقوى فالأقوى دليلاً وتحري الأقوم فالأقوم قيلاً كما كان عليه السالف الصالح وثلة من الخلف الناجح والمتأخرين عيال على المتقدمين في جل علومهم وما ذخروه من كنوزهم وإنما التفاوت في إدراك القوي سلطانه الأصح برهانه وفي الوقوف على مقاصد الشريعة وأسرار التشريع ودرك اللباب من الحشو وتمييز الأصيل من الدخيل على أن التخالف في الأمور المجتهد فيها الغير المنصوص عليها سنة جرى عليها السلف ومنهج سلكه هذا العصر كبار الخلف فنثني الثناء الأطيب على الأستاذ المؤلف فهو يعلم قومه يعلم قومه بعلمه وعمله ودروسه وتصانيفه ومقالاته ولا يفتر عن الاجتهاد في خطته وأمثال من يذكرون أسس الخرافات والأوهام ويرفعون من شأن العلم والعقل بين أهل الإسلام.
كتاب القضاة
الذين ولوا قضاء مصر
تأليف أبي محمد ين يوسف ين يعقوب الكندي وذيله لأبي الحسن أحمد ين عبد الرحمن ابن برد نشره الأستاذ ريشارد غوتهل من جامعة كولمبيا في نيويورك وطبعه بول كوتنر في باريز في مدينة رومية العظمى سنة 1908م ص167
كان البحث في أحوال الشرق من خصائص علماء المشرقيات من الأوربيين وها قد أصبحنا نرى من الأميركيين ميلاً إلى الإطلاع على أحوال الشرق والنظر في علومه وآدابه وهذا الكتاب شاهد بذلك فقد طبع طبعة جيدة بحروفها وورقها وكنا نود أن يوفق ناشره إلى تعريته من أغلاط الرسم والتحريف وأكثره من الأصل بالطبع قضت الأمانة على المؤلف أن يبقي ما رآه على حاله ولكن غلط الناسخ لا يبرر الناشر والطابع كما أن الكاتب لا يرحم القارئ وعلى كل فقد ظهر هذا الكتاب على الأسلوب المتعارف في طبع الغربيين لكتبا محلى بتعليقات بالإنكليزية والفارسية والرواة وأسماء الواضع والقبائل والأمم الواردة في متن الكتاب.
وأسلوب المؤلف على سبيل الرواية كالمحدثين حسن الأداء يستفيد المطالع منه أموراً كثيرة ولا سيما في الأقضية الغربية التي صدرت عن حكام مصر وغير ذلك من الحالة الاجتماعية في القرون الأربعة الأولى في مصر وقد قسم المؤلف كتابه إلى سبعة أجزاء دخل كل واحد منها في بضع ورقات والذيل فيه في جزء واحد والأصل المنقول كان في دمشق نقل في الخامس من صفر سنة أربع وعشرين وستمائة للهجرة وعجيب حال الكتب في تنقلها: كتاب عربي يؤلف في مصر فينقل من دمشق ويعثر عليه أميركاني فيلتزم طبعه فرنساوي وتطبعه مطبعة طليانية.
وإليك أنموذجات تستدل بها على أسلوب المؤلف قال: حدثنا محمد بن يوسف قال حدثني انب أبي معاوية حدثني خلف عن أبيه عن جده أن أبا عون عبد الملك بن يزيد عزل عبد الرحمن بن سالم عن القضاء وولاه الديوان. وحدثنا محمد ين موسى الخضرمي قال حدثنا ياسين عن يحيى بن بكير قال أهل أبي سالم الجيشاني يقولون أنهم من معافر وفيما وجدت في ديوان بني أمية براءة زمن مروان ين محمد فيها بسم الله الرحمن الرحيم من عيسى بن أبي عطاء إلى خزان بيت المال فأعطوا عبد الرحمن بن سالم القاضي رزقه لشهر ربيع الأول وربيع الآخر سنة إحدى وثلثين ومائة عشرين ديناراً واكتبوا بذلك البراءة وكتب يوم الأربعاء لليلة خلت من ربيع الأول سنة إحدى وثلثين ومائة وقال في مكان آخر: حدثنا محمد بن يوسف قال حدثنا أحمد بن داوود ابن صالح قال حدثني محمد بن أبي المغيرة عن ابن وزير عن أبي زين كيدان عبد الأعلى ابن سعيد الجيشاني تزوج امرأة من بني عبد كلال فقام بعض أوليائها في ذلك وأنكروه وترافعوا إلى أبي خزيمة فقال ما أحل ما حرم الله ولا أحرم ما أحل الله إذا زوجها ولي فالنكاح ماض فارتفعوا إلى يزيد بن حاتم وهو الأمير يومئذٍ فقال يزيد ليس عبد الأعلى من أكفائها وأمر أبا خزيمة بسفخ نكاحها فامتنع أبو خزيمة من ذلك وفرق بينهما يزيد ابن حاتم حدثنا محمد بن يوسف قال حدثني أبن قديد عن عبيد الله عن أبيه قال، قال عبد الأعلى بن سعيد الجيشاني لما فرق يزيد بين الكلالية وبينه:
وأعلنت الفواحش في البوادي ... وصار الناس أعوان المريب
إذا ما عبتهم عابوا مقالي ... لما في القوم من تلك العيوب
وودوا لو كفرنا فاستوينا ... وصار الناس كالشيء المشوب
وكنا نستطيب إذا مرضنا ... فصار هلاكنا بيد الطبيب
وذكر المؤلف في ترجمة عبد الرحمن العمري الذي ولي قضاء مصر من قبل هارون الرشيد سنة خمس وثمانين ومائة أنه كان لا يشدد بأطراف الغناء على مغاني أهل المدينة ويبرز كثيراً في مجالسه ولا يتحاشى أن يقول هذا غناء ابن سرح وهذا به الدلال وهذا من جيد غناء العريض ولم يكن بمصر مستمعه (لعلها مسمعة) إلا ركب إليها يسمع غناءها وربما قوَّم ما انكسر من غناءها ويرى ذلك من الدين.
ومما كتب عن هذا القاضي العمري من القضايا في مسجد رث واستهدم فأمر ببنائه قوله: بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب أمر به القاضي عبد الرحمن بن عبد الله وهو يومئذ يلي القضاء بين أهل مصر في صفر سنة ثماني وثمانين ومائة بما ثبت عنده في المسجد الذي يقال له مسجد عبد الله الذي بالظاهر قبلة الطريق الأعظم إلى المسجد الجامع ويحويه الطريق الذي يسلك إلى سوق بربر وشرقيه السويقة التي يقال لها سويقة مسجد عبد الله على طريق الموقف وغربيه الطريق الذي يسلك منه على الجب الذي يقال له جب عبد الله حين رفع إلى القاضي عبد الرحمن بن عبد الله نفر من جيرة هذا المسجد أن هذا المسجد قد رثَّ وخيف عليه لانكسار خشبه وسقفه واحتاج إلى العمارة والمرمة وأنهم قد وجدوا من احتسب في إصلاحه وبنائه وتصيير حوانيت تحته في حقوقه ليكون غلتها مرمة لما استهدم منه وفي زيته وحصره وأجر مؤذنه وشأنه كله. فسألوا القاضي عبد الرحمن بن عبد الله أن يأذن لهم في ذلك فدعاهم بالبينة على ما ذكروا وأقاموا بينه وعدلوا وقبل شهادتهم فشهدوا عند القاضي عبد الرحمن بن عبد الله أن هذا المسجد الموصوف في صدر هذا الكتاب خيف على سقفه من قبل خشبه واحتاج إلى العمارة والمرمة في جدره وأن أجنحته التي حوله وما تحت هذا المسجد ليس لأحد فيه حق وأن الذي طلب عمارته وبناءه وإصلاحه وتصيير حوانيت تحته في حقوقه ومرمة ما استرم منه وفي زيته وحصره وأجر مؤذنه وغير ذلك من نوائبه منفعة للمسلمين ممن صلى فيه وأن ذلك ليس بضرر على أحد وبعث القاضي عبد الرحمن بن عبد الله نفراً مكمن يثق بهم فنظروا إلى المسجد الموصوف في هذا الكتاب فرفعوا إليه مثل الذي شهد من الشهود في هذا الكتاب فلما ثبت عند القاضي ذلك رأى أن يأذن في عمارة هذا المسجد الذي وصف في هذا الكتاب وبنيانه وإصلاحه وتصيير الحوانيت التي أرادوها تحته في حقوقه ليكون غلتها في مرمة إن احتاج إليها ولما يصلحه في زيته وحصره وأجر مؤذنه وغير ذلك من شأنه ويكون فضلاً (؟) إن فضل من غلتها في وجوه الخير. ورفع إلى القاضي عبد الرحمن ابن عبد الله أن هذا المسجد الموصوف في هذا الكتاب قد أصلح وفرغ من بنيانه وحوانيته وأتوا بشهود يقال لهم عبد الصمد بن سعيد وعمرو ابن عمر الابلي ومحمد بن سليمان بن محمد فشهدوا عند القاضي ين عبد الله أن هذا المسجد الموصوف في هذا الكتاب كان أخاف سقفه من قبل خشبه واحتاج إلى العمارة والمرمة في جدره وإن كل ما كان تحت هذا المسجد وما فوقه والثلاثة الأجنحة التي كانت حوله ملصقة به إن ذلك كله من حق هذا المسجد وحدوده ليس لأحد فيه حق ولا دعوى ولا طلبة بوجه من الوجوه وأن المجالس التي كانت حول المسجد خارجة منه كان يؤدي من يجلس فيها الكرى إلى من يقوم بأمر هذا المسجد إنها على حالها لم تدخل في السجد ولا في حوانيته وعدل الشهود عند القاضي عبد الرحمن بن عبد الله فقبل شهادتهم وسأل القاضي عبد الرحمن بن عبد الله من حضره من جيرة هذا المسجد الموصوف في هذا الكتاب أن يكتب لهم ما ثبت عنده فيه كتباً يضعها عند من يرى يكون ذلك حجة وقوة وأن يولي القيام به رجل من أهل الثقة فولى القاضي عبد الرحمن بن عبد الله السكن ين أبي السكن القرشي القيام بأمر هذا المسجد الموصوف في هذا الكتاب وإكراء حوانيته وإن ينفق من كرائها ما رأى من زينه وحصره وأجر مؤذنه ما يحتاج إليه في أمره كله وينفق بقية إن بقيت من كرائه حيث رأى من وجوه الخير وجعله في ذلك أميناً وأمره بتقوى الله وطاعته والعمل في ذلك بحق الله عليه وأنفذ القاضي عبد الرحمن بن عبد الله أن يكتب هذا الكتاب نسخاً تكون وثيقة في هذا المسجد الموصوف في هذا الكتاب فكتب ودفع منها كتاباً إلى عبد الله بن وهب بن مسلم القرشي وكتاباً إلى حجاج بن سليمان الحميري وكتاباً إلى ربيعة بن الوليد الخضرمي وكتاباً إلى شعيب بن الليث بن سعد الفهم وكتاباً إلى أبي رجب العلاء بن عاصم الخولاني وكتاباً إلى عمرو بن يزيد الفارسي وكتاباً إلى أبي زرارة الليث بن عاصم القتباني وكتاباً إلى عبد الصمد بن سعيد الأنصاري وكتاباً إلى محمد بن سليمان بن فليح وكتاباً إلى الأشقر عبد الملك بن سالم وكتاباً إلى السكن بن السكن المقيم بهذا المسجد وكتاباً إلى محمد ين سليمان بن محمد بن عبيد وكتاباً في ديوان القاضي عبد الرحمن بن عبد الله أشهد القاضي عبد الرحمن بن عبد الله الشهود المسمين في هذا التاب أنه ثبت عنده مت في هذا الكتاب وأمر به وأنفذه على ما سمي وفسر وذلك في صفر سنة ثماني وثمانين ومائة أه.
ومن نكت الكتاب قوله: أخبرني أبو سلمة وابن قديد عن عيسى عثمان قال كان زي أهل مصر وجمال شيوخهم وأهل الفقه والعدالة منهم لباس القلانس الطوال كاوا يبالغون فيها فأمرهم ابن أبي الليث بتركها ومنعهم لباسها وأن يشبهوا بلباس القاضي وزيه فلم ينتهوا قال ابن عثمان فجلس ابن أبي الليث في مجلس حكمه في المسجد واجتمع أولئك الشيوخ عليهم القلانس فاقبل عبد الغني ومطر جميعاً فضرب رؤوس الشيوخ حتى ألقوا قلانسهم قال وأخبرني محمد بن أبي الحديد حدثني عتبة بن بسطام قال رأيت قلانس الشيوخ يومئذ في أيدي الصبيان والرعاع يلعبون بها وكانوا بعد ذلك لا يدخلون إلى ابن أبي الليث ولا يحضرون مجلسه في قلنسوة. وانتدبنا اسمعيل بن اسحق بن إبراهيم تميم للجمل
وأخفت أيام الطوال وأهلها ... فرموا بكل طويلة لم تقصر
ما زلت تأخذهم بطرح طوالهم ... والمشي نحوك بالرؤوس الحسر
حتى تركتهم برون لباسهم ... بعد الجمال خطيئة لم تغفر
يتفرعون بكل قطعة خرقة ... يجدونها من أعين ومخبر
فإذا خلا بهم المكان مشوا بها ... وتأبطوها في المكان الأعمر
فلئن ذعرت طوالهم فطال ما ... ذعرت ومن مرا بها لم يذعر
كانوا إذا ألفوا بهن لفضل ... أمضي عليه من الوشيح الأسمر
كم موسر أفقرته كم مفقر ... أغنيته من بعد جهد مفقر
ما أن عليك لقيت منهم واحداً ... أو في العجاج مدججاً في مغفر
لبسوا الطوال لكل يوم شهادة ... ولقوا القضاة بمشية بتبختر
مالي أراهم مطرقين كأنهما ... دمغت رؤوسهم بحمى خيبر