مجلة المقتبس/العدد 78/رحلة إلى المدينة المنورة
مجلة المقتبس/العدد 78/رحلة إلى المدينة المنورة
البلقاء
عَلَى نحو مائتين وأربعين كيلومتراً من جنوبي دمشق بين نهر الأردن غرباً وزملة العليا في طريق الحج شرقاً ونهر الزرقا شمالاً ووادي الموجب جنوباً إقليم واسع خصيب سهلي جبلي اسمه البلقاء كوله من الشمال إلى الجنوب 18 ساعة للفارس المجد وعرضه من الغرب إلى الشرق 16 ساعة أو نحو مئة كيلومتر في مئة كيلومتر وهذا الإقليم الذي يبلغ بمساحته ربع جمهورية سويسرا هو اليوم جملة قضاء عمل السلط ما عدا مسيرة ساعتين من الجنوب داخلة في عمل الكرك وقد حد القدماء إقليم البلقاء بأنه بين الشام ووادي القرى وقالوا أن فيه مدناً عظيمة كثيرة وأن قاعدته عمان وقيل أن السلط هي راموت جلعاد إحدى مدن اللجاء ومد اللاويين المذكورة في الكتاب المقدس وربما اشتق لسمها الحاضر الصلت أو السلط من لفظة لاتينية سالتوس ومعناها الجبال المشجرة وكانت فيا مضى مدينة أسقفية في العهد المسيحي وقد دك المغول قلعتها ثم عاد بناءها الظاهر بيبرس البندقداري.
وموقع السلط عَلَى منحدر جبلين متناوحين أشبه بمدينة زحلة في لبنان وكانت منذ ثلاثين سنة خالية من الحدائق والبساتين فتوفرت همة أهلها عَلَى استثمار الشجار والبقول فجاد أكثرها بما عندهم من العيون التي تروي زروع الوادي أما ما كان وراء المدينة من التلعات والآكام فقد كان حراجاً إلى عهد قريب وآثار بعض سنديانه وملوله ما برحت مائلة للعيان ولكن القوم قطعوها واستعاضوا عنها بزراعة الكروم التي يعد عنبها وزبيبها أجما ما تحمله هذه الشجرة المباركة في سورية وقد يكون العنقود الواحد رطلاً شامياً وأكثره بلا بزر يصدر من زبيبه ما تقدر قيمته كل سنة بنحو خمسة عشر ألف ليرة وفي جوار السلط قليل من شجر الزيتون سألنا أحد شيوخهم عن السبب الذي دعا إلى عدم استكثار القوم من غرسه فقال لا تذكرنا بغباوتنا فقد حملنا سعيد باشا شمدين أحد متصرفي نابلس أيام كان قضاؤنا تابعاً لنابلس عَلَى أن نغرس في هذه الولاية التي تراها مئة ألف زيتونة فوقع في نفسنا أن في الأمر دسيسة من الحكومة تريد بها وضع الضرائب الفاحشة عَلَى أملاكنا وتسجيل أراضينا عَلَى صورة لا نعود معها ملاكها الحقيقيين فصدعنا في الأمر في الظاهر وغرسنا أولفاً من شجر الزيتون ولكن أتدري كيف تخلصنا منه بعد؟ كان أحدنا يجيء ليلاً إلى غرسة الزيتون فيحركها حتى لا يطلع جذعها وهكذا لم يبق من كل ما غرسه السلطيون إلا ما تشاهده اليوم في جوار القصبة وقليل ما هو.
قلنا عجيب تبدل تصورات الناس فرجال الحكومة بالأمس كانوا يحملون الناس عَلَى زرع الأشجار ويزينون لهم اقتناء الأراضي للزراعة واليوم يطالب الأهلون في هذا القضاء وفي غيره الراضي الموات ليحيوها ولا يعطون طلبتهم وكذلك الحال في كل مكان نزلناه في طريق يثرب فإن الأهلين أحسوا بفوائد الأرض هكذا رأينا أهل الشراة من عمال الطفيلة ومعان وهكذا سمعنا شكوى أهل الكرك وتبوك ومدائن صالح أجمع عَلَى ذلك الطلب الحاضر والبادي ولكن لا حياة لمن تنادي في حين ورد في قانون الأراضي أن كل من يحيي أرضاً مواتاً تبعد عن القرى والدساكر مقدار ما يسمع الصوت فهي له فأين هذا القانون المسطور من عمل الحكومة اليوم.
قرانا وجوه الهمة والنشاط في وجوه السلطيين مسلميهم مسيحييهم وإن كانت القاعدة في سورية كلها أن يكون المسيحيون أكثر نشاطاً وتعلماً من إخوانهم في الوطنية. وبلدهم هذا ساعدته الطبيعة فساعدها أهله أيضاً ودخل في طور العمران ويوشك أن يعد في جملة العظيمات من المدائن والبلدات.
وسكان مدين السلط اليوم نحو 16 ألف نسمة يبلغ المسيحيون منهم عَلَى اختلاف الطوائف نحو أربعة آلاف ومعظمهم إلى اليوم يلبسون زياً كزي أهل حوران وهو كوفية وعقال وعباءة وجزمة حمراء وعادات القوم هنا أشبه بعادات البادية مع أنهم حضر. وفي السلط قليل من الصناعة وتجارتها واسعة مع القبائل النازلة في البلقاء والرحالة في تلك الأرجاء وبين عمان عَلَى الخط الحجازي والسلط نحو خمسة وعشرين كيلومتراً جعل بعضه من جهة السلط طريقاً معبداً ومتى أكمل تسافر العربات والسيارات بين السلط والخط الحديدي في ساعتين وهي الآن أربع ساعات عَلَى الدواب وإذا تم اتصال السلط بالقدس بطريق معبدة تسير عليها المركبات أيضاً تعمر السلط عمراناً مهماً وهي عَلَى بعد 40 ميلاً إلى الشمال الشرقي من بيت المقدس و40 ميلاً إلى الجنوب الشرقي من نابلس ونحو 18 ميلاً شرقي الأردن.
ومن سوء حظ هذا القضاء أن معدن الفوسفات الذي نال امتيازاً بتعدينه من جبل السرو في منتصف الطريق بين عمان والسلط المهندس نظيف أفندي الخالدي المقدسي عَلَى أن ينشئ فرعاً بالخط الحديدي من السلط إلى عمان يتصل بالسكة الحجازية ومرفأ في حيفا - من سوء الحظ أن قد حسبوا فوجدوها لا تفي بها وارداته ولعل الحكومة تتساهل بعض الشيء في شروطها لتقوي عزيمة تلك الشركة عَلَى استثمار هذا المعدن من قضاء السلط فيتسنى لها أو لشركة أخرى تعدين سائر المعادن التي حبتها بالفطرة.
عَلَى نحو ساعة من قصبة السلط منظر من أجمل مناظر سورية ونعني به جبل يوشع الواقع عَلَى علو نحو 1096 متراً عن سطح البحر وهو مشرف عَلَى جزء عظيم من فلسطين فيمتد أمامك وادي الأردن كأنه بساط ذو ألوان كثيرة ومن خلال ذلك نهر الأردن تراه كالحية بتلويه حتى يصل إلى البحر الميت أو بحيرة لوط. ومن النبي يوشع تشاهد جبل الزيتون في الشمال الغربي ويقابلك جبل عيبال وجزريم ثم جبل الطور وما يناوحه من الجبال المحيطة ببحيرة طبرية ومن بعيد جبل الشيخ وبه تنتهي هذه المنظرة من الشمال.
ويقول العارفون من الإفرنج أن الاعتقاد بالنبي يوشع الذي يذبح له البدو ويتقربون إليه هو من التقاليد الإسرائيلية القديمة وإن بناؤ قبره يرد إلى زهاء ثلثمائة سنة. وليوشع مقام أيضاً في قضاء نابلس قرب قرية حارث وجبل يوشع في البلقاء أشبه بيوشع تبه شي أي ذروة يوشع في قرية بكوز المطلة عَلَى بحر مرمرة وخليج القسطنطينية هذا منظره بحري وذاك منظره بري ومن غريب التقاليد أن البدوي يحلف بالله ولكنه لا يحلف بشعيب ومقام شعيب عَلَى ساعتين من السلط أيضاً.
كانت عمان قصبة البلقاء فانحطت في أواخر القرن الماضي بما تواتر عليها من الزلازل وغارات البادية حتى جلا عنها بقايا سكانها الأصليين فأنزلت فيها الحكومة منذ 34 سنة ستمائة أسرة من الجركس من عشائر مختلفة هاجروا إلى البلاد العثمانية من ولاية كوبان الروسية وأخذوا يردون غارات البادية واعتمدوا في عمرانها عَلَى مضائهم وشجاعتهم وبنو عَلَى أنقاض مدينة ضخمة قرية لهم وساعدتهم مياه نهر الزرقا فغرسوا الأشجار وأنشأوا الحدائق واتوا بطريقتهم المألوفة لهم في الزراعة ببلادهم وقد هلك منهم أناس كثير من الفتن والأمراض حتى توطدت أقدامهم واغتنوا وأصبحت الحكومة بعد أن كانت تأخذ من عمان مئة ريال في السنة تقاضى نحو ثلاثة آلاف ليرة ولا تلبث أن تزيد بزيادة عمران عمان واتساع تجارتها عَلَى أيدي الناشطين من النابلسيين والدمشقيين ومعظم تجارة البلقاء في أيديهم اليوم.
نقول أنها كانت مدينة عظيمة والدليل عَلَى أن أنقاض دار تمثيلها كبيرة جداً تكفي لجلوس ثلاثة آلاف نسمة وفي مسرحها 45 صفاً عَلَى شكل نصف دائرة وفيها آثار قلعة مهمة ومعظم بيوتها بنيت بأحجار المدينة القديمة وكذلك قرية رأس عمان الحديثة الواقعة عَلَى قيد غلوة من عمان وسكانها جراكسة أيضاً.
لا جرم أن الجركس أدخلوا روحاً جديدة إلى هذا القضاء من التوفر عَلَى الزراعة والنشاط المستمر وأن الأهلين تعلموا منهم بعض الشيء إلا أن عمال الحكومة أساؤا الاستعمال فسلبوا ما كان للأهلين من الأراضي والمزارع العامرة ليعطوها للمهاجرين الجركس والششن والتركمان كما فعلوا بعين صويلح وعيون الحمر فقد كانتا مسجلتين باسم أصحابهما فأعطتها الحكومة للمهاجرين وذلك لأنه كتب للجراكسة أن يتولى مأمورية الطابو في هذا القضاء ثلاثة منهم عَلَى الولاء فكانوا يساعدون إخوانهم وأبناء جلدتهم عَلَى سلب الأراضي منهم وتسجيلها باسم المهاجرين وعلى هذه الصورة أخذ المهاجرون الناعور ووادي السير والزرقا والرصيفة وغيرها. صبر الناس عَلَى هذا الجور زمناً حتى صحت عزيمة بعض عشيرتي الخرشان والجبور عَلَى أن يزرعوا الموقر والعليا والنقيرة وهي عَلَى نحو ثلاث ساعات من شرقي معان يسير في أراضيها الراكب عشر ساعات كما أن بعض السلطيين يزرعون اليوم في سهل الكبد في الغور وهذا السهل جيد التربة جداً لا حجر فيه ولا مدر ولو أحبت الحكومة إحياء الموات حقيقةً لأوعزت للهلين أن يحيوا أراضي الموقر والعليا كلها فإن فيها زهاء ألف بئر معطلة تحيا بعناية قليلة.
وأعظم عشائر هذا القضاء بنو صخر وهم يتنقلون بين الغور في الشتاء وأراضي البلقاء العالية في الربيع وفي الصيف يتوفرون عَلَى حصاد الأراضي التي لهم في جهات الزيزاء ومادبا وهما مديريتان تابعتان للسلط كما أن عمان مديرية تابعة لها أيضاً. ونفوس قضاء السلط المحررة اليوم 42 ألفاً ولو أحصي بنو حسن وبنو صخر والبادية لبلغ سكانها مئة ألف أو يزيدون ولو ارتفع فيه علم الأمن كما يجب وأعطيت الأراضي الموات للأهلين وسجلت عليهم بحيث لا ينازعهم فيها منازع لأن أكثر المنازعات تثور عَلَى الأراضي لبلغ سكان هذا القضاء نصف مليون نسمة بعد عشر سنين.
وأهم العاديات التاريخية في هذا القضاء قصبة مادبا فقد كانت كإحدى الخرب منذ نحو ثلاثين سنة فهاجر إليها جماعة من مسيحيي الكرك أعطتهم الحكومة إياها خربة فعمروها فما هو إلا وجدوا فيها آثاراً مهمة مثل سوق طوله 140 متراً له عمد عَلَى الجانبين وبينا كانوا يحفرون في أنقاض الكنيسة ليقيموا كنيسة جديدة عثروا سنة 897 عَلَى قطعة من الفسيفساء في الصحن فرفعوا عنها المعاول وأزالوا ما كان علقاً عليها بتوالي الأيام من التراب والأحجار فإذا هو أثر عظيم من آثار القدماء هو مصور (خريطة) فلسطين وما فيها من المعاهد المقدسة والكنائس ولو سلمت كلها من معاول الذين حفروها لبلغ ثمنها المليونين والثلاثة من الليرات ولكن القطعة الصالحة الباقية منها تدل عَلَى تلك المدنية القديمة التي تمتعت بها مادبا قديماً منذ عهد الإسرائيليين إلى الموآبيين إلى العرب النبطيين إلى المكابيين وكانت في عهد هؤلاء قلعة مهمة واستولى عليها هيركان ملك اليهود قبل المسيح وأصبحت عَلَى عهد الرومانيين جزءاً من بترا أو العربية الصخرية. وآثار الفسيفساء كثيرة في هذه القرية رأينا بعضها في الدور الخاصة تلمع فتأخذ الأبصار أما أنقاض دورها ومعابدها وأحواض مياهها فحدث عنها ولا حرج وقد دخل أهلها في المدينة اليوم بفضل مدرستي الروس واللاتين اللتين أنشئتا فيها وليس بين سكانها من المسلمين إلا بعض باعة والحراثين.
قال ابن خرداذبة أن ظاهر البلقاء كان كورة من كور دمشق كما أن جبل الغور وكورة مآب وكورة جبال وكورة الشراة وكورة عمان كانت كل منها إقليماً برأسه قال الشاعر:
سلم عَلَى دمن أقوت بعمان ... واستنطق الربع هل يرجع بتبيان
قال ياقوت أن مدينة جرش هي شرقي جبل السواد من أرض البلقاء وعرف السواد بأنها نواح قرب البلقاء سميت بذلك لسواد حجارتها وفي أرض البلقاء عدة بلاد ورد لها ذكر في التاريخ العربي مثل قرية جادية التي ينسب إليها الجادي وهو الزعفران وفرية مؤتة من المشارف التي كانت بها تطبع السيوف المشرفية والموقر الذي كان ينزله يزيد بن عبد الملك قال كثير: سقى الله حياً بالموقر دارهم ... إلى قسطل البلقاء ذات المحارب
والقسطل نزله الوليد بن يزيد وهو قرب البلقاء وخلفه فيه عمه العباس وكان الوليد يستوطن الزيزاء. وفي البلقاء قصر الأزرق والفدين قريب من حصن الزرق وهذين قيل أنهما من عمل حوران ومعظم الراويات عَلَى أنه من عمل البلقاء.
العمران والسكة الحجازية
إن كان لدور الاستبداد حسنة فأعظم حسناته سكة حديد الحجاز التي مدت في عهد المخلوع وبتزيين قرينه أحمد عزت باشا العابد ولننهي منها حتى الآن القسم الأعظم من دمشق إلى المدينة المنورة وطوله 1303 كيلومترات ومن حيفا إلى درعا 161 كيلومتراً فانفق عليها فيما بلغنا ثلاثة ملايين ليرة ونصف صرف قسم مهم منها فقي مدينة دمشق فانتفع منه الملتزمون والتجار والزراع والعملة وبعض أرباب الصناعات والفنون وأنفق القسم الأعظم في ثمن أدوات وقطارات ومركبات حديد من معامل أوربا.
وما كاد ينتهي الخط إلى المدينة حتى نهضت البلاد بعض الشيء ولاسيما دمشق والمدينة وحيفا نهضة اقتصادية لا يستهان بها وحسن حال التاجر والمزارع وسارت الأمور الاقتصادية عَلَى نسق مرتب معقول فلم يعد في التجارة ذاك الكساد الذي نعهده في دمشق ولا التقهقر الذي كان في حيفا ولا الغلاء الفاحش في أسعار المدينة وهكذا انتفع المحطات عَلَى طول الخط من دمشق إلى المدينة وعددها 75 محطة ومحطات حيفا ودرعا وعددها 15 فأخذت كل محطة بقدر حظها من العمران وانتفع منها في الأكثر ما كان له أثر قديم في الارتقاء.
ولو كانت الحكومة تلتفت بعض الالتفات لعمران البلدان لأخذت بأيدي كل من يودون إنشاء بيوت ودكاكين وخانات وفنادق في المحاطات وأعطتهم مئات الدونمات يجعلونها حدائق ويبنون عليها مساكن عَلَى شرط أن يعمروها في مدة تعينها لهم وإذا أمكن أن تمنح بعض محاويجهم إعانة مالية قليلة يستعينون بها عَلَى التعمير فكيف لا ندهش والحالة هذه إذ رأيناها ورأينا عمالها يوقفون من يبنون المساكن في مثل مدائن صالح وعددها لا يقل عن خمسين محلاً بدعوى أنه لا يسوغ إنشاء مدينة إلا بإرادة سنية فهلا استصدرت الإرادات السنيات في الحث عَلَى مثل هذه المشروعات التي لا يتصور أنفع منها في البلاد.
هكذا فعلت الحكومة مع من يريدون إقامة الدور والحوانيت ولم تقصر في وضع العقبات في سبيل من يريد غرس أشجار البرتقال لأنه ثبت أنها تجود في تربة هذه البلدة الرملية. وليت الإدارة تحمل الحكومة عَلَى ترغيب الناس في إنشاء الدور والحدائق لما في ذلك من الفوائد لعمالها إذ يستغنون بأسراتهم عن صرف أوقات الفراغ في المقامرة ومعاقرة الخمر ويقل عدد من يتعاطونها منهم.
نعم إن المحطات مالاً ينبت فيه كل شيء بحسب الظاهر ولا تمطره السماء إلا ساعات غير معلومة في السنة ولاسيما بعد ارض البلقاء وهواءها جاف حار محرق وعمرانها متوقف عَلَى عمل كثير طويل ومال غزير ليس بقليل فأمثال هذه المحطات تترك الآن وينشط كل من يود اعتمار الأراضي الموات قرب المحطات وإنشاء دور وحوانيت فيها ولو فعلت الحكومة لاستغنت مع الزمن من حراسة هذا الخط بكتائب من الجنود ترابط عَلَى طول السكة وإقامة اثنتي عشرة قلعة من الهدية إلى المدينة وهي اليوم تجعل في كل قطار يسافر بعد لواء حوران إلى المدينة جملة من الجند النظامي المسلح لحماية الركاب من عيث البادية إذا حدث حادث لا قدر الله.
نقول عيث البادية ولو أعملت الحكومة الفكر منذ اليوم الذي نوت فيه تمديد هذا الخط الحربي الديني التجاري لأوسعت لهم من تلك السهول الخصيبة في لواء الكرك ما كانوا الآن استغنوا بزراعته عن شن الغارات وإيذاء السابلة طمعاً في اقتناص ما يتبلغون به ولتوفروا عَلَى تربية مواشيهم وزروعهم كما يتوفر اليوم بنو حسن في قضاء عجلون وينو صخر في قضاء السلط والحويطات في معان والمجالي في الضمور والطراونة في الكرك وغيرهم في غيرها وكل هؤلاء من العرب الرحل يتأنسون بقدر ما يدخل النور عَلَى أولادهم ويستثمرون أرباح الزراعة والماشية ولاشك أنهم يعدلون بتة عن الغرة كلما أسكنت الأصقاع التي في جوارهم وخف الاعتداءُ عليهم.
ولسكة الحجاز الفضل الأكبر في تأنيس شارد البدو إذ عرفوا بأن قوة الدولة مهمة في كبح جماح كل معتد. وقد أخذت تصدر حاصلاتهم إلى الأسواق التجارية الكبرى فكانت الجنوب تكسد في بعض السنين الماضية في جهات لواءي الكرك وحوران فأصبحت اليوم تسافر إلى القاصية. وأبواب الشام والحجاز والبحر منفتحة أمامها. وهكذا يقال في السمون والجبن والألبان والأصواف التي تحصل من نياقهم ومعزاهم وأغنامهم وأبقارهم.
في لواء الكرك وحده أرض موات تكفي لإعالة كل أهل البادية من العرب خصوصاً وهم الموصوفون بذكاء فطرتهم ومضاء عزائمهم فإذا توفرت لهم الأسباب تحصل الفائدة الاقتصادية والعمرانية المطلوبة من السكة الحجازية فتعمل هذه في نقل الأنفس والأموال والمتاجر السنة كلها لا كما هي اليوم تشتغل أشهراً معدودة من السنة في موسم الحج ثم تبلى بالفتور إلا قليلاً. وأن من عرف أن هذا الخط قد عمر بالإعانات التي جمعت من أقطار العالم الإسلامي وهمة ضباط العثمانيين وكتائب جنودنا وإن مئات هلكوا في سبيل إنشاءه بحيث لم يكن يمد الكيلومتر الواحد إلا عَلَى أشلاء بضعة من رجالنا يوافق عَلَى تساهل إدارة السكة مع الضباط والجنود والخط خط عسكري.
ولقد لاحظنا أن القطار الحجازي يقطع المسافة اليوم بين دمشق والمدينة في ثلاثة أيام بلياليها يقف منها في المحطات الكبرى مثل درعا ومعان وتبوك والمدائن نحو اثنتي عشرة ساعة دع عنك الوقت الذي يصرفه في المحطات الصغرى ون معدل سيره عَلَى عشرين كيلومتراً في الساعة فلو تدبرت الإدارة في اختصار هذه المدة في الوقوف وحملت قاطراتها عَلَى الإسراع قليلاً في سيرها وسراها لجاز القطار المسافة بيد دمشق والمدينة وبين حيفا والمدينة في يومين وليلتين فتوفر عَلَى الناس بعض عناء السفر وإذا رأت الإدارة أنه مما يلائم مصلحتها الاقتصادية تنزيل أسعار الركوب في الدرجة الأولى والثالثة وأرجة الركوب في الثالثة من دمشق إلى المدينة أربع ليرات وفي الدرجة الأولى ثماني ليرات فأسقطت منها عَلَى الأقل ثلاثين في المئة استفادت فيما نحسب أكثر وكثر الذاهبون والجاثون وعظمت الفوائد من ذلك فعندها تقصد المدينة أكثر من الآن للزيارة والتجارة ويقصد الحجازيون بلاد الشام ليصطافوا أو يتجروا.
وليت الحكومة تتساهل في الاعتماد عَلَى أبناء البلاد وتختار الجند الذين يحرسون الخط من أبناء حوران مثلاً فهم أقدر عَلَى تحمل المشاق من ابن مدن آسيا الصغرى وسورية ومقدونية ونظنها في التجربة التي جربته في الطابور الذي ألفته من الشروق بالأجرة وسمته هجين سوار أي فرسان الهجين والشروق هم سكان شرقي المدينة أي نجد قد ثبت لها أن ابن هذه البلاد أنفع من خدمتها إذا شبع من ابن البلاد القاصية والفارس النجدي اليوم يتناول 450 قرشاً صحيحاً في الشهر هو وهجينه وما الجندي يكلف الحكومة أقل من ذلك فضلاً عن تعرضه للهلاك من هواء بادية العرب وكذلك يقال لإدارة السكة أن تختار عمالها من العارفين لغة البلاد قبل أن يعرفوا التركية لأن في ذلك فوائد مهمة للخط نفسه وإذا كان لا بد من الاستكثار من أبناء آسيا الصغرى وغيرها في جملة عمالها فما عليها إلا أن تشترط عليهم تعلم العربية وبذلك تتضاعف خدمتها للإدارة وللبلاد معاً عَلَى أن ابن العراق والجزيرة والحجاز أقدر في كل حال عَلَى تولي أعمال هذه السكة خصوصاً في النصف الأخير منها من جهة المدينة.
وقد لاحظنا عَلَى إدارة السكة إهمال عمالها للنظافة في المركبات ولاسيما في الدرجة الأولى بحيث أنها لا تزيد الراكب فيها راحة إلا بكون مقاعدها مفروشة بالمخمل (القطيفة) وهي أضيق من مقاعد الدرجة الثالثة ولا يخفى عَلَى أمر القائمين بأمر السكة الحجازية أن التدخين محظور في القطار في الدرجات الثلاث بأوربا دع تعاطي المسكرات وإنه ليسوءنا ما رأيناه من أن بعض موظفي الحكومة الذين كانوا آتين من المدينة المنورة يبسطون في مركبات الدرجة الأولى سفرة الشراب ويتعاطونه مع النقول اللازمة له والأغاني التي يطربون بها كأنهم في حانة أو بيت خاص من غير نكير يؤذون بذلك جلسائهم وهم يكونون بعملهم أعظم عارٍ عَلَى المسلمين والإسلام.
فليت إدارة الشركة تحظر الشراب في القطارات والمحطات عَلَى ركابها وعمالها مباشرة وتغرم من يجرأ عَلَى خرق حرمة شريعة الإسلام وقانون المدنية الحديثة غرامة ثقيلة تربي كل مقترف لهذه الكبيرة فإن كان من عمال الحكومة الأمن عصم الله من يفسدون أخلاق الرعية بما يعودونهم إياه من احتساء كؤوس الراح في المديريات والأقضية والألوية والولايات فما أحرى الحكومة أن تكف مفاسدهم عَلَى الأقل عن قصاد البلد الطيب رحمة بالإنسانية والإسلام.
بعض أعمال الكرك
قال غرس الدين الظاهري وأمما المملكة الكركية فليست هي من الشأم وهي مملكة بمفردها وتسمى مآب وهي مدينة حصينة معقل من معاقل الإسلام بها قلعة ليس لها نظير في الإسلام ولا في الكفر تسمى حصن الغراب لم تكن فتحت عنوة قط وإنما فتحها المرحوم صلاح الدين يوسف بن أيوب بعد أن فتح القدس في سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة وكانت بيد البرنس أرنلط وكان يتعرض إلى حجاج بيت الله الحرام.
وقال أن الشوبك كانت مدة بيد الإفرنج وهي مضافة إلى الكرك وحصينة أيضاً ومسيرة معاملة الكرك من العلى إلى زيزة مقدار عشرين يوماً بسير الإبل وهي بلاد عدية بها قرى كثيرة والمعاملات والمسلك إليها صعب من مقطعات قليلة الماء حتى أنه إذا وقف أحد عَلَى درب من دروبها يمنع مائة فارس اهـ.
بلدان في لواء الكرك طالما سمعنا بهما وهما قصبة الكرك وقصبة السلط فالأولى كنا نتوهمها أهم مما رأيناه والثانية رأيناها أهم مما سمعنا به من وصفها وهذا من جملة الأسباب التي تدور أهالي البلقاء أن يطلبوا إلى الحكومة جعل السلط في التقسيمات الإدارية مركز لواء بضم أراضي بني حسن من قضاء عجلون وعمل حوران إليه وجعل مادبا قضاء وعمان قضاء والزيزاء قضاء وبذلك توفر عَلَى أهل القاصية من لواء الكرك العناء الشديد الذي يلاقونه بشد الرحال إلى حاضرة اللواء كلما عرض لهم عمل فقد بلغني أن أكثر الناس يستنكفون من أداء الشهادة إذا طلبوا إليها من السلط إلى الكرك مثلاً وينكرونها ويتحملون الإثم في ذلك لأن الشاهد يستحيل عليه أن يضيع بضعة أيام في الذهاب والإياب ويتكلف مالاً طائلاً نفقه في السكة الحديدة وأجرة دواب.
فإذا اختار ابن السلط مثلاً أن يذهب إلى الكرك يضطر إما إلى المسير ثلاثة أو أربعة أيام عَلَى الدواب ذهاباً ومثلها إياباً وإما أن يركب دابة 25 كيلومتراً من السلط إلى عمان ومن هذه وهي في الكيلومتر 222 يركب القطار الحجازي إلى القطرانة وهي في الكيلومتر 326 ومنها يركب دابة إلى الكرك مسيرة ست ساعات. وهكذا يتكلف من له عمل طفيف في مركز اللواء إلى مال جزيل ووقت طويل.
وأنكى من ذلك أن معان وهي في الكيلومتر 489 بل أن تبوك وهي في الكيلومتر 692 بل أن مدائن صالح وهي في الكيلومتر 9555 إذا اضطر أهلها إلى قصد الكرك يقطعون هذه المساوف في السكة الحديدية أو الدواب وكلاهما شاق يحتاج إلى وقت ومال فتقسيم لواء الكرك الإداري مشوش مضطرب وما أحراه أن يقسم لوائين أحدهما مركزه السلط كما تقدم والثاني يجعل مركزه في معان أو إذرح وهي مدينة متوسطة من اللواء ولكنها اليوم خربة لا ساكن فيها وكانت من المدن العامرة قبل الإسلام وبعده حتى أن أهلها صالحوا في غزوة تبوك عَلَى الجزية فبلغت مائة دينار في كل رجب وذكر المقدسي أنها مدينة متطرفة حجازية شامية وعندهم بردة رسول الله ﷺ وعهده وهو مكتوب في أديم وبذلك يستدل أنها كانت عامرة في القرن الخامس للهجرة بل إلى عهد قريب وكانت هي وموآب مدينتي الشراة.
وارض الشراة من الشوبك إلى رأس النقب كما يحددها الأهلون اليوم أي مسيرة يوم طولاً وعرضها ساعتان وهي الأرض المفلوحة مؤلفة من تلعات وأودية وفيها عيون غزيرة لا تقل عن أربعين عيناً لا ينفع بأكثرها وقسم منها الآن في عمل قضاء الطفيلة والآخر في قضاء معان وعلى جنوب الشراة بلاد طيءٍ أو جبال طيءٍ وهي الحد الجنوبي لسورية كما عرفها العرب قال خاتم الطائي وقد أغارت طيّ عَلَى إبل للحارث بن عمرو الحفني وقتلوا ابناً له:
إلا أنني قد هاجني الليلة الذكر ... وما ذاك من حب النساء ولا الأشر
ولكنني مما أصاب عشيرتي ... وقومي بأقران حواليهم الصير
ليالي نمسي بين جوز ومسطح ... نشاوى لنا من كل سائمة جزر
فيا ليت خير الناس حياً وميتاً ... يقول لنا خيراً ويمضي الذي ائتمر
فإن كل شر فالعزاء فإننا ... عَلَى وقعات الدهر من قبلها صبر
سقى الله رب الناس سحا وديمة ... جنوب الشراة من مآب إلى زعر
بلا امرئ لا يعرف الذم بيته ... له المشرب الصافي وليس له الكدر
وفي أذرح عين ماء غزيرة فوق أرض واسعة يمكن تشجيرها كلها ولها قلعة لا تحتاج إلا إلى ترميم خفيف وهي عَلَى أربع ساعات إلى الغرب الشمالي من معان وعلى ثلاث ساعات من وادي موسى وأنقاض دورها وعقودها وعمدها موجودة لا تحتاج إلا إلى بنائين فتكون مدينة تامة الأدوات في بضعة أسابيع وفيها اليوم أنقاض ثلاثة طواحين.
ربما يستهجن بعضهم أن نقترح جعل مركز لواء الكرك في أذرح وهي خراب وتترك الكرك وهي المشهورة بتاريخها خلقت بما لها من المركز الحصين الواقع عَلَى جبل عال خال من أطرافه لتكون عاصمة كبرى فضلاً عن مركز لواء ولكن مراكز الحكومات يجب أن تكون في بقعة متوسطة والكرك منحرفة عن طريق السكة الحديدي ومنحرفة عن نقطة دائرة اللواء وعمرانها القديم لا يشفع لها أن تكنون الحاكمة عَلَى مدائن صالح وهذه من الكرك زهاء 660 كيلومتراً! بل الأجدر أن تكون العقبة وتبوك ومدائن صالح كلها لواءاً خاصاً برأسه إذا أرادت الحكومة تحضير البادية وحكم أهلها عَلَى ما يجب.
ولعل بعضهم يعترض بقوله أن العمران مستحيل في هذه الأصقاع ما دامت خالية من السكان ولا ماء فيها ولا كلاء ولكن الحكومة الصالحة تجذب إليها الأنفس كما تحمل الأموال وناهيك بأن عشيرة الفقرا وهي لا تقل عن 800 بيت تنتقل بين تبوك ومدائن صالح تسكن في مدة قليلة وذلك لأن الراضي الموجودة بكثرة والمياه إذا حفر بالأرض ثلاثة أو أربعة أمتار تنبط حالاً والبقاع التي ينزلونها مستعدة كل الاستعداد لزراعة البرتقال والنخل فإذا أخذت الحكومة بأيديهم فذاقوا لذة الكسب يعدلون عن عيش الغزو الذي يسوقهم إليه فقرهم ولا يلبثوا أن يصبحوا كسائر العرب الساكنة يدفعون الضرائب ويخدمون في الجندية مثل عامة العثمانيين.
لا نعتقد أن الكرك يتراجع عمرانها إذا نقل منها مركز اللواء لأنه بما دهمها من الفتنة الأخيرة فتخربت بحيث لم تعد صالحة لسكنى أهليها ولا موظفيها إلا بعد بضع سنين عَلَى أن الحكومة جعلتها عَلَى نحو عشرين سنة مركز لواء ولم ترمم قلعتها ولا أتمت مكتبها الكبير ولا مسجدها الجامع فأنت الآن إذ دخلتها تنقبض نفسك من بلد ترى الخراب يتحيفه من كل جانب فتشاهد وعينك تدمع خراباً في العقول وخراباً في النبات وخراباً في الجماد ومثل هذا البلد يعمر بالعلم والعرفان أكثر من عمرانه بالسيف والسنان.
تنقبض النفس في الكرك عَلَى جمال في طبيعتها وهي تطل من جهاتها الأربع عَلَى مناظر لطيفة ومنها البحر الميت ووادي الأردن إلى أعالي جبال أريحا وذلك لأنها كانت في معظم أدوارها التاريخية ظالمة مظلومة واشتهر أهلها بحب الغارة عَلَى عهد الإسرائيليين والموآبيين وحاربها شاول وداود وقامت قائمتها جوارم وملك اليهودية فرجعا عنها مدحورين واضمحل الموآبيون في القرن الثاني قبل المسيح وأصبحت الكرك مفتاح تلك البلاد عَلَى عهد الصليبيين واستولى عليها رنودي شاتليون الذي يسميه المؤرخون العرب البرنس أرنلط وذلك لأنها حاكمة عَلَى طريق قوافل مصر وبلاد العرب القادمة إلى سورية وذلك حاربها صلاح الدين يوسف بن أيوب حباً عواناً وأقام الأيوبيون فيها وحصنوها ومازال ملوك مصر والشام يحاصرونها ويقتتلون أهلها وآخر أعمال الكركيين ذبهم عسكر إبراهيم باشا المصري ثم فتنتهم الأخيرة المشؤومة ويبلغ المسيحيون في الكرك نحو أربعة آلاف أكثرهم روم وفيهم لاتين وقليل من البرتستانت وفيها مدارس حقيرة لذكروهم وإناثهم ولئن كان المسيحيون اليوم عَلَى مستوى من جيرانهم المسلمين وكانوا نحو 15 ألفاً قبل الحوادث الأخيرة أو أرقي بقليل في المدنية فسيكون مستقبل هذه البلاد لهم وناهيك بأن تلامذة المكتب الرشدي اليوم وهي زهاء ثلاثين تلميذاً كلهم من أولاد المسيحيين وإذا كان فيهم التلميذ الواحد أو الاثنان من أبناء المسلمين فيكون كلانا غير مواظب هذا في مدارس الحكومة فما بالك في المدارس الطائفية المسيحية وتجارة البلد في أيدي أناس من أهل دمشق والخليل فقدوا أموالهم في الفتنة ولم يعوضوا عنها حتى الآن سوى سبعة في المئة مما قدر لهم.
ولم تبق الفتن من العاديات القديمة ما يذكر في هذه المدينة اللهم إلا أنقاض دائرة وجميع هذه الديار كانت عامرة وهي اليوم مأوى الغراب والبوم ناهيك بأن اللجون الواقعة عَلَى ساعتين من الكرك كانت بحسب ما رأينا من أنقاض ارتجتها الضخمة من المدن المهمة فأصبحت اليوم والحكومة تسكن فيها طائفة من المهاجرين وتعمر لهم دوراً فلا يلبثون أن يرحلوا عنها إذا أردوا تناقص النفوس فيها بسبب الماء والهواء وتركوا منازلهم خاوية فأنزلتهم الحكومة في بعض أنحاء البلقاء وما ندري كيف انقلبت طبيعة تلك البلاد المأهولة قديماً حتى لم تعد المدينة منها تصلح لأن تكون مزرعة حقيرة لفساد هوائها ومائها فسبحان القابض الباسط المعمر المدمر.
العربية الصخرية
طريق الكرك من القطرانة وطريق وادي موسى من معان يبتدئان بتراب كلسي ممزوج بصلصال لا استعداد فيه للزراعة اليوم ولذلك تظنك إذا توسطت تلك السهول وعرضها نحو ثلاث ساعات من الخط الحديدي تظنك في قفر بلقع حتى إذا انتصف الطريق تتراءى لك بعض عيون وزروع والمسافة بين معان ووادي موسى سبع ساعات للراكب كما هي بين القطرانة والكرك. ووادي موسى هو قرية اللجي وعلى نحو ساعة منه بترا أو العربية الصخرية كما يسميها الإفرنج وسماها العرب سلعاً والسلع الشقوق في الجبال والغالب أن السلع قسم من العربية الصخرية وهي عبارة عن جبال (إذا رآها الرائي من بعد ظنها متصلة فإذا توسطها رأى كل قطعة منها منفردة بنفسها) وحدثنا من زار خرائب الحجر أو مدائن صالح أنها دون خرائب بترا بمكانتها.
وكان لبترا هذه أيام عز طويلة عَلَى عهد الدوميين والنبطيين العرب وقدماء الرومان والمكابيين وامتد حكمها إلى دمشق وكانت بيدها زمام التجارة مدة قرون في هذا الشرق الأقرب ولم تنحط إلا بارتقاء مملكة فارس وانبساط ظل سلطان تدمر ولما جاء الإسلام كانت خرائب كما هي اليوم والغالب أن بقايا مجدها أتت عليها الزلازل فدكتها كما دكت غيرها من المصانع والآثار.
إذا اشرف الراكب عَلَى قرية وادي موسى يرى روح النعيم فيها خصوصاً ويكون قد قطع ساعات في صقع أجرد أمر ليس فيه من الأشجار إلا الزعرور ولا من الغلات إلا قليل من الحنطة والشعير ولكن في وادي موسى حدائق بديعة تسقى من العيون الدافقة عليها من الهضاب المجاورة حتى تخال لنفسك لما تراه من بهجة الخضراء أنك في صقع عامر زاهر فإذا قصدت إلى العاصمة بترا أو تجبلت في السيك أي دخلت بين الجبلين المتناوحين العاليين وكل قطعة منهما تبلغ ألوفاً من الأمتار المربعة علوها من 30 إلى 50 متراً وأنت تسير في طريق لا يقل عن خمسة أذرع ولا يزيد عن عشرة ليس فيه إلا الأحجار والحصا أو مسايل ماءٍ لا ينبت فيها إلا الرتم والطرفاء تشاهد في الأعالي النواويس والقصور والمسلات محفورة في الصخر وينفرج الطريق مسيرة نحو ثلث ساعة وينقسم إلى قسمين قسم ذات اليمين وفيه تتمة المدينة والقسم الآخر جبال طبيعية تمتد إلى بعيد وتتصل بجبل هارون من أجمل المناظر المشرفة عَلَى تلك الأودية والجبال.
وهنا يتمثل أمامك قصر فخم يسميه الناس خزنة فرعون والغالب أنه كان معبداً لإيزيس أنشئ عَلَى عهد الإمبراطور أدريانوس الذي زار هذه المدينة سنة 131 وفي واجهة هذا القصر رواق يتقدمه بضعة أعمدة كبرى وفوقها ثلاثة أعمدة أصغر منها ونقوش وتيجان وربما كان يصعد إلى العلية بلولب من الصخر بدليل ما يشاهد في الحائط من أثر الأدراج وإذا دخلت هذا الرواق ترى عَلَى اليمين قاعة كبرى تلمع أحجارها وتتموج وكأنها خرجت الآن من يد نقاشها وفي الجهة اليسرى قاعة مثلها وفي الصدر القاعة الكبرى أو الردهة المدهشة وكل هذه العمدان والسواري والتيجان والقاعات والرواق محفور في الصخر أو في هذا الجبل قطعة واحدة فكأن الحجر كان بيد صانعي هذا الهيكل وغيره من الهياكل والنواويس والقصور كالطين يجعلون منه ما يشاؤن والذي يزيد في الدهشة أن الحجر أحمر في هذه الجبال أو نوع من الحجر الرملي ولكنه بمتانته كالصخر الأصم ثم ترى عليك ذاك اللمعان فمن موجة حمراء إلى أخرى زرقاء إلى مثلها بيضاء إلى جانبها دكناء فسبحان من أنشأ هذا الصخر هنا منقطع النظير ورزق بانيه يد صناعاً تتفنن في تقطيعه ونقره بما فاق به البناة في سائر عاديات سورية. فإن كانت قلعة بعلبك تنم عن ذوق سليم وعلم واسع في النقش وجر الأثقال فإن هذه العاديات الخالدة الأزلية تنادي بلسان حالها هذه عظمة الديان إلى جانب عظمة الإنسان.
وترى إلى جانب الآثار قساطل من الفخار في جانب السيك الذي يشبه بعض جهاته الفج الواقع في شمالي قرية معلولا في جبل سنير (قلمون) وذلك عَلَى علو القامة استحجرت عَلَى الصخر حتى كأنها بعضه وهناك عَلَى بضع دقائق من خزنة فرعون كان في الغالب يخزن ماء هذه العاصمة برمتها وعلى مقربة من مخزن الماء وهو منقور في الجبل أيضاً ملعب التمثيل نقر في الصخر وله 33 ممشى لجلوس المتفرجين ويسع 3000 نسمة وفي هذا الجوار أقدم النواويس وأهمها وبعد ذلك يجيء قصر البنات وهو بناء من الحجر رصفت حجارته كما ترصف الأبنية الضخمة من قلاع وأبراج وأسوار ونحوها والغالب كان للمتأخرين شبه دار للحكومة وهو مما عمر قبل عهد الإسلام وهناك ولاسيما في خربة النصارى آثار بعض أديار يدل اسمها قبرسمها عَلَى أنها من عمل المسيحيين عندما كانت لهم حكومة هنا عَلَى عهد الرومان واليونان وعلى مقربة من تلك الجبال الشوامخ والمنفرجات والأودية بعض نواويس وآثار ولكنها دون آثار بترا في المكانة وفي جبل الصبرا ملعب أو صورة تمثل قتالاً بين سفن حربية.
ويقول بعض علماء الآثار من الألمان أن معظم القبور التي حفرت عَلَى مثال قبور الحجر يرد عهدها إلى الملك أرتياس الرابع أحد ملوك بترا أي 9 و30 سنة قبل المسيح وبعده وليس في وادي موسى أعمدة من قبل الحكم الروماني عليها. وإن ما يشاهد من صور أبي الهول وإيزيس ورؤوس الحملان يدل عَلَى أن هذه البلاد تأثرت بالمدنية المصرية والمسلتان الموجدتان في النجر تمثلان ربي النبطيين اللات ودوزارس وإنها كانت مركز عبادة النبط قبل العهد اليوناني بستة قرون عَلَى الأقل وإن المدنية اليونانية دخلت وادي موسى عَلَى عهد البطالسة فاختلط العنصران المصري والسوري وظل القول الفصل فيها للمدينة اليونانية إلى عهد أرتياس الرابع وفي بترا 851 مصنعاً من القبور والمعابد والمذابح.
وبالجملة فإن من أراد أن يتوسع في درس هذه المدينة الأزلية وجب عليه أن يصرف أياماً في خرائبها كما يفعل بعض سياح الإفرنج وعلماء الآثار منهم فيقصدونها يضربون فيها خيامهم ويصرفون في إمتاع النظر الأسبوع والأسبوعين وعلى من يحب التوسع في البحث أن يستعين بما كتبه علماء الآثار من المصنفات في وصف هذه المصانع بالإنكليزية والألمانية والإفرنسية وغيرها من لغات المدنية الحديثة.
في جوار هذه العاديات المدهشة المنبئة بمدينة راقية + + ينزل نحو ألف نسمة من العرب يأتون أياماً قلائل إلى الحي أو وادي موسى لتعهد زورعهم السقي ثم ينتقلون في الصيف والشتاء في جبال الشراة عَلَى ساعتين أو ثلاث أو أربع من بلدهم في خيام الشعر وهم فرقتان تؤلف الأولى من عرب الشرور ومن بني عطا والثانية من الهلالات والعبيدية والعلايا ويغلب عليهم الفقر ومنهم من يزرع أراضي الحويطات والنعيمات عَلَى مقربة من بلدهم بالخمس وليس فسهم من يقرأ ولا من يكتب وفي وادي موسى مدير عين حديثاً يتبع قضاء عمان كما أن في الشوبك مديراً ويلبس أهل وادي موسى الكوفية والعقال ويسمونه المرير أي المفتول والعباءة وقفاطاناً مسدولاً بدون سراويل وفي أرجلهم نعل يعملونه من جلد البعير وينوطون به حبلة يدخل منها باهم الرجل لتعلق وفي ألفاظهم بعض فصح مثل قولهم لسير الليل وقولهم الهدوم للثياب العتيقة وقولهم الريف للأراضي الخصبة والقابلة للداية وغير ذلك. ويعنون كثيراً بتربية البقر والغنم والماعز والإبل عندهم مثل بني صخر.
وما يشكوه أهل معان يشكو منه أهل وادي موسى يشكون ممن أن الأراضي للمهاجرين غير مسجلة بأسمائهم وأن عشيرتي النعيمات والحويطات تدعي ملكيتها عَلَى حين هذه لم تسجل نفوسها في سجلات الحكومة ولا تدفع إلا ما يصيبها من الأموال الأميرية وهي في رحالة تضرب في الفجاج إلى نجد وأبعد من نجد ولا تتوفر عَلَى زراعة الأرض كلها وإذا قتل البدوي أحد أهل البلدين يفر فلا يلوي عَلَى شيء وإذا قتل الفلاح من أهل معان ووادي موسى رجلاً من أولئك البدو تتقاضاه الحكومة الدية وتحبسه وترهقه فكأن الحكومة لا تقوى إلا عَلَى كل ضعيف خفيف الحال. سألنا أحد كبار شيوخ وادي موسى هل زرت يا عماه مدينة دمشق في حياتك فأجاب إنني لم أزرها أنا ولا أحد من أهل بلدي وأني لي وبزيارتها والطريق عشرة أيام لراكب المطايا وفي السكة الحديدية احتاج إلى أجرة لم أملكها في حياتي فتأمل.
وبعد فإن أجمل المناظر إذا خرجت من السيك أو من الصدفين أي من جانبي الجبلين وفارقت تلك القنن والقلل تقصد إلى عين موسى صعدا في هضاب عنقاء شماء واطلت عَلَى تلك المدينة التي يستحيل أي جيش من جيش العالم أن يفتحها ويستبيح حمى من فيها إذا أرادت الدفاع تشرف من ورائها عَلَى أرض واسعة جداً تظنها بحراً من أشعة الشمس وهي وادي عربة طوله ثلاثة أيام إلى الغرب وعرضه إلى الشمال أربعة من العقبة إلى الغور وفي تربته حصا وأحجار ورمال وأملاح وينابيع قليلة منها بعض الخضرة كما تجد هنا وهناك بعض الشجار البرية ويقصد البدو هذا الوادي في الشتاء لأنه غور يرعون فيه مواشيهم كما يقصد أهالي الطفيلة والكرك والسلط وما جاورهم من الأغوار إلى الغرب من ديارهم ويقصدون جهات الشرق في الربيع ويتوسطون في الشتاء والصيف.
هذا نموذج من عيش أهل المجر والمدر من البوادي ممن تشهد خيامهم السوداء كما قال ابن معتوق في وصفها:
قطع من الليل البهيم عَلَى الثرى ... سقطت وفيها أنجم الجوزاء
والتي قالت فيها الشاعرة الأعرابية يوم زوجت في دمشق وأسكنت القصور والدور من اللبن والحجر:
لبيت تخفق الأرياح فيه ... أحب إليّ من قصر منيف
أو كما قال الشاعر:
الحسن يظهر في شيئين رونقه ... بيت من الشعر أو بيت من الشعر
ولقد أحببنا أن نجربه للمرة الأولى فنزلنا ليلة في أرض إيل عَلَى شيخ من عرب الشرور واسمه محمد إبراهيم وأخرى في بير البيطار عَلَى محمد أبي فرج شيخ بني عطا وهذان المنزلان عَلَى مقربة من وادي موسى وكنا بتنا ليلة في الزيزاء عند فواز بن سطام شيخ مشايخ بني صخر فرأينا العيش البدوي عَلَى اختلاف طبقاته ديمقراطية وارستقراطية ونمنا في العراء تخفق علينا الرياح وخرجنا عن مألوف العادات فشربنا من كاس شرب بها عشرات من قبلنا فلم تغسل كفناجين القهوة وأكلنا الجريش ممزوجاً باللبن الرائب والمرق عليه رقاق تعلوها قطع اللحم والدهن بدون ملعقة ولا شوكة ولا سكين ولا صفحة خاصة ولا منديل فواكلناهم وسامرناهم وحدثناهم وحدثونا واستنصحنا بعضهم لنصرح له أي العيشين أفضل لهم البداوة أم الحضارة فقلنا لهم أنتم بالنظر لما نشأتم عليه أبقوا عَلَى بداوتكم واقتربوا من المدنية ما سمحت لكم أنفسكم ولكن إياكم أن تغفلوا عن تعليم أولادكم لينشأوا نشأة مدنية أكثر من نشأتكم وعندها إذا أحبوا أن ينقطعوا عن عيش الخلاء بتة يتيسر لهم ذلك. إني أخاف عليكم أيها العرب إذا عاشرتم الحضر فأكثرتم من عشرتهم أن تنسوا المكارم العربية ويختلط عليكم أمركم وتضيعون فطرتكم السليمة إلى ما تئن منه حضارتنا من النفاق والكذب والمزور والخديعة ولولا الغارات لآثرت أن أعيش في هذه الديارات بين البوادي ولو أشهراً معدودة من السنة.
يتبع