مجلة المقتبس/العدد 86/قوميتنا ولغتنا مسألة القوميات

مجلة المقتبس/العدد 86/قوميتنا ولغتنا مسألة القوميات

مجلة المقتبس - العدد 86
قوميتنا ولغتنا مسألة القوميات
ملاحظات: بتاريخ: 1 - 3 - 1914



من مسائل القرن التاسع عشر ولدت فيه ونشأت وترعرعت وربما كان الفرنسي أسبق غيرهم من الشعوب المتحضرة إلى إنشاء القومية والتناغي بها منذ قيامهم بثورتهم الأولى وقد قام اليونان في سنة 1821 - 1830وخلعواالطاعة العثمانية باسم القومية وقام البلجيكيون وانفصلوا في سنة 1830 - 1831 عن الهولنديين بهذا الاسم أيضاً وثارا لبولونيون في سنة 1830 - 1831والمجرفي سنة 1848مدفوعين أيضا بعامل القومية والجنسية وساعد نابولي الثالث على إنشاء القومية الإيطالية أو الوحدة الإيطالية في سنة 1859وسها عن تأليف الوحدة الألمانية في سنة 1866 - 1870وكثيرمن الدول العظمى تتخذ من تشابه اللغات حجة لتوحيد الجنسيات والقوميات وضم من تراهم أهلاً لذلك مثل الجامعة الجرمانية والجامعة السلفية وفي البلقان تجري اليوم قاعدة الجنسية على أصولها يريد الروماني والبلغاري والصربي والرومي أن ينشئوا لهم من الضعف قوة ويوحدوا ألسن من ينضمون تحت لوائهم وتجنسوهم بجنسياتهم خلافاً لما جرت عليه الحكومة العثمانية في الروم أيلي مدة خمسة قرون.

وقد أنشأ بعض أتراك الأستانة يؤسسون منذ مدة لنشر لغتهم وإقامة دعائم قوميتهم أندية كثيرة مثل ترك يوردي وترك درنكي وترك أوجاعي وغير ذلك وإليك مقالتين لنا في هذا المعنى كنا نشرناهما في جريدة المقتبس (عدد 1230 - 1246

25رجب 1331و13شعبان هـ 1331 حزيران وتموز1913) فان فيهما الماعاً كبيراً إلى هذا الموضوع الخطير ولعل الطبقة المفكرة العالمة تعاود البحث فيه بحثاً علميا مجردا عن الشعوبية والعصبية.

ذكر علي كمال بك من كبار أدباء الأتراك في إحدى افتتاحياته الأخيرة في إقدام: مبحثاً في أن القومية هي قوة فقط ورد بالبراهين التاريخية على من قاموا يؤسسون أندية تركية صرفة فقال أن ألمانيا حاولت بما فيها من قوة منذ ثلاث وأربعين سنة وقد استولت على ولايتي الألزاس واللورين من فرنسا أن تجعل أهلها ألماناً في لغتهم ومناحيهم فنوعت الأساليب بين الشدة والرخاء فلم توفق إلى إخراجهم عن فرنساويتهم وإن كانت أصولهم جرمانية في القديم ولكنهم تفرنسوا بعد ونشأ لهم رجال فرنسيون في فروع العلم والإدارة والجندية خدموا فرنسا أصدق خدمة وكذلك فعلت ألمانيا من قبل باستيلائها على مقاطع شلزويق الدانمركية فظل أهلها دانمركيين على الرغم من كل تضييق ومثل هذا يقال عن القسم الذي اقتطعته من أرض بولونيا فإن أهله بقوا على بولونيتهم ومن طاف أوروبا وقضى زمناً في ربوعها يعرف تأثير القومية في الأمم الراقية فالألماني لا يحب أن يتخذ عن ألمانيته بديلاً وكذلك الفرنسي والانكليزي والايطالي وغيرهم من الأمم الراقية يتناغى الفرد منهم بجنسيته ويقدسها ويفادي بكل شيء في سبيل الاحتفاظ بها.

قال وأنا معاشر الأتراك نزلنا هذه الديار منذ ستمائة سنة فأنشأنا بقوة فطرتنا وماضينا وتاريخنا دولة وسلطة وقومية ثم بالرابطة الدينية واشتراك المنافع واتحاد المنازع تجلت القومية العثمانية في مظهر آخر وإن الشعوب التي يتألف منها هذا المجموع العثماني مهما ذهبت من المذاهب في أمانيها لا ترى بداً من احترام العثمانية محبتها فعلينا نحن الأتراك أن نعمل على تأييد هذه الرابطة بقوة الخلافة والسلطنة واللسان وما لنا من الأنسال المتفرقة في قسم من قارة آسيا فنجعل العثمانية مستندنا لا التركية وحدها لأن هذه إذا اتبعنا في الدعوة إليها خطة الشدة لا تلبث أن تزول وتنطفي جذوتها ولقد أخذنا منذ عصور نقرب إلينا الشعوب العثمانية الأخرى ولاسيما من تربطنا بهم جامعة الدين مثل الأكراد والجركس واللاكز وغيرهم حتى كاد يظن أنهم امتزجوا بنا فكبرت بهم قوميتنا التركية من حيث الكيفية والكمية والمادة والمعنى ولكن أخذ بعضهم آخراً يفرطون في الدعوة التركية فكان من أثر ذلك أن أصبح أولئك الشعوب يبتعدون منا فتنبهت فيهم فكرة قوميتهم الأصلية وانشئوا يعملون على إعادة مجدها مما يورث الدولة ضعفاً فيقل عددنا كثيراً من حيث القومية في حين أننا أسسنا هذه السلطة بالتكاتف يداً واحدة مع هاته الشعوب فإذا افترقنا عنهم نكون قد عبثنا بكياننا. وكم تركي صرف يبقى يا ترى من الرعيل الذي بيض وجوهنا من الأسلاف والمعاصرين الذين اشتهروا بفضلهم وكمالهم وعقلهم. وعجيب كيف لم نعتبر بما أتى علينا من المهالك ونحن نريد أن نقوم اليوم بما يعرض حياتنا للخطر غير معتبرين بما جرى. هذا محصل ما قاله صديقنا وقبيل أن أحصله للقراء اطلعت في طنين على مقال بتوقيع أحمد توفيق ذكر فيه رحلته إلى بيروت فقال أن ستين في المائة من سكان الأستانة من أصل تركي ومع هذا نرى ثمانين في المائة من مشاريعها وأعمالها غريباً عن التركية والحال ليس كذلك في بيروت فإن كل ما أنشئ فيها من الأعمال قد تعرب وأنت لا تحتاج لمعرفة غير العربية في المرفأ والترام والسكة الحديدية والمخازن لأن بيروت قد عربت كل ما دخل عليها ولم تبعد من العربية كل ما صدر عنها فإنا نرى العرب الذين تفرقوا في أقطار المعمور مهما طالت غربتهم عن ديارهم لا ينسون قوميتهم فلا تسمع في أحياء العرب في نيويورك وبوني أيرس غير اللسان العربي وبواسطتهم دخلت عادات العرب وأخلاقهم إلى تلك القارات الواسعة ولا مناص لمن ينزل هذه الديار بضعة أشهر من أن يستعرب فيندمج في العرب للحاجة الماسة في حين نرى التركي الذي يقيم بضع سنين في فرنسا ينسى لغته أو يتناساها أو يصبح على الأقل وهو يمزج في حديثه ألفاظاً إفرنجية وهذا وإن كان من أسباب فقر اللسان لكن السبب الرئيسي فيه فقدان فكر الوطنية من النفوس. وإنك لتجد في بيروت حتى المدارس الأمريكانية وبالافرنسية التي تبث الأفكار الأجنبية لم يكتب لها البقاء إلا عندما تعربت. والكليتان الأمريكية والفرنسية قد جعلا للعربية مقاماً جليلاً والمعلمون كلهم محيطون باللغة العربية ومنهم المؤلف والأديب والكاتب على حين نرى أمثال هذه المدارس في الأستانة لا يكاد يوجد فيها من يكلمك بغير اللسان الإفرنجي ومهما افتخر الفرنسي بكليتهم البيروتية وقالت جريدة الظان عن سورية أنها القطر الذي فتحناه بلساننا فإن الحقيقة الراهنة أن هذه المدرسة لم تفتح البلاد بلسانها بل لأن المملكة قد أرجعتها إلى قوميتها الخاصة ولسانها الخاص أي أن العرب لم تأسرهم هذه المدرسة بلغتها بل أسروها بلغتهم. إليك زبدة المقالتين والأولى ترمي إلى التخفيف من التحمس إلى التركية لئلا يقل عدد الأتراك الحقيقيين والثانية تدعو قراءها إلى التشبه بالعرب في قوميتهم والتحمس لها حتى يبتلعوا غيرهم ولا يبتلعهم غيرهم. وكلا المقالين صحيح فإن الشعوب لا تقهر على الأخذ بلسان غيرها مهما كثرت عليها عوامل الضغط والإرهاق وحالة التركستان التاتارية وبولونيا الروسية أعظم شاهد من هذا القبيل فإن روسيا تسعى بكل ما لديها من قوة حتى تجعل سكانها روساً فلم يتيسر لها ذلك حتى الآن وإنما الناس يتعلمون لسان قوم ويتجنسون بجنسياتهم إذا وجدوا فيهما مصلحة كما وقع لكثير من الروس والطليان والمجر والألمان والبولونيين والتشيك والبوهميين في أمريكا الشمالية فإن البلاد قد جذبتهم إليها بسائق طلب المعاش أولاً ثم حببت نفسها إليهم بنظامها وعاداتها وغناها فنسوا على التدريج ألسنتهم بعض الشيء واندمجوا في غيرهم فتأمركوا وإذ كانت الولايات المتحدة حتى اليوم مجموعة جنسيات ولغات مختلفة لأن الهجرة إليها لم تنقطع بعد فإن الجيل القادم أو الذي بعده يصبح أميركياً لا محالة بعاداته وأخلاقه ولغته والتعريب أيضاً يقاس على هذا المقياس فقد انتشرت العربية من أقصى الشمال الغربي من أفريقية إلى أوسطها إلى تخوم فارس بقوتين قوة الدين الذي يقضي على من يدين به أن يتعلم اللسان العربي لأن صلاته ومناسكه كلها عربية والقوة الثانية قوة المصلحة لأن الأمم المغلوبة وجدت مصلحتها في الأخذ بلسان الفاتحين ومهما حافظ القليل وسط الكثير على إرثه الطبيعي من حب قوميته ولغته فإن هذا الحب يضعف فيه مع الزمن ولذلك لامناص من تأمرك عرب نيويورك وبونس ايرس مهما طال عليهم الزمن وكذلك الحال في بقايا من العرب المصريين انقطعوا من جيش إبراهيم باشا المصري لما أوغل في صميم آسيا الصغرى فاتحاً فمنهم لا يزالون إلى اليوم في لواء أنطاكية من أعمال قومية عرباً ومع هذا فالأمل ضعيف جداً في بقائهم على عربتيهم فأما أن يصبحوا أرواماً بلغتهم كما أصبح مسلمو كريت أو أتراكاً. والتركية والرومية تنازعانهم هناك. ومثل ذلك يقال في المهاجرين الجركس والششن والطاغستانيين والأتراك الذين نزلوا ولايات سورية وبيروت وحلب واستوطنوها فأنهم لم يستطيعوا الاحتفاظ بقوميتهم ولسانهم أكثر من خمسين سنة وأخذنا نرى أولادهم وقد تعربوا مختارين أو مضطرين وهذا لما وقر في صدر كل مسلم من وجوب تعلم العربية ومن تنازل عن جنسيته ليتخذ العرب قومه لا يرى غضاضة عليه فيما أتى لأنه يكون خرج من شعب ليس له تاريخ مجيد كالعرب ولا لسان فيه كل أسباب المدنية كلسان العرب. العربية مرنة للغاية على الرغم مما يدعي صعوبتها بعض من لا يحبون أن يتعبون أنفسهم ولو أشهراً في تعليمها ولذلك يندمج فيها أهل العناصر الشرقية الأخرى أكثر مما يندمج أهلها في أهل تلك العناصر. وحال مصرفي هذا الشأن أدهش الأغرب أنك ترى الرومي والايطالي والنمساوي والمجري والأسباني والإنكليزي يكلمون المصريين بلهجتهم مع أنه ندر في الطبقة المستنيرة من المصريين من لا يحسن التكلم بلغة أوروبية مشتركة ولا سيما بالافرنسية والانكليزية كل هذا لأن المصلحة تقضي بأن يتعلم نزيل المصريين لسانهم يكلمهم على اختلاف طبقاتهم حتى أن انكلترا وضعت شرطاً على كل من يحب تقلد الوظائف في مصر والسودان من أبنائها أن يحسن اللسان العربي وجعلت جائزة مهمة لمن يكتب له إحراز قصبات السبق بين أقرانه ويستعرب كل من يرى مصلحته من أهل هذه العناصر البقاء في مصر ولو بعد حين مهما حافظ على قوميته ولغته لأن الجوار يعد على نحو ما نرى بلاد القوميات المجسمة كالفرنسيس والطليان والألمان مثلاً يتكلم سكان الحدود لغتين لغة البلاد التي هم منها ولغة المملكة المجاورة وهذا كثير في الشرق أيضاً فإن بعض أهل الجزيرة لمتاخمتهم لبلاد فارس والأكراد يتكلمون مع العربية بالفارسية والكردية وأحيانا بالتركية وهكذا سكان تخوم الهند من الأفغانيين والإيرانيين. نعم إن العربية تعرب كل ما يدخل إليها من الأوضاع لأن في العرب خاصية التقليد والإقدام على أمور المعاش من مذاهبه الطبيعية ولذا ترى أكثر العمال في السكك الحديد الفرنسية وشركات الترامواي في بيروت ودمشق عرباً لأن تلك الشركات لا تجد في أبناء جنسها من يضاهيهم في عملهم ومعارفهم بمثل الرواتب التي تؤديها إليهم وهكذا قل عن مصر ولكن الأتراك لا يتعلمون مبادئ اللغات أو العلوم إلا ليوظفوا في خدمة الحكومة وهذا هو السر في قلة مثول التركية في المشاريع والشركات في الأستانة مثولها في بلادنا. وهنا سؤال وهو هل تستطيع فرنسا بعد استيلائها على مراكش كما استولت على الجزائر والتونس أن تجعل أهلها فرنسيا مع الزمن وهل يكون نصيب طرابلس وبرقة مع الطليان ومصر مع الانكليز كذلك أما جزيرة العرب وما تاخمها من الأقطار العربية اللسان فإنها تبقى عربية صرفة كمصر لأن بعض أجزائها أخذت من الحضارة الغربية حظاً وأنشأت تدمجه في لغتها وأبدت من المرونة ما قربها من مناحي الممدنين فتعلم بعض أهلها شيئاً من ألسن الأجانب ولم ينسوا لغتهم أما الجامدون كبعض أهل الغرب الأقصى والأوسط فإنهم إذا ظلوا على تعصبهم على اللغة الفرنسية يضيعون اللغتين معاً خصوصاً وولاة أمرهم الفرنسي أشد الأمم تناغياً بحب لغتهم ومناحيهم حتى يقال أنهم أقل الأمم تعلماً للغات الأخرى في حين عدوا نحو ثلث سكان بريطانيا العظمى يعرف أهله اللغة واللغتين والثلاث الغربية عنه ومن أراد منا الاحتفاظ بقوميته ولغته على وجه الدهر فعليه إلا يحتقر قومية غيره ولا لغته وأن يداوي معرفته بتعلم لغة أو لغتين من لغات السياسة والتجارة وبذلك تسلم له لغته ويعرف كيف يحتفظ بها. في ساعة واحدة تناولت كتابين غريبين في بابهما احدهما من ليبسيك إحدى قواعد الإمبراطورية الألمانية والثاني من دمشق قاعدة البلاد العربية. الأول كتب باللغة العربية وهو صادر عن أشهر باعة الكتب هناك يريدنا إن نبتاع منه كمية من المصاحف الشريفة التي جود طبعها في ألمانيا بمعرفة زمرة من أهل العلم وبعث إلينا بنموذج منها وقد رجانا في آخر كتابه أن نجيبه إن استحسنا باللغة الألمانية أو الانكليزية أو بالافرنسية لأنه يحسنها. إما الكتاب الثاني فهو من دمشقي نشأ في دمشق وتخرج من المدارس العليا وتعلم إحدى الصناعات الحرة وله غرض بإدارتنا فكتب إلينا كتاباً باللغة التركية فلما فضضناه أسفنا جداً ودفعناه لأول نظر إلى حامله وقلنا لصاحبك إن يكتب إلينا إن أحب لغتنا ولغته فإن وقتنا لا يتسع أن نترجم أفكار كل من يريد نشر شيء من اللغة التي يستحسنها أو يحسنها أو يزين له عقله التفاصح بها وجه الغرابة في الكتابين ظاهر لأدنى تأمل وهو أن رجلاً ألمانياً يريد أن يبيع نسخاً من الكتاب العزيز من مسلم في بلاد الإسلام فيخاطبه بلغته على بعد الديار وقلة من يكتب له بالعربية في بلاده والثاني مسلم عربي يكتب لعربي في صميم بلاد العرب باللغة التركية. فما هذه العناية من الأول وقلتها من الثاني: غربي يستعرب في الغرب وعربي يترك في بلاد العرب! من أضحك الأطوار أن تشاهد عربياً يكلم ابن جنسه أو يكاتبه بغير لغته لغير داع فكأن المتخاطبين يشيران بلسان الحال إلى إن اللسان الذي نتخاطب به أرقى من لساننا وأدل على علو كعبنا واستبطاننا أسرار المعارف في حين نرى أبناء المدينة الحديثة مهما بلغ من انحطاط أممهم وصغر عددها وقلة شأن تاريخها إذا خلوا بعضهم إلى بعض لا يتكلمون بغير لغتهم ولا يتكاتبون بسواها. وكم روى لنا السائحون إلى ديار الغرب منا أنهم كانوا يكلمون الانكليزي بالافرنسية وهم في غير الديار الانكليزية فإذا ما بلغت بهم السفينة إحدى مواني الجزائر البريطانية لا يعود ذاك الانكليزي ينطق بكلمة فرنسية. وقد سئل بعضهم في ذلك فقال نحن الآن في بريطانيا العظمى فلا يسوغ لنا أن نتكلم بغير لغتها وكذلك الألماني مع اللغة الانكليزية والفرنسية فإن معظم رجال التجارة والعلم في ألمانيا يحسنون إحدى هاتين اللغتين أو كليهما معاً فإذا دخلت عليهم في بلادهم يتجاهلونهما ليضطروك إلى التفاهم معهم بلغتهم ويحملوك على تعلم الألمانية من حيث تشاء أو لا تشاء. ولا نزال نعجب بصنيع علماء الشرقيات في هولا نده فإنهم طبعوا بضع مئات من كتب العرب في مطبعة ليدن الهولندية وجعلوا جميع حواشيها ومقدماتها باللغة الهولندية مع أنه قل جداً من يعرف هذه اللغة من أهل أوروبا المجاورين لبلاد القاع. هذا والطابعون والناشرون موقنون بأن كتبهم لا تباع في هولندا فقط بل إنها تروج في ألمانيا وايطاليا والنمسا والمجر وإنكلترا وأميركا وفرنسا وروسيا وأسبانيا بل وفي غيرها من بلاد الشرق ولاسيما في بلاد العرب فلولا حبهم للسانهم لما رأيت تلك المقدمات والشروح إلا باللغة المشتركة بين الأمم في الغرب كالفرنسية مثلاً أوالغة العربية التي نشرا لكتاب برمته فيها والناشرون لأمثال هذه الكتب يكتبون بهاتين اللغتين على التحقيق أو بإحداهما قطعاً. إننا بزهدنا بلغتنا نزهد في قوميتنا وتاريخنا ومن لا ينتسب إلى أصله ينكره الفرع الذي يحاول أن يتقرب منه. إن عظمة العرب وعظمة مدينتهم وحسن بيانهم دع ما هناك من الروابط الدينية مما يدعونا إلى التناغي بلساننا والحرص على تعلمه وإيجاده التخاطب والتكاتب به غير مخلين بأصل من أصوله ما أمكننا ذلك لأن من المحمود. لى مشخصاته كان حرياً بأن لا يغار على أي عزيز ويستحق احتقار غيره. إننا نحبذ كل من يتقن منا لساناً أجنبياً حتى ولو حذق لغة مالطة لما في ذلك من الفائدة فكيف باللسان العثماني وحاجتنا إليه أمس ولكننا نحب أن تكون الميزة للساننا الشريف لأن الله جعل له هذا المقام المحمود. ومدنيتنا وتاريخنا ومجدنا أعظم باعث لكل من ضعفت فيهم أعصاب العصبية القومية أن ينزعوا من نفوسهم تلك المؤثرات التي فيها من الصغار والذل مالا يرضاه من عرف أمته ويريد أن يحيا بها. إن في تاريخ لغات الأمم المتمدنة لعهدنا أعظم محرض لنا على الاحتفاظ بلغتنا مهما كلفنا ذلك فقد رأينا الفلامندي في البلجيك يتفانى في بث لغته حتى جعل لها أدبيات وأقام لها شأناً في جنب اللغة بالافرنسية التي يتكلم بها نحو نصف أهالي بلجيكا وكذلك رأينا الهولندي والدانيماركي والسويدي والفنلندي من صغار شعوب الشمال في أوروبا يحتفظون بألسنهم ولم تكن منذ مائتي أو ثلاثمائة سنة بالتي يعرف لها شأن بين اللغات وأعظم معلم لنا في هذا الباب أهل بوهيميا من مملكة النمسا والمجر فإن لغتهم وهي لغة التشيك كادت تندثر من ألسن أهلها في القرن السابع عشر بما تغلب عليها من اللسان الجرماني فعاد أستاذان من أساتذة كلية براغ إلى أحيائها بنشرهما مخطوطاً في آدابها زعما أنه قديم وقيل أنهما واضعاه فبعد أن كان البوهيمي يكتب بالألمانية ويؤلف ويخطب بها والألمانية عنده لغة الصنائع والتجارة والأدب والتمثيل والصحف عادت فانبثقت لغة التشيك في نفوس أبنائها حتى أصبح المتكلمون بها في بوهيميا وحدها الآن زهاء تسعة ملايين وبهيمي أتشيكي ومليوني نسمة من المورافيين وزهاء ثلاث ملايين السلوفاك في هنغاريا وأصبحت الآداب التشكيلية مما يتنافس فيه كما يتنافس فيه في مدنية البوهيميين وصناعاتهم وصارت كلية براغ أخت كلية برلين وفرانكفورت وميونخ وفيينا من عواصم البلاد الجرمانية وربما فاقت كثيراً من كليات أوروبا. لغة مجهولة أحياها بضع من أهلها بعد دثورها ونحن نرى بعض المستنيرين منا يضيعون بتهاملهم لساناً كالعربية يفاخر الغربي قبل الشرقي بتلقفه وبعد تحصيل ملكته من النعم. إن البوهيميين أعظم مثال في تناغي الأمم بألسنتها ولا تنسى سكان الألزاس واللورين الفرنسيين ولا سكان شلزويك هولستاين الدنمركيين من المانيلولا البولونيين مع روسيا ولا غيرهم مع غيرهم فكلها عبر لنا معاشر العرب

لسان يتكلم به سبعون مليون من الناس ويتعبد به زهاء مائتي وخمسين مليون من أهل الإسلام وأهله لا يهتمون به واللسان العبراني والروماني والبلغاري والأرميني على قلة الناطقين به مثلا يتخذ أهلها كل ذريعة لنشرها ويستميتون بالأخذ بناظرها فتأمل الفرق بين كثرتنا وقلتهم وغنانا بلغتنا وفقرهم بألسنتهم وانحلالنا في وطنيتنا واستبسالهم في الحرص عليها.