مجلة المقتبس/العدد 89/عبرة الحرين

مجلة المقتبس/العدد 89/عبرة الحرين

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 6 - 1914



1

انتدب القائمون على وقف المحسن كارنجي الأميركي جماعة من أهل النظر والإنصاف والعلم من الانكليز والألمان والفرنسيس إلى وضع تقرير في الفظائع التي ارتكبت في حرب البلقان الأخيرة بل في الحربين الأخيرتين فقامت اللجنة المؤلفة لهذا الغرض بما كان الواجب على الدول الممدنة أن تقوم به فكانت خدمتها عظيمة جداً لأبناء الأجيال المقبلة قاموا بذلك وهم على مثل اليقين بأن خدمة الحق المجرد توشك أن تسخط العالم كله.

وقد عهد بتأليف هذه اللجنة إلى المسيو دستور تل دي كونستان من كبار المفكرين في مجلس الشيوخ الفرنسوي فتوخى أن يكون من تقرير هذه اللجنة فائدة اقتصادية كبرى لتلك الحكومات التي تقاتلت وتطاحنت فتكون واسطة للسلام بين الأنام وتسعى الحكومات إلى إصلاح خطئها الظاهر ويحقق المتحاربون آمال الرأي العام الأوربي الذي لا يريد أن يبقي جزء من أوربا معطلاً في حين يستطيع أن يشارك حق المشاركة في الارتقاء العام الذي آخذ مجراه من أوربا في كل مكان وقد طافت هذه اللجنة بلاد البلقان من بلغراد إلى سلانيك فأثينة فالاستانة فصوفيا ومن صربيا إلى يونان إلى مقدونية إلى العثمانية إلى تركيا إلى بلغاريا.

ظهر من مجموع تحقيقات اللجنة أن جميع الحكومات مسؤولة عما أتت من الفظائع أن الجيش الروماني الذي لم يحارب في الحقيقة حرباً تشبه حرب المتخالفين من البلقانيين قد ثبت عليه إتيان المنكرات وجميع المتحاربين خالفوا المبادئ الجوهرية من الحقوق العمومية المتعلقة بالحرب.

وقد نشرت لارفو الافرنسية فصلاً لدستور نل دي كونستان قال فيه: ما قط جاءت العبرة أصرح ولا أفظع مما جاءت هذه المرة فإن الشعوب التي طالما اضطهدت في شبه جزيرة البلقان قد أتت باتحادها بأعمال لم تستطيع أوربا القادرة المنشقة على نفسها أن تتصورها فاستولت في بضعة شهور على كريت وسلانيك واسكوب واشقودرة وادرنة وأوشكت أن تدخل الأستانة وكان ذلك خاتمة المطاف وآخر حل للخلاف.

فلما انحلت رابطتهم قضي عليهم أن يبقوا وضعف قواهم. فإن الحرب الثانية ليست في الواقع حلاً للأشكال بل هي مقدمة لعدة حروب بل حرب كل ساعة وأفظع الحرو حرب الدين وحرب الانتقام وحرب العناصر وحرب شعب لأخر وإنسان لإنسان وأخ لأخيه وبه يسلب الجار ملك جاره ويأتي على قوميته فينتزعها وبقي العثمانيون في أوربا على كل حال. ولم تنجح نتيجة من ضحايا أدرنة وكان من أمر مقدونية أن نجحت من كونها مقبرة لتصبح جهنماً ومزقت تراقياً أجزاء وجعلت ألبانيا إمارة فكانت وما زالت أتعسهن حظاً وأكثرهن هدفاً للمطامع البربرية تكمن لالتقامها كل من النمسا وصربيا والجبل الأسود واليونان وايطاليا. والكنائس والبيع تتخاصم بحيث أصبحت اقل حرية مما كانت على العهد العثماني وستكون الأستانة أكثر مما كانت تفاحة الخلاف الأبدي تحت ملاحظة الروس تراقبهم ألمانيا والنمسا وبلغاريا والمجر وصربيا ترقب أحوال مضيق الأستانة والجزر تتخاصم عليها العثمانية بل أسيا مع ايطاليا واليونان وانكلترا بل جميع دول أوربا العظمى وقد فتح البحر المتوسط لخصومات جديدة فأصبح ساحة وغى لم يكنها من قبل فالمستقبل مظلم ولكنه يتجلى بالنور إذا أحبت ذلك أوربا بل الدول العظمى العسكرية فبيدها كما هو أوربا وأمريكا نزاع بين ظالم ومظلوم بل هو نزاع بين سياستين سياسة التسلح وسياسة الارتقاء فتقوي سياسة الارتقاء تارة وتتغلب عليها من الغد سياسة التحريض والبغضاء التي تؤدي إلى حمل السلاح فالحرب.

عناية الشعوب في العالم القديم والجديد بالمنافسة الاقتصادية التي تؤدي إلى غلاء أسعار التسلح قد جعل الأمم تحنق على هذه الطريقة والإفراط في التسلح هو من لوازم ارتقاء الصناعات ولا يربح من هذا السلام المسلح في الحقيقة إلا البلاد الصغرى أو البلاد الجديدة التي ليس عليها ديون وليس لها ميزانيات ضخمة وقد اتضح للدول أن أغناهن أكثرهن تأثراً بالحرب فاخذ كل من انكلترا وألمانيا وفرنسا والولايات المتحدة وغيرها يطلبن السلام وكان العامل الأكبر في حملهن على الرغبة فيه أمور كثيرة واخصها ضرورة المنافسة العامة وسرعة المواصلات وعصيان أرباب التكاليف والخوف من الفوضوية ومما تخبؤه الأيام في بطونها.

أن عدداً عظيماً من الناس ورؤوس أموال طائلة تعمل لصنع السلاح وكل يوم تزايد أدواتها وتتجمع القوى والأموال لتصرف في سبيلها فالأسواق تروج بطلب السلاح والجرائد توقد جذوة الحروب والنقابات المتعهدة بتقديم السلاح تعمل على توسيع كل خرق لتستفيد من ذلك فوائد مادية مهمة. والسياسة الخارجية في التسلح عند امة عظمى أن تستأثر هي قبل كل شيء بطلبية أسلحة والمحور الذي تدور عليه السياسة أن تقوم امة بتقديم بنادق ومدافع ومدرعات وان تصرف أموال القروض في بلاد معينة وقد أصبح الجهاد حروب نفوذ ودسائس والسفراء الذين لم ينظروا إلى ذلك نظر يقظة وانتباه يسقطون من مناصبهم فألمانيا سلمت العثمانية بل سلحت المستعمرات والممالك الصغرى الفقيرة وسعى رجال السياسة إلى حمل أميركا الشمالية والجنوبية واستراليا على التسلح واضطروا كندا - ومستقبلها مناط بإعفائها بحارة كان في وسعها أن تستغني عن إعالتهم قرناً آخر. وكذلك فعلت استراليا وقد حاولت برازيل والأرجنتين والشيلي وسائر جمهوريات أميركا اللاتينية أن تعيش بسلام ولكن شياطين الأنس من التجار ووكلاء معامل الأسلحة أقنعوهن باستصناع مدرعات ضخمة وحملوا برازيل والأرجنتين على الاستغناء على المدرعات القديمة لبيعها من العثمانية واليونانية وستصبح الأستانة دار صناعة كبرى بل مرفأ حربياً جديراً بتاريخها وتضطر أساطيل اليونان ايطاليا إلى أن تزيد أسطولها وتجري على مثال ذلك الممالك الكبرى في أوربا وأمريكا وهكذا تبلغ السفراء تبليغاتهم السرية إلى حكوماتهم مبالغهن بقوى غير دولهم ودولتهم تبلغها للصحف التي توقد جذوة الفتن كلما خمدت بحيث صحت نبوءة الأميركان في قولهم: أن الحرب المستقبلة ستعلنها الصحافة.

وعندئذ يكون اليونان والعثمانيون والصرب والبلغاريون والجبليون والالبانيون مدججين بالأسلحة ولهم من المدافع والدردنوتات التي لا نعرف كيف نستخدمها فيعودون يقتتلون من جديد ويقودون وراءهم حكومات أوربا الذين يكونون مثلهم فدية الصحافة والوطنية في الحقيقة وطنية مال وكسب أو سياسة التسليح.

قلت في خطاب لي في مجلس الشيوخ أن فرنسا أنفقت منذ ثلاث وأربعين سنة زهاء مئة مليار فرنك أي زهاء ملياري فرنك كل سنة على تسليحها ولم تنتج لها فائدة من هذه النفقة الكبرى. هذا معدل السلام المسلح في مملكة واحدة فضع ولا تخف عدة مئات من المليارات صرفت في خلال نصف قرن في مجموع البلاد. تمثل لذهنك عظمة هذه القناطير المقنطرة من الذهب الذي صرفته أوربا فيما لو صرفت نصفه على المدنية أما كانت أوربا بل افريقية واسيا تهذب كلها وتحيا بمواصلاتها ومعارفها وأمنها ولعمري كيف كانت هذه الشعوب البلقانية التعسة لو صحت عزائم ممالك أوربا الكبرى الحامية لها على التخلي عن المنافسة بينهن في تسليحهم وحصروا منافستهن في إنشاء طرق لتلك الشعوب وأعمال صناعية وفنية وسكك حديدية ونهرية ومدارس ومتاحف ومعامل كيماوية ومستشفيات.

ليست الشعوب البلقانية هي المجرمة الحقيقية في سلسلة هذه المصائب والقتل والغرق والحريق والذبح والفظائع بل ولا الحكومات الأوربية بل المجرمون الحقيقيون هم الذين يخدعون الرأي العام ويستفيدون من جهله لينادوا بالويل والثبور وعظائم الأمور ويحمسوا ويهيجوا ويحملوا بلادهم على بغض البلاد الأخرى بل كل البلاد على التباغض بعضاً لبعض. المجرمون الحقيقيون هم الذين يعلنون كل يوم مدفوعين بعامل المصلحة أو المزاج الحرب التي لامتصاص منها وتنتهي بهم الحال إلى إعلانهم بحجة إنهم يئسوا من التحذير منها. المجرمون الحقيقيون هم الذين يفادون بالمصلحة العامة لأجل منافعهم الشخصية الذين يتبعون لبلادهم سياسة خرقاء سداها المشاكل ولحمتها الانتقام في حين لا ينفع الصغار كما لا ينفع الكبار إلا السلام والوئام وفيهما النجاة والحياة ليس إلا.

هذا ما قراناه في الصحيفة الباريزية وقد رأينا أن نشفعه بما كتبه مجلة لاروس مانسويل في أسباب الحرب البلقانية ونتائجها من سنة 1912 - 1914 قالت: أن الحربين الشرقيين من سنة 1912 - 1913 والأولى بين الدولة العثمانية وممالك البلقان المسيحية المتحالفة والثانية بين هذه الممالك هي افجع الحوادث التي يسطرها تاريخ المسألة الشرقية بعد معاهدة برلين (1787) فوفق شعوب البلقان بعد جهاد أربعة قرون كانوا مظلومين في خلالها إلى أن خطوا هذه الخطوة الواسعة فلم يبقوا للعثمانية إلا الطرف الشرقي من شبه جزيرة البلقان والى توسيع مصورات هذه الممالك المسيحية لتنمية عناصرها وانتشارها. بيد أن غلبة الممالك المسيحية التي تمت بدون معاونة الممالك العظمى وأحياناً على الرغم منها يعدل في مسلك هذه الممالك الكبرى في الشرق فيقضي على أطماعها أراض جديدة منه بدل يؤثر تأثيراً كبيراً في أطماعها الاقتصادية أيضاً وثبت أن الدول الست لم تعد تفلح في حمل شبه جزيرة البلقان على العمل بما تراه الشعوب البلقانية أدركت سر قوتها وغناها فعدل الشعوب البلقانية بأنفسهم سياسة البلقان وتزعزع المبدأ الذي سارت أوربا عليه في دعوى سلامة المملكة العثمانية فصارت أوربا تود أن تكون الأستانة حرة وقسمت الأصقاع الجديدة في الأرض العثمانية إلى مناطق اقتصادية.

أن السبب في الحرب العثمانية التي نشبت في تشرين الأول 1913 شكوى المسيحيين من الإدارة في ابيروس وألبانيا ولا سيما مقدونية فكانوا ذريعة لتدخل الممالك الصغرى التي تطمح منذ زمن إلى ضم الشعوب التي هي من عنصرها إلى بلادهم ولم تستطع أوربا المختلفة المقاصد أن تحول دون هذا التدخل.

ولقد حاولت أوربا أن تقطع شأفة الاضطرابات المقدونية فأخذت حكومتا فينا وبطرسبرج من سنة 1905 إلى 1907 تساعدهما لجنة دولية لتنظيم الإدارة المالية والقضائية في مقدونية ثم أنفقت روسيا وانكلترا غداة مقابلة رفال على توسيع المراقبة الأوربية في هذه البلاد ولكن انتشار القانون الأساسي قد وكل الأمر إلى الباب العالي وكان الانقلاب 24 تموز 1908 من عمل الوطنيين المسلمين ممن كانوا يكرهون المداخلة الأوربية مثل سائر الوزراء السابقين على عهد السلطان عبد الحميد وقد طرح برنامج الإصلاحات المقدونية جانباً فكان (كذا) حظ المسيحيين المستبعدين في شبه جزيرة البلقان في سنة 1910 أتعس مما كان عليه أيام المذابح الأرمنية. وبدت إمارات الضعف في حكومة الأستانة مرات فراحت أوربا تحاول حل المسألة الشرقية وكان من ذلك ضم النمسا لولايتي البوسنة والهرسك (تشرين الأول 1908) وأعلنت بلغاريا استقلالها ونشبت فتنة في الوقت نفسه في اليمن (1910) وظل الاضطراب سائداً في أرمينية وكان من الحرب الايطالية العثمانية (1911 - 1912) خصوصاً دليل على ضعف العسكرية العثمانية على حين اشتداد الأزمة على مسيحي مقدونية فخاف ملوك البلقان من حنق الرأي العام عليهم في بلادهم ونظروا إلى اختلاف أوربا فرأوا في ربيع سنة 1912 أن ساعة التحالف قد حانت. فاتخذت الممالك البلقانية اتحاداً سياسياً عسكرياً عقيب مفاوضات طويلة فعقدت محالفة أولى بين صربيا وبلغاريا سنة 1909 ولم يخف على روسيا ما جرى بينهما فتلقته بالقبول لأنها رأت فيه جواباً مناسباً لتضم النمسا للبوسنة والهرسك. وتمت هذه المحالفة سنة 1912 على أن تكون التخوم بين البلادين صربيا وبلغاريا آخذة من وارنة مجتازة بحيرة أواخر يدا إلى أن تبلغ البحر الادرياتيكي وفي تموز 1912 عقدت محالفة أخرى بين بلغاريا واليونان على أن تترك هذه سلانيك خارج المنطقة التي تريدها ثم عقدت محالفة بين بلغاريا والجبل الأسود يسقط بموجبها الاتفاق الذي كان هذا الجبل عقده والنمسا سنة 1910 ويضمن هذا الاتفاق الجديد للملك نقولا جزءاً من لواء بازار (توفي بازار) ومدة هذه المحالفات إلى خمس وعشرين سنة وقد ترك البحث في مسألة الأستانة احتياطاً وتفادياً من مس أوربا.

وفتحت المشاكل بين العثمانية وممالك البلقان أولاً بأن طلبت حكومة جتنة الجبلية إلى الباب العالي أن تعين حدود المملكتين إذ كان الجبليون من أهل الجبل الأسود في عراك دائم مع القبائل الارناؤدية فتضاممت الأستانة عن هذا الطلب وداهم في أوائل أب رجال الدرك العثمانيين ارض الجبل الأسود على طول تارا وأحدثوا مذابح في مواكوفاز وفليكا وبرانه وغيرها. وحدث مثل ذلك في بوتشانا من مقدونية بين العثمانيين والبلغاريين فزاد في سخط الرأي العام البلغاري فرأت حكومة صوفيا أن تبادر إلى إرسال مذكرة إلى الدول مخافة أن تستحق غضب الحزب الوطني وذلك في منتصف اب قائلة فيها انه بالنظر لحرج الحالة في البلقان فإن أحسن واسطة لمقاومة النزعة الحربية في الشعوب المسيحية في مقدونية وتراقياً أن تمنح الحكومة العثمانية الإصلاحات المطلوبة لذينك القطرين فأجابت الدول داعية حكومة صوفيا إلى التزام السكون وحكومة الأستانة إلى منح الإصلاحات المنشودة. واكتفى الباب العالي بأن يعد المسيحيين بقانون الولايات القديم الذي نشر سنة 1882 ودلت التجارب انه لم يطبق فأخذت الحوادث تتكرر وكانت أنشأت صربيا وبلغاريا منذ أسابيع تعد جيشهما للقتال بحجة القيام بتمرينات عسكرية كبرى فقلقت العثمانية وجمعت 250 ألفاً في ولاياتها الأوربية ولا سيما في أرجاء أدرنة وعلى الحدود الشمالية من تراقيا. وفي اليوم الثامن والعشرين من أيلول دعت بلغاريا الدول لتوقيف التجنيد عند العثمانيين. وفي 30 أيلول زاد تجنيد العثمانيين فقررت بلغاريا وصربيا أن تدعو جميع جيشهما إلى حمل السلاح وفي 3 تشرين الأول دفع وزراء الممالك المتحالفة إلى حكومة الأستانة بلاغاً مشتركاً تطلب فيه منح الاستقلال الإداري لجزيرة كريت ولصربيا القديمة ولمقدونية ولألبانيا وأمهلت الدولة ثلاثة أيام لإعطاء الجواب إذا لم يرسل الجواب بعدها بعمد الحلفاء إلى استعمال السلاح وحاولت الدول العظمى أن تدهل في إصلاح ذات البين بين العثمانية والحلفاء فلم تفلح وكان الباب العالي يستند على ألمانيا ويفاوض من جهة أخرى لندرا وفينا وباريز فيضيع الوقت في المفاوضة وفي 9 تشرين الأول بدأ الجبل الأسود بإعلان الحرب على العثمانية وفي 13 تشرين الأول عاد الحلفاء للبلقانيون فبعثوا بمذكرة إلى الباب العالي يمهلونه ثلاثة أيام ويجعلون مطالبهم في احد عشر بنداً: تقسيم الولايات إلى إيالات تراعى فيها أجناس النازلين فيها وان يكون النواب في مجلس الأمة العثمانية نصفين الأول من المسلمين والآخر من المسيحيين على حد سواء وان يعين لها ولاة مسيحيون بلجيكيون أو سويسريون وان يقبل المسيحيون في جميع الوظائف الإدارية في المملكة العثمانية وتعين لجان للمراقبة يعهد إليها الإشراف على تنفيذ الإصلاحات التي يجب أن تتم في ستة أشهر الخ وفي 17 تشرين الأول بعد أن بعث الباب العالي بمذكرة فيها شيء من الإبهام في توجيه التبعة على من يستحقها أعلنت الحرب بلغاريا وصربيا وفي ذات اليوم قرر مجلس النظار اليوناني أن يعلن الحرب على العثمانية فاجتازت الجنود اليونانية التخوم العثمانية صباح 18 منه وبذلك نشبت الحرب على جميع تخوم المملكة العثمانية.

يكفي إلقاء نظرة قليلة على المصور الطبيعي لبلاد البلقان لتتمثل للقارئ صعوبة الحركات العسكرية على قواد العثمانيين لدى مداهمة كل من بلغاريا وصربيا واليونان للبلاد العثمانية. فإن النجاد من جبل رودوب أو دسبوت طاغ التي تصل إسنادها الأخيرة إلى القرب من البحر بين سرس واورفاني مطوقة واديء ستروما وتفصل ترانية هي مضطرب الجيوش البلغارية العام عن وادي واردار الغني الفسيح وهو الطريق المستقيم لصربيا نحو سلانيك الذي كان الغاية التي تطمح إليها كل من الصرب واليونان. ومثل ذلك يقال في وادي فيستريزا الأوسط ولا سيما الأراضي الواقعة على البحر اليوناني ووادي فويتوزا وابيروس الجنوبية. فالطرق والأودية والسكك الحديدية كلها في التقسيم ألبانيا الشمالية حيث اشقودرة على أربعين كيلو متراً من حدود الجبل الأسود أن البلاد كانت أربع ساحات كبرى للحرب ممكنة ولكن بدون اتصال سهل بينها وبذلك لم يكن العثمانيون على ثقة من مواقع الهجوم عليهم فاضطروا إلى توسيع خطوط الدفاع فإن العثمانية وان استطاعت في الحال أن تجمع 450 ألفاً من المشاة و21 ألفاً من الفرسان و1048 مدفعاً لكنها لم تعمد إلى التزام خطة الدفاع وما كان الأمر بالتجنيد يتناول غير فيالق تراقية ومقدونية وجزءاً من الأناضول واقتضى في الأولى أن يلاحظ إدخال المسيحيين في صفوف المقاتلين في حرب عنصرية دينية وفي الثانية أي في عسكر الأناضول شعر بقلة المواصلات السريعة بين الأستانة واسيا الصغرى وليس في الأناضول سوى خطوط حديدية ضيقة أو ذات خط واحد والجند الاحتياطي الذي أرسل من مرافئ البحر الأسود اقتضى نقله على بواخر إلى الأستانة والى رودوستو (تكفور طاغي) أو سيلوري لتتجه بعد ذلك صوب البلاد التي تحارب فيها ثم أن الحرب الايطالية العثمانية وفتنة اليمن واضطرابات ألبانيا قد اقتضت نقل الجنود من تلك الأصقاع للحرب ومن هنا نشأ تأخير جديد في التجنيد أو تعديل في الحركات العسكرية في بعض الأحوال. ولم يستطيع العثمانيون أن يجمعوا في اليوم الخامس عشر في تراقية سوى 11 فرقة نظامية و8 فرق رديف ثم بعد حين التحق بها 12 فرقة من رديف آسيا الصغرى والظاهر أن الخطة الأولى التي اعتمدها أركان الحرب العثمانية كانت الوقوف في وجه الجيوش البلغارية في تراقية حيث كان معظم قوتها وذلك بحشد الجند الكثير لسد جميع منافذ الدفاع من الشمال الغربي إلى الجنوب الغربي والى الجنوب من وادي واردار فإن الصعوبة الطبيعية في رسم الأرض هناك كانت موافقة للدفاع على ما يظهر. فإن القوى العثمانية بعد أن الفت حامية قوية لموقع أدرنة وحامية تمسك بافواه مضايق الجبل كانت عبارة عن أربعة فيالق في تراقية كل فيلق مؤلف من ثلاث فرق مقسمة بين معسكر أدرنة المنعزل القوي وقلعة قرى كليسا ويرأسه عبد الله باشا (230ألفاً) وكانت قوة العثمانيون في مقدونية مؤلفة من جند تلك الأصقاع أي من الفيالق الخامس والسادس والسابع ومن الفرقة الثانية والعشرين والثالثة والعشرين والرابعة والعشرين المستقلة (210 آلاف) أمدتها بالتدريج ثلاث عشرة فرقة من الرديف وتجمع الفيلق الخامس في سلانيك والسادس في مناستر والسابع في شمالي وشرقي اسكوب عند نقطة اتصال الخطوط الحديدية نحو نيش وسلانيك وسلمت قيادة حدود الجبل الأسود للفرقة الرابعة والعشرين والفرقتان الثانية والعشرون والثالثة والعشرون أخذتا بأفواه مضايق تساليا والبند وأرجاء قوازانا وأواسط فيستريزا وبانيا. وكانت قلة عددهم بالنسبة لجيوش اليونان مادية.

وفاق الحلفاء البلقانيون الجيش العثماني بسرعة التجنيد وهجومهم فتم تجنيد المشاة والاحتياط في بلغاريا في اليوم الخامس وقلة الخيل آخر تجنيد الفرسان والمدفعين إلى اليوم الحادي عشر. فاجتماع تسع فرق من المشاة البلغار وتسعة الوية وفرقة من الفرسان قد تم من اليوم السابع إلى الرابع عشر وانتهى بتجنيد المهاجمين وكان محورهم الرئيسي متجهاً صوب وادي مارتيزا (وهو ثماني فرق عاملة و5 ألوية من الاحتياطي تحت القيادة العامة للجنرال سافوف يعاونه الجنرال فيتشف رئيس الأركان الحرب البلغاري) وهناك جيش ثانوي بقيادة الجنرال كونتشف رابط في كوستندل ماداً يده للجناح الأيسر من الجيش الصربي. وبعد ذلك يجيء جيش ثالث بقيادة القائد رادكوديمتريف منبعثاً على طول نهر طونجة من يلمبوني إلى قزل اغاطاش. أما الجيش الصربي (نحو 70 ألفاً) فكان بقيادة القائد يوتنيك مجنداً في مثل هذه المدة التي تجند فيها الجيش البلغاري ولكنه اجتمع في اليوم العشرين مبثوثاً من كوستنديل (الفيلق الثاني) إلى رشكا ماراً بأعالي نهر مورافا (الفيلق الأول في جنوبي نيش) وكورشوميلي (الفيلق الثالث) أما الجيش اليوناني نحو 125 ألفاً فلم يبق في شمالي ارتاسوي كتيبة حامية (فرقة واحدة) والفرق الست الأخرى اجتمعت كتلة واحدة في تساليا شمالي لاريسا أمام مضيق الاصونة وكان لي العهد قسطنطين يقودها بنفسه. والأسطول اليوناني الصغير بأمره الريان كوندريوتيس يحارب على الشاطئ على مقربة من سلانيك ويستولي على بعض الجزر في بحر ايجة ولا سيما لمني وبزجه

مر معنا أن الجبل الأسود أعلن الحرب يوم 8 تشرين الأول أي قبل عشرة أيام من انقطاع المفاوضات رسمياً بين الدولة العثمانية والحلفاء البلقانيين. وقد بدأت الوقائع في الحال واجتهد الجبليون بعد أن كشفوا اشقودرة كان جيشهم في الجنوب بقيادة القائد مارتينوفتش قد اخذ على نفسه القيام بذلك سائراً نحو حصن ترابوش أن يبادر إلى مد يديه للصربيين بالقرب من لواء يكي بازار. فقاوم العثمانيون على طول التخوم الجبلية إزاء بودغورتسا 9 تشرين ومن الغد استولوا على حصون روغام ودتشيش وفي الأيام التالية داهم الجبليون بشدة معاقل شبشانيك 11 - 13 تشرين فاستولوا عليها ثم حصون وارنة وهليم واتوا بعسكر إلى الجنوب من طريق وادي درين نحو وسووسان جان دي مودا ومنذ اليوم السادس عشر من تشرين الأول نجح القائد فوكوفيش في حركاته نحو بلاد وغوسينه وفي اليوم الحادي والعشرين بلغ وادي ليم وفي اليوم السادس والعشرين التحق بالجيوش الصربية نحو سيانتزا واحتلت أبيك يوم 13 ولم يلبث الهواء من هذه الجهة أن تبدو صعوباته فانقطعت الحركات الحربية وحصر الجبليون وكدهم في مداهمة أعالي ترابوش التي كان يتقدم فيها القائد مارتينوفيش وفي ذاك التاريخ أخذت الوقائع في تلك الحملة تجري في ساحات أخرى.

ولقد دخلت القوى المهاجمة اليونانية والصربية والبلغارية في آن واحد تقريباً أي في 18 تشرين الأول والنقد من حيث الوجهة العسكرية قليل على الجيشين اليوناني والصربي والعثمانيون لم يضعوا أمامهم سوى كتائب متوسطة بقوتها فقد اجتمع معظم الجيش اليوناني في سهل لاريسا من أعمال تساليا وسار على العثمانيين فرقتين واتجهت الفرقة التي تحت قيادة ولي العهد 18 تشرين الأول مارة بفجاج ملونا على الاصونة فاستولت عليها ووصلت طلائعها يوم 21 منه إلى سرفيا واقتتلت مع فرقة عثمانية فاضطروها إلى التسليم بفضل كثرة عددهم وكثرة مدفعياتهم 22 - 23 تشرين الأول وكانت فرقة الشمال خلال هذه المدة تتقدم على خط مواز على كرفنا جاعلة مناستر غاية قصدها فدخل ولي العهد إلى قوزانه يوم 26 تشرين الأول وضايق فجاج ترميوتاموس في جنوب فريا وافتتح المدينة بعد حرب عوان. ومن هناك اتجه نحو سلانيك في ثلاث فرق من رجاله في حين الفرقتان الثانيتان سائرتين على مناستر من طريق بانيجه وفلورينه. وقد التقت طليعته يوم 5 و6 تشرين الثاني مع العثمانيين على شواطئ الواردار في يكيجه ريثما تنضم إليها المدفعية وتعزز بمعظم الجيش في 7 منه قذفوا بالعثمانيين إلى الشاطئ الشمالي من النهر بعد قتال شديد في الجملة فاجتازه ولي العهد على آثره ليدخل يوم 9 منه إلى سلانيك فسلمت الحامية العثمانية مع القلعة وصحون المرفأ وكانت مؤلفة من 25 ألفاً. وقد فشلت الفرقة اليسرى اليونانية في الغرب فاكتشفت من جناحها لكثرة سير ولي العهد فألقى بها الجيش العثماني من بانيجه إلى قيالر فحملتها خسائر جسيمة مادية ولكن العثمانيين عاد فرسان الصرب فهددوهم من الشمال فلم يستطيعوا مطاردة الجيش اليوناني. وفي 21 منه احتل اليونان فلورينة الجديدة واستولت الفرقة اليونانية التي غادرت ارتا في ابيروس على بروزة ثم اجتاز على شدة الفصل وضعف البلاد عل إعالة الجيش مضايق كوستزادس ومضايق بنتوبيكاديا واحتلت هذه المدينة الأخيرة يوم 15 منه في حين أن كتيبة سيارة تقصد فالونة من طريق وادي سوشيتزا. وكان الأسطول اليوناني قد قام بوظيفته خير قيام بأن اغرق في ميناء سلانيك البارجة العثمانية فتح بلند القديمة القائمة على حراسة الساحل وبإخراجه جنداً إلى جزائر ساموتراس وليمني وبوزجة ونيكاريا ومدللي وصاقز الخ.

قام الصرب في مقدونية بأصعب مما قام به اليونان فكانت القوى العثمانية مجتمعة حول اسكوب فاجتاز الجيش الأول الصربي (75 ألفاً) غداة إعلان الحرب بقيادة ولي العهد التخوم بين ريستوفاتزوز يبقجة ومقدمة الصفوف العثمانية نحو الغرب على طول السكة الحديدية. وفي اليوم نفسه اجتاز الفيلق الثالث (بقيادة زيفكوفيش) مضايق بروبولاز بالقوة أما الفيلق الثاني فقد عضده البلغار فاستولى يوم 2 تشرين الأول والبلغاريون من ورائهم على كراتوفا وكوتشانا. وكانت قومانوه الغاية العامة وهناك نشبت المعركة الفاصلة يوم 23و 24 تشرن الأول فهو هاجم الجيش العثماني المؤلف من ستين ألفاً بقيادة زكي باشا من ثلاث جهات فاضطر إلى أن يتراجع نحو اسكوب ودخل جيش القائد ستيانوفيش من الغد إلى اشتب واحتل ولي العهد اسكوب يوم 26 منه فانهزم الجيش العثماني إلى مناستر. وكانت كتائب صربية ذهبت مدداً للجيش الجبلي بقيادة فوكوفيتش وأخرى نزلت وادي واردار مهددة سلانيك وثالثة (مؤلفة من فرقتين) رجعت إلى كوستنديل لتذهب منها في السكة الحديدية لنجدة الجيش البلغاري بقيادة القائد ايفانونف الذي عهد إليه حصار سلانيك. أما معظم الجيش الصربي فقد ظل متابعاً سيره ظافراً نحو مناستر وبعد قتال شديد دام يومين اضطرت المدينة إلى التسليم (18 تشرين الثاني). وفي 28 منه اجتازت فرقة ألبانيا الشمالية ودخلت دراج على البحر الادرياتيكي. وفي تراقية بين العثمانيين والبلغاريين وقعت الوقعة الكبرى فقد تقدم آنفاً كيف قسمت قوى المتحاربين إجمالاً ففي اليوم الثامن عشر من تشرين الأول سار الجيش الأول إلى فرقتين فسارت الفرقة الأولى على طول نهر طونجة يدوس الفرسان العثمانيين من جهة أدرنة وأخذت الثانية نحو الغرب فاستولت على خاصكوي ومصطفى باشا وفي 20 منه ضربت في جمعة بالأفرقة عثمانية وجاء في 22 منه الجيش البلغاري الثالث لتقوية الجناح الأيسر من الجيش الأول سائراً في مسالك صعبة مبرزاً من الشجاعة شيئاً كثيراً آخذة في سيرة على مضايق الجبال ملقياً بالحامية العثمانية إلى فرق كليسا حيث كان الجيش بقيادة محمود مختار باشا وعزيز باشا فاستولى الذعر على العثمانيين كأنهم في قتال حمي وطيسه فجلوا عن المدينة يوم 24 منه صباحاً وخاف الجيش كله أن يقطع عليه خط الرجعة مع الأستانة فتأخر إلى بابا اسكي ولوله برغوس والى الشاطئ الأيسر من ارجين وقد طورد مطاردة شديدة. ونشبت يوم 27 تشرين الأول على نجاد يكاد حصار ولوله برغوس أول حرب دموية فنجح القائد كريستوف البلغاري في هذه الوقعن بفضل انتظام مدفعيته وذلك في يكار حصار كانت تتجه معظم القوى العثمانية في حين أن الفرق الأخرى من الجيش الأول والثاني قد انضمت إليه لتقوية جناحه الأيمن وإطالة حبل امتداده. وفي 30 تشرين الأول عقيب وقعة جرت من الليل فتح طريق النجاد للبلغار وذلك في وسط المعسكر العثماني وفي 30 منه مساءً اضطر العثمانيون إلى الجلاء عن تلك الأرض بتاتاً منهزمين إلى جورلي ثم إلى خطوط الدفاع في جتلجة الواقعة بين البحر الأسود وبحر مرمرة فحللوا دون كل هجوم عليهم إذ قد عززوا خطوط الدفاع على جهة طولها أربعون كيلو متراً معمولة من حصون وفيها مدفعية قوية (مائتا مدفع من العيار الكبير) وعلى هذه الجهة حاول البلغار التقدم فلم يفلحوا فإن عدة وقائع صعبة حدثت في لازاركوي (771 تشرين الثاني) والمحمودية وغيرهما لم تسمع لمشاة البلغار التي كانت تمزق شملها بالنيران والأمراض أن تقاوم العثمانيين والبحر من ورائهم تحميهم المدرعات العثمانية. وفي 20 تشرين الثاني عقدت هدنة قصيرة بين المتحاربين وفي الأيام التالية ظهر الهواء الأصفر في الأستانة ثم في الجيش العثماني في جتلجة ومنها سرى إلى المعسكر البلغاري وفي 23 منه أعلن كان الحرب البلغاري توقف الحرب وكانت انتهت هذه الحرب الهائلة التي دامت على أمدها شهراً من الزمن باستنزاف قوى الفريقين المتحاربين فحان الوقت المناسب لإصلاح ذات بينهما.