مجلة المقتبس/العدد 9/أيتها السماء

مجلة المقتبس/العدد 9/أيتها السماء

ملاحظات: بتاريخ: 18 - 10 - 1906



إليك تتوق أيتها السماءُ ... نفوسٌ قد أضرَّ بها الشقاءُ

ومضتها على الأرض الرزايا ... واسأمها بمحبسها الثواءُ

أحقيّ يا سماء مني نفوسٍ ... إليكِ لها إليك لها التجاءُ

ترجى فيكِ بعد الموت عيشاً ... فوا أسفاه إن خاب الرجاءُ

عدينا ثمَّ إن شئت امطلينا ... فإنا بالوعود لنا اكتفاءُ

وإنا نحن قومٌ قد أهنا ... وإنا نحنُ قومٌ أبرياءُ

وإنا قد عشقنا الموت لما ... سمعنا ذكره فمتى اللقاءُ

إذا أمست حياة المرءِ داءً ... فليس سوى الحمام لها دواءُ

يساء المرء أن يحيا سليماً ... ولكنَّ الحوادث لا تشاءُ

وما حبّ المعيشة في ديارٍ ... لأحرار النفوس بها جفاءُ

فلا سقياً ولا رعياً لأرضٍ ... تراقُ على جوانبها الدماءُ

وما سلمت عليها قبل هذا ... من الأرزاءِ حتى الأنبياءُ

انفسي إن جزعتِ من المنايا ... فإني منكِ يا نفسي براءُ

عبدتِ الأدنياَء رجاَء دنيا ... حوتها بالخداع الأدنياءُ

وأوردتِ الهوانَ فلم تعافي ... فأين تحدثي أين الإباءُ

أبيني يا سماء وخبرينا ... بما لم ندرِ دامَ لكِ العلاءُ

ولا زالت على مرّ الليالي ... نجومكِ يستضيءُ بها الفضاءُ

هل الأرواح بعد الموت منا ... لها في جوك السامي بقاءُ

أم الأرواح تابعةٌ جسوماً ... لنا تبلي فيلحقها الفناءُ

فضاؤكِ هل يصيرُ إلى انتهاءٍ ... أم الأبعاد ليس لها انتهاءُ

وحقٌّ أنَّ للأجرام حداً ... أم الحد الذي يعزى افتراءُ

وبعد نهاية الأجرام قولي ... خلاءٌ في الطبيعة أم ملاءُ

يحيرني امتدادك في الأعالي ... ويبهجني بزرقتك الصفاءُ

أحبّ ضياَء أنجمك الزواهي ... فأحسن ما بأنجمك الضياءُ

نجومكِ في دوائر سابحات ... يحفّ بها المهابة والبهاءُ تراءى في تحركها بطاءً ... وما هي في تحركها بطاءُ

ولا هي في الجسامة لو علمنا ... ولا في بعدها عنا سواءُ

أبيني يا سماءُ وخبريني ... وإلا دام في قلبي امتراءُ

أيبقى المكثرون من الخطايا ... إذا ماتوا وليس لهم جزاءُ

لعمرك لا تريد النفسُ هذا ... فما أجاني وذو التقوى بواءُ

رأيت البعض يخشع للمنايا ... فيذكرها ويغلبهُ البكاءُ

مخافة أن يلمّ الموتُ يوماً ... ببنيتهِ فينهدمَ البناءُ

ويضرب عن وراءِ الموت صفحاً ... كأنَّ الموت ليس له وراءُ

فإن تسأل يقل ما الموت إلا ... نهاية كلّ من لهم ابتداءُ

إضاءتك الحياة وكنت قبلاً ... بليل حشو ظلمته العماءُ

وجودك بعد ذاك الليل صبحٌ ... وهذا الصبح يعقبه المساءُ

رقيت من الجماد فصرت حياً ... تميزهُ الدراية والذكاءُ

أقول كذا ولم أزدد يقيناً ... بما في الأمر لو كشفَ الغطاءُ

فقلت لهُ وبعض القول حقٌّ ... صريحٌ لم يجز فيهِ المراءُ

أليسَ مركبَ الإحياءِ طراً ... عناصرُ أوضحتها الكيمياءُ

فقال بلى فقلت لهُ أليس ال ... عناصر لا تحسّ ولا تشاءُ

فقال بلى فقلت إذن فماذا ... جرى حتى استتبّ لها انتماءُ

وصارت بعد في الإنسان جسماً ... يفكرُ عاقلاً ولهُ دهاءُ

فقال السرُّ في التركيب أنَّ ال ... مركب قد يقوم بهِ ارتقاءُ

إذا اتحدت عناصرُ في بناءٍ ... تغير وصفه ذاك البناءُ

وجدّ لهُ خصائصُ ذات شأنٍ ... عناصرُ جسمهُ منها خلاءُ

وإنَّ حياتنا والموت فالعم ... أجيجٌ في العناصر وانطفاءُ

ولكنَّ التعصب في أناسٍ ... أضلهم الهوى داءٌ عياءُ

وإفهامُ الجهول الحقَ مرّاً ... عناءٌ ليس يشبهه عناءُ

وفي الأصل الجواهر لو علمنا ... قوىً منها الأثيرُ له امتلاءُ تلاقى بينها فتكون منها ... جواهرُ في النفار لها ولاءُ

صغيرات الحجوم محقراتٌ ... ومنها الكائناتُ لها ابتناءُ

تضمن قوتي جذبٍ ودفعٍ ... كما يبديهِ هذا الكهرباءُ

وإنَّ الشمس والأجرام طرَّاً ... من الحركات ولدها السماءُ

لكلّ مقولة منها إليها ... على الدور ابتداءٌ وانتهاء

فإن برزت فذاك لها وجودٌ ... وإن خفيت فذاك له فناءُ

سماؤك هذهِ تحوي نجوماً ... لأكثرها عن البصر اختفاءُ

فتحسب ما يريك الليل منها ... شموعاً في الصباح لها انطفاءُ

وما هي لو تعي إلا شموسٌ ... بها ليدي منوّرها اعتناءُ

شموس قد أضاَء الجوّ منها ... وزال بها عن الكون العماءُ

يصغرها بعينك حين ترنو ... لها بعدٌ هنالك واعتلاءُ

أهمّ بأن أعد الأرض منها ... كواحدة فيمنعني الحياءُ

فإنَّ الأرض تابعة لشمس ... إلى أمّ النجوم لها انتماءُ

فتيهي يا سماءُ فليس شيءٌ ... تكونَ فيكِ عنك لهُ غناءُ

فأنتِ لكلّ موجودٍ وجودٌ ... وأنتِ لكلّ موجودٍ وعاءُ

وهذا الجوّ أنتِ لهُ امتدادٌ ... وهذي الأرض أنتِ لها غطاءُ

وإنَّ وجود ما في الكون طراً ... عليكِ إذا تأملنا ثناءُ

يليق يليق (ما استعليت كبراً) ... بشأنكِ يا سماء الكبرياءُ

فقبل القبل كنت كذا سماءً ... ولا شمسٌ هناكَ ولا ضياءُ

ستفنى الكائنات وليس إلا ... لوجهِ الله ثمَّ لكِ البقاءُ

فقلت لهُ رعاكَ الله هذا ... على ما جاَء في العلم اعتداءُ

فإن حقائق الأشياءِ سرٌّ ... خفيٌّ ما لغامضهُ انجلاءُ

وأبدت قبلنا الحكماء فيها ... أقاويلاً فما برح الخفاءُ

العراق

ج. ص