مجلة المقتبس/العدد 9/تاريخ علم الهندسة وكبار المهندسين

مجلة المقتبس/العدد 9/تاريخ علم الهندسة وكبار المهندسين

مجلة المقتبس - العدد 9
تاريخ علم الهندسة وكبار المهندسين
ملاحظات: بتاريخ: 18 - 10 - 1906



كل فن من الفنون المعروفة اليوم نشأ نشوءً تدريجياً وانتقل ينمو من البسائط إلى المركبات وقد كانت مبادئ العلوم جميعها موجودة في عقول البشر وهم بعد في طور الهمجية ثم أخذت تلك المبادئ تنمو وتزيد بالاستدلال والاستقراء إلى أن انتهت في طريق تكاملها إلى الحالة التي نجدها عليها في هذا الزمان. وقد كانت الحاجة أماً للاختراع والاكتشاف وكثرة مطالب الناس في مجتمعاتهم ومقتضيات عمرانهم كانت تدعوهم إلى التوسع في ما لديهم من المعرفة وتحملهم على التجربة والقياس فوطدوا أساس العلم الذي وضعه لهم العقل ورفعوا عليه البناء الذي أنشأه لهم الاختبار حتى شخص إلى عنان السماء وأصبح اليوم يغيب البصر في بعد مداه وترامي أطرافه وقسمه القائمون به إلى فروع كثيرة اختص بكل فرع منها فريق من العلماء الأعلام وأخذوا على أنفسهم الاحتفاظ به والزيادة فيه فكان ما نراه اليوم من المعلومات في كل فن خلاصة عصور كثيرة مر بها الإنسان وعمل عقول جمة تعاقبت عليه الواحد بعد الواحد. من ذلك علم الهندسة الذي نحن في صدده في هذه المقالة التي كتبناها لقراء المقتبس ونحن على ثقة أننا لم نأت إلا على نزر من غزر ووشل من بحر من أسماء الجهابذة الأعلام الذين أنشأوا هذا الفن وتعاونوا على إبلاغه حده في هذا العصر.

الهندسة علم يبحث في أوضاع الخطوط المستقيمة والمنحنية وفي الزوايا والسطوح والأجسام مع النسب التي بين المقادير وهي أقسام منها الهندسة البسيطة للسطوح والمجسمات وهي تبحث في صفات الخطوط القياسية والسطوح المستوية مع ما تحيط به من الأجسام وينطوي فيها أبحاث الخطوط والزوايا والمثلثات والمضلعات والدائرة والكرة مع الأجسام المحاطة بسطوح قياسية مثل المكعبات والأهرام وغيرها. والهندسة العالية وهي التي تبحث في المنحنيات الحاصلة من قطع المخروط والأشكال الشلجمية والذهلولية. ومنذ عهد غير بعيد ارتقت الهندسة العالية ارتقاءً باهراً وتفنن العلماء في إدخال الطرق الجبرية لحل القضايا الهندسية وتوسيع ما يعرف عندهم اليوم بالهندسة الحلية أو التحليلية. ومن أقسام هذا الفن الهندسة الوصفية أو الرسمية وهي عبارة عن توسع في معالجة الأظلال العمودية أو المرتسمات الهندسية ورسم أشكال الأجسام على السطوح المستوية وهذا القسم من الهندسة يحتاج إليه كثيراً في صناعة البناء وإقامة القباب والج وغيرها.

قال الحكيم فانديك في أحد كتبه الهندسة قسم من التعليميات موضوعة المقدار وهو كمٌّ ذو امتداد أي كل ما له واحد من ثلاثة أشياء وهي الطول والعرض والعمق ويقال لها الأبعاد الثلاثة. ولذلك يكون كل من الخط والسطح والمجسم مقداراً دون الحركة فإنها وإن كانت كماً لا تعد مقداراً إذ ليس لها شيءٌ من الأبعاد المذكورة وهو تعريف محكم لهذا الفن اخترنا إلحاقهُ إلماماً بأطراف البحث.

قلنا أن الهندسة مثل غيرها من العلوم بدأت بالبسائط وتدرجت إلى المركبات ومدارها أوليات بسيطة وحقائق مدركة بالبداهة مثل قولهم الكل أعظم من جزئه والأشياء المساوية لشيءٍ واحد هي متساوية والكل يساوي مجموع أجزائه وأمثال هذه من الحقائق المفهومة بدون برهان وغير المفتقرة إلى إقامة الدليل. وهذه الأوليات هي أساس فن الهندسة وعليها مداره وهي قد أدركها الإنسان منذ ظهوره وانسلاخه عن العهد الحيواني. وأول رجل استعان بشبره أو بقدمه أو بإصبعه أو بذراعه أو بباعه أو بقامته أو بخطوته أو بسهمه أو بنشابة تناولها من الأرض وقاس بها طول طريقه أو عرض كهفه أو محيط جذع شجرته أو ارتفاع جداره يكون هو المهندس الأول الذي ظهر بين الناس. وكما يستحيل علينا اليوم أن نعرف البادئ بعلم الحساب وواضع الأعداد وقواعدها الأولى كذلك يستحيل أن نعرف البادئ بالقواعد الهندسية ونكتفي بالقول أنها وجدت منذ وجد العقل ونمت معه مصاحبة لنمو العمران وارتقاء تمدن الإنسان. ويرجح الباحثون أن المصريين هم أول قوم دققوا في المقاييس وعينوا بعض الأشكال الهندسية مثل المربع والمثلث والدائرة ومسحوا الأرض ودونوا في أطوالها وعروضها جداول وسجلات حفظت في دار الملك ورجع الناس إليها عند الحاجة. وذلك أنهم كانوا في أول أمرهم يقسمون الحقول بينهم ويقيمون عليها تخوماً من الطين فيعدو عليها النيل عند فيضانه ويذهب بها فتضيع الحدود والفواصل ويضل الفلاحون أرضهم فدعا رعمسيس الثاني في القرن الرابع عشر قبل الميلاد جماعة العلماء وأمرهم بالتفتيش عن طريقة يخلصون معها من هذا الارتباك وتكفيهم شر المنازعة على التخوم كل سنة فمسحوا الحقول المستثمرة ووضعوا قواعد مسح المربع والمستطيل من السطوح واستخدموا الزوايا والأقواس في تعيين الحدود وإقامة الفواصل وألفوا كتباً وقسموا الأرض على موجبها وفرضوا الجزية بحسبها وجرت دولة المصريين على ترتيبهم عهداً طويلاً. وقبل عهد رعمسيس كان المصريون قد عمروا الأهرام وشيدوا الهياكل والأبنية الضخمة على أصول هندسية أدركوها بالتجربة والعقل وجروا عليها في الأعمال غير أنهم لم يجعلوها فناً ولا كتبوا فيها شيئاً انتهى إلى المنقبين في هذا العصر. وعلى هذا النمط جرى الكلدان بين النهرين في بناء القصور وإقامة الآثار التي مازال بعضها ماثلاً إلى هذا اليوم.

قال هيرودتس أن منشأ علم الهندسة كان في مصر وذلك يوم جعل سيزوستريس أو رعمسيس الثاني المزارعة دورية بين الفلاحين فاضطر الناس في مثل هذه الحالة إلى مساحة السطوح المستطيلة والمثلثة والمستديرة لأجل تعيين الحدود بين الحصص في أرض لا يوجد فيها شيءٌ من التخوم والفواصل الطبيعية كالصخور والمسايل والرجم والسدود وغيرها وأكد أرسطوطاليس هذا القول بأن العلوم الرياضية نشأت في مصر.

هذا وإن كان المصريون والكلدان بدأوا بوضع القواعد الهندسية إلا أنهم لم يتجاوزا فيها القدر الذي دعتهم إليه أحوال معيشتهم في مسح الأرض وتشييد الهياكل ومراقبة النجوم لمعرفة الأوقات مما له دخل في زراعتهم وعبادتهم وبقوا واقفين عند هذا الحد حتى ظهر اليونان ومدوا يدهم إلى كل جرثومة من جراثيم التمدن والعلم في الشرق فأخذوها ونمت على أيديهم نمواً عجيباً فوسعوا أطراف الهندسة ورفعوها إلى منزلة جديرة بالاعتبار وبسطوا قواعدها واكتشفوا فيها الأسرار العميقة وألفوا الكتب المطولة بالأقسام والأبواب حتى صار فن الهندسة يصف بين أرفع العلوم شأناً وأجلها قدراً. وأبعد مهندسي اليونان عهداً ممن انتهى إلينا خبرهم طاليس الفيلسوف أحد الحكماء السبعة (639_548 ق. م) نزل مصر ودرس المعروف عند علمائها وكهنتها من مبادئ الهندسة وقاس ارتفاع الأهرام بواسطة أظلالها وحمل العلم إلى اليونان حيث رجع وأسس المدرسة الأيونية جاعلاً الهندسة أحد الفنون القانونية فيها فقرأه عليه عدد كبير من طلاب الحكمة ومحبيها ونبغ فيه بعضهم وهو الذي اكتشف أكثر القضايا في المثلث متساوي الساقين وخواص الزوايا المحيطية في الدائرة وقضايا المثلثات المتشابهة فكان أول من جعل لهذا الفن حلقة تدريس خاصة به وجمع الأشتات المعروفة منه ولقنها الطلبة وفتح باباً لمن بعده إلى الاكتشاف والزيادة.

أوسع تلاميذه فضلاً وأسيرهم شهرة فيثاغورس الفيلسوف الذي ولد سنة 570 قبل الميلاد ورحل إلى مصر متشبهاً بأستاذه بعد أن طاف أكثر بلدان الشرق ثم رجع إلى جنوبي إيطاليا وأسس مدرسة صار لها شأن عظيم في تاريخ التمدن. وهو الذي أثبت عدم التناهي في قياس قطر المربع بالنسبة إلى ضلعه وأثبت القضية المشهورة في أن مربع وتر المثلث قائم الزاوية يساوي مجموع مربعي القاعدة والعمود ويذهب بعضهم إلى أن هذه القضية كانت معروفة عند المصريين قبل زمن فيثاغورس والصحيح أنه أول من أقام عليها البرهان الهندسي. واكتشفت عدة قضايا في الأشكال والأجسام القياسية والمضلعات التي محيطاتها متساوية وهو أول من جعل الهندسة فناً استقرائياً.

وقام بعد فيثاغورس عدد عديد من علمائهم صرفوا اهتمامهم في كشف القضايا وإقامة البرهان عليها منهم اناكساغورس المتوفى سنة 430 ق. م وهو أول مهندس جر على من بعده ويلاً كبيراً وحملهم عبثاً ثقيلاً بتفطنه إلى تربيع الدائرة وصرف القسم الأعظم من وقته في حل هذه المشكلة التي تعاصت عليه وعلى من أتى بعده إلى يومنا هذا والغرض من تربيع الدائرة هو رسم مربع بطريقة هندسية تساوي مساحته مساحة دائرة مفروضة فمات رحمه الله وأوصى من يعقبه في علم الهندسة بإكمال العمل الذي بدأ به فصرفت الأيام والشهور والسنون والمعضلة في مكانها كلما زادوها احتفاءً زادتهم إبهاماً وخفاءً حتى أدركوا في العصور الأخيرة أنهم يطلبون الأبلق العقوق كما أدرك كيميو الأقدمين أن حجر الفلاسفة لا ينال. قال الحوراني في رثاء أستاذه الرياضي الشهير المرحوم ميخائيل مشاقة:

والصبرُ عزَّ على الجميع كأنه ... تربيعُ دائرةِ ورسمُ مسبع

ومنهم اينوبيدس مكتشف طريقة رسم العمود ورسم زاوية مساوية لزاوية مفروضة ومنهم هبوقراط الرياضي المولود سنة 450 ق. م الذي تقبل مثال صاحبه في الاشتغال بتربيع الدائرة. وهو أول من اشتغل بالبحث في مسح السطوح المحاطة بخطوط منحنية فاكتشف طريقته لتربيع الأهلة المعروفة عند المهندسين بأهلة هبوقراط والتي جعلت أساساً لمسح السطوح المنحنية وهي أنك إذا رسمت على كل من الوتر والضلعين في المثلث قائم الزاوية نصف محيط إلى جهة رأس القائمة فمساحة الهلالين الحادثين من تقاطع المحيطات ناؤه 2/ 3 ... 1. 259921 وإذا كان ضلع الصغير أربع أقدام كان ضلع الكبير 3 /

تساوي مساحة المثلث. ومسح أيضاً أهلة أخرى بطرق متعددة جميعها قاصرة على انطباقها على الأهلة دون سائر السطوح المكتنفة بالخطوط المنحنية. وعرضت عليه قضية تضعيف المكعب التي كانت شغل الرياضيين الشاغل في ذلك العصر. ذلك أن الطاعون تفشى في جزيرة ديلوس وثقلت وطأته حتى أعيت به حيلة السكان ولم يطيقوا معه مقاماً فلجأوا إلى هاتف أبولون في تلك الجزيرة وسألوه عن الوسيلة لانكشاف الوباء عنهم فأشار عليهم بأن يجعلوا المذبح المكعب الذي في هيكله مضاعفاً في حجمه ففعلوا في الحال بأن زادوا على المذبح ما يساويه مقداراً وأقاموا ينتظرون انفراج الأزمة فما ازداد الوباء إلا فتكاً ولم يجدهم التوسل نفعاً فعادوا إلى الهاتف فأجابهم أن أبولون يريد أن يبقي المذبح مكعباً في شكله مع إضافة مقدار جرمه إليه. فوقع القوم في ارتباك وحاروا في حل هذه القضية ثم عرضوها على العلماء الراسخين في ذلك الزمان فلم يوفقوا إلى معرفة طول ضلع المكعب المطلوب ليكون حجمه مساوياً لضعفي حجم المذبح وأربكتهم المسألة كما أربكت كثيرين بعدهم من الرياضيين أصحاب الشهرة وطول الباع وقد عرضت على أفلاطون فعجز عنها ولجأ إلى المغالطة والسفسطة في إثباتها. ولم يقم رياضي بعد ذلك العهد إلا ضرب رأسه بها وحاول حلها فأعجزت جميعهم حتى أفضى أمرها أخيراً إلى ديكارت في القرن السابع عشر فمثلها بالشكل الشلجمي من قطع المخروط وبالدائرة متقاطعين وأثبت أن حلها بالخطوط والدوائر مستحيل. أما بالأعداد فهي من أبسط المسائل التي يعرفها المبتدئون لا تزيد عن استخراج الجذر الكعبي فإذا كان ضلع المذبح الصغير قدماً وجب أن يكون ضلع المذبح المطلوب 128.

ثم ظهر أفلاطون (430_347 ق. م) وبعد أن أقام في مصر زماناً وأخذ العلم عن كهنتها عاد فوقف على المذاهب الفيثاغورية وأعلن اهتمامه وعنايته بعلم الهندسة فكتب على باب مدرسته لا يدخلها إلا من كان محباً للهندسة وكان يدعو الله سبحانه المهندس الأزلي. وهو أول من بحث في القطوع المخروطية وهو صاحب الرأي المتعلق بالنقط والأوضاع الهندسية وأتلف جزءً كبيراً من وقته في الاشتغال بقضية تضعيف المكعب فعجز عن حلها بالإثبات الهندسي ولكنه اهتدى إلى طريقة عملية وأصر على أنها إخراج صحيح للمسألة وهي ليست كذلك. هذه القضية جرها هاتف أبولون على العلم والعلماء فذهبت بأثمن الساعات وأرفعها قدراً بدون أن تأتي بفائدة لأصحابها غير أنهم اهتدوا وهم يعالجونها إلى حل عدة قضايا هندسية واكتشاف عدد كبير من القواعد والحقائق الرياضية حتى أن أفلاطون تدرج منها إلى وضع أساس الهندسة التحليلية لأنها هي التي جرته إلى استخدام الجبر والحساب في الهندسة كما جرت غيره إلى وضع مقدمات مسهبة وتأليف رسائل مطولة تمهيداً لحلها وتذرعاً إلى بابها. ولا يخطر لي الآن أن علم الهندسة استفاد من الدين في غير هذه المرة.

(البقية تأتي)

دمشق

فارس الخوري