مجلة المقتبس/العدد 9/الفرس

مجلة المقتبس/العدد 9/الفرس

ملاحظات: بتاريخ: 18 - 10 - 1906



معربة عن كتاب تاريخ الحضارة

دين زردشت

إيران - بين نهري دجلة والسند وبحر الخزر والخليج الفارسي صقع عظيم يعرف ببلاد إيران تبلغ مساحته خمسة أضعاف مساحة فرنسا أو تزيد ولكن معظمه مجدب قاحل فهو يتألف من صحارى رمال محرقة ومن أنجاد باردة قارسة تشقها أودية عميقة شجراء وتحيط بها جبال شاهقة. وإذ حيل بين الأنهار وجريها فهي لا تسير إلا ريثما تضيع في الرمال أو في بحيرات مالحة. ويشتد هواء هذه البلاد ويتقلب فيكون حراً في الصيف وقراً في الشتاء وقد يجتاز من يهبط هذه البلاد من منطقة تبلغ درجة حرارتها نحو 32 تحت الصفر إلى منطقة حرارتها 45 سنتغراداً بمعنى أن تلك البلاد جمعت إلى برد سيبيريا حرارة السنغال. وهناك تعصف الرياح الزعازع فتفعل في الأجسام فعل الحسام. بيد أن الأودية وضفاف الأنهار مخصبة منبتة. وهذه البلاد هي ولا جرم مصدر الدراق وشجر الكرز ومستنبت الثمار والمراعي.

الإيرانيون - سكنت بلاد إيران قبائل من الآريين (القاطنين ببلخ أي بكتريا وهي الوطن الأصلي للجنس الآري) كانوا كسائر أبناء هذه البلاد جنساً من الرعاة المسلمين المحاربين. ولقد كان الإيرانيون يقاتلون على ظهور الخيل ويطلقون السهام ويلبسون ألبسة من الجلد يجعلونها وقاية على أبدانهم من هواء بلادهم الشديد.

زردشت - عبد الإيرانيون أولاً ما عبده قدماء الآريين من قوى الطبيعة وخصوصاً الشمس ميترا وقام بين أظهرهم حكيم اسمه زردشت (مه أباد وله كتب كثيرة منها ما له علاقة بالشريعة ثم ظهر زردشت وأصلح هذا الدين) ويدعوه الإفرنج زرواستر فأصلح ديانة الإيرانيين بين القرن العاشر والسابع قبل الميلاد ولم يبلغنا من أخباره غير اسمه. الزاندافستا (الزندو بازندوافستا) - لم يبق شيءٌ مكتوب يؤثر عن زردشت ولكن تعاليمه المؤلفة بعده بزمن طويل قد حفظت في الزاندافستا أي الشريعة والإصلاح وهو كتاب الفرس المقدس. وقد كتب هذا السفر بلغة قديمة لم يفهمها اتباع هذا المذهب أنفسهم ودعوناها أي الإفرنج بازند وكانت تنقسم على ما ورد في أساطيرهم إلى إحدى وعشرين نسخة كتبت على اثني عشر ألف جلد ثور ضم بعضها إلى بعض بأسلاك من الذهب وأبادها المسلمون لما فتحوا بلاد فارس واحتفظت بعض أسرات إيرانية بتعاليم زردشت وأخلصوا دينهم له فلجأوا إلى بلاد الهند فحفظ فيها أخلافهم المدعوون بارسيس تلك الديانة القديمة. وقد وجد عندهم سفر تام من الزاندافستا وقطع من الكتابين الآخرين.

أورمزد هرمز وهرمس واهريمن رمز إلى العقل والنفس وعند العامة إله الخير والشر هذه ديانة زردشت على نحو ما ورد في تلك الكتب إلا أن هرمز الذي يدعوه الإفرنج أورمزد وهو الديان الذي لا يخفى عليه شيءٌ خلق العالم والقوم يصلون له بهذه الألفاظ: أدعو الخالق هرمز واحتفل بشعائره فإنه النور والضياء عظيم رحيم كامل شبهم ذكي جميل سامٍ طاهر يعرف العلم الصحيح مصدر اللذة وهو الذي برأنا وصورنا وأطعمنا وإذ كان على جانب من الصلاح لم يخلق إلا ما هو كذلك وما يرى في العالم من شر فقد برأه رب الشر الكرامانيو أي روح العذاب وندعوه أهريمن (وديو أي شيطان).

الملائكة والشياطين - يقف أهريمن الشقي المخرب قبالة هرمز البارئ الحليم ولكل منهما طائفة من الأرواح فجنود هرمز هم الملائكة المطهرون يازاستا وجنود أهريمن شياطين خبثاء (ديو) ويسكن الملائكة في الشرق في ضوء المشرق والشياطين في الغرب في ظلمات الشفق وكلا الجيشين لا يزالان في حرب دائمة والعالم ساحة قتالهما لأن كليهما حاضر في كل مكان فيسعى هرمز وملائكته إلى الاحتفاظ بالخلق وإسعادهم وصلاحهم ويطوف أهريمن وشياطينه حولهم لإهلاكهم وسوء طالعهم وطلاحهم.

خلائق هرمز وأهريمن - كل حسنة في الأرض هي من صنع هرمز وتستخدم للخبر فالشمس والضياء اللذان يطردان الليل والكواكب والشراب المخمر الذي يتراءى كأنه صوءٌ سيال والماء المروي للإنسان والحقول المزروعة التي تغذيه والأشجار التي يستظل بها والحيوانات الأهلية والكلب والطيور منها خصوصاً ما يعيش منها في الضوء ولاسيما الديك لأنه يبشر بالنهار هذه كلها برأها هرمز. وعلى العكس ينبعث كل ما يضر من أهريمن فيكون شراً مثل الليل والجفاف والبرد والقفر والنباتات السامة والشوك والحيوانات الكاسرة والأفاعي والحلمات الطفيلية (كالبعوض والبراغيث والبق) والحشرات التي تعيش في الجحور المظلمة كالضبان والعقارب والضفادع والجرذان والنمل - وهكذا تنبعث الحياة والطهارة والحقيقة والعمل وكل ما حسن في عالم الأخلاق من هرمز. والموت والقذارة والكذب والكسل وكل ما خبث وساء ينبعث من أهريمن.

العبادة - مصدر العبادة والأخلاق من هذا الاعتقاد فعلى المرء أن يعبد رب الخير ويناضل عنه. يقول هيرودتس: أن من عادة الفرس أن لا يقيموا هياكل ومعابد ومذابح للأرباب ويعدُّ من أتى ذلك كافراً بالنعمة لأن هذه الأمة لا تعتقد اعتقاد اليونان من أن للأرباب صورة على نحو صورة البشر. وأن هرمز ليبدو بهيئة النار أو الشمس ولذا يحتفل الفرس بعبادتهم في الخلاء على الجبال أمام موقد مشتعل فينشدون الأناشيد تمجيداً لهرمز ويذبحون له الحيوانات (كذا) دليلاً على عبادته.

الأخلاق - ناضل الإنسان عن هرمز محسناً لعمله مقبحاً لعمل أهريمن فيجاهد في الظلمات وهو يمد النار بالحطب الجاف والعطور ويجاهد في القفر بحرث الأرض وابتناء البيوت ويجاهد حيوانات أهريمن بقتل الحيات والضباب والحلمات الطفيلية والحيوانات الكاسرة ويجاهد الدنس وذلك أنه يتطهر ويدفع عنه كل ما مات وخصوصاً الأظافر والشعور وحيثما وجدت الشعور والأظافر المقصوصة فهناك يجتمع الشياطين والحيوانات القذرة. ويجاهد الكذب جارياً على قدم الصدق. قال هيرودتس أن الفرس يستقبحون الكذب وهو عندهم عار وسبة كما أنهم يكرهون الاستدانة لأن المديون يكذب بالضرورة. ويجاهد الموت وذلك بالزواج والاستكثار من الولد. جاء في الزاندافستا ما أقبح البيوت التي حرمت من النسل والذراري.

الجنائز - متى مات الإنسان تعود جثته إلى رب الشر ولذلك يقتضي إنقاذ الدار منها لا بإحراقها فإنها تنجس الدار ولا بدفنها فإنها تنجس الأرض ولا بإغراقها فإنها تنجس الماء ومن فعل ذلك فيكون قد تلطخ بحمأة القذارة أبد الدهر. وطريقة الفرس في دفن موتاهم تختلف عن غيرهم من الأمم فيجعلون الجثة في مكان عال مكشوفة جبهتها نحو السماء مثقلة بأحجار ثم يركنون إلى الفرار خشية من الشياطين لأنها تجتمع بزعمهم في أماكن الدفن حيث مأوى المرض والحمى والقذارة والرعب والشعور القديمة وعندها تجيء الكلاب والطيور وهي من الحيوانات الطاهرة فتطهر الجثة بافتراسها.

مصير الأرواح - تنفصل روح الميت عن جسده وفي اليوم الثالث من موتها يؤتى بالروح على الصراط (شنيواد) المؤدي إلى الجنة ماراً فوق هاوية جهنم فيسأل هرمز الروح عندئذ عن حياتها السالفة فإن كانت محسنة تعضدها الأرواح الطاهرة وأرواح الكلاب وتأخذ بيدها لاجتياز الصراط ويدخل بها إلى مقام السعداء (برودس أي فردوس) فيهرب الشياطين لأنها تتجافى عن روح الأرواح التقية أما روح الشرير فتصل على العكس من ذلك إلى الصراط ضعيفة لا يأخذ أحد بيدها ويلقي بها الشياطين في الهاوية ويتناولها روح الشر ويقيدها في قعر الظلمات.

طبيعة الديانة الهرمزية أو الهرمسية المزدية - نشأت هذه الديانة في بلد يشتد فيه الاختلاف والتناقض ففيها الأودية الباسمة بزرعها والأراضي البائرة المحزنة والواحات الرطبة والقفار المحرقة والحقول والسهول الرملية بحيث تتراءى قوى الطبيعة فيها كأنها في حرب عوان أبداً. وهذا الجهاد الذي يمثل للفارسي فيما يحيط به قد اتخذه شريعة العالم. وهكذا تألفت ديانة خالصة من الشوائب تدفع بالإنسان إلى العمل والفضيلة على حين قد انتشر هذا الاعتقاد بالشيطان والجن في الغرب وشغل شعوب أوربا كافة بالأوهام.

المملكة الفارسية

الماديون - سكنت بلاد إيران عدة قبائل ولم يشتهر من بينها سوى الماديين والفرس خيم الماديون في غرب بلاد فارس وهم أقرب إلى الآشوريين ولذلك كان على أيديهم خراب نينوى وبلادها 625 ولكن لم يلبثوا أن استغرقوا في الترف وأنشأوا يتخذون ثياباً مسدولة ويألفون البطالة ويعتقدون اعتقادات خرافية شأن الآشوريين بين الساقطين ومازالوا على ذلك حتى امتزجوا معهم أي امتزاج.

الفرس - أما الفرس فكانوا في الأنحاء الشرقية (والجنوبية) واحتفظوا بأخلاقهم وديانتهم وشدتهم. يقول هيرودتس: أن الفرس لا يعلمون أولادهم إلى سن العشرين غير ركوب الخيل ورمي النشاب وقول الصدق.

قورش اوسيروس اوكيخسرو - قام رئيسهم قورش حوالي سنة 560 وخلع ملك الماديين (الذي هو جده لأمه) وجمع تحت لوائه شعوب إيران كافة ففتح بهم ليديا وبابل وجميع بلاد آسيا الصغرى. ويروى لهذا الملك قصة فصلها هيرودتس في تاريخه تفصيلاً شافياً قال أنه دعا نفسه في بعض ما زبره على الأحجار بقوله أنا قورش ملك الكتائب والعظمة والاقتدار أنا ملك بابل وسومير وأكاد ملك الأقاليم الأربعة وابن كمبيز (كيكاوس) وسلطان سوزيان.

رسوم بيستون - أهلك كمبيز بكر أولاد قورش أخاه سمرديس وفتح مصر (على قول اليونان) علمنا ذلك مما اتصل بنا من الرسم الذي مثل فيه ذلك ولا تزال ترى إلى اليوم في تخوم الفرس وسط سهل أفيح صخرة هائلة نحتت نحتاً عمودياً علوها 450 متراً وهي صخرة بيستون وهناك حروف ناتئة على الحجر تمثل ملكاً متوجاً ويده اليسرى على قوس وهو يدوس أسيراً وتسعة أسرى آخرون واقفون أمامه وقد قيدهم بنفسه. وكتبت ترجمة حياة الملك في رسم بثلاث لغات فقد أعلن الملك داريوس دارا ذلك فقال: هذا ما قمت به قبل أن أغدو ملكاً فقد كان كمبيز بن قورش من بني جنسنا يحكم هنا قبلي وكان له أخ لأبيه وأمه واسمه سمرديس فقتل ذات يوم كمبيز أخاه سمرديس ولا علم للقوم بما جنته يداه. ثم وجه كمبيز وجهته نحو مصر وبينما هو نازل فيها ثار به الشعب وكان قد أصبح الكذب مألوفاً إذ ذاك في تلك البلاد وفي بلاد مادي وسائر العمالات فقام موبذان كان حاضراً إذ ذاك اسمه غوماتا وخدع الأمة بقوله: أنا سمرديس بن قورش وعندئذ انتفض الشعب اجمع وانصرفوا نحوه متخلين عن كمبيز. ثم قضى كمبيز نحبه بجراح جرح نفسه به وبعد أن أتى غوماتا ما أتى من هذه الحيلة واستلب من كمبيز بلاد الفرس ومادي وسائر الأقطار جرى في الخطة التي شاءها فصار ملكاً على هذه البلاد وحاكماً متحكماً في أهلها. فخافه الشعب لظلمه وكان لا يستنكف من قتل الأمة عن بكرة أبيها لئلا تنكشف حيلته ويعرف القوم أنه لصيق بسمرديس بن قورش ودعي في نسبه وقد أظهر للملك داريوس هذه الخديعة ولم يكن أحد في بلاد الفرس ومادي يجرأ على استرجاع تاج الملك من هذا الموبذان غوماتا. قال دارا بعد أن قدم ما سلف وعندئذ تقدمت ودعوت الرب هرمز فأعانني بالتوسل به وكان في صحبتي ناس ذوو إخلاص وصدق فأعانوني على قتل غوماتا وخاصة رجاله فأصبحت ملكاً بمشيئة هرمز واستعدت الملك الذي كان بنو قومنا سلبوه وأرجعته إلى حوزتي وأخذت أعيد المذابح التي طوى بساطها الموبذان غوماتا وذلك لأني كنت مخلصاً للأمة وأعدت الأناشيد والاحتفالات المقدسة إلى سابق عهدها. واضطر دارا بعد أن ضرب ذاك الدخيل غوماتا ضربة قاضية أن يقاتل عدة زعماء ثائرين فقال لقد قاتلت تسع عشرة مرة وغلبت تسعة ملوك.

المملكة الفارسية - علم بما مضى أن دارا أخضع المملكة المختلسة وأعاد مملكة الفرس وقد وسع نطاقها بفتح تراس تراثياً وهي اليوم بلاد البلغار والروملي وولاية من الهند. وكان ينضم تحت لوائه شعوب الشرق أجمع من ماذيين وفرس وآشوريين وكلدانيين ويهود وفينيقيين وسوريين وليديين ومصريين وهنديين فكان سيف سطوته يحمي الأصقاع الواقعة بين نهر الدانوب الطونة غرباً ونهر الأندوس (السند) شرقاً وبين بحر الخزر شمالاً إلى شلالات النيل جنوباً. مملكة لم يعهد لها مثيل في الضخامة (120 مملكة) بيد أن قبيلة جاءت بعد واستولت على تركة الممالك الآسيوية بأجمعها.

أقيال الفرس - قلما يعنى ملوك الشرق بأمر رعاياهم إلا ليستنزفوا أموالهم ويمتهنوا في سبيل سلطانهم أبناءهم وينالوا مديحهم وثناءهم وما قط أخذوا أنفسهم بالنظر في شؤون من يحكمونهم. وكان شأن دارا في هذا المعنى شأن سائر ملوك الشرق ترك كل قبيل في بلاده يحكم نفسه على ما يشاء ويشاء هواه محتفظاً بلغته ودينه وشرائعه وأحياناً برؤسائه وسادته من قبل. على أنه كان يعنى بتنظيم دخل المملكة الذي يتقاضاه من رعاياه فقسم بلاده إلى عشرين حكومة سماها إمارة. وكان في كل حكومة شعوب مختلفة كل الاختلاف سواء كان بلغتها أو بعاداتها ومعتقداتها وكان على كل حكومة أن تؤدي مسانهة خراجاً معيناً بعضه نقد ذهب وفضة وبعضه غلات ونواتج قمح وخيل وعاج فيتقاضى حاكم كل مقاطعة أو قيلها ممن وسد إليه أمرها الخراج ويبعث به إلى مولاه الملك.

دخل المملكة - بلغ مجموع دخل الملك ثمانين مليوناً بسكة زماننا ما عدا خراج الغلات. وإذا اعتبرنا قيمة النقود في ذاك العصر فإنها تعادل ستمائة مليون جنيه في أيامنا. وكان الملك ينفق هذا على حكومته وجيشه وخاصته وبذخ قصره ويبقي عنده كل سنة سبائك عظيمة من العين يدخرها في صناديقه وكان ملك الفرس مثل سائر المشارقة يرى امتلاك الكنوز العظيمة من دواعي الأبهة والتمجد.

السلطان الأعظم - لم يكن في العالم أغنى ولا أقدر من ملك الفرس فقد كان اليونان يدعونه السلطان الأعظم. (ملك الملوك شاهنشاه) وكان له كسائر ملوك الشرق سلطة مطلقة على رعاياه كافة فرساً كانوا أم غيرهم من سائر الشعوب الخاضعة لعرشه. وأنت ترى فيما ذكره هيرودتس كيف كان كمبيز يعامل أعظم سادات قصره: سأل يوماً بريكستاسب (بري كشتاسب أي روح العظمة) وكان ابنه يسقيه ماذا تقول الأمة في أمري؟ فأجابه: مولاي أنهم يثنون على محامدك أطيب الثناء ولكنهم يذهبون إلى أن لك ميلاً قليلاً للخمر قال كمبيز وقد استشاط غضباً من هذا: اعلم إذا كان الفرس يقولون حقاً وصدقاً. فإذا أنا رميت بسهمي قلب ابنك الذي تراه واقفاً أمامك في هذا البهو فذلك أن الفرس لا يعرفون ما يقولون. وما هو إلا أن أعد قوسه وضرب ابن بريكستاسب فخر الفتى صريعاً فجاءه الملك ينظر أين أصابه سهمه فرآه قد أصماه ومزق حشاه. فاستفز السرور الملك وقال لوالد الغلام وهو ضاحك: لقد رأيت بهذا أن الفرس قد أضاعوا رشدهم فقل لي هل عهدت أحداً يطلق السهم إطلاقي له فيصيب الغاية على ما رأيت من الرشاقة. فقال بريكستاسب لا أعتقد أيها المولى أنه في وسع الرب نفسه أن يرمي النبال مثلك في الدقة والاعتدال.

أعمال الفرس - أدى شعوب آسيا في كل دور من أدوارهم جزية للفاتحين وخضعوا للظالمين والغاشمين فنفعهم الفرس كثيراً بأن كفوا بعضهم عن مقاتلة بعض وأزالوا من بينهم أسباب الشجناء وذلك لأنهم أخضعوا كل الشعوب لرئيس واحد. وكان عهدهم عهد سلام لم تعهد فيه مدن تحرق ولا ديار تخرب ولا سكان تذبح أو تؤخذ زرافات وأفواجاً لتستعبد.

مدينتا سوس وبرسوبوليس - عني ملوك الماديين والفرس بإقامة القصور على نحو ما كان يقيم ملوك أشور. وأحسن ما اتصل بنا خبره من تلك القصور قصور دارا في سوس وبرسوبوليس وقد حفر المسيو ديولافوا الفرنسي خرابات سوس فعثر فيها على نقوش وقرامد مزينة بالمينا تبين ارتقاء الصنائع إذ ذاك وقد بقيت من قصر البرسوبوليس خرائب عظيمة وقد نحت في صخر الجبل سطح عظيم قام عليه القصر وهو يوصل إليه بسلم واسع بانحدار قليل بحيث كان يتأتى لعشرة فرسان أن يصعدوه معاً.

النقش الفارسي - حذا نقاشو الفرس حذو الآشوريين في إقامة قصورهم فتجدها في برسوبوليس كما تجدها في بلاد أشور سقوفاً متسعة السطوح يحرسها أسود من الحجر والنقوش الناتئة تمثل صيوداً واحتفالات. وقد أحسن الفرس في إتمام نموذجاتهم في ثلاثة أشياء وذلك بأن استعملوا الرخام عوضاً عن القرميد وجعلوا في الردهات سقفاً بالخشب المصور وأنشأوا أعمدة خفيفة على شكل جذوع الأشجار في أقصى ما يعلم من الحذاقة واللطف وهي من أعلى من محيطها باثنتي عشرة مرة. ولذلك جاءت نقوشهم أجمل أثراً وأوقع في النفوس من نقوش بلاد أشور. وقلما نجح الفرس في الصنائع ويظهر أنهم كانوا أحشم شعوب ذاك العصر وأطهرهم وأشجعهم وكانت وطأة حكمهم في آسيا مدة قرنين أقل جوراً مما عرف من ضروب الحكومات وكانوا أميل إلى الرفق بمن يحكمون.