مجلة المقتبس/العدد 92/نبذة في وصف الأناضول
مجلة المقتبس/العدد 92/نبذة في وصف الأناضول
عظمة بلادنا واتساعها
ينبغي لمن يريد أن يوصف الأناضول أوآسيا الصغرى ومساحتها السطحية خمسمائة ألف وثلاثة آلاف كيلومتر مربع أونحومساحة فرنسا أن يطوفها على الأقل كما طفنا جزءاً منها في السكة الحديدية والمركبات وهذا لا يتيسر في أقل من بضعة أشهر على أقل تعديل ولا يرى الإنسان مع ذلك إلا الطرق العامة الموصلة بين الولايات. ولقد سألت كثيراً ممن طافوا ولايات كثيرة من كبار المأمورين عن مجموعة ما رأى من أرض السلطنة فلم أسقط حتى الآن على رجل رأى الأناضول الشرقي والغربي كله مثلاً ولا على رجل جمع في ذهنه معرفة الشام والحجاز واليمن ونجد والعراق والجزيرة وذلك لترامي أطراف هذه المملكة المحروسة وقلة سككها الحديدية وطرقها المعبدة بالنسبة لمساحتها السطحية.
كل ولاية من ولايات السلطنة تبلغ بمساحتها السطحية مساحة مملكتين صغيرتين من ممالك أوروبا فمساحة ولاية أطنة قبل أن يفصل عنها لواء إيج إيل (سلفكه) 39. 9. . كيلومتر مربع وسكانها أقل من أربعمائة ألف في حين تجد مساحة الدانيمارك 38. 8. 2 كيلومتر وسكانها مليونان ونصف ومساحة هولاندا 33 ألف كيلومتر مربع وسكانها نحوخمسة ملايين ونصف ومساحة بلجيكا29. 156 كيلومتر وسكانها زهاء سبعة ملايين وبينما تجد مساحة ولاية قونية 1. 2. 1. . كيلومتر مربع وسكانها 1. 1. . . . . . تجد جمهورية البرتغال92. 346 كيلومتر وسكانها خمسة ملايين ونصف ومساحة سويسرا41. 346 كيلومتر وسكانها نحوأربعة ملايين فالمملكة العثمانية ينقصها والحالة هذه السكان العاملون والخطوط الحديدية والطرق السالكة.
آسيا الصغرى
يجتاز القطار بعد مدينة حلب قضاء كليس وهو المتاخم لولاية أطنة فيسير فيه نحو خمس ساعات على ما قدرت فتأمل قضاء يقطعه قطار البخار بمثل هذا الزمن. أراضي كليس تشبه سهو ل مصر تربتها جيدة وأشجارها مثمرة ولاسيما الزيتون الذي يزيد في بركتها.
متى أتيت على آخر عمل حلب وأشرفت على سهل الإصلاحية من عمل أطنة يتجلى أمامك جبل اللكام الذي يسمى اليوم جزء منه باسم جبل بركت أوكاورطاغ وهو جبل شاهق كأنه حاجز طبيعي بين أرض الشام وآسيا الصغرى أوحد بين بلاد العرب والثغور كما كانت العرب تطلق عليها هذا الاسم والثغور هي طرسوس وأذنة وملطية والحدث ومرعش والهارونية والكنيسة وعين زربة والمصيصة (مسيس) أوأكثر عمل ولاية أطنة اليوم وربما أدخلوا المصيصة وطرسوس في العواصم والعواصم هي حصون موانع وولاية تحيط بها بين حلب وأنطاكية وقصبتها أنطاكية كان قد بناها قوم واعتصموا بها من الأعداء وأكثرها في الجبال فسميت بذلك.
بين فروق والشام
في هذا الجبل خرق القائمون بتمديد الخط البغدادي أكبر نفق في المملكة العثمانية وثامن نفق بطوله في العالم وهو السمبلون 2. كيلومتراً ويجيء بعده نفق سان غوتار وطوله أقل من ذلك وقد كتب لي الحظ أن ركبت في خط الديكوفيل أي السكة الحديدية الضيقة الموقتة ومررنا من هذا النفق في الليل مع رئيس وفدنا العلمي الأستاذ الشيخ أسعد الشقيري وثلاثة من رصفائي أرباب الصحف فقط فشاهدنا هناك عالماً يعمل كأنه الجن وقد جهزوه بآخر ما وصل إليه العلم الحديث في فتح الأنفاق وتقريب الأبعاد فتجده مناراً بالكهرباء وفيه آلات لتجديد الهواء وأنابيب لجر المياه وهم الآنن يهذبون من حواشيه ويعقدونه بالحجارة.
وهذه الشعبة من الخط البغدادي تنتهي بعد عشرة أشهر كما كان أخبرني المهندسون فيه فلا تبقى غير شعبة وروس التي يعمل فيها الآن وتنتهي بعد سنة ونصف وعندئذ يتصل الخط البغدادي العريض المتقن من حيدر باشا من ضواحي الأستانة إلى حلب فرأس العين والمسافة بين الشهباء ورأس العين 328 كيلومتر نجزت مؤخراً بمعنى أن الخط البغدادي من دار الخلافة إلى بغداد يكون طوله قريباً من طول الخط الحديدي بين باريز والأستانة أي نحوثلاثة آلاف كيلومتر والراكب يسير بين هاتين العاصمتين اثنتين وسبعين ساعة فيطوف قسماً من أرض فرنسا وبلاد سويسرا أوألمانيا وأرض النمسا والمجر بطولهما وبلاد البلقان والروم إيلي.
فما أسعد اليوم الذي يركب فيه ابن أدرنة مثلاً ويصل إلى بغداد أوإلى المدينة المنورة أومكة المكرمة إن لم نقل إلى صنعاء في القطار الحديدي مرتاحاً مرفهاً.
كان أجدادنا يجتازون المسافة بين دمشق والأستانة في ثلاثين مرحلة وسنجتازها قريباً في ثلاثة أيام أوأقل فنقطع شطراً من ولاية سوريا وولاية حلب وولاية أطنة وولاية قونية وشطراً من ولاية خداوندكار (بورصة) ولواءي اسكيشهر وأزميد المستقلين ولكم يفتح هذا الخط للبلاد من أبواب السعادة والرزق ويقرب بين أبعادها ويعرف سكانها بعضهم إلى بعض فنخلص من نقل حاصلاتنا على الجمال والبغال والحمير ومن ركوب العجلات المستطيلة المعروفة في الأناضول باسم بايلي وهي من صنع مدينة آماسية المعروفة في القديم بخرشنة أوعجلات (تخنة عربة) التي لا تبقي لراكبها عضواً لا تزعجه مهما كانت الطريق معبدة.
سألت صديقاً كان نصب قائم مقام على قاش من أعمال أنطالية من ألوية ولاية قونية مدة حولين كاملين هل زرت مدينة قونية قال: كيف أزورها والمسافة على الراكب من قضائي وهو على ساحل البحر المتوسط إلى قونية عشرون يوماً وهكذا المسافات في الأناضول فإن العشرين والثلاثين بل الأربعين والخمسين يوماً بين ولاية وولاية ولواء وآخر هي من الأمور الغير المستهجنة والولاية السعيدة هي التي ارتبطت مع الولايات المتاخمة لها بطرق عجلات.
المملكة العثمانية تحتاج لمائتي مليون ليرة تنشأ فيها خطوط حديدية وطرق عجلات وتجفف البطائح والمستنقعات وتقام لها الخزنات وتطهر الأنهار وتعدن المناجم وتغرس الغابات وعند ذلك لا تشكوولاية أطنة من الغرق ولا ولاية قونية من الشرق ولا غيرها من غير ذلك وتكون بعمرانها ووفرة سكانها كالبلجيك وهولاندا والدانيمارك وسويسرا والبرتغال.
قيلقية أومملكة ذوالقدرية
ولاية أطنة أوقيلقية كما عرفها القدماء ذات شأن بموقعها الطبيعي والاقتصادي قدروا ما تخرجه من القطن فقط بمليونين ونصف مليون من الليرات وأن قرية درت يول وحدها وسكانها أرمن بلغوا نحوخمسة آلاف نسمة باعت لأوربا في العام الذي قبل هذا ستين مليون برتقالة هذا إلى ما فيها من الحبوب الوفيرة والحيوانات التي تنمو في سهل (جقوراوه) كما تجود الحيوانات في سهو ل المجر والغابات فيها الكثير من الصنوبر والسنديان والزان وولاية من عملها جبل اللكام أوطوروس وفيها من السهو ل التي دونها سهو ل حوران والكرك لتحسدها الممالك وتبغضها على خيراتها كل أمة عاقلة ولذلك طمع فيها الفاتحون منذ القديم ففتحها ألفرس فالإسكندر فالرومان وأصبحت ساحة حرب بين البيزنطيين والفرس ثم بين البيزنطيين والخلفاء العباسيين الذين فتحوها أوائل حكمهم وكانوا يختلفون إليها ويعنون بإعمارها فأذنة بناها صالح بن علي العباس والهارونية بناها هارون الرشيد العباسي وطرسوس أعمر مدينة قيلقية في القديم والحديث غلب عليها الإفرنج زمن بني أمية إلى أن أخذها منهم أمير المؤمنين المأمون العباسي وبها مات وهو مدفون فيها كما دفن أبوه في طوس بخراسان ثم خرب ولاية أطنة جنكيز خان وتيمورلنك في القرون الوسطى.
مناظر ولاية أطنة كلها جميلة لأنها سهلية جبلية ساحلية داخلية فيها من الأنهار سيحان وجيحان وكوصوونهر البردان ومن الجبال سلسلة جبال وروس الجسمية وشعباته الجنوبية وجبال قوزان وبيك بوغا وآلاطاغ وصوماق وكوسه وكلها تأخذ بمجامع القلوب لما حوته من البدائع الطبيعية ومن طرسوس إلى بوزانتي نحوعشر ساعات في العربة.
جبال وروس
وهنا مضيق يسمونه اليوم (كولك بوغازي) ومعناه مضيق الكيلة كيلة الحبوب وكانت العرب تسميه الدرب أوالدروب ذكره امرؤ القيس ملك الشعر في الجاهلية في شعره لما توجه إلى قيصر الروم وكان مشى معه صاحب يقال له عمروبن قميئة فلما رأى عمر الدرب وهو الحاجز بين بلاد العرب وبلاد العجم بكى جزعاً لفراقه بلاد العرب ودخوله بلاد العجم ففي ذلك قال امرؤ القيس:
بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه ... وأيقن أنا لاحقان بقيصرا
فقلت له لا تبك عينك إنما ... نحاول ملكاً أونموت فنعذرا
أما نحن فابتهجت أنفسنا وأيم الله واطمأنت لما اجتزنا الدرب وعلمنا أننا نركب بعده القطار ولم يمض لنا إلا ساعات معدودة لنبلغ دار الخلافة بهجة الدنيا وعاصمة الإسلام وقرارة الدعة ومدينة المنعة ومعهد الظرف واللطف وبلد الشعر والخيال. إن الدرب أومضيق (كولك بوغازي) هو كما قلنا واد تتخلله الأنهار والجداول ويكسوشجر الأرز نجاده ووهاده على صورة تظنها من هندسة أعظم مهندسي الزراعة لعهدنا وما هو في الحقيقة إلا مما نبت واستطال بنفسه أنت لا تنفك منذ تطأ عتبة جبال وروس تشم أريج شجرها ورندها وعرارها ولا تسأم من مناظرها لأنها منوعة في تقاطيعها وجمال هندستها بحيث لا تمل العين النظر ولا الأنف الشم ولا الأذن السماع لحفيف الأشجار وتمايل أغصانه وثغاء حملانه وخرير مياهه وأصوات عندليبه وعصفوره.
إن من يسمع من بعد وصف (كولك بوغازي) يقول في نفسه ماذا عسى يكون في هذا المضيق وجبال الدنيا كثيرة متشابهة صخور وتلعات وأكمات ومنفرجات وبطون وشيح وقيصوم وسنديان وزان ولكن جبلنا هذا لا يشبه إلا جبل بحال لأن مدبر الأكوان خلقه على غير مثال من الجبال ولون صخوره وأحسن قطعها فمنها الكبير الهائل ومنها الصغير الحقير وتربته حمراء وسوداء وبيضاء ترى تارة في الهضاب طريقاً معبدة من الصم الصلاب أومرصوفة بالتربة الذكية غرست فيها يد القدرة أشجار الأرز غرساً يتخلل الهواء بينها ولا تنبوالعين عنها لعدم نظامها واختلال هندستها وترامي أبعادها وهناك الأشكال الهندسية برمتها فمن تلعة مستطيلة إلى أخرى هرمية وبجانبها ذروة ذات شكل بيضوي وآخر محدود أومربع أوقائم الزوايا أومنفرجها جعل بعضها إلى جانب بعض ومساحتها السطحية متقاربة وكلها مزينة بالأشجار. أنت هنا تجتاز وادياً ولا كالأودية بحيث تعطي الحق لمن قال في القديم ماء ولا كصدأ ومرعى ولا كالسعدان وفتى ولا كمالك ولورأى القائل الدرب لقال مضيق ولا كهذا وجبال لا كطوروس.
هذه العظمة في الخلق التني تراها ماثلة على أتمها في جبال وروس التي أعجزت ألفاتحين من الأقدمين والمحدثين فكانت كالحاجز الطبيعي الذي لا يرام بين الثغور وبين بلاد الروم عامرة بطبيعتها هندسها ألفاطر وحفها بأنواع البهجة والزينة بحيث لا تملها نفس مهما اكتأبت وتود لوتقضي فيها شطراً من العمر بعيدة عن ضجة العالم وأوهام الخلق وترهات المتمدنين والمتبربرين. .
جبال وروس البديعة لقد أعجزت ألفاتحين عن اجتيز مضائقك كما أعجزت الشعراء والمصورين عن رسم بدائعك وخصائصك فما هذا الإبداع الذي عز نظيره في الأصقاع والبقاع. إيه يا منطقة البكم بالشعر ومعجزة المتكلمين في ذكرى فضائلك وفواضلك. إن جبال الألب التي استبت الألباب ببدائعها وجبال الكاريات التي اشتهرت بصياصيها الطبيعية وجبال حملايا المعروفة بسموها هي دونك في جمع كل هذه المعاني ولوهيأ لك ما تهيأ لتلك من يد صناع تحسن حواشيك وتحسن من أطرافك وتتعهد أزهارك وأشجارك بآخر ما اهتدى إليه العقل البشري من ضروب الصناعة لكنت لعمر الحق معهد اجتماع المصطافين والمرتبعين ومسرح أنس طلاب اللذائذ الطبيعية والصناعية وخزانة ثروة لا هلك ولا ينضب معينها أوتنضب مياه الرافدين دجلة والفرات ولكنه تعالى لا يمنح بلداً كل ما يحتاجه ولا يجمع في شخص كل الصفات والمزايا فسبحان من قسم الخصائص بين البلاد كما قسم الحظوظ بين الجماعات والأفراد.
مصنوعات الأناضول
في ولاية أطنة صناعات لطيفة من الأقمشة والخام والألاجة والبسط وغيرها ولاسيما في مدينة طرسوس التي فيها معمل للخام أنشأه رجل مصري اسمه راسم بك فيه 12. . عامل كما أن في ولاية قونية يصنع مثل هذه الصنائع وفيها يعمل السجاد.
وهاتان الولايتان تخرجان أنوع الحبوب والثمار الطيبة ولاسيما الزيتون ومن ولاية قونية يصدر الأفيون أيضاً والقنب ولكن معظم حاصلاتها من الحبوب فإن سهو لها واسعة جداً تشبه سهو ل بلاد العرب والجبال بعيدة عنها وحاضرتها قونية عاصمة ابن قرمان والسلاجقة ثم عاصمة ابن عثمان الأولي وهي سرة الأناضول وعش التركية وما أظن نفوسها تتجاوز الخمسين ألفاً قال القرماني: إنها مدينة ذات خيرات كثيرة وبساتين وافرة ولها جبل ينزل منه نهر ويدخل البلد من غربيها وبها قبر جلال الدين الرومي الشهير بملاخنكار وقبر صدر الدين القونوي أحد المشايخ الصوفية.
وبينما تجد الأبنية في صميم بلاد الأناضول من الطين واللبن تجدها في ولاية بروصة وما والاها من سواحل البحرين الأبيض والأسود القريبة من الأستانة معمولة من الخشب شأن أكثر بيوت دار الخلافة القديمة ولذلك ترى الحريق يسرع إليها ورصفها لا يوازي سرعة عطبها ولكن القوم انتبهوا في العهد الأخير فأصبحت الدور التي تجدد وتعمر بالحجر والقرميد والحجر المطبوخ والآجر وغيره من المواد المتينة الجميلة على أحدث طراز. يكثر العمران في الأناضول وتزيد مدينة السكان على نسبة قرب البلاد من البحر وقربها من دار الملك فكلما سهل الطريق إلى الأستانة تزيد السعة ويتوفر التعليم فأهل ولايتي خداوندكار وآيدين أرقى بمراحل من أهل قونية وأنقرة كما أن أهل سيواس وأرضروم أحط من أهل أطنة وطرابزون ولسرعة المواصلات اليد الطولى في ذلك فالولاية التي كتب لها أن تصدر حاصلاتها إلى الخارج يأتيها النقد وتتكاثر همم سكانها وتتوفر على الربح فيتعلم بعض أفرادها في المدارس الوسطى والعليا فيكونون رسل المدنية الحديثة ومتعلم واحد في أسرة كبيرة كلها من الأميين يؤثر فيهم وينشلهم من جاهليتهم الجهلاء والولاية المرتبطة بالساحل بخطوط حديدية تكثر السياحة في أهلها والسياحة مدرسة الكبار كما أن المدرسة للصغار.
تحس النفس بانبساط عندما تنتهي من ولاية قونية وتدخل في ولاية خداوندكار ولواءي اسكيشهر وإزميت فإن العمران هنا يبدوفي السهل والجبل وتكثر الأنهار والبحيرات والغابات ولا تقل فيما أحسب جبال بروصة وإزميد في عمرانها عن أرقى جبال الأرض عمراناً والصنائع على هذه النسبة حتى أن مصنوعات بروصة الحريرية من أجمل ما حاكه قول نساج وألطف ما طرزته يد صناع يجمع إلى الرخص متانة وجمالاً فحبذا اليوم الذي نتعلم فيه دروساً في الوطنية ونقتصر على مصنوعاتنا الخاصة ونزهد كل الزهد بأقمشة أوروبا ولا نلبس منها ولوأعطيناها مجاناً. بلادنا تخرج الصوف والقطن والحرير والقنب والكتان وغيرها من لوازم الأقمشة للدفء والزينة ومع هذا لا نزال متعلقين بما تصنعه لنا المعامل الغريبة الغربية ونزهد فيما تنتجه مصانع دمشق وحلب وحماه وطرابلس إلخ إن الثوب من الأقمشة الوطنية يكتسي به أحدنا يكون عوناً لأسرة صانعه الذي تعيش بربحه اليوم واليومين فمن لي بأن أرى كبراءنا وخاصتنا يبدأون أولاً ليكونوا قدوة فيلبسون وعيالهم من أقمشتنا الوطنية في الصيف والشتاء.
إن جوخ إزميت وحرير بروصة وقماش أنقرة تكفي الآن لحاجاتنا وكمالياتنا فتبقى أموالنا في بلادنا وتنشط صناعنا فتكثر اليد العاملة من نسائنا ورجالنا ونخلص من البطالة فإن رأس البطال معمل الشيطان.
التقليد والاقتصاد
بعد الحرب ستزيد الدولة ولا شك الرسوم على البضائع الأجنبية فتحمي الصناعات الوطنية حماية حقيقية خصوصاً وقد خلصنا من شر الامتيازات وأصبح الأجنبي يدفع من الرسوم مثل ما يدفع الوطني ولا يحميه من الحقوق قنصله ولا ترجمانه فليت جمعية الاتحاد والترقي التي حمت الدستور حتى الآن بتضامن أفرادها تصح عزيمتها مذ اليوم الأول فتعاون الحكومة في هذا الشأن كما هو برنامجها وتبين للأهلين بالعمل مقدار ألفوائد التي تنجم عن اقتصارهم على لبس الأقمشة الوطنية مهما كان نوعها كأن يشرع أعضاؤها وكل من ينتمي إليها وعامة المأمورين ونساؤهم وأولادهم بلبس الخام والديما والألأجة والقطنية والحبر التي تعمل في المصانع العثمانية في ولايات الأناضول وسورية والعراق واليمن.
والناس مفطورن على التقليد من يعتقدون فيهم العقل والذوق من رؤسائهم ومشايخهم وعمالهم كما أن المغلوب مولع بشعار الغالب في زيه ولباسه وسائر حالاته ونتعاهد بيننا أن نلوي وجوهنا عما يبعث لنا به الإفرنج مهما أرخصوا بضائعهم ونستعيض عما يرسلونه لنا بما صنعنا بأنفسنا وعندها تكثر المعامل بالأدوات الحديثة في أرضنا ونكون بعد عشر أوعشرين سنة كالغربيين أمة زراعية صناعية فقد نخرت السلع الأوروبية عظامنا وعرقت لحمنا وما ذلك إلا من ضعف مداركنا في المسائل الاقتصادية التي بها حياة الأمم اليوم.
مسألة اللغة
رأيت في طرسوس وأذنة أمراً سرني وهو أن معظم أهلها يتكلمون باللغتين التركية والعربية مع أن بلادهم تركية على ما هو عرفنا فحبذا يوم نرى أهل العنصرين الكبيرين في هذه السلطنة يسيران على طريقة أهل طرسوس وأطنة فيتعلم العربي التركية على نحوما يتعلم التركي العربية قال أحد كبار عمال السلطنة ممن تولى الولايات في بلاد الترك وبلاد العرب أن أحسن حل لمسألة اللسان الاجتماعية أن يتترك العرب ويتعرب الأتراك أي أن يتعلم أهل كل عنصر لسان العنصر الآخر إذ لا مناص لكل منهما من هذا الأمر فالعربية لسان دين الإسلام وتاريخ المسلمين والتركية لغة السياسة والإدارة فإذا وقفت جمعية الاتحاد إلى إنفاذ هذه الخطة في الولايات جمعاء فتعلم العربي بعد إتقانه للغته التركية كما تعلم التركي بعد إتقان لغته العربية تكون قد عملت عملاً معقولاً في باب سياسة العناصر العثمانية كما أن الواجب علينا إذا أردنا أن ننافس الغربي في صناعاته ومتاجره وعلومه أن يتعلم كل فرد منا لغة أولغتين من لغات العلم والمدنية وبعبارة أخرى الألمانية والفرنسية والإنكليزية لغات الحضارة الحديثة لهذا العهد وأكثر ألسن الأمم انتشاراً.
أنا لم أر في الأناضول شيئاً يقال له عرب وترك بل رأيت أخواني الترك يقدسون ابن العرب ويتبركون به رأيتهم مثل قومي يقرون الضيفان ويحبون مكارم الأخلاق ويغلب عليهم التدين والتمسك بالفضائل والمناغاة بذكرى الآباء والأجداد رأيتهم لا يفرقون بين أهل الدين الواحد والعلم الواحد والتاريخ الواحد ولوأضيفت إلى هذه الحسنات معرفة اللسان العربي كما أضيفت إلينا معرفة اللسان التركي لذهب كل ما نتوهمه من فرق بين أكبر عناصر السلطة المحبوبة. ولعل رجال الحل والعقد يجعلون هذه القضية نصب أعينهم بعد الحرب فيوسدون أمر المعارف إلى أناس جبلت عليها نفوسهم وهضموا ما تعلموا وعرفوا من أين تؤكل الكتف لئلا يسيروا على قاعدة من جهل شيئاً عاداه. فأعظم بلايانا جهلنا وأعظم أنواع جهلنا أن يجهل أحدنا من هو أخوه وما هو محيطه وزمانه.