مجموع الفتاوى/المجلد الثالث/فصل في وجوب الاقتصاد والاعتدال في أمر الصحابة والقرابة
فصل في وجوب الاقتصاد والاعتدال في أمر الصحابة والقرابة
عدلوكذلك يجب الاقتصاد والاعتدال في أمر الصحابة والقرابة رضي الله عنهم فإن الله تعالى أثنى على أصحاب نبيه ﷺ من السابقين والتابعين لهم بإحسان، وأخبر أنه رضي عنهم ورضوا عنه، وذكرهم في آيات من كتابه، مثل قوله تعالى : {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ الله وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ الله الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} 1، وقال تعالى: { لَقَدْ رَضِيَ الله عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} 2.
وفي الصحاح عن النبي ﷺ أنه قال: لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده، لو أن أحدكم أنفق مثل أحُدٍ ذهبًا ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نَصِيفه.
وقد اتفق أهل السنة والجماعة على ما تواتر عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، ثم عمر رضي الله عنهما. واتفق أصحاب رسول الله ﷺ على بيعة عثمان بعد عمر رضي الله عنهما وثبت عن النبي ﷺ أنه قال : «خلافة النبوة ثلاثون سنة، ثم تصير ملكًا»، وقال ﷺ: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعَضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة».
وكان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه آخر الخلفاء الراشدين المهديين.
وقد اتفق عامة أهل السنة من العلماء والعباد والأمراء والأجناد على أن يقولوا: أبوبكر، ثم عمر ثم عثمان، ثم علي رضي الله عنهم ودلائل ذلك، وفضائل الصحابة كثير، ليس هذا موضعه.
وكذلك نؤمن بالإمساك عما شجر بينهم، ونعلم أن بعض المنقول في ذلك كذب. وهم كانوا مجتهدين؛ إما مصيبين لهم أجران، أو مثابين على عملهم الصالح مغفور لهم خطؤهم، وما كان لهم من السيئات وقد سبق لهم من الله الحسنى فإن الله يغفرها لهم؛ إما بتوبة أو بحسنات ماحية، أو مصائب مكفرة، أو غير ذلك، فإنهم خير قرون هذه الأمة كما قال ﷺ : «خير القرون قرني الذي بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم» وهذه خير أمة أخرجت للناس.
ونعلم مع ذلك أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان أفضل وأقرب إلى الحق من معاوية وممن قاتله معه؛ لما ثبت في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي ﷺ أنه قال: «تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين، تقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق» وفي هذا الحديث دليل على أنه مع كل طائفة حق، وأن عليًا رضي الله عنه أقرب إلى الحق.
وأما الذين قعدوا عن القتال في الفتنة؛ كسعد بن أبي وقاص، وابن عمر، وغيرهما رضي الله عنهم فاتبعوا النصوص التي سمعوها في ذلك عن القتال في الفتنة، وعلى ذلك أكثر أهل الحديث.
وكذلك آل بيت رسول الله ﷺ، لهم من الحقوق ما يجب رعايتها؛ فإن الله جعل لهم حقا في الخمس والفيء، وأمر بالصلاة عليهم مع الصلاة على رسول الله ﷺ، فقال لنا: قولوا : «اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد». وآل محمد هم الذين حرمت عليهم الصدقة، هكذا قال الشافعي وأحمد بن حنبل، وغيرهما من العلماء رحمهم الله فإن النبي ﷺ قال: «إن الصدقة لا تَحِلُّ لمحمد ولا لآل محمد» وقد قال الله تعالى في كتابه : {إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} 3، وحرم الله عليهم الصدقة، لأنها أوساخ الناس، وقد قال بعض السلف: حب أبي بكر وعمر إيمان، وبغضهما نفاق. وفي المسانيد والسنن أن النبي ﷺ قال للعباس لما شكا إليه جفوة قوم لهم قال : «والذي نفسي بيده لا يدخلون الجنة حتى يحبوكم من أجلي».
وفي الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: «إن الله اصطفى بني إسماعيل، واصطفى بني كنانة من بني إسماعيل، واصطفى قريشًا من كنانة، واصطفى بني هاشم من قريش، واصطفاني من بني هاشم».
وقد كانت الفتنة لما وقعت بقتل عثمان وافتراق الأمة بعده، صار قوم ممن يحب عثمان ويغلو فيه ينحرف عن علي رضي الله عنه مثل كثير من أهل الشام، ممن كان إذ ذاك يسب عليًا رضي الله عنه ويبغضه.
وقوم ممن يحب عليًا رضي الله عنه ويغلو فيه ينحرف عن عثمان رضي الله عنه مثل كثير من أهل العراق، ممن كان يبغض عثمان ويسبه رضي الله عنه.
ثم تغلظت بدعتهم بعد ذلك، حتى سبوا أبا بكر وعمر رضي الله عنهما وزاد البلاء بهم حينئذ.
والسنة محبة عثمان وعلى جميعا، وتقديم أبي بكر وعمر عليهما رضي الله عنهم لما خصهما الله به من الفضائل التي سبقا بها عثمان وعليا جميعًا. وقد نهى الله في كتابه عن التفرق والتشتت، وأمر بالاعتصام بحبله.
فهذا موضع يجب على المؤمن أن يتثبت فيه ويعتصم بحبل الله؛ فإن السنة مبناها على العلم والعدل، والاتباع لكتاب الله وسنة رسوله ﷺ.
فالرافضة لما كانت تسب الصحابة صار العلماء يأمرون بعقوبة من يسب الصحابة، ثم كفرت الصحابة وقالت عنهم أشياء، قد ذكرنا حكمهم فيها في غير هذا الموضع.
ولم يكن أحد إذ ذاك يتكلم في يزيد بن معاوية ولا كان الكلام فيه من الدين، ثم حدثت بعد ذلك أشياء، فصار قوم يظهرون لعنة يزيد بن معاوية. وربما كان غرضهم بذلك التطرق إلى لعنة غيره، فكره أكثر أهل السنة لعنة أحد بعينه، فسمع بذلك قوم ممن كان يتسنن، فاعتقد أن يزيد كان من كبار الصالحين وأئمة الهدى.
وصار الغلاة فيه على طرفي نقيض، هؤلاء يقولون: إنه كافر زنديق، وإنه قتل ابن بنت رسول الله ﷺ، وقتل الأنصار وأبناءهم بالحرة ليأخذ بثأر أهل بيته الذين قتلوا كفارًا، مثل جده لأمه عتبة بن ربيعة، وخاله الوليد، وغيرهما، ويذكرون عنه من الاشتهار بشرب الخمر وإظهار الفواحش أشياء.
وأقوام يعتقدون أنه كان إماما عادلا هاديًا مهديًا، وأنه كان من الصحابة أو أكابر الصحابة، وأنه كان من أولياء الله تعالى. وربما اعتقد بعضهم أنه كان من الأنبياء! ويقولون: من وقف في يزيد وقفه الله على نار جهنم، ويروون عن الشيخ حسن بن عدي: أنه كان كذا وكذا وليًا، ومن وقفوا فيه وقفوا على النار؛ لقولهم في يزيد. وفي زمن الشيخ حسن زادوا أشياء باطلة نظمًا ونثرًا. وغلوا في الشيخ عدي وفي يزيد بأشياء مخالفة لما كان عليه الشيخ عدي الكبير قدس الله روحه فإن طريقته كانت سليمة لم يكن فيها من هذه البدع، وابتلوا بروافض عادوهم، وقتلوا الشيخ حسنا، وجرت فتن لا يحبها الله ولا رسوله.
وهذا الغلو في يزيد من الطرفين، خلاف لما أجمع عليه أهل العلم والإيمان.
فإن يزيد بن معاوية ولد في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه ولم يدرك النبي ﷺ، ولا كان من الصحابة باتفاق العلماء، ولا كان من المشهورين بالدين والصلاح، وكان من شبان المسلمين، ولا كان كافرًا ولا زنديقًا، وتولى بعد أبيه على كراهة من بعض المسلمين ورضا من بعضهم، وكان فيه شجاعة وكرم، ولم يكن مظهرًا للفواحش كما يحكي عنه خصومه.
وجرت في إمارته أمور عظيمة:
أحدها: مقتل الحسين رضي الله عنه وهو لم يأمر بقتل الحسين، ولا أظهر الفرح بقتله، ولا نكت بالقضيب على ثناياه رضي الله عنه ولا حمل رأس الحسين رضي الله عنه إلى الشام، لكن أمر بمنع الحسين رضي الله عنه وبدفعه عن الأمر، ولو كان بقتاله، فزاد النواب على أمره، وحض الشمرذي الجيوش على قتله لعبيد الله بن زياد، فاعتدى عليه عبيد الله بن زياد، فطلب منهم الحسين رضي الله عنه أن يجيء إلى يزيد، أو يذهب إلى الثغر مرابطًا، أو يعود إلى مكة فمنعوه رضي الله عنه إلا أن يستأسر لهم، وأمر عمر بن سعد بقتاله فقتلوه مظلومًا له ولطائفة من أهل بيته رضي الله عنهم.
وكان قتله رضي الله عنه من المصائب العظيمة، فإن قتل الحسين، وقتل عثمان قبله، كانا من أعظم أسباب الفتن في هذه الأمة، وقَتَلَتْهُمَا من شرار الخلق عند الله.
ولما قدم أهلهم رضي الله عنهم على يزيد بن معاوية أكرمهم وسيرهم إلى المدينة، وروى عنه أنه لعن ابن زياد على قتله. وقال: كنت أرضى من طاعة أهل العراق بدون قتل الحسين، لكنه مع هذا لم يظهر منه إنكار قتله، والانتصار له، والأخذ بثأره كان هو الواجب عليه، فصار أهل الحق يلومونه على تركه للواجب مضافًا إلى أمور أخرى. وأما خصومه فيزيدون عليه من الفرية أشياء.
وأما الأمر الثاني: فإن أهل المدينة النبوية نقضوا بيعته وأخرجوا نوابه وأهله، فبعث إليهم جيشًا، وأمره إذا لم يطيعوه بعد ثلاث أن يدخلها بالسيف ويبيحها ثلاثا، فصار عسكره في المدينة النبوية ثلاثا يقتلون وينهبون، ويفتضون الفروج المحرمة. ثم أرسل جيشًا إلى مكة المشرفة، فحاصروا مكة، وتوفي يزيد وهم محاصرون مكة، وهذا من العدوان والظلم الذي فعل بأمره.
ولهذا كان الذي عليه معتقد أهل السنة وأئمة الأمة: أنه لا يسب ولا يحب. قال صالح ابن أحمد بن حنبل: قلت لأبي: إن قومًا يقولون: إنهم يحبون يزيد. قال: يا بني، وهل يحب يزيد أحد يؤمن بالله واليوم الآخر؟ فقلت: يا أبت، فلماذا لا تلعنه؟ قال: يا بني، ومتى رأيت أباك يلعن أحدًا؟
وروى عنه: قيل له: أتكتب الحديث عن يزيد بن معاوية ؟ فقال: لا. ولا كرامة، أو ليس هو الذي فعل بأهل المدينة ما فعل؟
فيزيد عند علماء أئمة المسلمين ملك من الملوك، لا يحبونه محبة الصالحين وأولياء الله، ولا يسبونه، فإنهم لا يحبون لعنة المسلم المعين؛ لما روى البخاري في صحيحه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلا كان يدعى حمارًا، وكان يكثر شرب الخمر، وكان كلما أتى به إلى النبي ﷺ ضربه. فقال رجل: لعنه الله، ما أكثر ما يؤتى به إلى النبي ﷺ. فقال النبي ﷺ: «لا تلعنه، فإنه يحب الله ورسوله».
ومع هذا فطائفة من أهل السنة يجيزون لعنه؛ لأنهم يعتقدون أنه فعل من الظلم ما يجوز لعن فاعله.
وطائفة أخرى ترى محبته؛ لأنه مسلم تولى على عهد الصحابة، وبايعه الصحابة. ويقولون: لم يصح عنه ما نقل عنه، وكانت له محاسن أو كان مجتهدًا فيما فعله.
والصواب هو ما عليه الأئمة: من أنه لا يخص بمحبة ولا يلعن. ومع هذا فإن كان فاسقًا أو ظالمًا فالله يغفر للفاسق والظالم، لا سيما إذا أتى بحسنات عظيمة. وقد روى البخاري في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي ﷺ قال: «أول جيش يغزو القسطنطينية مغفور له» وأول جيش غزاها كان أميرهم يزيد بن معاوية، وكان معه أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه.
وقد يشتبه يزيد بن معاوية بعمه يزيد بن أبي سفيان، فإن يزيد بن أبي سفيان كان من الصحابة وكان من خيار الصحابة، وهو خير آل حرب. وكان أحد أمراء الشام الذين بعثهم أبو بكر رضي الله عنه في فتوح الشام، ومشى أبو بكر في ركابه يوصيه مشيعًا له، فقال له: يا خليفة رسول الله، إما أن تركب وإما أن أنزل. فقال: لستُ براكب ولستَ بنازل، إني أحتسب خطاي هذه في سبيل الله. فلما توفي بعد فتوح الشام في خلافة عمر، ولى عمر رضي الله عنه مكانه أخاه معاوية، وولد له يزيد في خلافة عثمان بن عفان، وأقام معاوية بالشام إلى أن وقع ما وقع.
فالواجب الاقتصار في ذلك والإعراض عن ذكر يزيد بن معاوية وامتحان المسلمين به، فإن هذا من البدع المخالفة لأهل السنة والجماعة؛ فإنه بسبب ذلك اعتقد قوم من الجهال أن يزيد بن معاوية من الصحابة، وأنه من أكابر الصالحين وأئمة العدل، وهو خطأ بين.
هامش