مجموع الفتاوى/المجلد الثالث/فصل في وصف الله بالإثبات والنفي


فصل في وصف الله بالإثبات والنفي

القاعدة الأولى: أن الله سبحانه موصوف بالإثبات والنفي، فالإثبات كإخباره بأنه بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، وأنه سميع بصير، ونحو ذلك، والنفي؛ كقوله {لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ} 1. وينبغي أن يعلم أن النفي ليس فيه مدح ولا كمال، إلا إذا تضمن إثباتًا وإلا فمجرد النفي ليس فيه مدح ولا كمال، لأن النفي المحض عدم محض، والعدم المحض ليس بشيء وما ليس بشيء فهو كما قيل: ليس بشيء، فضلًا عن أن يكون مدحًا أو كمالا ولان النفي المحض يوصف به المعدوم والممتنع والمعدوم والممتنع لا يوصف بمدح ولا كمال. فلهذا كان عامة ما وصف الله به نفسه من النفي متضمنًا لإثبات مدح كقوله: {الله لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} إلى قوله: {وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا} 2. فنفي السنة والنوم يتضمن كمال الحياة والقيام، فهو مبين لكمال أنه الحي القيوم وكذلك قوله: {وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا} 3. أي لا يكرثه ولا يثقله، وذلك مستلزم لكمال قدرته، وتمامها بخلاف المخلوق القادر، إذا كان يقدر على الشيء بنوع كلفة ومشقة، فإن هذا نقص في قدرته، وعيب في قوته، وكذلك قوله: {لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ} 4 فان نفي العزوب مستلزم لعلمه بكل ذرة في السموات والأرض، وكذلك قوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ} 5. فإن نفي مس اللغوب الذي هو التعب والإعياء دل على كمال القدرة ونهاية القوة بخلاف المخلوق الذي يلحقه من التعب والكلال ما يلحقه، وكذلك قوله: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} 6. إنما نفي الإدراك الذي هو الإحاطة، كما قاله أكثر العلماء ولم ينف مجرد الرؤية، لأن المعدوم لا يرى وليس في كونه لا يرى مدح، إذ لو كان كذلك لكان المعدوم ممدوحًا وإنما المدح في كونه لا يحاط به وإن رئي، كما أنه لا يحاط به، وإن علم فكما أنه إذا علم لا يحاط به علمًا: فكذلك إذا رئي لا يحاط به رؤية، فكان في نفي الإدراك من إثبات عظمته ما يكون مدحًا وصفة كمال، وكان ذلك دليلًا على إثبات الرؤية لا على نفيها لكنه دليل على إثبات الرؤية مع عدم الإحاطة، وهذا هو الحق الذي اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها، وإذا تأملت ذلك وجدت كل نفي لا يستلزم ثبوتًا هو مما لم يصف الله به نفسه، فالذين لا يصفونه إلا بالسلوب: لم يثبتوا في الحقيقة إلهًا محمودًا، بل ولا موجودًا وكذلك من شاركهم في بعض ذلك، كالذين قالوا لا يتكلم، أو لا يرى، أو ليس فوق العالم، أو لم يستو على العرش، ويقولون: ليس بداخل العالم ولا خارجه، ولا مباينًا للعالم ولا محايثًا له، إذ هذه الصفات يمكن أن يوصف بها المعدوم، وليست هي صفة مستلزمة صفة ثبوت، ولهذا قال محمود بن سبكتكين لمن ادعى ذلك في الخالق: ميز لنا بين هذا الرب الذي تثبته وبين المعدوم. وكذلك كونه لا يتكلم، أو لا ينزل ليس في ذلك صفة مدح ولا كمال، بل هذه الصفات فيها تشبيه له بالمنقوصات أو المعدومات، فهذه الصفات منها ما لا يتصف به إلا المعدوم، ومنها ما لا يتصف به إلا الجمادات والناقص، فمن قال: لا هو مباين للعالم، ولا مداخل للعالم فهو بمنزلة من قال: لا هو قائم بنفسه، ولا بغيره، ولا قديم، ولا محدث، ولا متقدم، على العالم، ولا مقارن له، ومن قال: إنه ليس بحي ولا ميت، ولا سميع ولا بصير، ولا متكلم، لزمه أن يكون ميتًا أصم أعمى أبكم.

فإن قال: العمى عدم البصر عمًا من شأنه أن يقبل البصر، وما لم يقبل البصر، كالحائط لا يقال له أعمى ولا بصير، قيل له: هذا اصطلاح اصطلحتموه، وإلا فما يوصف بعدم الحياة والسمع والبصر والكلام، يمكن وصفه بالموت والعمى والخرس والعجمة، وأيضا فكل موجود يقبل الاتصاف بهذه الأمور ونقائضهًا، فإن الله قادر على جعل الجماد حيًا، كما جعل عصى موسى حية ابتلعت الحبال والعصي، وأيضا فالذي لا يقبل الاتصاف بهذه الصفات أعظم نقصًا ممن لا يقبل الاتصاف بها مع اتصافه بنقائضها، فالجماد الذي لا يوصف بالبصر ولا العمى ولا الكلام ولا الخرس، أعظم نقصًا من الحي الأعمى الأخرس فإذا قيل: أن الباري لا يمكن اتصافه بذلك: كان في ذلك من وصفه بالنقص أعظم؛ مما إذا وصف بالخرس والعمى والصمم ونحو ذلك، مع أنه إذا جعل غير قابل لها كان تشبيهًا له بالجماد الذي لا يقبل الاتصاف بواحد منها. وهذا تشبيه بالجمادات، لا بالحيوانات، فكيف من قال ذلك غيره مما يزعم أنه تشبيه بالحي، وأيضا فنفس نفي هذه الصفات نقص كما أن إثباتها كمال، فالحياة من حيث هي هي، مع قطع النظر عن تعيين الموصوف بها صفة كمال، وكذلك العلم والقدرة والسمع والبصر والكلام والفعل ونحو ذلك، وما كان صفة كمال فهو سبحانه أحق أن يتصف به من المخلوقات، فلو لم يتصف به مع اتصاف المخلوق به: لكان المخلوق أكمل منه.

واعلم أن الجهمية المحضة، كالقرامطة ومن ضاهاهم؛ ينفون عنه تعالى اتصافه بالنقيضين حتى يقولون ليس بموجود، ولا ليس بموجود، ولا حي، ولا ليس بحي، ومعلوم أن الخلو عن النقيضين ممتنع في بدائه العقول، كالجمع بين النقيضين، وآخرون وصفوه بالنفي فقط فقالوا: ليس بحي ولا سميع، ولا بصير وهؤلاء، أعظم كفرًا من أولئك من وجه، وأولئك أعظم كفرًا، من هؤلاء من وجه، فإذا قيل لهؤلاء هذا مستلزم وصفه بنقيض، ذلك كالموت والصمم والبكم، قالوا إنما يلزم ذلك لو كان قابلًا لذلك، وهذا الاعتذار يزيد قولهم فسادًا، وكذلك من ضاهي هؤلاء وهم الذين يقولون ليس بداخل العالم ولا خارجه، إذا قيل هذا ممتنع في ضرورة العقل، كما إذا قيل ليس بقديم ولا محدث ولا واجب ولا ممكن ولا قائم بنفسه، ولا قائم بغيره، قالوا: هذا إنما يكون إذا كان قابلًا لذلك والقبول إنما يكون من التحيز، فإذا انتفي التحيز انتفي قبول هذين المتناقضين.

فيقال لهم علم الخلق بإمتناع الخلو من هذين النقيضين، هو علم مطلق لا يستثني منه موجود، والتحيز المذكور أن أريد به كون الأحياز الموجودة تحيط به، فهذا هو الداخل في العالم، وإن أريد به أنه منحاز عن المخلوقات، أي مباين لها متميز عنها، فهذا هو الخروج، فالمتحيز يراد به تارة ما هو داخل العالم، وتارة ما هو خارج العالم، فإذا قيل ليس بمتحيز، كان معناه ليس بداخل العالم ولا خارجه.

فهم غيروا العبارة، ليوهموا من لا يفهم حقيقة قولهم أن هذا معنى آخر، وهو المعنى الذي علم فساده بضرورة العقل، كما فعل أولئك بقولهم: ليس بحى ولا ميت، ولا موجود ولا معدوم، ولا عالم ولا جاهل.



هامش

  1. [البقرة: 255]
  2. [البقرة: 255]
  3. [البقرة: 255]
  4. [سبأ: 3]
  5. [ق: 38]
  6. [الأنعام: 103]


مجموع الفتاوى لابن تيمية: المجلد الثالث
مجمل اعتقاد السلف | ما قاله الشيخ الإمام في التوحيد والصفات والشرع والقدر | فصل فيمن قال القول في بعض الصفات كالقول في بعض | فصل في إخبار الله لنا بما في الجنة من المخلوقات | فصل في وصف الله بالإثبات والنفي | فصل في وجوب الإيمان بما أخبر به الرسول عن ربه | فصل في ظواهر النصوص ومراداتها | فصل في توهم كثير من الناس أن صفات الله تماثل صفات المخلوقين | فصل في قصور العلم البشري | فصل في معرفة ما يجوز على الله مما لا يجوز في النفي والإثبات | فصل فيما يسلكه نفاة الصفات | فصل في أن المثبت لا يكفي في إثباته مجرد نفي التشبيه | فصل في التوحيد في العبادات | فصل في وجوب الإيمان بخلق الله وأمره وبقضائه وشرعه | العقيدة الواسطية | سئل شيخ الإسلام رحمه الله أن يكتب عقيدة تكون عمدة | فصل في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم | فصل من الإيمان بالله الإيمان بما أخبر الله به في كتابه | فصل من الإيمان بالله الإيمان بأنه قريب من خلقه | فصل من الإيمان بالله وكتبه الإيمان بأن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق | فصل من الإيمان بالله أن المؤمنين يرون الله يوم القيامة عيانا بأبصارهم | فصل ومن الإيمان باليوم الآخر الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم | فصل من أصول أهل السنة أن الدين والإيمان قول وعمل | فصل من أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم | فصل من طريقة أهل السنة والجماعة اتباع آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم | فصل في استكمال أصول أهل السنة والجماعة | ما قاله رحمه الله تعالى في أمر الاعتقاد بمقتضى ما ورد به كتاب السلطان | فصل فيما أمرنا الله تعالى به من الجماعة والائتلاف وما نهانا عنه من الفرقة والاختلاف | سبب تأليفه العقيدة الواسطية | كتاب عبد الله بن تيمية لأخيه زين الدين | سئل الشيخ رحمه الله عن مسألة القرآن والصوت | ما قاله الإمام أبو العباس أحمد بن تيمية في جواب ورقة أرسلت إليه في السجن في رمضان | باب ذكر الاستواء | فصل في لين الكلام والمخاطبة بالتي هي أحسن | فصل في ذكرهم أن الشيخ طلب تفويض الحكم إلى شخص معين | فصل فيما ينبغي علمه من أن القوم مستضعفون عند المحاقة | ما قاله الشيخ عند وصول الورقة التي ذكر فيها إخبار الشيخ باجتماع الرسول به | فصل معترض في نفي الشيخ أن يكون قد طلب النظر في المحاضر | ما قاله شيخ الإسلام عن أهل السنة والمبتدعة | فصل من أصول أهل السنة والجماعة أنهم يصلون الجمع والأعياد والجماعات | فصل في عدم جواز تكفير المسلم بذنب فعله ولا بخطأ فيه | فصل في كون شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله حق يجزم به المسلمون | سئل الشيخ هل يجوز الخوض فيما تكلم الناس فيه من مسائل في أصول الدين | فصل في إعراض كثير من أرباب الكلام والحروف عن القرآن | فصل في تعلق العبادة بطاعة الله ورسوله | سئل شيخ الإسلام عن قوله صلى الله عليه وسلم تفترق أمتي ثلاث وسبعين فرقة | فصل في أن الانحراف عن الوسط واقع بين الناس في أكثر الأمور | ما كتبه شيخ الإسلام إلى المسلمين المنتسبين إلى السنة والجماعة | فصل في استكمال ما كتبه الشيخ إلى أهل السنة والجماعة | فصل في أن دين الله وسط بين الغالي فيه والجافي عنه | فصل في التحذير من الغلو في بعض المشائخ | فصل في الاقتصاد في السنة واتباعها | فصل في وجوب الاقتصاد والاعتدال في أمر الصحابة والقرابة | فصل في أسماء باطلة ما أنزل الله بها من سلطان