محلى ابن حزم - المجلد الثالث/الصفحة التاسعة والثلاثون


كتاب الأيمان

1165 - مسألة: ومن حلف أن لا يأكل رأسا لم يحنث بأكل رءوس الطير، ولا رءوس السمك، ولا يحنث إلا بأكل رءوس الغنم، والماعز، فإن كان أهل موضعه لا يطلقون اسم الرءوس في البيع والأكل على رءوس الإبل، والبقر لم يحنث بأكلها وإن كانوا يطلقون عليها في البيع والأكل اسم الرءوس حنث بها، لما ذكرنا من أن الأيمان إنما هي على لغة الحالف، ومعهود استعماله في كلامه.

وهو قول أبي حنيفة، والشافعي، وأبي سليمان. ألا ترى: أن المسك دم جامد، ولكن لما لم يطلق عليه اسم دم حل ولم يحرم.


1166 - مسألة: ومن حلف أن لا يأكل بيضا لم يحنث إلا بأكل بيض الدجاج خاصة ولم يحنث بأكل بيض النعام وسائر الطير، ولا بيض السمك لما ذكرنا; وهو قول أبي حنيفة، والشافعي، وأبي سليمان.


1167 - مسألة: ومن حلف أن لا يأكل عنبا فأكل زبيبا أو شرب عصيرا، أو أكل ربا أو خلا لم يحنث.

وكذلك من حلف أن لا يأكل زبيبا لم يحنث بأكل العنب، ولا بشرب نبيذ الزبيب وأكل خله.

وكذلك القول في التمر، والرطب، والزهو، والبسر، والبلح، والطلع والمنكت، ونبيذ كل ذلك وخله، وذو شائبة، وناطفة: لا يحنث. ومن حلف أن لا يأخذ شيئا منها حنث بأكل سائرها، ولا يحنث بشرب ما يشرب منها وهو قول أبي حنيفة، والشافعي، وأبي سليمان، لأن اسم كل واحد منها لا يطلق على الآخر، والعالم كله بعضه متولد من بعض ونحن مخلوقون من تراب وماء. فلو أن امرأ حلف أن لا يدخل في داره حيوانا فأدخل التراب والماء لم يحنث بلا خلاف منا ومن غيرنا.

وقال مالك: من حلف أن لا يأكل عنبا فأكل زبيبا أو شرب عصيرا حنث، ولا يحنث بأكل الخل فكان هذا عجبا جدا، وكان احتجاجهم لهذه القولة أعجب منها، لأنهم قالوا: أمر الخل بعيد، وليت شعري ما معنى " بعيد "

فإن قالوا: إن بين العنب وبين الخل درجتين: العصير، والخمر

قلنا: فكان ماذا ومن الذي جعل كون درجتين بين الخل والعنب علة في التحليل وحاشا لله من هذا الحكم الفاسد فما زادونا على أن جعلوا دعواهم حجة لدعواهم وقد تناقضوا من قرب، فحنثوا من أكل جبنا يابسا وقد حلف أن لا يأكل لبنا وبين الجبن اليابس واللبن درجتان، وهما العقيد، والجبن الرطب.

فإن قالوا: كل ذلك عين واحدة.

قلنا: والخل، والعصير، والخمر: عين واحدة، إلا أن أحكامها اختلفت باختلاف صفاتها، ولا مزيد.

وكذلك السمن بينه وبين اللبن درجتان: الرائب ثم الزبدة، وقد يترك العنب في الظروف من أيامه إلى أيام الربيع ثم يعصر خلا محضا.


1168 - مسألة: ومن حلف أن لا يأكل لبنا لم يحنث بأكل اللبإ، ولا بأكل العقيد، لا الرائب، ولا الزبد، ولا السمن، ولا المخيض، ولا الميس، ولا الجبن وكذلك القول في الزبد، والسمن، وسائر ما ذكرنا لأختلاف أسماء كل ذلك.


1169 - مسألة: ومن حلف أن لا يأكل خبزا فأكل كعكا أو بشماطا أو حريرة، أو عصيدة، أو حسو فتاة، أو فتيتا لم يحنث. ومن حلف أن لا يأكل قمحا فإن كانت له نية في خبزه حنث وإلا لم يحنث إلا بأكله صرفا، ولا يحنث بأكل هريسة، ولا أكل حشيش، ولا سويق، ولا أكل فريك، لأنه لا يطلق على كل ذلك اسم قمح ومن حلف أن لا يأكل تينا حنث بالأخضر واليابس، لأن اسم التين يطلق على كل ذلك.

1170 - مسألة: ومن حلف أن لا يشرب شرابا فإن كانت له نية حمل عليها، وإن لم تكن له نية حنث بالخمر، وبجميع الأنبذة، وبالجلاب، والسكنجين، وسائر الأشربة ; لأن اسم شراب يطلق على كل ذلك. ولا يحنث بشرب اللبن، ولا بشرب الماء، لأنه لا يطلق عليها اسم شراب ومن حلف أن لا يأكل لبنا فشربه لم يحنث، لأنه لم يأكله ولو حلف أن لا يشربه فأكله بالخبز لم يحنث، لأنه لم يشربه. ومن حلف أن لا يشرب الماء يومه هذا فأكل خبزا مبلولا بالماء لم يحنث ومن حلف أن لا يأكل سمنا، ولا زيتا فأكل خبزا معجونا بهما أو بأحدهما لم يحنث، لأنه لم يأكل زيتا، ولا سمنا. ولو حنث في هذا لحنث من حلف أن لا يشرب يومه هذا ماء فأكل خبزا، لأنه بالماء عجن، ولا يحنث بأكل طعام طبخ بهما إلا أن يكونا ظاهرين فيه لم يزل الأسم عنهما فيحنث حينئذ. ومن حلف أن لا يأكل ملحا فأكل طعاما معمولا بالملح، وخبزا معجونا به لم يحنث، لأنه لم يأكل ملحا ; فإن كان قد ذر عليه الملح حنث، لأنه ظاهر فيه. ومن حلف أن لا يأكل خلا فأكل طعاما يظهر فيه طعم الخل متميزا حنث، لأنه هكذا يؤكل الخل.


1171 - مسألة: ومن حلف أن لا يبيع هذا الشيء بدينار فباعه بدينار غير فلس فأكثر، أو بدينار وفلس فصاعدا لم يحنث، لأنه لا يسمى في ذلك كله بائعا له بدينار.


1172 - مسألة: ومن حلف ليقضين غريمه حقه رأس الهلال فإنه إن قضاه حقه أول ليلة من الشهر، أو أول يوم منه ما لم تغرب الشمس لم يحنث، لأن هذا هو رأس الهلال في اللغة، فإن لم يقضه في الليلة أو اليوم المذكورين وهو قادر على قضائه ذاكرا حنث.


1173 - مسألة: ومن حلف أن لا يشتري أمر كذا، أو لا يزوج وليته، أو أن لا يضرب عبده، أو أن لا يبني داره، أو ما أشبه هذا من كل شيء، فأمر من فعل له ذلك كله فإن كان ممن يتولى الشراء بنفسه، والبناء، والضرب، أو فعل ما حلف عليه لم يحنث، لأنه لم يفعله وإن كان ممن لا يباشر بنفسه ذلك حنث بأمره من يفعله، لأنه هكذا يطلق في اللغة الخبر عن كل من ذكرنا، ولا يحنث في أمر غيره بالزواج على كل حال، لأن كل أحد يزوج وليته فإذا لم يزوجها وأمر غيره فلم يزوجها هو.


1174 - مسألة: ومن حلف ألا يبيع عبده فباعه بيعا فاسدا، أو أصدقه، أو أجره، أو بيع عليه في حق لم يحنث، لأنه ليس شيء مما ذكرنا بيعا. والبيع الفاسد حرام والله تعالى يقول: {وأحل الله البيع}، ولا شك عند من دماغه صحيح في أن الحرام غير الحلال، فإن باعه بيعا صحيحا لم يحنث ما لم يتفرقا عن موضعيهما، فإن تفرقا وهو مختار ذاكر: حنث حينئذ، لأنه حينئذ باع، لما نذكر في " كتاب البيوع " إن شاء الله تعالى.

1175 - مسألة: ومن حلف أن لا يتكلم اليوم فقرأ القرآن في صلاة، أو غير صلاة، أو ذكر الله تعالى لم يحنث، لقول رسول الله : إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح، والتكبير، وقراءة القرآن أو نحو ذلك ولقول الله تعالى: {ثم أدبر واستكبر فقال إن هذا إلا سحر يؤثر إن هذا إلا قول البشر سأصليه سقر}.

فصح أن القرآن ليس قول البشر، وأن من أطلق ذلك عليه سيصلى سقر فصح أنه لا يطلق في اللغة، ولا في الشريعة على شيء مما ذكرنا اسم كلام وبالله تعالى التوفيق.

1176 - مسألة: من حنث بمخالفة ما حلف عليه فقد وجبت عليه الكفارة بعد الحنث لا خلاف في ذلك.


1177 - مسألة: ومن أراد أن يحنث فله أن يقدم الكفارة قبل أن يحنث أي الكفارات لزمته: من العتق، أو الكسوة، أو الإطعام، أو الصيام وهو قول مالك.

وقال أبو حنيفة، وأبو سليمان: لا يجزئه ذلك إلا بعد الحنث.

وقال الشافعي: أما العتق، أو الكسوة، أو الإطعام، فيجزئ تقديمه قبل الحنث وأما الصيام فلا يجزئ إلا بعد الحنث. وحجة الشافعيين: أن العتق، والكسوة، والإطعام: من فرائض الأموال، والأموال من حقوق الناس، وحقوق الناس جائز تقديمها قبل آجالها وأما الصوم فمن فرائض الأبدان، وفرائض الأبدان لا يجزئ تقديمها قبل أوقاتها.

قال أبو محمد: وهذه قضية فاسدة، وهم موافقون لنا على أن تعجيل أموال الناس إنما تجب برضا صاحب الحق، والذي عليه الحق معا، لا برضا أحدهما دون الآخر، وأن هذا إنما يجب أيضا فيما هو حق للإنسان بعينه فتراضى هو وغريمه على تقديمه أو تأخيره أو إسقاطه أو إسقاط بعضه.

وأما كل ما ليس لأنسان بعينه وإنما هو حق لله تعالى وقته بوقت محدود، وليس ههنا مالك بعينه يصح رضاه في تقديمه، لا في تأخيره، ولا في إسقاطه، ولا في إسقاط بعضه وإنما هو حق لله تعالى لا يحل فيه إلا ما حد لله تعالى

قال الله تعالى: {ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه}. ويقال لهم أيضا: إن حقوق الناس يجوز فيها التأخير والإسقاط، فهل يجوز في الكفارات الإسقاط، أو التأخير إلى أجل أو إلى غير أجل فظهر فساد قولهم جملة.

وأما المالكيون: فإنهم وإن كانوا أصابوا ههنا فقد تناقضوا جدا لأنهم أجازوا تقديم الكفارة إثر اليمين، وقبل الحنث. ولم يجيزوا تقديم الزكاة إثر كسب المال لكن قبل الحول بشهر ونحوه، ولا أجازوا تقديم صدقة الفطر إثر ابتداء الصوم لكن قبل الفطر بيومين فأقل فقط. ولم يجيزوا تقديم كفارة الظهار أصلا، ولا بساعة قبل ما يوجبها عندهم من إرادة الوطء، ولا أجازوا تقديم كفارة قتل الخطإ قبل ما يوجبها من موت المقتول، ولا بطرفة عين، ولا كفارة قتل الصيد في الحرم قبل قتله. وأجازوا إذن الورثة للموصي في أكثر من الثلث قبل أن يجب لهم المال بموته، فظهر تناقض أقوالهم ولله تعالى الحمد.

وأما الحنفيون فتناقضوا أقبح تناقض، لأنهم أجازوا تقديم الزكاة قبل الحول بثلاثة أعوام، وتقديم زكاة الزرع إثر زرعه في الأرض، وأجازوا تقديم الكفارة في جزاء الصيد بعد جراحه وقبل موته وتقديم كفارة قتل الخطإ قبل موت المجروح. ولم يجيزوا للورثة الإذن في الوصية بأكثر من الثلث قبل وجوب المال لهم بالموت، ولا أجازوا إسقاط الشفيع حقه من الشفعة بعد عرض شريكه أخذ الشقص عليه قبل وجوب أخذه له بالبيع ; فظهر تخليطهم وسخف أقوالهم وبالله تعالى نعوذ من الخذلان. وكلهم لا يجيز الأستثناء قبل اليمين، ولا قضاء دين قبل أخذه، ولا صلاة قبل وقتها، فلم يبق إلا قولنا، وقول أصحابنا المانعين من تقديم كل حق له وقت قبل وقته، فإنهم قالوا: الكفارة لا تجب إلا بالحنث، وهي فرض بعد الحنث بالنص والإجماع، فتقديمها قبل أن تجب تطوع لا فرض، ومن المحال أن يجزئ التطوع عن الفرض. وقالوا: قال تعالى: {ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه} والدلائل ههنا تكثر جدا.

قال أبو محمد: وهذه أدلة صحاح ; ونحن موافقون لهم في أنه لا يجزئ شيء من الشريعة قبل وقته إلا في موضعين: أحدهما: كفارة اليمين، فجائز تقديمها قبل الحنث، لكن بعد إرادة الحنث، ولا بد.

والثاني: إسقاط الشفيع حقه بعد عرض الشفيع عليه أن يأخذ أو يترك قبل البيع، فإسقاطه حقه حينئذ لازم له فقط. وإنما فعلنا ذلك للنصوص المخرجة لهذين الشرعين عن حكم سائر الشريعة في أنه لا يجزئ، ولا يجوز أداء شيء منها قبل الوقت الذي حده الله تعالى له.

قال أبو محمد: وقد احتج بعض من وافقنا ههنا في تصحيح قولنا بأن قال: قال الله تعالى: {ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم}. قال: فالكفارة واجبة بنفس اليمين.

قال علي: ولا حجة لنا في هذا، لأنه قد جاء النص والإجماع المتيقن: على أن من لم يحنث فلا كفارة تلزمه.

فصح أنه ليس بنفس اليمين تجب الكفارة واحتج بعضهم بأن في الآية حذفا بلا خلاف وأنه: فأردتم الحنث، أو حنثتم.

قال أبو محمد: وهذه دعوى منهم في أن المحذوف هو " فأردتم الحنث " لا يقبل إلا ببرهان، فوجب طلب البرهان في ذلك:

فنظرنا فوجدنا ما رويناه من طريق مسلم، حدثنا زهير بن حرب، حدثنا مروان بن معاوية الفزاري، حدثنا يزيد بن كيسان عن أبي حازم عن أبي هريرة أن رسول الله قال: من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأتها وليكفر عن يمينه.

ومن طريق أحمد بن شعيب أنا أحمد بن سليمان، حدثنا عفان، هو ابن مسلم، حدثنا جرير بن حازم قال: سمعت الحسن هو البصري يقول:، حدثنا عبد الرحمن بن سمرة قال: قال لي رسول الله : إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فكفر عن يمينك ثم ائت الذي هو خير. وهكذا رويناه أيضا من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن عن عبد الرحمن بن سمرة عن النبي .

ومن طريق أحمد بن شعيب، أخبرنا إسحاق بن منصور أنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا شعبة عن عمرو بن مرة سمعت عبد الله بن عمرو مولى الحسن بن علي يحدث عن عدي بن حاتم قال قال: رسول الله : (من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه). فهذه الأحاديث جامعة لجميع أحكام ما اختلفوا فيه من جواز تقديم الكفارة قبل الحنث، لأن في حديث أبي هريرة تقديم الحنث قبل الكفارة. وفي حديث عبد الرحمن بن سمرة تقديم الكفارة قبل الحنث. وفي حديث عدي بن حاتم الجمع بين الحنث والكفارة بواو العطف التي لا تعطي رتبة هكذا جاء من طريق أبي موسى الأشعري فوجب استعمال جميعها، ولم يكن بعضها أولى بالطاعة من بعض، ولا تحل مخالفة بعضها لبعض، فكان ذلك جائزا وبالله تعالى التوفيق. وصح بهذا أن الحذف الذي في الآية إنما هو إذا أردتم الحنث أو حنثتم ورسول الله هو المبين عن ربه عز وجل. واعترض بعضهم بأن قال: قول رسول الله : فليكفر ثم ليأت الذي هو خير هو مثل قول الله تعالى: {ثم كان من الذين آمنوا}. وكقوله تعالى: {ثم آتينا موسى الكتاب}. وكقوله تعالى: {ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم}. قال هذا القائل: ولفظة " ثم " في هذه الآيات لا توجب تعقيبا، بل هي واقعة على ما كان قبل ما عطف اللفظ عليه " بثم ".

قال أبو محمد: ليس كما ظنوا: أما قوله تعالى: {ثم كان من الذين آمنوا} فإن نص الآيات هو قوله تعالى: {وما أدراك ما العقبة فك رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما ذا مقربة أو مسكينا ذا متربة ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة}.

وقد ذكرنا قول رسول الله لحكيم بن حزام أسلمت على ما أسلفت من الخير فصح بهذه الآية عظيم نعمة الله تعالى على عباده في قبوله كل عمل بر عملوه في كفرهم ثم أسلموا، فالآية على ظاهرها وهي زائدة على سائر ما في القرآن من قبوله تعالى أعمال من آمن ثم عمل الخير والحمد لله رب العالمين.

وأما قوله تعالى: {ثم آتينا موسى الكتاب} فليس كما ظنوا لأن أول الآية قوله عز وجل: {وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن}. وقد قال تعالى: {ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما}

وقال تعالى: {ملة أبيكم إبراهيم}.

فصح أن الصراط الذي أمرنا الله تعالى باتباعه وأتانا به محمد هو صراط إبراهيم عليه السلام، وقد كان قبل موسى بلا شك ثم آتى الله تعالى موسى الكتاب، فهذا تعقيب بمهلة لا شك فيه.

فأما قوله تعالى: {ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم} فعلى ظاهره، لأن الله تعالى خلق أنفسنا وصورها، وهي التي أخذ الله عليها العهد: {ألست بربكم قالوا بلى}. ثم بعد ذلك أسجد الملائكة لأدم عليه السلام، فبطل تعلقهم بهذه الآيات ثم حتى لو خرجت عن ظاهرها، أو كانت " ثم " لغير التعقيب فيها لم يجب لذلك أن تكون " ثم " لغير التعقيب حيثما وجدت، لأن ما خرج عن موضوعه في اللغة بدليل في موضع ما لم يجز أن يخرج في غير ذلك الموضع عن موضوعه في اللغة وهذا من تمويههم الفاسد الذي لا ينتفعون به إلا في تحيير من لم يمعن النظر في أول ما يفجئونه به وبالله تعالى التوفيق. وقولنا هذا هو قول عائشة أم المؤمنين:

ومن طريق ابن أبي شيبة، حدثنا المعتمر بن سليمان التيمي عن عبد الله بن عون عن محمد بن سيرين أن مسلمة بن مخلد، وسلمان الفارسي كانا يكفران قبل الحنث.

وبه إلى أبي بكر بن أبي شيبة، حدثنا حفص بن غياث عن أشعث، عن ابن سيرين: أن أبا الدرداء دعا غلاما له فأعتقه ثم حنث، فصنع الذي حلف عليه.

وبه إلى ابن أبي شيبة، حدثنا أزهر، عن ابن عون أن محمد بن سيرين: كان يكفر قبل الحنث:

وهو قول ابن عباس أيضا، والحسن، وربيعة، وسفيان، والأوزاعي، ومالك، والليث، وعبد الله بن المبارك، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وسليمان بن داود الهاشمي، وأبي ثور، وأبي خيثمة، وغيرهم. ولا يعلم لمن ذكرنا مخالف من الصحابة رضي الله عنهم إلا أن مموها موه برواية عبد الرزاق عن الأسلمي هو إبراهيم بن أبي يحيى عن رجل سماه عن محمد بن زياد عن ميمون بن مهران، عن ابن عباس: أنه كان لا يكفر حتى يحنث وهذا باطل، لأن ابن أبي يحيى مذكور بالكذب، ثم عمن لم يسم. ثم لو صح لما كان لهم فيه حجة، لأنه ليس فيه أن ابن عباس لم يجز الكفارة قبل الحنث، إنما فيه: أنه كان يؤخر الكفارة بعد الحنث فقط ونحن لا ننكر هذا.

1178 - مسألة: ومن حلف أن لا يعتق عبده هذا، فأعتقه ينوي بعتقه ذلك كفارة تلك اليمين لم يجزه. ومن حلف أن يتصدق على هؤلاء العشرة المساكين فأطعمهم ينوي بذلك كفارة يمينه لم يجزه، ولا يحنث بأن يتصدق عليهم بعد ذلك، وكذلك الكسوة، لكن عليه الكفارة. ومن حلف أن لا يصوم في هذه الجمعة، ولا يوما، ثم صام منها ثلاثة أيام ينوي بها كفارة يمينه تلك وهو من أهل الكفارة بالصيام لم يجزه، ولا يحنث بأن يصوم فيها بعد ذلك، وعليه الكفارة لأن معنى الكفارة بلا شك إسقاط الحنث، والحنث قد وجب بالعتق، والإطعام، والكسوة، فلا يحنث بعد في يمين قد حنث فيها، والكفارة لا تكون الحنث بلا شك، بل هي المبطلة له، والحق لا يبطل نفسه.

1179 - مسألة: وصفة الكفارة: هي أن من حنث، أو أراد الحنث وإن لم يحنث بعد، فهو مخير بين ما جاء به النص: وهو إما أن يعتق رقبة، وأما أن يكسو عشرة مساكين، وأما أن يطعمهم: أي ذلك فعل فهو فرض، ويجزيه، فإن لم يقدر على شيء من ذلك: ففرضه صيام ثلاثة أيام، ولا يجزئه الصوم ما دام يقدر على ما ذكرنا: من العتق، أو الكسوة، أو الإطعام. برهان ذلك: قول الله تعالى: {فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم}. وما نعلم في هذا خلافا، ولا نبعده، لأن من قال في قول الله تعالى: {فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما} أن هذا على الترتيب، لا على التخيير فغير مستبعد منه أن يقول في كفارة الأيمان أيضا: إنه على الترتيب. ونسأل الله التوفيق.


1180 - مسألة: ولا يجزيه بدل ما ذكرنا: صدقة، ولا هدي، ولا قيمة، ولا شيء سواه أصلا، لأن الله تعالى لم يوجب غير ما ذكرنا، فمن أوجب في ذلك قيمة فقد تعدى حدود الله: ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه وقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله تعالى وما كان ربك نسيا.

محلى ابن حزم - المجلد الثالث/كتاب الأيمان
كتاب الأيمان (مسألة 1127 - 1133) | كتاب الأيمان (مسألة 1134 - 1135) | كتاب الأيمان (مسألة 1136 - 1147) | كتاب الأيمان (مسألة 1148 - 1164) | كتاب الأيمان (مسألة 1165 - 1180) | كتاب الأيمان (مسألة 1181 - 1190)