محلى ابن حزم - المجلد الثالث/الصفحة الثامنة والثلاثون


كتاب الأيمان

1148 - مسألة  : ومن حلف بالله لا أكلت هذا الرغيف ؛ أو قال : لا شربت ماء هذا الكوز ، فلا يحنث بأكل بعض الرغيف ، ولو لم يبق منه إلا فتاته ، ولا بشرب بعض ما في الكوز . وكذلك لو حلف بالله لآكلن هذا الرغيف اليوم ، فأكله كله إلا فتاته وغابت الشمس فقد حنث - وهكذا في الرمانة ، وفي كل شيء في العالم لا يحنث ببعض ما حلف عليه ، وهو قول أبي حنيفة ، والشافعي ، وأبي سليمان . وقال المالكيون : يحنث بأكل بعضه وشرب بعضه . قال أبو محمد : نسألهم عن رجل أكل بعض رغيف لزيد فشهد عليه شاهدان أنه أكل رغيف زيد ؟ أصادقان هما أم كاذبان ؟ فمن قولهم إنهما كاذبان مبطلان ، فأقروا على أنفسهم بالفتيا بالكذب ، وبالباطل ، وبالمشاهدة يدرى فساد هذا القول ، لأنه إنما حلف أن لا يأكله ، لم يحلف أن لا يأكل منه شيئا ، وهو إذا أبقى منه شيئا فلم يفعل ما حلف عليه ، والأموال محظورة إلا بنص ، ولا نص في صحة قولهم . وقال قائلهم : الحنث ، والتحريم ، وكلاهما يدخل بأرق الأسباب ؟ فقلنا : هذا باطل ما يدخل الحنث والتحريم لا بأرق الأسباب ، ولا بأغلظها ، ولا يدخل التحليل أيضا لا بأرق الأسباب ، ولا بأغلظها - وكل هذا باطل وإفك ، ولا يدخل الحنث ، والبر ، والتحريم ، والتحليل ؛ إلا حيث أدخل الله تعالى منها في كتابه أو على لسان رسول الله . وأطرف شيء أنهم قالوا : تحريم زوجة الأب على الابن يدخل بأرق الأسباب - وهو العقد وحده ؟ فقلنا لهم : نسيتم أنفسكم ، أو لم يكن فرج هذه المرأة حراما على الأب ، كما هي على الابن ، ثم دخل التحليل للأب بأرق الأسباب - وهو العقد وحده - فأين قولكم : إن التحليل لا يدخل إلا بأغلظ الأسباب ؟ وكم هذا التخليط بما لا يعقل في دين الله تعالى ؟ وقالوا : والتحليل لا في المطلقة ثلاثا لا يدخل إلا بأغلظ الأسباب - وهو العقد ، والوطء ؟ فقلنا : نقضتم قولكم قولوا بقول الحسن ، وإلا فقد أفسدتم بنيانكم ، لأنه يقول : لا تحل المطلقة ثلاثا إلا بالعقد ، والوطء ، والإنزال فيها ، وإلا فلا ، وهذا أغلظ الأسباب والقوم في لا شيء - ونحمد الله على السلامة . وابنة الزوجة لا تحرم على زوج أمها بأرق الأسباب الذي هو العقد ، لكن بالدخول بالأم مع العقد ، فهذا تحريم لم يدخل إلا بأغلظ الأسباب . ثم تناقضهم ههنا طريف جدا ، لأن من قولهم : إن من حلف أن لا يأكل رغيفا فأكل نصف رغيف يحنث ، ومن حلف أن لا يهب لزيد عشرة دنانير فوهب له تسعة دنانير أنه لا يحنث ، فأي فرق بين هذا كله لو كان ههنا تقوى ؟ واحتج بعضهم في ذلك - : بأن من حلف أن لا يدخل دار زيد فدخل شيئا منها فإنه يحنث ؛ فقلنا لهم : إنما يكون الحنث بمخالفة ما حلف عليه ، ولا يكون في اللغة والمعقول دخول الدار إلا بدخول بعضها ، لا بأن يملأها بجثته ، بخلاف أكل الرغيف ، ولو أنه دخل بعضه الدار لا كله لم يحنث ، لأنه لم يدخلها - وهم مجمعون معنا على : أن من حلف أن لا يهدم هذا الحائط فهدم منه مدرة أنه لا يحنث .

1149 - مسألة  : فلو حلف أن لا يأكل من هذا الرغيف ، أو أن لا يشرب من ماء هذا الكوز فإنه يحنث بأكل شيء منه وشرب شيء منه ، لأنه خلاف ما حلف عليه - وبالله تعالى التوفيق .

1150 - مسألة  : فلو حلف أن لا يشرب ماء النهر ، فإن كانت له نية في شرب شيء منه حنث [ بأي شيء منه ] لأنه بهذا يخبر عن شرب بعض مائه فإن لم يكن له نية فلا حنث عليه ، لأن النبي يقول : { إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى } .

1151 - مسألة  : ومن حلف أن لا يدخل دار زيد ، فإن كانت من الدور المباحة الدهاليز كدور الرؤساء لم يحنث بدخول الدهليز حتى يدخل منها ما يقع على من صار هنالك أنه داخل دار زيد وإن كانت من الدور التي لا تباح دهاليزها حنث بدخول الدهليز . وهكذا في المساجد ، والحمامات ، وسائر المواضع لما ذكرنا : من أنه إنما يراعى ما يتخاطب به أهل تلك اللغة . وقد قال الله تعالى : { وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا } فهذا عموم ، ولا يجوز أن يقال : إن محمدا عليه السلام ، والأنبياء يدخلون جهنم .

1152 - مسألة : ومن حلف أن لا يدخل دار فلان ، أو أن لا يدخل الحمام فمشى على سقوف كل ذلك ، أو دخل دهليز الحمام لم يحنث ، لأنه لم يدخل الدار ولا الحمام ولا يسمى دخول دهليز الحمام دخول حمام


1153 - مسألة : ومن حلف أن لا يكلم فلانا ، فأوصى إليه أو كتب لم يحنث ، لأنه لا يسمى الكتاب ولا الوصية : كلاما . وكذلك لو أشار إليه قال الله عز وجل : { آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا } . وقال تعالى : { فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا } إلى قوله : { فأشارت إليه } . فصح أن الإشارة ، والإيماء ليس كلاما .

1154 - مسألة  : ومن حلف أن لا يشتري إداما فأي شيء اشتراه من لحم ، أو غيره أي شيء كان مما يؤكل به الخبز فاشتراه ليأكل به الخبز حنث - أكل به أو لم يأكل - لأنه قد اشترى الإدام فلو اشتراه ليأكله بلا خبز لم يحنث ، لأنه ليس إداما حينئذ . وقال أبو حنيفة : من حلف أن لا يأكل إداما فأكل خبزا بشواء لم يحنث ، فإن أكله بملح أو بزيت أو بشيء يصنع فيه الخبز حنث . قال علي : وهذا كلام فاسد جدا لأنه لا دليل عليه لا من شريعة ولا لغة - : نا أحمد بن عمر بن أنس نا أحمد بن محمد البلوي غندر نا خلف بن القاسم نا أبو الميمون نا عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر بن راشد نا أبو زرعة عبد الرحمن بن عمرو النصري نا عمر بن حفص بن غياث نا أبي عن محمد بن يحيى ثقة عن يزيد الأعور عن يوسف بن عبد الله بن سلام قال : { رأيت رسول الله أخذ كسرة خبز شعير ووضع عليها تمرة وقال : هذه إدام هذه } . قال علي : وأصل الإدام الجمع بينه وبين الخبز ، فذلك أحرى أن يؤدم بينهما فكل شيء جمع إلى الخبز ليسهل أكله به فهو إدام .

1155 - مسألة  : ومن حلف أن يضرب غلامه عددا من الجلد أكثر من العشر لم يحل له ذلك ، ويبر في يمينه بأن يجمع ذلك العدد فيضربه ضربة واحدة - : روينا من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج أنه أخبره عبد الله بن عبيد بن عمير أنه رأى أباه يتحلل يمينه في ضرب نذره بأدنى ضرب ؟ فقال عطاء : قد نزل ذلك في كتاب الله تعالى : { وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث } . وهو قول أبي حنيفة ، والشافعي ، وأبي سليمان . وقال مجاهد ، والليث ، ومالك : لا يبر بذلك - وما نعلم لهم حجة أصلا .

1156 - مسألة  : ولا معنى للبساط في الأيمان ولا للمن ، ولو منت امرأته عليه أو غيرها بمالها فحلف أن لا يلبس من مالها ثوبا لم يحنث إلا بما سمى فقط ، ويأكل من مالها ما شاء ، ويأخذ ما تعطيه ، ولا يحنث بذلك ، ويشتري بما تعطيه ما يلبس ولا يحنث بذلك . وكذلك من من على آخر بلبن شاته فحلف أن لا يشرب منه شيئا ، فله أن يأكل من لحم تلك الشاة ، ومن جبنها ، ومن زبدها ، ورائبها ، لأنه ليس شيء من ذلك شرب لبن . فإن باعت تلك الشاة واشترت أخرى كان له أن يشرب من لبنها ولا كفارة في ذلك ، إنما يحنث بما حلف عليه وسماه فقط . وهو قول أبي حنيفة ، والشافعي ، وأبي سليمان . وقال مالك : يحنث بكل ذلك ، ثم تناقض فقال : إن وهبت له شاة ثم منت بها عليه فحلف أن لا يأكل من لبنها شيئا فباعها وابتاع بثمنها ثوبا لبسه فإنه يحنث - ولا يحنث بإمساكها في ملكه ولا ببيعها وقضاء دينه من ثمنها - وهذا قول ظاهر الفساد ، لأنه أحنثه بغير ما حلف عليه . وموه بعضهم بأن ذكر ما رويناه من طريق حماد بن سلمة عن علي بن زيد بن جدعان عن علي بن الحسين : { أن أبا لبابة ربط نفسه إلى سارية وقال : لا أحل نفسي حتى يحلني رسول الله أو تنزل توبتي ، فجاءت فاطمة تحله فأبى إلا أن يحله رسول الله فقال عليه السلام : إن فاطمة بضعة مني } فهذا لا يصح ، لأنه مرسل - ثم عن علي بن زيد وهو ضعيف . ثم لو صح لكانوا مخالفين لما فيه ، لأنهم لا يختلفون فيمن حلف أن يضرب زيدا فضرب ولد زيد أنه لا يحنث .


1157 - مسألة : ومن حلف أن لا يفعل أمرا كذا حينا أو دهرا أو زمانا أو مدة أو برهة أو وقتا ، أو ذكر كل ذلك بالألف واللام - أو قال مليا ، أو قال : عمرا ، أو العمر ، فبقي مقدار طرفة عين لم يفعله ، ثم فعله ، فلا حنث عليه ، لأن كل جزء من الزمان زمان ، ودهر ، وحين ، ووقت ، وبرهة ، ومدة . وقد اختلف السلف في الحين - : فقالت طائفة : الحين سنة - : روينا من طريق ابن وهب عن الليث بن سعد كان علي بن أبي طالب يقول : أرى الحين سنة . وقد روي من طريق عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس : الحين سنة . ومن طريق شعبة عن الحكم بن عتيبة ، وحماد بن أبي سليمان ، قالا جميعا : الحين سنة - وعن عكرمة مثله . وهو قول مالك ، قال : إلا أن ينوي غير ذلك فله ما نوى . وذهبت طائفة إلى ما رويناه من طريق محمد بن المثنى عن محمد بن عبد الله الأنصاري عن محمد بن علي بن الحسين أنه سئل في رجل حلف على امرأته : أن لا تفعل فعلا ما إلى حين ؟ فقال : أي الأحيان أردت ؟ فإن الأحيان ثلاثة - : قال الله عز وجل : { تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها } . كل ستة أشهر . وقوله تعالى : { ليسجننه حتى حين } فذلك ثلاثة عشر عاما . وقوله تعالى : { ولتعلمن نبأه بعد حين } فذلك إلى يوم القيامة . وذهبت طائفة إلى ما رويناه من طريق إسماعيل بن إسحاق عن محمد بن عبيد عن محمد بن ثور عن معمر قال الحسن البصري : { تؤتي أكلها كل حين } ما بين ستة أشهر إلى تسعة أشهر ، وذهب طائفة إلى ما روينا من طريق محمد بن المثنى نا المغيرة بن سلمة بن هشام المخزومي نا وهيب بن خالد نا ابن حرملة : أن رجلا سأل سعيد بن المسيب عن يمينه أن لا تدخل امرأته على أهلها حينا ؟ فقال سعيد ؛ الحين ما بين أن تطلع النخل إلى أن ترطب { تؤتي أكلها كل حين } وذهبت طائفة إلى ما روينا من طريق إسماعيل بن إسحاق عن محمد بن عبيد عن محمد بن ثور عن معمر عن قتادة : { تؤتي أكلها كل حين } قال : تؤكل ثمرتها في الشتاء والصيف . وذهبت طائفة إلى ما روينا من طريق يحيى بن سعيد القطان عن سفيان الثوري حدثني طارق بن عبد الرحمن عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال " الحين ستة أشهر " وهو قول سعيد بن جبير ، والشعبي . وذهبت طائفة إلى ما روينا من طريق محمد بن المثنى نا يزيد بن هارون أنا هشام هو ابن حسان - عن عكرمة أن عمر بن عبد العزيز سألهم عمن قال : لا أفعل أمرا كذا حينا ؟ فقال له عكرمة : إن من الحين ما يدرك وما لا يدرك - : فالذي لا يدرك قوله عز وجل : { ومتعناهم إلى حين } . والذي يدرك قوله تعالى : { تؤتي أكلها كل حين } فأراه من حين تثمر إلى حين تصرم ستة أشهر . فأعجب ذلك عمر بن عبد العزيز - . وبه يقول أبو حنيفة ، والأوزاعي ، وأبو عبيد . وقال أبو حنيفة : إلا أن ينوي مدة ما فله ما نوى . وذهبت طائفة إلى ما رويناه من طريق محمد بن المثنى نا يزيد بن هارون عن محمد بن مسلم الطائفي عن إبراهيم بن ميسرة عن سعيد بن المسيب قال : الحين شهران ، النخلة تطلع السنة كلها إلا شهرين . وذهبت طائفة إلى ما روينا من طريق محمد بن المثنى نا أبو معاوية الضرير نا الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس قال : الحين قد يكون غدوة وعشية - وهو قول الشافعي ، وأبي سليمان . وروينا من طريق وكيع عن أبي جعفر عن طاووس قال : الزمان شهران . قال أبو محمد : المرجوع إليه عند التنازع كلام الله تعالى : وكلام رسوله فوجدناه تعالى قد قال : { هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا } فهذا مذ خلق الله عز وجل مبدأ العالم إلى خلق آدم عليه السلام ، ونسم بنيه ، وإلى وقت نفخ الروح في كل واحد منا . وقال تعالى : { ولتعلمن نبأه بعد حين } فهذا إلى يوم القيامة . وقال تعالى : { ومتعناهم إلى حين } فهذا مدة عمر الإنسان إلى أن يموت . وقال تعالى : { ليسجننه حتى حين } . وقال تعالى : { فلبث في السجن بضع سنين } والبضع ما بين الثلاث إلى التسع . وقال الله تعالى : { فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا وحين تظهرون } فسمى الله تعالى المساء حينا ، والإصباح حينا ، والظهيرة حينا . فصح بذلك ما ذكرناه ، وبطل قول من حد حدا دون حد . ووجدنا احتجاجهم بالنخلة عليهم لا لهم ، لأننا نشاهدها يرطب منها ما كان زهوا ، ويزهى ما كان بسرا ، ويبسر منها ما كان بلحا ، ويبلح منها ما كان طلعا ، ففي كل ساعة تؤتي أكلها - وبالله تعالى التوفيق . ولأبي حنيفة هنا تخاليط عظيمة - : منها - أنه قال : من حلف أن لا يكلم فلانا زمانا ، أو الزمان ، أو حينا أو الحين ، أو مليا ، أو طويلا ، فهو كله ستة أشهر ، إلا أن ينوي مدة ما فله ما نوى - وروي عنه أيضا في قوله مليا : أنه شهر واحد . فإن حلف لا يكلمه دهرا ؟ قال أبو حنيفة : لا أدري ما الدهر ؟ وقال أبو يوسف ، ومحمد : هو ستة أشهر . فإن قال : لا أكلمه الدهر ؟ قال أبو يوسف : هو على الأبد . وقال محمد بن الحسن : ستة أشهر . فإن حلف أن لا يكلمه إلى بعيد - فهو أكثر من شهر . قال أبو يوسف شهر ويوم : فإن حلف أن لا يكلمه إلى قريب ، فهو أقل من شهر . فإن حلف أن لا يكلمه عمرا فإن أبا يوسف قال : ستة أشهر - وروي عنه أنه واحد إلا أن ينوي مدة ما فله ما نوى .

1158 - مسألة  : فإن حلف أن لا يكلمه طويلا ، فهو ما زاد على أقل المدد ، فإن حلف أن لا يكلمه أياما أو جمعا أو شهورا أو سنين ، أو ذكر - كل ذلك بالألف واللام - فكل ذلك على ثلاثة ، ولا يحنث فيما زاد ، لأنه الجمع ، وأقل الجمع ثلاثة ، وهو ما زاد على التثنية . قال تعالى : { فإن كن نساء فوق اثنتين } . فإن قال في كل ذلك - : كثيرة ، فهي على أربع ؛ لأنه لا " كثير " إلا بالإضافة إلى ما هو أقل منه ، ولا يجوز أن يحنث أحد إلا بيقين لا مجال للشك فيه - وبالله تعالى التوفيق .

1159 - مسألة  : ومن حلف ألا يساكن من كان ساكنا معه من امرأته أو قريبه أو أجنبي فليفارق التي هو فيها إلى غيرها ، ولا يحنث . فإن أقام مدة يمكنه فيها أن لا يساكنه فلم يفارقه حنث - فإن رحل كما ذكرنا مدة - قلت - أو كثرت ثم رجع لم يحنث . وتفسير ذلك - : إن كانا في بيت واحد أن يرحل أحدهما إلى بيت آخر من تلك الدار أو غيرها ، وإن كانا في دار واحدة رحل أحدهما إلى أخرى متصلة بها أو متنابذة أو اقتسما الدار - وإن كانا في محلة واحدة رحل أحدهما إلى أخرى - وإن كانا في مدينة واحدة أو قرية واحدة خرج أحدهما عن دور القرية أو دور المدينة لم يحنث ، وإن رحل أحدهما بجسمه وترك أهله وماله وولده لم يحنث ؛ إلا أن يكون له نية تطابق قوله فله ما نوى . وهذا كله قول أبي حنيفة ، والشافعي ، وأبي سليمان . وكل ما ذكرنا مساكنة وغير مساكنة ، فإن فارق تلك الحال فقد فارق مساكنته وقد بر ، ولا يقدر أحد على أكثر ، لأن الناس مساكن بعضهم لبعض في ساحة الأرض ، وفي العالم ، قال تعالى : { وله ما سكن في الليل والنهار } . وقد افترض الله عز وجل على المهاجرين الرحلة عن مكة ودار الكفر إلى المدينة فكان من خرج منهم بنفسه قد أدى ما عليه وفارق وطن الكفر وأكثرهم ترك أهله . وولده وماله بمكة ، وفي دار قومه فلم يخرجهم ذلك عن الهجرة ومفارقة الكفار . وقال مالك : يحنث حتى يرحل بأكثر رحيله - وهذا خطأ لما ذكرنا ، ولأنه قول بلا دليل . واحتج بعض مقلديه بما روى : { المرء مع رحله } وهذا لا يسند ؛ ثم لو صح لكان حجة عليهم ، لأن النبي لم يرو أنه قال إلا في رحل ناقته فقط لا في رحيل منزله ، بل تركه بمكة بلا شك ، ولم يخرج إلا بجسمه .

1160 - مسألة  : ومن حلف أن لا يأكل طعاما اشتراه زيد فأكل طعاما اشتراه زيد وآخر معه لم يحنث . وكذلك لو حلف أن لا يدخل دار زيد فدخل دارا يسكنها زيد بكرا [ وكذلك ] دارا بين زيد وغيره لم يحنث إلا أن ينوي دارا يسكنها زيد فيحنث ، لأن المنظور إليه في الأيمان ما تعارفه أهل تلك اللغة في كلامهم الذي به حلف ، وعليه حلف فقط - ولا يطلق على طعام اشتراه زيد وخالد أنه اشتراه زيد ، ولا على دار مشتركة أنها لأحد من هي له .

1161 - مسألة : ومن حلف أن لا يهب لأحد عشرة دنانير فوهب له أكثر حنث ، إلا أن ينوي العدد الذي سمى فقط فلا يحنث .

1162 - مسألة  : ومن حلف أن لا يجمعه مع فلان سقف فدخل بيتا فوجده فيه ولم يكن عرف إذ دخل أنه فيه لم يحنث ، لكن ليخرج من وقته فإن لم يفعل حنث لما ذكرنا قبل من أن الحنث لا يلحق إلا قاصدا إليه ، عالما به .

1163 - مسألة  : ومن حلف أن لا يأكل لحما أو أن لا يشتريه فاشترى شحما ، أو كبدا ، أو سناما ، أو مصرانا ، أو حشوة ، أو رأسا ، أو أكارع أو سمكا ، أو طيرا ، أو قديدا : لم يحنث ، لأنه لا يقع على شيء مما ذكرنا في اللغة اسم لحم أصلا ، بل كل لغوي وعامي يقول في كل ذلك : ليس لحما ولا يطلق على السمك والطير اسم لحم إلا بالإضافة . وقال أبو حنيفة ، والشافعي ، وأبو سليمان كما قلنا . وقال مالك : يحنث بكل ذلك - واحتج له مقلدوه بقول الله تعالى : { ولحم طير مما يشتهون } ، { ومن كل تأكلون لحما طريا } . قال أبو محمد : قد قلنا : إنه لا يطلق على ذلك اسم لحم إلا بالإضافة ، كما لا يطلق على " ماء الورد " اسم ماء إلا بالإضافة ، ويلزمهم أن يقولوا فيمن حلف أن لا يجمعه مع فلان سقف أن يحنث ولا بد ، لأن الله تعالى قال : { وجعلنا السماء سقفا محفوظا } . وأن يقول فيمن حلف أن لا يقرأ بضوء سراج ، فقرأ بضوء الشمس : أن يحنث ، لأنه تعالى قال : { وجعلنا سراجا وهاجا } . وقوله تعالى : { وجعل الشمس سراجا } . وأن يقولوا فيمن حلف أن لا يلقي ثيابه على وتد فألقاها على جبل : أن يحنث ، لأن الله تعالى يقول : { والجبال أوتادا } وهم لا يقولون هذا ؟ فصح أن المراعى في ذلك ما قلناه ، ولا يخالفوننا فيمن قال لآخر : ابتع لي بهذا الدرهم لحما ؟ فابتاع له به سمكا ، أو دجاجة ، أو شحما ، أو رأسا ، أو حشوة ، أو أكارع : فإنه ضامن للدرهم ، وإنه قد خالف ما أمر به وتعدى - وبالله تعالى التوفيق .

1164 - مسألة  : ومن حلف أن لا يأكل شحما حنث بأكل شحم الظهر والبطن ، وكل ما يطلق عليه اسم شحم ، ولم يحنث بأكل اللحم المحض وهذا قول الشافعي ، وأبي سليمان . وقال أبو حنيفة ، وأصحابه : لا يحنث إلا بشحم البطن وحده ، ولا يحنث بشحم الظهر . وقال مالك : من حلف أن لا يأكل لحما فأكل شحما حنث ، ومن حلف أن لا يأكل شحما فأكل لحما يحنث : واحتج أصحاب أبي حنيفة بأن الله تعالى قال : { ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما } قالوا : فكان ذلك على شحم البطن خاصة . قال أبو محمد : وهذا احتجاج محال عن موضعه ، لأنه لم يخص شحم البطن بالتحريم عليهم بنفس هذا اللفظ لكن بما بعده من قوله تعالى : { إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم } فبهذا خص شحم البطن بالتحريم ولولا ذلك لحرمت الشحوم كلها فالآية حجة عليهم . واحتج المالكيون بأن قالوا : حرم الله تعالى لحم الخنزير فحرم شحمه ، وحرم على بني إسرائيل الشحم فلم يحرم اللحم . وقالوا : الشحم متولد من اللحم وليس اللحم متولدا من الشحم . قال أبو محمد : وهذان الاحتجاجان في غاية التمويه بالباطل ، لأن تحريم شحم الخنزير لم يحرم من أجل تحريم لحمه ، لكن ببرهان آخر قد ذكرناه في " باب ما يحل أكله ويحرم " . ولو كان تحريم شحم الخنزير من أجل تحريم لحمه دليلا على أن من حلف أن لا يأكل لحما فأكل شحما حنث - لكان تحريم لبن الخنزيرة وعظمها على قولهم من أجل تحريم لحمها موجبا للحنث على من حلف أن لا يأكل لحما فشرب لبنا ولا فرق ، وهم لا يقولون هذا . وأما قولهم : إن الشحم تولد من اللحم ، فيقال لهم فكان ماذا ؟ أليس اللحم ، واللبن متولدين من الدم ، والدم حرام ، وهما حلالان ؟ أوليس الخمر متولدة من العصير والخل متولدة من الخمر وهي حرام ، وما تولدت منه حلال ، وما تولد منها حلال ، فبطل قولهم - وبالله تعالى التوفيق .

محلى ابن حزم - المجلد الثالث/كتاب الأيمان
كتاب الأيمان (مسألة 1127 - 1133) | كتاب الأيمان (مسألة 1134 - 1135) | كتاب الأيمان (مسألة 1136 - 1147) | كتاب الأيمان (مسألة 1148 - 1164) | كتاب الأيمان (مسألة 1165 - 1180) | كتاب الأيمان (مسألة 1181 - 1190)