محلى ابن حزم - المجلد الثالث/الصفحة الثالثة عشر
كتاب الأطعمة
989 مكرر - مسألة: قال أبو محمد: لا يحل أكل شيء من الخنزير، لا لحمه، ولا شحمه، ولا جلده، ولا عصبه، ولا غضروفه، ولا حشوته، ولا مخه، ولا عظمه، ولا رأسه، ولا أطرافه، ولا لبنه، ولا شعره الذكر والأنثى والصغير والكبير سواء، ولا يحل الأنتفاع بشعره لا في خرز، ولا في غيره. ولا يحل أكل شيء من الدم، ولا استعماله مسفوحا كان أو غير مسفوح إلا المسك وحده، ولا يحل أكل شيء مما مات حتف أنفه من حيوان البر، ولا ما قتل منه بغير الذكاة المأمور بها، إلا الجراد وحده، فإن خنق شيء من حيوان البر حتى يموت أو ضرب بشيء حتى يموت، أو سقط من علو فمات، أو نطحه حيوان آخر فمات من ذلك فلا يحل أكل شيء منه، ولا ما قتله السبع أو حيوان آخر حاشا الصيد على ما نذكر بعد هذا إن شاء الله تعالى فإن أدرك كل ما ذكرنا حيا فذكي فهو حلال أكله إن كان مما لم يحرم أكله. ولا يحل أكل حيوان ذبح أو نحر لغير الله تعالى، قال الله تعالى: {حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب} فحرم تعالى كل ما ذكرنا واستثني منه بالإباحة كل ما ذكينا، ولا تقتضي الآية غير هذا أصلا وههنا قولان لبعض من تقدم، أحدهما قول مالك وهو أنه إذا بلغ بالحيوان شيء مما ذكرنا مبلغا يوقن أنه يموت منه فإنه لا يحل أكله، وإن ذكي والقول الثاني قاله المزني وهو، أنه قال: إذا عرف أنه يموت مما أصابه قبل موته من الذكاة حرم أكله وإن عرف أنه يموت من الذكاة قبل موته مما أصابه حل أكله.
قال أبو محمد: أما قول مالك فخلاف للآية ظاهر، وكذلك تقسيم المزني أيضا وسنستقصي هذا في كتاب الذكاة إن شاء الله تعالى، وأما الدم فإن قوما حرموا المسفوح وحده، وهو الجاري، واحتجوا بقول الله تعالى: {قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به} قالوا: فإنما حرم المسفوح فقط.
قال أبو محمد: وهذا استدلال منهم موضوع في غير موضعه لأن الآية التي احتجوا بها في سورة الأنعام وهي مكية والآية التي تلونا نحن في سورة المائدة وهي مدنية من آخر ما أنزل فحرم في أول الإسلام بمكة الدم المسفوح ثم حرم بالمدينة الدم كله جملة عموما فمن لم يحرم إلا المسفوح وحده فقد أحل ما حرم الله تعالى في الآية الأخرى ومن حرم الدم جملة فقد أخذ بالآيتين جميعا وقد حرم بعد تلك الآية أشياء ليست فيها كالخمر وغير ذلك فوجب تحريم كل ما جاء نص بتحريمه بعد تلك الآية والدم جملة مما نزل تحريمه بعد تلك الآية. نا أبو سعيد الفتى نا محمد بن علي المقري نا أحمد بن محمد بن إسماعيل النحاس حدثني يموت بن المزرع نا أبو حاتم سهل بن محمد السجستاني نا أبو عبيدة معمر بن المثنى نا يونس بن حبيب قال: سمعت أبا عمرو بن العلاء قال: سألت مجاهدا عن تلخيص آي القرآن المدني من المكي فقال: سألت ابن عباس عن ذلك فقال: سورة الأنعام نزلت بمكة جملة واحدة إلا ثلاث آيات منها نزلت بالمدينة قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم إلى تمام الثلاث الآيات.
قال أبو محمد: هي قول الله تعالى: {قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون}. فهذه الثلاث الآيات هي التي أنزلت منها في المدينة وسائرها بمكة، وسورة المائدة أنزلت بالمدينة لا خلاف في ذلك، (فإن ذكروا) ما روي عن عائشة أم المؤمنين أنها سئلت عن الدم يكون في أعلى القدر فلم تر به بأسا وقرأت قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه حتى بلغت (مسفوحا) فإن هذا قد عارضه ما رويناه عنها من طريق ابن وهب عن معاوية بن صالح عن جري بن كليب عن جبير بن نفير قال: قالت لي عائشة أم المؤمنين: هل تقرأ سورة المائدة قلت: نعم قالت: أما إنها آخر سورة نزلت فما وجدتم فيها حراما فحرموه.
قال أبو محمد: وأيضا فإن الدم الذي في أعلى القدر إن كان أحمر ظاهرا فهو بلا شك مسفوح، ولا خلاف في تحريمه وإن كان إنما هو صفرة فليس دما لأن الدم أحمر أو أسود لا أصفر فإن بطلت صفاته التي منها يقوم حده فقط سقط عنه اسم الدم وإذ لم يكن دما فهو حلال، وكذلك ما في العروق وخلال اللحم فإنه ليس ظاهرا وإذا لم يكن ظاهرا فليس هنالك دم يحرم وإنما نسأل خصومنا عن دم أحمر ظاهر إلا أنه جامد ليس جاريا أيحل أكله أم لا فهذا مكان الأختلاف بيننا وبينهم، وبالله تعالى التوفيق.
وأما المسك فإن رسول الله ﷺ لم يزل يتطيب به في حجة الوداع وبعدها وقبلها وأقره الله تعالى على ذلك وأباحه له ولنا وقد علم الله تعالى أنه في أصله دم قرحة متولدة في حيوان وما كان ربك نسيا.
وأما الخنزير فإن الله تعالى قال: {أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا} والضمير في لغة العرب التي نزل بها القرآن راجع إلى أقرب مذكور إليه فصح بالقرآن أن الخنزير بعينه رجس فهو كله رجس وبعض الرجس رجس، والرجس حرام واجب اجتنابه فالخنزير كله حرام لا يخرج من ذلك شعره، ولا غيره حاشا ما أخرجه النص من الجلد إذا دبغ فحل استعماله.
وروينا من طريق مسلم نا قتيبة بن سعيد نا ليث، هو ابن سعد، عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله ﷺ: والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم ﷺ حكما مقسطا فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال حتى لا يقبله أحد.
ومن طريق مسلم نا هارون بن عبد الله نا حجاج، هو ابن محمد (عن ابن جريج) نا أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: سمعت النبي ﷺ يقول: لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة فينزل عيسى ابن مريم ﷺ فيقول: أميرهم تعال صل لنا فيقول: لا إن بعضكم على بعض أمراء تكرمة الله هذه الأمة.فصح أن النبي ﷺ صوب قتل عيسى عليه السلام للخنازير وأخبر أنه بحكم الإسلام ينزل وبه يحكم، وقد صح أنه عليه السلام نهى عن إضاعة المال فلو كانت الذكاة تعمل في شيء من الخنزير لما أباح عليه السلام قتله فيضيع.
فصح أنه كله ميتة محرم على كل حال، وقد ادعى بعض من لا يبالي ما أطلق به لسانه من أصحاب القياس أن شحم الخنزير إنما حرم قياسا على لحمه، وأن الإجماع على تحريمه إنما هو من قبل القياس المذكور.
قال أبو محمد: فيقال لمن قال هذا التخليط الظاهر فساده: أول بطلان قولك أنه دعوى بلا برهان، وثانيه أنه كذب على الأمة كلها إذ قلت إنها إنما أجمعت على الباطل من القياس، والثالث أنه لو كان القياس حقا لكان هذا منه عين الباطل لأنه لا علة تجمع بين الشحم واللحم، فإن قالوا: لأن الشحم بعض اللحم ومن اللحم لأنه من اللحم تولد قلنا لهم: أما قولكم: إن الشحم بعض اللحم فباطل لأنه لو كان ذلك لكان الشحم لحما وهذا لم تأت به لغة قط، ولا شريعة، وأما قولكم لأنه من اللحم تولد فنحن تولدنا من التراب ولسنا ترابا، والدجاجة تولدت من البيضة وليست بيضة، والتمر تولد من النخل وليس نخلا، واللحم تولد من الدم، واللبن تولد من الدم وليس اللحم دما، ولا اللبن دما بل هما حلالان، والدم حرام وكل ما تولد من شيء فلم يقع عليه اسم ما تولد منه فهو نوع آخر، ولا يجوز أن يحكم له بحكمه لا في اللغة، ولا في الديانة، وقد حرم الله تعالى الشحم على بني إسرائيل فلم يحرم اللحم بتحريم الشحم. نعم، ولا حرم شحم الظهر، ولا شحم الصدر، ولا شحم الحوايا لتحريم شحم البطن، ولا يدري ذو عقل من أين وجب إذا حرم اللحم أن يحرم الشحم وقد بينا فرق ما بينهما آنفا. والرابع أن يقال لهم أترون سف عظمه وأكل غضروفه وشرب لبنه حرم قياسا على لحمه إن هذا لعجب جدا وكل هذه عندهم أنواع غير اللحم بلا خلاف منهم، ويقال لهم أيضا أخبرونا أحرم الله تعالى شحم الخنزير وغضروفه وعظمه وشعره ولبنه أم لم يحرم شيئا من ذلك، ولا بد من أحدهما، فإن قالوا: حرم الله تعالى كل ذلك قلنا لهم: ومن أين يعرف تحريم الله تعالى ما حرم إلا بتفصيله تحريمه وبوحيه بذلك إلى رسوله عليه السلام، وهل يكون من ادعى أن الله تعالى حرم أمر كذا بغير وحي من الله تعالى بذلك إلا مفتريا على الله تعالى كاذبا عليه جهارا إذ أخبر عنه تعالى بما لم ينزل به وحيا، ولا أخبر به عن نفسه، وقد قال تعالى: {وقد فصل لكم ما حرم عليكم}.
فإن قالوا: حرم كل ذلك بتحريمه اللحم. قلنا: وهذه دعوى مكررة كاذبة مفتراة بلا دليل على صحتها، وعن هذه الدعوة الكاذبة سألناكم فلم نجد عندكم زيادة على تكريرها فقط، وما كان هكذا فهو باطل بيقين.
فإن قالوا: لم يحرمها الله تعالى بوحي من عنده، ولا حرمها رسوله عليه السلام بنص منه لكن أجمع المسلمون على تحريم كل ذلك، قيل لهم: هذه أطم وأفحش أن يكون شيء يقرون أنه لم يحرمه الله تعالى، ولا رسوله ﷺ وإذا لم يحرمه الله تعالى، ولا رسوله ﷺ فقد أحله الله تعالى بلا شك فأجمع المسلمون على مخالفة الله تعالى ومخالفة رسوله عليه السلام إذ حرموا ما لم يحرمه الله تعالى، ولا رسوله عليه السلام وقد أعاذ الله تعالى المسلمين من هذه الكفرة الصلعاء، فإن قالوا: لما أجمع المسلمون على تحريمه حرمه الله تعالى حينئذ.
قلنا لهم: متى حرمه الله تعالى أقبل إجماعهم أم مع إجماعهم أم بعد إجماعهم، ولا سبيل إلى قسم رابع.
فإن قالوا: بعد إجماعهم جعلوا حكمه تعالى تبعا لحكم عباده وهذا كفر محض، وإن قالوا: بل مع إجماعهم كانوا قد أوجبوا أنهم ابتدءوا مخالفة الله تعالى في تحريم ما لم يحرمه وقد بينا فحش هذا آنفا.
وإن قالوا: بل قبل إجماعهم قلنا: فقد صح أنه تعالى حرمه، ولا يعرف تحريمه إياه إلا بتفصيل منه تعالى بتحريمه والتفصيل لا يكون ألبتة إلا بنص وهذا قولنا وإلا فهو دعوى كذب على الله تعالى وتكهن. وقول في الدين بالظن فظهر يقين ما قلناه وفساد قولهم وصح أن المسلمين إنما أجمعوا على تحريم كل ذلك اتباعا للنص الوارد في تحريمه كما لم يجمعوا على تحريم لحمه إلا بعد ورود النص بتحريمه، ولا فرق وبالله تعالى التوفيق، وسنذكر حكم الجراد بعد هذا إن شاء الله تعالى.
990 - مسألة: وأما ما يسكن جوف الماء، ولا يعيش إلا فيه فهو حلال كله كيفما وجد، سواء أخذ حيا ثم مات أو مات في الماء، طفا أو لم يطف، أو قتله حيوان بحري أو بري هو كله حلال أكله. وسواء خنزير الماء، أو إنسان الماء، أو كلب الماء وغير ذلك كل ذلك حلال أكله: قتل كل ذلك وثني أو مسلم أو كتابي أو لم يقتله أحد. برهان ذلك قول الله تعالى: {وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج ومن كل تأكلون لحما طريا}.
وقال تعالى: {أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة} فعم تعالى ولم يخص شيئا من شيء وما كان ربك نسيا فخالف أصحاب أبي حنيفة هذا كله وقالوا: يحل أكل ما مات من السمك وما جزر عنه الماء ما لم يطف على الماء مما مات في الماء حتف أنفه خاصة، ولا يحل أكل ما طفا منه على الماء، ولا يحل أكل شيء مما في الماء إلا السمك وحده، ولا يحل أكل خنزير الماء، ولا إنسان الماء، واحتجوا في ذلك بأن قالوا: قد حرم الله أكل الخنزير جملة والإنسان وهذا خنزير وإنسان، قالوا: فإن ضربه حوت فقتله أو ضربه طائر فقتله أو ضربته صخرة فقتلته أو صاده وثني فقتله فطفا بعد كل هذا فهو حلال أكله، وقال محمد بن الحسن في سمكة ميتة بعضها في البر وبعضها في الماء: إن كان الرأس وحده خارج الماء أكلت وإن كان الرأس في الماء نظر فإن كان الذي في البر من مؤخرها النصف فأقل لم يحل أكلها وإن كان الذي في البر من مؤخرها أكثر من النصف حل أكلها.
قال أبو محمد: هذه أقوال لا تعلم عن أحد من أهل الإسلام قبلهم وهي مخالفة للقرآن وللسنن ولأقوال العلماء وللقياس وللمعقول لأنها تكليف ما لا يطاق مما لا سبيل إلى علمه هل ماتت وهي طافية فيه أو ماتت قبل أن تطفو أو ماتت من ضربة حوت أو من صخرة منهدمة أو حتف أنفها، ولا يعلم هذا إلا الله أو ملك موكل بذلك الحوت، وما ندري لعل الجن لا سبيل لها إلى معرفة ذلك أم يمكنها علم ذلك لأن فيهم غواصين بلا شك قال تعالى: {ومن الشياطين من يغوصون له} ثم لا بد للسمكة التي شرع فيها محمد بن الحسن هذه الشريعة السخيفة من مذرع يذرع ما منها خارج الماء وما منها داخل الماء ثم ما يدريه البائس لعله كان أكثرها في الماء، ثم أدارتها الأمواج فيا لله ويا للمسلمين لهذه الحماقات التي لا تشبه إلا ما يتطايب به المجان لأضحاك سخفاء الملوك، والعجب كل العجب من قولهم في الأخبار الثابتة في أنه لا تحرم الرضعة، ولا الرضعتان: هذا زيادة على ما في القرآن فلا نأخذ بها إلا من طريق التواتر، ثم لا يستحيون أن يزيدوا بمثل هذه العقول مثل هذه الزيادة على ما في القرآن. نحمد الله على السلامة في الدين والعقل كثيرا.
وأما قولهم: إنه قد حرم الخنزير والإنسان وهذا خنزير وإنسان، وقد قال الليث بن سعد بهذا أيضا خاصة: فليس خنزيرا، ولا إنسانا لأنها إنما هي تسمية من ليس حجة في اللغة وليست التسمية إلا لله تعالى، ولو كان ذلك إلى الناس لكان من شاء أن يحل الحرام أحله بأن يسميه باسم شيء حلال ومن شاء أن يحرم الحلال حرمه بأن يسميه باسم شيء حرام، فسقط قول هذه الطائفة سقوطا لا مرية فيه وبقي قول لبعض السلف في تحريم الطافي من السمك.
روينا من طريق محمد بن المثنى نا عبد الرحمن بن مهدي نا سفيان الثوري عن أبي الزبير عن جابر قال: ما طفا فلا تأكلوه وما كان على حافتيه أو حسر عنه فكلوه.
ومن طريق سعيد بن منصور نا إبراهيم، هو ابن علية نا أيوب عن أبي الزبير عن جابر قال: ما حسر الماء عن ضفتي البحر فكل وما مات فيه طافيا فلا تأكل.
ومن طريق ابن فضيل أنا عطاء بن السائب عن ميسرة عن علي بن أبي طالب قال: ما طفا من صيد البحر فلا تأكلوه.
ومن طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن الأجلح عن عبد الله بن أبي الهذيل أنه سمع ابن عباس وقد قال له رجل: إني أجد البحر وقد جعل سمكا قال: لا تأكل منه طافيا.
ومن طريق يحيى بن سعيد القطان، عن ابن أبي عروبة عن قتادة عن سعيد بن المسيب، أنه قال: ما طفا من السمك فلا تأكله. وصح عن الحسن وابن سيرين وجابر بن زيد وإبراهيم النخعي أنهم كرهوا الطافي من السمك، وبتحريمه يقول الحسن بن حي، وروي عن سفيان الثوري فيما في البحر مما عدا السمك قولان، أحدهما أنه يؤكل، والآخر لا يؤكل حتى يذبح، وههنا قول آخر رويناه من طريق وكيع قال: نا جرير بن حازم عن عيسى بن عاصم عن علي بن أبي طالب أنه كره صيد المجوس للسمك.
ومن طريق عبد الرزاق، عن ابن جريج أخبرني أبو بكر بن حفص، عن ابن مسعود قال: ذكاة الحوت فك لحييه.
قال أبو محمد: أما هذا القول وتقسيم أحد قولي الثوري فيبطلها كلها ما رويناه من طريق مسلم نا يحيى بن يحيى نا أبو خيثمة هو زهير بن معاوية عن أبي الزبير المكي حدثني جابر قال: بعثنا رسول الله ﷺ وأمر علينا أبا عبيدة نتلقى عيرا لقريش وزودنا جرابا من تمر لم يجد لنا غيره فكان أبو عبيدة يعطينا تمرة تمرة، قال أبو الزبير: فقلت لجابر: كيف كنتم تصنعون بها قال: نمصها كما يمص الصبي ثم نشرب عليها من الماء فتكفينا يومنا إلى الليل وكنا نضرب بعصينا الخبط فنبله بالماء فنأكله قال: وانطلقنا على ساحل البحر فرفع لنا على ساحل البحر كهيئة الكثيب الضخم فأتيناه فإذا هو دابة تدعى العنبر قال أبو عبيدة: ميتة، ثم قال: لا بل نحن رسل رسول الله ﷺ وفي سبيل الله تعالى وقد اضطررتم فكلوا فأقمنا عليه شهرا ونحن ثلاثمائة حتى سمنا ولقد رأيتنا نغترف من وقب عينيه بالقلال الدهن ونقتطع منه الفدر كالثور أو كقدر الثور ولقد أخذ منا أبو عبيدة ثلاثة عشر رجلا فأقعدهم في وقب عينه وأخذ ضلعا من أضلاعه فأقامها، ثم رحل أعظم بعير معنا فمر من تحتها وتزودنا من لحمه وشائق، فلما قدمنا المدينة ذكرنا ذلك لرسول الله ﷺ فقال هو رزق أخرجه الله تعالى لكم فهل معكم من لحمه شيء فتطعمونا فأرسلنا إلى رسول الله ﷺ منه فأكله.
قال أبو محمد: فهذا ليس من السمك بل هو مما حرمه من ذكرنا وليس مما فكت لحياه بل هو ميتة وهذا هو الصحيح عن جابر لسماع أبي الزبير إياه منه، وهذا بين فيه لقوله لجابر في التمرة كيف كنتم تصنعون بها وإذ ميتة البحر حلال فصيد الوثني وغيره له سواء لأنه لا يحتاج إلى ذكاة إنما ذكاته موته فقط، وأما من حرم الطافي جملة فالرواية في ذلك عن جابر لا تصح لأن أبا الزبير لم يذكر فيه سماعا من جابر وهو ما لم يذكر ذلك فمدلس عنه كما نذكر بعد هذا إن شاء الله تعالى، وهي عن علي لا تصح لأن ابن فضيل لم يسمع من عطاء بن السائب إلا بعد اختلاطه، وهي، عن ابن عباس من طريق أجلح وليس بالقوي لكنه صحيح عن الحسن وابن سيرين وجابر بن زيد. واحتجوا بما رويناه من طريق أبي داود نا أحمد بن عبدة نا يحيى بن سليم الطائفي نا إسماعيل بن أمية عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله ﷺ: ما ألقى البحر أو جزر عنه فكلوه وما مات فيه فطفا فلا تأكلوه ومن طريق سعيد بن منصور نا إسماعيل بن عياش حدثني عبد العزيز بن عبيد الله عن وهب بن كيسان ونعيم بن المجمر، هو ابن عبد الله عن جابر بن عبد الله عن النبي ﷺ قال: كلوا ما حسر عنه البحر وما ألقى وما وجدتموه طافيا من السمك فلا تأكلوه.
قال أبو محمد: ما نعلم لهم حجة غير هذا وليس بحجة لأنه لا يصح ولو صح لما ترددنا طرفة عين في القول به إلا أن قبل كل شيء فهو لو صح حجة على أصحاب أبي حنيفة لأنهم مخالفون لما فيه ولكل ما روينا في ذلك عن صاحب أو تابع لأنهم يبيحون بعض الطافي إذا مات من عارض عرض له لا حتف أنفه ويحرمون كثيرا مما ألقى البحر أو حسر عنه فخالفوا الخبر في موضعين، وكذلك من روي عنه في هذا شيء، وأما ضعف هذين الخبرين، فأحدهما من طريق إسماعيل بن عياش وهو ضعيف، والآخر من رواية أبي الزبير عن جابر ولم يذكر فيه سماعا. نا يوسف بن عبد الله بن عبد البر النمري نا عبد الله بن محمد بن يوسف الأزدي القاضي نا إسحاق بن أحمد الدخيل نا أبو جعفر العقيلي نا محمد بن إسماعيل وزكريا بن يحيى الحلواني قال زكريا: نا أحمد بن سعيد بن أبي مريم، وقال محمد بن إسماعيل: نا الحسن بن علي، ثم اتفق أحمد والحسن قالا جميعا: نا سعيد بن أبي مريم نا الليث بن سعد قال: جئت أبا الزبير فدفع إلي كتابين فقلت له: هذا كله سمعته من جابر فقال: منه ما سمعت منه، ومنه ما حدثت عنه فقلت: أعلم لي على ما سمعت فأعلم لي على هذا الذي عندي.
قال أبو محمد: فما لم يكن من رواية الليث عن أبي الزبير، ولا قال فيه أبو الزبير أنه أخبره به جابر فلم يسمعه من جابر بإقراره، ولا ندري عمن أخذه فلا يجوز الأحتجاج به، وهذا من ذلك الخبر فسقط ونحمد الله تعالى على بيانه لنا. وقد روي مثل قولنا عن طائفة من السلف.
روينا من طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن عبد الملك بن أبي بشير عن عكرمة، عن ابن عباس قال: أشهد على أبي بكر، أنه قال: السمكة الطافية حلال لمن أراد أكلها. نا حمام نا الباجي نا ابن أيمن نا أحمد بن مسلم نا أبو ثور نا معلى نا أبو عوانة عن قتادة عن عكرمة، عن ابن عباس أن أبا بكر الصديق قال: السمك كله ذكي.
ومن طريق سعيد بن منصور نا سفيان، هو ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن عكرمة قال: قال أبو بكر الصديق: طعام البحر كل ما فيه.
ومن طريق وكيع نا همام، هو ابن يحيى عن قتادة عن جابر بن أبي الشعثاء قال: قال عمر بن الخطاب: الحيتان والجراد ذكي.
قال أبو محمد: قال الله تعالى: {فالتقمه الحوت وهو مليم} فسمى ما يلتقم الإنسان في بلعة واحدة حوتا. وليس هذا من الصفة التي أحل أبو حنيفة، وقد قال أبو بكر وعمر بإباحته، ولا يعلم لهما في ذلك مخالف من الصحابة رضي الله عنهم.
ومن طريق سعيد بن منصور نا صالح بن موسى الطلحي عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن علي بن أبي طالب أنه سأل عن الحيتان والجراد فقال: الحيتان والجراد ذكي ذكاتهما صيدهما.
ومن طريق سعيد بن منصور نا هشيم أنا منصور عن معاوية بن قرة أن أبا أيوب أكل سمكة طافية.
ومن طريق أبي ثور نا معلى نا عبد الوارث بن سعيد التنوري نا أبو التياح عن ثمامة بن أنس بن مالك أن أبا أيوب الأنصاري سأل عن سمكة طافية فقال: كل وأطعمني.
ومن طريق سعيد بن منصور عن إسماعيل بن عياش عن عبيد الله بن عبيد الكلاعي عن سليمان بن موسى عن الحسن قال: أدركت سبعين رجلا من أصحاب رسول الله ﷺ يأكلون صيد المجوس من الحيتان لا يختلج منه شيء في صدورهم ولم يكونوا يرون صيده ذكاته، وبأكل الطافي من السمك يقول ابن أبي ليلى والأوزاعي وسفيان الثوري ومالك والليث الشافعي وأبو سليمان.
قال علي: لا يطفو الحوت أصلا إلا حتى يموت أو يقارب الموت فإذا مات طفا ضرورة، ولا بد، فتخصيصهم الطافي بالمنع وإباحتهم ما مات في الماء تناقض.
991 - مسألة : وأما ما يعيش في الماء وفي البر فلا يحل أكله إلا بذكاة كالسلحفاة والباليمرين وكلب الماء والسمور , ونحو ذلك , لأنه من صيد البر ودوابه , وإن قتله المحرم جزاه .
992 - مسألة: ولا يحل أكل حيوان مما يحل أكله ما دام حيا لقول الله تعالى: {إلا ما ذكيتم} فحرم علينا أكل ما لم نذك، والحي لم يذك بعد.
وكذلك لو ذبح حيوان أو نحر فإنه لا يحل أكل شيء منه حتى يموت لقول الله تعالى: {فاذكروا اسم الله عليها صواف فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها}.
ولا خلاف في أن حكم البدن وغيرها في هذا سواء، فلا يحل بلع جرادة حية، ولا بلع سمكة حية، مع أنه تعذيب، وقد نهي عن تعذيب الحيوان:
روينا من طريق عبد الرزاق نا معمر عن يحيى بن أبي كثير عن رجل، عن ابن الفرافصة عن أبيه أن عمر بن الخطاب قال: إن الذكاة: الحلق واللبة لمن قدر، وذروا الأنفس حتى تزهق وبالله تعالى التوفيق.
993 - مسألة: ولا يحل أكل شيء من حيوان البر بفتل عنق، ولا بشدخ، ولا بغم ; لقول الله تعالى: {إلا ما ذكيتم} وليس هذا ذكاة.