محلى ابن حزم - المجلد الثالث/الصفحة الثالثة والخمسون

ابن حزم - المحلى المؤلف ابن حزم
كتاب المداينات والتفليس (مسألة 1276 - 1284)


كتاب المداينات والتفليس

1276 - مسألة: ومن ثبت للناس عليه حقوق من مال أو مما يوجب غرم مال ببينة عدل، أو بإقرار منه صحيح: بيع عليه كل ما يوجد له، وأنصف الغرماء، ولا يحل أن يسجن أصلا، إلا أن يوجد له من نوع ما عليه فينصف الناس منه بغير بيع، كمن عليه دراهم ووجدت له دراهم، أو عليه طعام ووجد له طعام، وهكذا في كل شيء لقول الله تعالى: {كونوا قوامين بالقسط}. ولتصويب رسول الله قول سلمان: أعط كل ذي حق حقه ; ولقول رسول الله : مطل الغني ظلم. فسجنه مع القدرة على إنصاف غرمائه ظلم له ولهم معا، وحكم بما لم يوجبه الله تعالى قط، ولا رسوله وما كان لرسول الله سجن قط:

روينا من طريق أبي عبيد القاسم بن سلام، حدثنا أحمد بن خالد الوهبي عن محمد بن إسحاق عن محمد بن علي بن الحسين قال: قال علي بن أبي طالب: حبس الرجل في السجن بعد ما يعرف ما عليه من الدين ظلم. وقال الحنفيون: لا يباع شيء من ماله، لكن يسجن وإن كان ماله حاضرا حتى يكون هو الذي ينصف من نفسه. ثم تناقضوا فقالوا: إلا إن كان الدين دراهم فتوجد له دنانير، أو يكون الدين دنانير فتوجد له دراهم، فإن الذي يوجد من ذلك يباع فيما عليه منها. فليت شعري ما الفرق بين بيع الدنانير وابتياع دراهم، وبين بيع العروض وابتياع ما عليه وإنما أوجب الله تعالى علينا، وعلى كل أحد إنصاف ذي الحق من أنفسنا، ومن غيرنا. ومنع تعالى من السجن بقوله تعالى: {فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه} وافترض حضور الجمعة والجماعات. فمنعوا المدين من حضور الصلوات في الجماعة، ومن حضور الجمعة، ومن المشي في مناكب الأرض ومنعوا صاحب الحق من تعجيل إنصافه وهم قادرون على ذلك فظلموا الفريقين. واحتجوا بآثار واهية: منها: رواية من طريق أبي بكر بن عياش عن أنس: أن رسول الله حبس في تهمة.

ومن طريق عبد الرزاق عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده: أن رسول الله حبس في تهمة.

ومن طريق أبي مجلز: أن غلامين من جهينة كان بينهما غلام فأعتقه أحدهما فحبسه رسول الله حتى باع غنيمته وعن الحسن: أن قوما اقتتلوا فقتل بينهم قتيل فبعث إليهم رسول الله فحبسهم.

قال أبو محمد: كل هذا باطل، أما حديث أنس ففيه أبو بكر بن عياش وهو ضعيف وانفرد عنه أيضا إبراهيم بن زكريا الواسطي، ولا يدرى من هو، وحديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده ضعيف. ومن هذه الطريق بعينها فيمن منع الزكاة: إنا آخذوها وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا فإن احتجوا به في الحبس في التهمة فليأخذوا بروايته هذه وإلا فالقوم متلاعبون بالدين.

فإن قالوا: هذا منسوخ قيل لهم: أترون خصمكم يعجز عن أن يقول لكم: والحبس في التهمة منسوخ بقوله : إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث والحبس في غير التهمة منسوخ بوجوب حضور الجمعة، والجماعات وحديث الحبس حتى باع غنيمته مرسل، ولا حجة في مرسل. ولو صح لما كان لهم فيه حجة ; لأنه قد يخاف عليه الهرب بغنيمته فحبس ليبيعها، وهذا حق لا ننكره وليس فيه الحبس الذي يرون هم، ولا أنه امتنع من بيعها. وقد يكون الضمير الذي في باعها راجعا إلى رسول الله . وقد يكون هذا الحبس إمساكا في المدينة. وليس فيه أصلا أنه حبس في سجن فلا حجة لهم فيه أصلا، وحديث الحسن مرسل.

وأيضا: فإنما هو حبس في قتيل، وحاشا لله أن يكون عليه السلام يحبس من لم يصح عليه قتل بسجن فيسجن البريء مع النطف، هذا فعل أهل الظلم والعدوان، لا فعله عليه السلام، والله لقد قتل عبد الله بن سهل رضوان الله عليه وهو من أفاضل الصحابة رضي الله عنهم فيما بين أظهر شر الأمة وهم اليهود لعنهم الله فما استجاز عليه السلام سجنهم، فكيف أن يسجن في تهمة قوما من المسلمين فهذا الباطل الذي لا شك فيه. ثم ليت شعري إلى متى يكون هذا الحبس في التهمة بالدم وغيره فإن حدوا حدا زادوا في التحكم بالباطل.

وإن قالوا: إلى الأبد، تركوا قولهم، فهم أبدا يتكسعون في ظلمة الخطأ. واحتجوا أيضا بقول الله تعالى: {واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا} هذه أحكام منسوخة. فمن أضل ممن يستشهد بآية قد نسخت، وبطل حكمها فيما لم ينزل فيه أيضا، وفيما ليس فيها منه لا نص، ولا دليل، ولا أثر. والحق في هذا هو قولنا:

كما روينا من طريق مسلم بن الحجاج، حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا الليث، هو ابن سعد عن بكير بن الأشج عن عياض بن عبد الله عن أبي سعيد الخدري قال: أصيب رجل في ثمار ابتاعها في عهد رسول الله فكثر دينه، فقال رسول الله تصدقوا عليه فتصدق الناس عليه، فلم يبلغ ذلك وفاء دينه، فقال رسول الله لغرمائه خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك. فهذا نص جلي على أن ليس لهم شيء غير ما وجدوا له، وأنه ليس لهم حبسه، وأن ما وجد من ماله للغرماء، وهذا هو الحق الذي لا يحل سواه ; فإن قيل: روي أنه عليه السلام باع لهم مال معاذ قلنا: هكذا نقول وإن لم يصح من طريق السند ; لأنه مرسل، لكن الحكم أنه إنما يقضي لهم بعين ماله، ثم يباع لهم ويقسم عليهم الحصص ; لأنه لا سبيل إلى إنصافهم بغير هذا. فإن موهوا بما روي عن عمر، وعلي، وشريح، والشعبي، فإن الرواية عن عمر إنما هي من طريق سعيد بن المسيب أن عمر حبس عصبة منفوس ينفقون عليه الرجال دون النساء، وأن نافع بن عبد الحارث اشترى دارا للسجن من صفوان بن أمية بأربعة آلاف فإن لم يرض عمر فلصفوان أربعمائة. وهذان خبران لا حجة لهم فيها ; لأن حبس عمر للعصبة للنفقة على الصبي إنما هو إمساك وحكم وقصر، لا سجن ; لأن من الباطل أن يسجنهم أبدا ولم يذكر عنهم امتناع. ثم هم لا يقولون بإيجاب النفقة على العصبة، فقد خالفوا عمر، فكيف يحتجون به في شيء هم أول مخالف له وأما الخبر الثاني: فكلهم لا يراه بيعا صحيحا، بل فاسدا مفسوخا، فكيف يستجيز مسلم أن يحتج بحكم يراه باطلا والمحفوظ عن عمر مثل قولنا على ما نذكر بعد هذا إن شاء الله تعالى، والرواية عن علي أنه حبس في دين: هي من طريق جابر الجعفي وهو كذاب. وقد روينا عن علي خلاف هذا كما ذكرنا ونذكر.

وأما شريح، والشعبي، فما علمنا حكمهما حجة، وأقرب ذلك أنهما قد ثبت عنهما أن الأجير، والمستأجر كل واحد منهما يفسخ الإجارة إذا شاء، وإن كره الآخر، وهم كلهم مخالف لهذا الحكم، فالشعبي، وشريح حجة إذا اشتهوا، وليسا حجة إذا اشتهوا، أف لهذه العقول، والأديان، وقد ذكرنا قبل عن علي إنكار السجن. وقد روينا عن عمر ما روينا من طريق مالك عن عمر بن عبد الرحمن بن دلاف عن أبيه أن رجلا من جهينة كان يشتري الرواحل إلى أجل فيغالي بها فأفلس، فرفع إلى عمر بن الخطاب قال: أما بعد أيها الناس، فإن الأسفع أسفع بني جهينة رضي من دينه وأمانته بأن يقال: سبق الحاج، وأنه ادان معرضا، فأصبح قد دين به، فمن كان له عليه شيء فليفد بالغداة فإنا قاسمون ماله بالحصص ورويناه أيضا من طريق حماد بن سلمة عن أيوب السختياني عن نافع مولى ابن عمر.

ومن طريق أبي عبيد، حدثنا ابن أبي زائدة عن إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر عن عبد الملك بن عمير قال: كان علي بن أبي طالب إذا أتاه رجل برجل له عليه دين فقال: أحبسه قال له علي: أله مال فإن قال: نعم، قد لجأه مال قال: أقم البينة على أنه لجأه وإلا أحلفناه بالله ما لجأه.

ومن طريق أبي عبيد، حدثنا أحمد بن عثمان عن عبد الله بن المبارك عن محمد بن سليم عن غالب القطان عن أبي المهزم عن أبي هريرة: أن رجلا أتاه بآخر فقال له إن لي على هذا دينا فقال للآخر: ما تقول قال: صدق قال: فاقضه قال: إني معسر، فقال للآخر: ما تريد قال: أحبسه قال أبو هريرة: لا، ولكن يطلب لك ولنفسه ولعياله قال غالب القطان: وشهدت الحسن وهو على القضاء قضى بمثل ذلك.

ومن طريق ابن أبي شيبة عن زيد بن حباب، وعبيد الله كلاهما عن أبي هلال عن غالب القطان عن أبي المهزم عن أبي هريرة فذكره كما أوردناه وزاد فيه أن أبا هريرة قال لصاحب الدين: هل تعلم له عين مال فآخذه به قال: لا، قال: هل تعلم له عقارا أكسره قال: لا، ثم ذكر امتناعه من أن يحبسه كما أوردناه. وعن عمر بن عبد العزيز أنه قضى في ذلك بأن يقسم ماله بين الغرماء ثم يترك حتى يرزقه الله.

وحدثنا محمد بن سعيد بن نبات، حدثنا أحمد بن عبد البصير، حدثنا قاسم بن أصبغ، حدثنا محمد بن عبد السلام الخشني، حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا أبو عامر العقدي عن عمرو بن ميمون بن مهران: أن عمر بن عبد العزيز كان يؤاجر المفلس في شر صنعة.

قال أبو محمد: أمر الله تعالى بالقيام بالقسط، ونهى عن المطل والسجن، فالسجن مطل وظلم، ومنع الذي له الحق من تعجيل حقه مطل وظلم، ثم ترك من صح إفلاسه لا يؤاجر لغرمائه مطل وظلم فلا يجوز شيء من ذلك، وهو مفترض عليه إنصاف غرمائه وإعطاؤهم حقهم، فإن امتنع من ذلك وهو قادر عليه بالإجارة أجبر على ذلك وبالله تعالى التوفيق.

ومن طريق أبي عبيد حدثني يحيى بن بكير عن الليث بن سعد عن عبيد الله بن أبي جعفر في المفلس قال: لا يحبسه، ولكن يرسله يسعى في دينه.

وهو قول الليث بن سعد. وبه يقول أبو سليمان، وأصحابه وبالله تعالى التوفيق.

1277 - مسألة: فإن لم يوجد له مال، فإن كانت الحقوق من بيع أو قرض ألزم الغرم وسجن حتى يثبت العدم، ولا يمنع من الخروج في طلب شهود له بذلك، ولا يمنع خصمه من لزومه والمشي معه حيث مشى، أو وكيله على المشي معه، فإن أثبت عدمه سرح بعد أن يحلفه: ما له مال باطن، ومنع خصمه من لزومه، وأوجر لخصومه، ومتى ظهر له مال أنصف منه. فإن كانت الحقوق من نفقات، أو صداق، أو ضمان، أو جناية، فالقول قوله مع يمينه في أنه عديم، ولا سبيل إليه، حتى يثبت خصمه أن له مالا، لكن يؤاجر كما قدمنا. وإن صح أن له مالا غيبه أدب وضرب حتى يحضره أو يموت، لقول الله تعالى: {كونوا قوامين بالقسط شهداء لله}. ولما روينا من طريق مسلم، حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا محمد بن جعفر غندر، حدثنا شعبة عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب قال: قال أبو سعيد الخدري، سمعت رسول الله يقول: من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان.

ومن طريق مسلم، حدثنا أحمد بن عيسى، حدثنا ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث عن بكير بن الأشج أن سليمان بن يسار حدثهم قال: حدثني عبد الرحمن بن جابر بن عبد الله عن أبيه عن أبي بردة الأنصاري: أنه سمع رسول الله يقول: لا يجلد أحد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله. فأمر رسول الله بتغيير المنكر باليد، ومن المنكر مطل الغني، فمن صح غناه ومنع خصمه فقد أتى منكرا وظلما، وكل ظلم منكر، فواجب على الحاكم تغييره باليد، ومنع رسول الله من أن يجلد أحد في غير حد أكثر من عشرة أسواط ; فواجب أن يضرب عشرة ; فإن أنصف فلا سبيل إليه، وإن تمادى على المطل فقد أحدث منكرا آخر غير الذي ضرب عليه فيضرب أيضا عشرة، وهكذا أبدا حتى ينصف، ويترك الظلم، أو يقتله الحق وأمر الله تعالى.

وأما التفريق بين وجوه الحقوق: فإن من كان أصل الحق عليه من دين أو بيع فقد صح أنه قد ملك مالا، ومن صح أنه قد ملك مالا فواجب أن ينصف من ذلك المال حتى يصح أن ذلك المال قد تلف وهو في تلفه مدعي وقد قضى رسول الله بالبينة على المدعي. ومن كان أصل الحق عليه من ضمان، أو جناية، أو صداق، أو نفقة، فاليقين الذي لا شك فيه عند أحد: هو أن كل أحد ولد عريان لا شيء له، فالناس كلهم قد صح لهم الفقر، فهم على ما صح منهم حتى يصح أنهم كسبوا مالا وهو في أنه قد كسب مالا مدعى عليه، وقد قضى رسول الله باليمين على المدعى عليه وهذا قول أبي سليمان، ومحمد بن شجاع البلخي، وغيرهما. وخالف في هذا بعض المتعسفين فقال: قال الله تعالى: {خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم}، فصح أن الله تعالى رزق الجميع.

قال أبو محمد: لم نخالفه في الرزق، بل الرزق متيقن، وأوله لبن التي أرضعته، فلولا رزق الله تعالى ما عاش أحد يوما فما فوقه، وليس من كل الرزق ينصف الغرماء، وإنما ينصفون من فضول الرزق وهي التي لا يصح أن الله تعالى آتاها الإنسان إلا ببينة.

وأما المؤاجرة: فلما ذكرنا قبل في المسألة المتقدمة لهذه وبالله تعالى التوفيق.

1278 - مسألة: فإن قيل: إن قول الله تعالى: {وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة} يمنع من استئجاره . قلنا: بل يوجب استئجاره ; لأن الميسرة لا تكون إلا بأحد وجهين: إما بسعي، وأما بلا سعي ; وقد قال تعالى: {وابتغوا من فضل الله} فنحن نجبره على ابتغاء فضل الله تعالى الذي أمره تعالى بابتغائه، فنأمره ونلزمه التكسب لينصف غرماءه ويقوم بعياله ونفسه، ولا ندعه يضيع نفسه وعياله والحق اللازم له.


1279 - مسألة: ولا يخلو المطلوب بالدين من أن يكون يوجد له ما يفي بما عليه ويفضل له، فهذا يباع من ماله ما يفضل عن حاجته فينصف منه غرماؤه، وما تلف من عين المال قبل أن يباع فمن مصيبته لا من مصيبة الغرماء ; لأن حقوقهم في ذمته لا في، شيء بعينه من ماله، أو يكون كل ما يوجد له يفي بما عليه، ولا يفضل له شيء، أو لا يفي بما عليه: فهذان يقضي بما وجد لهما للغرماء كما فعل رسول الله ثم يباع لهم إن اتفقوا على ذلك، فما تلف بعد القضاء لهم بماله فمن مصيبة الغرماء ويسقط عنه من دينهم بقدر ذلك ; لأن عين ماله قد صار لهم إن شاءوا اقتسموه بالقيمة، وإن اتفقوا على، بيعه بيع لهم وبالله تعالى التوفيق. برهان ذلك: أنه إذا وفى بعض ماله بما عليه فليس شيء منه أولى بأن يباع في ذلك من شيء آخر غيره، فينظر: أي ماله هو عنه في غنى فيباع، وما لا غنى به عنه فلا يباع ; لأن هذا هو التعاون على البر والتقوى وترك المضارة، فإن كان كله لا غنى به عنه أقرع على أجزاء المال، فأيها خرجت قرعته بيع فيما ألزمه.


1280- مسألة: ويقسم مال المفلس الذي يوجد له بين الغرماء بالحصص بالقيمة كما يقسم الميراث على الحاضرين الطالبين الذين حلت آجال حقوقهم فقط، ولا يدخل فيهم حاضر لا يطلب، ولا غائب لم يوكل، ولا حاضر أو غائب لم يحل أجل حقه طلب أو لم يطلب ; لأن من لم يحل أجل حقه فلا حق له بعد، ومن لم يطلب فلا يلزم أن يعطى ما لم يطلب، وقد وجب فرضا إنصاف الحاضر الطالب فلا يحل مطله بفلس فما فوقه. وقد قال رسول الله للغرماء الحاضرين: خذوا ما وجدتم فإذا أخذوه فقد ملكوه فلا يحل أخذ شيء مما ملكوه وهو قول أبي سليمان، وأبي حنيفة.

وأما الميت بفلس: فإنه يقضي لكل من حضر أو غاب طلبا أو لم يطلبا ولكل ذي دين كان إلى أجل مسمى أو حالا ; لأن الآجال تحل كلها بموت الذي له الحق، أو الذي عليه الحق لما ذكرناه في " كتات القرض ".

وأما من لم يطلب فلقول الله تعالى في المواريث: {من بعد وصية يوصي بها أو دين} فلا ميراث إلا بعد الوصية والدين، فواجب إخراج الديون إلى أربابها والوصايا إلى أصحابها، ثم يعطى الورثة حقوقهم فيما أبقى، وبالله تعالى التوفيق.


1281 - مسألة: وإقرار المفلس بالدين لازم مقبول ويدخل مع الغرماء ; لأن الإقرار واجب قبوله وليس لأحد إبطاله بغير نص قرآن، أو سنة، فإن أقر بعد أن قضي بماله للغرماء لزمه في ذمته، ولا يدخل مع الغرماء في مال قد قضي لهم به وملكوه قبل إقراره وبالله تعالى التوفيق.


1282 - مسألة: وحقوق الله تعالى مقدمة على حقوق الناس فيبدأ بما فرط فيه من زكاة أو كفارة في الحي، والميت، وبالحج في الميت، فإن لم يعم: قسم ذلك على كل هذه الحقوق بالحصص لا يبدى منها شيء على شيء.

وكذلك ديون الناس إن لم يف ماله بجميعها أخذ كل واحد بقدر ماله مما وجد.

لما ذكرنا في " كتاب الحج " من قول رسول الله : دين الله أحق أن يقضى، واقضوا الله فهو أحق بالوفاء، كتاب الله أحق وشرط الله أوثق.


1283 - مسألة: ومن فلس من حي أو ميت فوجد إنسان سلعته التي باعها بعينها فهو أولى بها من الغرماء، وله أن يأخذها، فإن كان قبض من ثمنها شيئا أكثره أو أقله رده، وإن شاء تركها وكان أسوة الغرماء. فإن وجد بعضها لا كلها فسواء وجد أكثرها أو أقلها لا حق له فيها وهو أسوة الغرماء. ولا يكون مفلسا من له من أين ينصف جميع الغرماء ويبقى له فضل، إنما المفلس من لا يبقى له شيء بعد حق الغرماء.

وأما من وجد وديعته، أو ما غصب منه، أو ما باعه بيعا فاسدا، أو أخذ منه بغير حق فهو له ضرورة، ولا خيار له في غيره ; لأن ملكه لم يزل قط عن هذا.

وأما من وجد سلعته التي باعها بيعا صحيحا أو أقرضها، فمخير كما ذكرنا. برهان ذلك: ما رويناه من طريق زهير بن معاوية، والليث بن سعد، ومالك، وهشيم، وحماد بن زيد، وسفيان بن عيينة، ويحيى بن سعيد القطان وحفص بن غياث، كلهم عن يحيى بن سعيد الأنصاري قال: أخبرني أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم: أن عمر بن عبد العزيز أخبره: أن أبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أخبره: أنه سمع أبا هريرة يقول قال رسول الله : من أدرك ماله بعينه عند رجل أو إنسان قد أفلس فهو أحق به من غيره اللفظ لزهير، ولفظ سائرهم نحوه لا يخالفه في شيء من المعنى.

ومن طريق أبي عبيد، حدثنا هشيم، أخبرنا يحيى بن سعيد الأنصاري عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن عمر بن عبد العزيز عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : من وجد عين متاعه عند رجل قد أفلس فهو أحق به ممن سواه من الغرماء.

ومن طريق مسلم، حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا هشام بن سليمان المخزومي، عن ابن جريج حدثني ابن أبي حسين أن أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أخبره أن عمر بن عبد العزيز حدثه عن حديث أبي بكر بن عبد الرحمن عن حديث أبي هريرة عن النبي في الرجل الذي يعدم: إذا وجد عنده المتاع ولم يفرقه أنه لصاحبه الذي باعه. ورويناه أيضا من طريق شعبة، وهشام الدستوائي، وسعيد بن أبي عروبة كلهم عن قتادة عن النضر بن أنس عن بشير بن نهيك عن أبي هريرة عن النبي .

ومن طريق عراك بن مالك عن أبي هريرة عن النبي فهو نقل تواتر وكافة لا يسع أحدا خلافه، وهذا عموم لمن مات أو فلس حيا، وبيان جلي أنه إن فرق منه شيء فهو أسوة الغرماء، وعموم لمن تقاضى من الثمن شيئا أو لم يتقاضى منه شيئا. وبه قال جمهور السلف:

روينا من طريق أبي عبيد، حدثنا إسماعيل بن جعفر عن محمد بن أبي حرملة عن سعيد بن المسيب قال: أفلس مولى لأم حبيبة فاختصم فيه إلى عثمان رضي الله عنه فقضى أن من كان اقتضى من حقه شيئا قبل أن يتبين إفلاسه فهو له، ومن عرف متاعه بعينه فهو له.

ومن طريق أبي داود، حدثنا محمد بن بشار، حدثنا أبو داود هو الطيالسي، حدثنا ابن أبي ذئب عن أبي المعتمر عن عمر بن خلدة قال: أتينا أبا هريرة في صاحب لنا أفلس فقال: لاقضين بينكم بقضاء رسول الله من أفلس أو مات فوجد رجل متاعه بعينه فهو أحق به.

ومن طريق عبد الرحمن بن مهدي عن حماد بن سلمة عن هشام بن عروة عن أبيه: إذا أفلس الرجل فوجد الرجل متاعه بعينه فهو أحق به. وصح عن عطاء: إذا أدركت مالك بعينه كما هو قبل أن يفرق منه شيء فهو لك وإن فرق بعضه فهو بين الغرماء بالسوية.

ومن طريق معمر، عن ابن طاووس عن أبيه إن وجد سلعته بعينها وافرة فهو أحق بها وإن كان المشتري قد استهلك منها شيئا قليلا أو كثيرا فالبائع أسوة الغرماء وقاله ابن جريج عن عطاء.

ومن طريق حماد بن سلمة عن داود بن أبي هند عن الشعبي قال: المبتاع لو أفلس لكان البائع أحق بمتاعه. وعن الحسن هو أحق بها من الغرماء وقد اختلف في هذا عن الشعبي ; والحسن.

قال أبو محمد: وقولنا في هذا هو قول الأوزاعي، وعبيد الله بن الحسن وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، وداود. وقد روي في هذا خلاف: فروينا من طريق وكيع عن هشام الدستوائي عن قتادة عن خلاس بن عمرو عن علي بن أبي طالب قال: هو فيها أسوة الغرماء إذا وجدها بعينها إذا مات الرجل وعليه دين وعنده سلعة قائمة لرجل بعينها فهو فيها أسوة الغرماء وهو قول إبراهيم النخعي، والحسن: إن من أفلس أو مات فوجد إنسان سلعته التي باع بعينها فهو فيها أسوة الغرماء. وقال الشعبي فيمن أعطى إنسانا مالا مضاربة فمات فوجد كيسه بعينه: فهو والغرماء فيه سواء. وقول أبي حنيفة، وابن شبرمة، ووكيع كقول إبراهيم. وصح عن عمر بن عبد العزيز: أن من اقتضى من ثمن سلعته شيئا ثم أفلس فهو أسوة الغرماء

وهو قول الزهري، وقال قتادة: من وجد بعض سلعته قل أو كثر فهو أحق بها من سائر الغرماء. وقول مالك: هو أحق بها أو بما وجد منها قبض من الثمن شيئا أو لم يقبض هو أحق من الغرماء في التفليس في الحياة وأما بعد الموت فهو أسوة الغرماء فيها.

وقال الشافعي: إن وجدها أو بعضها فهو أحق بها أو بالذي وجد منها من الغرماء ولم يخص حياة من موت، قال: فإن كان قبض من الثمن شيئا فهو أحق بما قابل ما بقي له فقط.

وقال أحمد: هو أحق بها في الحياة، وأما في الموت فهو أسوة الغرماء.

قال أبو محمد: أما من ذهب إلى قول أبي حنيفة فإنهم جاهروا بالباطل، وقالوا: إنما قال رسول الله فيمن وجد وديعته أو ما غصب منه.

قال علي: وهذا كذب مجرد على رسول الله لأنه قد جاء النص كما أوردنا عن النبي أنه لصاحبه الذي باعه. وزاد بعضهم في تعمد الكذب على رسول الله بما يشهد برقة دينه وصفاقة وجهه فقال: إنما أراد رسول الله بأنه أحق بسلعته من قبض المشتري ما اشترى بغير إذن بائعه وهو مفلس فيكون البائع أحق بما باع حتى ينصف من الثمن أو يباع له دون الغرماء. ومن اشترى سلعة في مرضه ببينة وقبضها ثم أقر بدين ثم مات فصاحب السلعة أحق بها من الغرماء المقر لهم فيقال له: لعله أراد " بني تميم " خاصة أو " أهل جرجان " خاصة. ومثل هذا من التخليط لا يأتي به ذو دين، ولا ذو عقل، ولا ينسب هذا الهوس وهذا الباطل الذي أتى به هذا الجاهل إلى النبي إلا من خذله الله تعالى.

وقال بعضهم: لعله من لفظ الراوي.

فقلنا: من استجاز خلاف النبي لم يعجز في كل حديث يأتي أن يقول: لعله من لفظ الراوي، فيبطل الإسلام بذلك.

واحتج بعضهم بقوله تعالى: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} وبحكم النبي بأنه لا يحل مال مسلم إلا بطيب نفسه. فهذا الأحتجاج عليهم ; لأن ما قضى به النبي فهو الحق، وهو الذي تطيب به نفس المؤمن، وإنما الباطل والضلال قضاؤهم بمال المسلم للغاصب الفاسق وللكافر الجاحد، إذ يقولون: إن كراء الدور المغصوبة للغاصب وإن أخذه الكفار من أموال المسلمين فحلال لهم، فلو اتقوا الله تعالى لكان أولى بهم. واحتجوا بخبرين موضوعين: أحدهما: من رواية أبي عصمة نوح بن أبي مريم قاضي مرو عن الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : إذا أفلس الرجل ووجد رجل متاعه فهو بين غرمائه وأبو عصمة كذاب مشهور بوضع الحديث على رسول الله . والآخر: من رواية صدقة بن خالد عن عمر بن قيس سندل، عن ابن أبي مليكة عن أبي هريرة عن النبي : من باع بيعا فوجده بعينه وقد أفلس الرجل فهو ماله بين غرمائه وعمر بن قيس ضعيف جدا. ثم لو صحا وقد أعاذ الله تعالى من ذلك لكان الثابت عن أبي هريرة زائدا وكان هذان موافقين لمعهود الأصل، والأخذ بالزائد هو الواجب الذي لا يجوز غيره. والعجب من أصلهم الخبيث أن الصاحب إذا روى رواية ثم خالفها دل ذلك على بطلانها وقد صح عن أبي هريرة خلاف هذين الأثرين المكذوبين الموضوعين: فهلا جعلوا ذلك علة فيهما، ولكن أمورهم معكوسة ; لأنهم يردون السنن الثابتة عن النبي مثل: غسل الإناء من ولوغ الكلب سبعا وغير ذلك بالروايات المكذوبة في أن الراوي لها تركها، ثم لا يرون رد الروايات الموضوعة بأن من أضيفت إليه صح عنه خلافها، فتعسا لهذه العقول، ونحمد الله على السلامة. وقالوا: لا يخلو المشتري من أن يكون ملك ما اشترى أو لم يملكه، فإن كان لم يملكه فشراؤه باطل، وأنتم لا تقولون هذا، وإن كان قد ملكه فلا يجوز أن يكون للبائع فيه رجوع، وهو للغرماء كلهم كسائر ماله.

قال أبو محمد: اعترضوا بهذا في الشفعة أيضا: فالأمر سواء، لكن يا هؤلاء مثل هذا لا يعارض به رسول الله الذي قال الله تعالى فيه: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم} والذي يقول فيه ربه تعالى: {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم} إنما يعارض به من قال الباطل برأيه الفاسد فجعل شراء المسلم من الحربي ما غنمه من المسلمين شراء صحيحا يملكه إلا أن يريد الأول أخذه بالثمن فهو أحق به فيقال له: هل ملك المشتري من الحربي ما اشتراه أو لم يملكه فإن كان اشتراه وملكه، فلم يكون الذي غنم منه أحق به بالثمن أو بغير الثمن وإن كان لم يملكه فهذا قولنا لا قولكم. ومن جعل للواهب أن يرجع فيما وهب فيقال له: هل ملك الموهوب ما وهب له، أم لم يملك فإن كان لم يملكه فلم يحلون له الأنتفاع ; والوطء، والبيع وإن كان ملكه فبأي شيء يرجع فيه من قد بطل ملكه عنه فهذا كان أولى بهم من الأعتراض على رسول الله بآرائهم المنتنة التي لا تساوي رجيع كلب.

وروينا من طريق أبي عبيد أنه ناظر في هذه المسألة محمد بن الحسن فلم يجد عنده أكثر من أن قال: هذا من حديث أبي هريرة.

قال علي: نعم، هو والله من حديث أبي هريرة البر الصادق لا من حديث مثل محمد بن الحسن الذي قيل لعبد الله بن المبارك: من أفقه أبو يوسف أو محمد بن الحسن فقال: قل: أيهما أكذب.

قال أبو محمد: والعجب أنهم يقولون: من باع سلعة فلم يقبضها المشتري حتى فلس فالبائع أحق بها وهذا هو الذي أنكروا، ولا فرق بين من قبض وبين من لم يقبض، وأما من فرق بين الموت، والحياة، وبين أن يدفع من الثمن شيئا أو لا يدفع منه شيئا فإنهم احتجوا بآثار مرسلة: منها: من طريق مالك، ويونس بن عبيد عن الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن أن رسول الله وإسرائيل عن عبد العزيز بن رفيع، عن ابن أبي مليكة أن رسول الله ومسند من طريق إسماعيل بن عياش، وبقية، كلاهما عن الزبيدي عن الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن عن أبي هريرة أن رسول الله ، بقية، وإسماعيل ضعيفان. وآخر من طريق إسحاق بن إبراهيم بن جوتى عن عبد الرزاق عن مالك، عن ابن شهاب عن أبي بكر بن عبد الرحمن عن أبي هريرة أن رسول الله قال: أيما رجل باع رجلا متاعا فأفلس المبتاع ولم يقبض الذي باع من الثمن شيئا فإن وجد البائع سلعته بعينها فهو أحق بها، وإن مات المشتري فهو أسوة الغرماء فإن إسحاق بن إبراهيم بن جوتى مجهول وهذا غير معروف من حديث مالك. وخبر آخر من طريق عبد الرزاق عن وكيع عن هشام الدستوائي عن قتادة عن بشير بن نهيك عن أبي هريرة عن النبي مثل حديث الزهري هكذا لم يذكر متنه، ولا لفظه. ثم هو منقطع; لأن قتادة لم يسمعه من بشير بن نهيك إنما سمعه من النضر بن أنس عن بشير بن نهيك عن أبي هريرة هكذا رويناه من طريق شعبة، وسعيد بن أبي عروبة، والدستوائي، كلهم عن قتادة بمثل قولنا كما أوردناه قبل فسقط كل ما شغبوا به. ثم لو صحت هذه الآثار لكانت كلها مخالفة لقول مالك، والشافعي ; لأن في جميعها الفرق بين الموت، والحياة، والشافعي، لا يفرق بينهما، وفي جميعها الفرق بين أن يكون قبض من الثمن شيئا وبين أن لا يكون قبض، ومالك لا يفرق بينهما، فحصل قولهما مخالفا لكل الآثار. واحتجوا أيضا بأن قالوا: ذمة الميت قد انقطعت، وذمة الحي قائمة قلنا: فكان ماذا ورسول الله لم يفرق بينهما، بل سوى بينهما، كما أوردنا قبل.

قال علي: وأما إذا لم يجد إلا بعض سلعته فلم يجدها بعينها وإنما جاء النص إذا وجدها بعينها ولم يفرقها المشتري كما أوردنا قبل ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه وبالله تعالى التوفيق.


1284 - مسألة: ومن غصب آخر مالا، أو خانه فيه، أو أقرضه فمات ولم يشهد له به، ولا بينة له، أوله بينة فظفر للذي حقه قبله بمال، أو ائتمنه عليه سواء كان من نوع ماله عنده، أو من غير نوعه، وكل ذلك سواء وفرض عليه أن يأخذه ويجتهد في معرفة ثمنه، فإذا عرف أقصاه باع منه بقدر حقه، فإن كان في ذلك ضرر: فإن شاء باعه وإن شاء أخذه لنفسه حلالا. وسواء كان ما ظفر له به جارية، أو عبدا، أو عقارا، أو غير ذلك، فإن وفى بماله قبله فذاك وإن لم يف بقي حقه فيما لم ينتصف منه، وإن فضل فضل رده إليه أو إلى ورثته، فإن لم يفعل ذلك فهو عاص لله عز وجل إلا أن يحلله ويبريه فهو مأجور. وسواء كان قد خاصمه أو لم يخاصمه، استحلفه أو لم يستحلفه فإن طولب بذلك وخاف إن أقر أن يغرم فلينكر وليحلف، وهو مأجور في ذلك.

وهو قول الشافعي، وأبي سليمان، وأصحابهما.

وكذلك عندنا كل من ظفر لظالم بمال ففرض عليه أخذه وإنصاف المظلوم منه. برهان ذلك: قول الله تعالى: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به}

وقوله تعالى: {ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق}.

وقوله تعالى: {والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله}.

وقوله تعالى: {والحرمات قصاص}.

وقوله تعالى: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم}.

وقوله تعالى: {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا}. ومن طريق أبي داود، حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا زهير بن معاوية، حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أم المؤمنين أن هندا أم معاوية جاءت رسول الله فقالت: إن أبا سفيان رجل شحيح، وإنه لا يعطيني ما يكفيني وبني، فهل علي من جناح أن آخذ من ماله شيئا قال: خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف.

وقد ذكرنا قول رسول الله لغرماء الذي أصيب في ثمار ابتاعها: خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك وهذا إطلاق منه لصاحب الحق على ما وجد للذي له عليه الحق.

ومن طريق البخاري، حدثنا عبد الله بن يوسف، حدثنا الليث، هو ابن سعد حدثني يزيد، هو ابن أبي حبيب عن أبي الخير هو مرثد بن عبد الله اليزني عن عقبة بن عامر الجهني قال:

قلنا لرسول الله إنك تبعثنا فننزل بقوم لا يقرونا، فما ترى فيه فقال لنا عليه السلام: إن نزلتم بقوم فأمر لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوا، فإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف وهو قول علي بن أبي طالب، وابن سيرين.

روينا من طريق خالد الحذاء عنه، أنه قال: إن أخذ الرجل منك شيئا فخذ منه مثله

ومن طريق سفيان الثوري عن منصور عن إبراهيم النخعي قال: إن أخذ منك شيئا فخذ منه مثله.

ومن طريق عبد الرزاق عن المعتمر بن سليمان التيمي عن داود بن أبي هند عن الشعبي قال: لا تخن من خانك، فإن أخذت منه مثل ما أخذ منك فليس عليك بأس. وعن عطاء حيث وجدت متاعك فخذه.

قال أبو محمد: وأما قولنا: إن لم يفعل فهو عاص لله تعالى، فلقول الله عز وجل: {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} فمن ظفر بمثل ما ظلم فيه هو، أو مسلم، أو ذمي، فلم يزله عن يد الظالم ويرد إلى المظلوم حقه فهو أحد الظالمين، لم يعن على البر والتقوى بل أعان على الإثم والعدوان، هذا أمر يعلم ضرورة.

وكذلك أمر رسول الله : من رأى منكم منكرا أن يغيره بيده إن استطاع فمن قدر على كف الظلم وقطعه وإعطاء كل ذي حق حقه فلم يفعل فقد قدر على إنكار المنكر فلم يفعل فقد عصى الله عز وجل وخالف أمر رسول الله إلا أن يحلله من حق نفسه فقد أحسن بلا خلاف، والدلائل على هذا تكثر جدا. وخالفنا في هذا قوم: فقالت طائفة: لا يأخذ منه شيئا.

وقالت طائفة: إن ظفر بعين ماله فليأخذه وإلا فلا يأخذ غيره.

وقالت طائفة: إن وجد من نوع ما أخذ منه فليأخذ وإلا فلا يأخذ غير نوعه. واحتجت هذه الطوائف بما رويناه من طريق يوسف بن ماهك قال: كنت أكتب لفلان نفقة أيتام كان وليهم فغالطوه بألف درهم فأداها إليهم، فأدركت لهم من مالهم مثلها، قلت: اقبض الألف الذي ذهبوا بها منك ; قال: لا، حدثني أبي أنه سمع رسول الله يقول: أد إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك ونحوه: عن طلق بن غنام عن شريك، وقيس، هو ابن الربيع عن أبي حصين عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي : أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك.

ومن طريق عبد بن حميد عن هاشم بن القاسم عن المبارك بن فضالة عن الحسن قال رجل للنبي كان لي حق على رجل فجحدني فدان له عندي حق أفأجحده قال: لا، أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك.

ومن طريق حماد بن زيد عن أيوب عن رجل من بني سدوس يقال له: ديسم قلنا لبشير بن الخصاصية: لنا جيران ما تشذ لنا قاصية إلا ذهبوا بها وإنه يمضي لنا من أمواله أشياء فنذهب بها قال: لا.

قال أبو محمد: ما نعلم لهم حجة غير ما ذكرنا وكل هذا لا شيء: أما حديث فلان عن أبيه ناهيك بهذا السند، ليت شعري من فلان ونبرأ إلى الله تعالى من كل دين أخذ عن فلان الذي لا يدري من هو، ولا ما اسمه، ولا من أبوه، ولا اسمه. والآخر طلق بن غنام عن شريك، وقيس بن الربيع، وكلهم ضعيف. والثالث مرسل، وفيه المبارك بن فضالة وليس بالقوي. وحديث بشير عن رجل يسمى ديسما مجهول. ثم لو صحت لما كان فيها حجة ; لأن نصها لا تخن من خانك، وأد الأمانة إلى من ائتمنك وليس انتصاف المرء من حقه خيانة، بل هو حق واجب، وإنكار منكر، وإنما الخيانة أن تخون بالظلم والباطل من لا حق لك عنده، ولا من افترض الله تعالى عليه أن يخرج إليك من حقك، أو من مثله إن عدم حقك، وليس رد المظلمة أداء أمانة، بل هو عون على الخيانة. ثم لا حجة في هذه الأخبار إلا لمن منع من الانتصاف جملة، وأما من قسم فأباح أخذ ما وجد من نوع ماله فقط فمخالف لهذه الآثار ولغيرها. وبالله تعالى التوفيق. تم "كتاب التفليس" والحمد لله رب العالمين.