محلى ابن حزم - المجلد الثالث/الصفحة الخمسون


كتاب الاستحقاق والغصب والجنايات على الأموال

1262 - مسألة: ومن غصب دارا فتهدمت كلف رد بنائها كما كان، ولا بد، لقول الله تعالى: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} وهو قد اعتدى على البناء المؤلف فحال بينه وبين صاحبه، وهو بإجماعهم معنا وإجماع أهل الإسلام مأمور بردها في كل وقت إلى صاحبها، فلا يجوز أن يسقط عنه بهدمها ما لزمه. وليت شعري أي فرق بين دار تتهدم وبين عبد يموت فكان احتجاج صاحبهم: أن الدور والأرضين لا تغصب، فكان هذا عجبا جدا. وما نعلم لأبليس داعية في الإسلام أكثر ممن يطلق الظلمة على غصب دور الناس وأراضيهم ثم يبيح لهم كراءها وغلتها، ولا يرى عليهم ضمان ما تلف منها نعوذ بالله من مثل هذا.


1263 - مسألة: ومن غصب أرضا فزرعها، أو لم يزرعها فعليه ردها وما نقص منها، ومزارعته مثلها لما ذكرنا من أنه حال بين صاحبها وبين منفعة أرضه، ولا منفعة للأرض إلا الزرع والمزارعة على ما نذكر في " المزارعة " إن شاء الله تعالى. وقال الحنفيون: الأرض لا تغصب، وهذا كذب منهم، لأن الغصب هو أخذ الشيء بغير حقه ظلما وقد روينا من طريق البخاري، حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا عبد الله بن المبارك، حدثنا موسى بن عقبة عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال: قال رسول الله : من أخذ من الأرض شبرا بغير حقه خسف به يوم القيامة إلى سبع أرضين. فصح أن الأرض تؤخذ بغير حق. فصح أنها تغصب.


1264 - مسألة: ومن غصب زريعة فزرعها، أو نوى فغرسه، أو ملوخا فغرسها، فكل ما تولد من الزرع فلصاحب الزريعة يضمنه له الزارع وكل ما نبت من النوى، والملوخ فلصاحبها وكل ما أثمرت تلك الشجر في الأبد فله، لا حق للغاصب في شيء من ذلك لما ذكرنا من قول رسول الله : وليس لعرق ظالم حق. ولأن كل ما تولد من مال المرء فله، وإنما يحل للناس من ذلك ما لا خطب له به مما يتبرأ منه صاحبه فيطرحه مبيحا له، من أخذه من النوى ونحو ذلك فقط، لا ما لم يبحه وبالله تعالى التوفيق.


1265 - مسألة: وكل من عدا عليه حيوان متملك من بعير، أو فرس أو بغل، أو فيل، أو غير ذلك، فلم يقدر على دفعه عن نفسه إلا بقتله فقتله فلا ضمان عليه فيه

وهو قول مالك، والشافعي، وأبي سليمان. وقال الحنفيون: يضمنه، واحتجوا بالخبر الثابت عن النبي : العجماء جرحها جبار. وبالخبر الذي رويناه من طريق عبد الكريم " إن إنسانا عدا عليه فحل ليقتله فضربه بالسيف فقتله فأغرمه أبو بكر إياه، وقال: بهيمة لا تعقل ". وعن علي بن أبي طالب نحوه.

ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة قال " من أصاب العجماء غرم ".

ومن طريق سفيان الثوري عن الأسود بن قيس عن أشياخ لهم: أن غلاما دخل دار زيد بن صوحان فضربته ناقة لزيد فقتلته فعمد أولياء الغلام فعقروها فأبطل عمر بن الخطاب دم الغلام وأغرم والد الغلام ثمن الناقة. وعن شريح مثل هذا.

قال علي: أما الحديث جرح العجماء جبار ففي غاية الصحة، وبه نقول، ولا حجة لهم فيه، لأننا لم نخالفهم في أن ما جرحته العجماء لا يغرم وليس فيه إلا هذا بل هو حجة عليهم في تضمينهم الراكب، والسائق، والقائد، ما أصاب العجماء مما لم يحملها عليه فهم المخالفون لهذا الأثر.

وأما حديث عمر بن الخطاب، وشريح، فيه نقول: من قتلت بهيمة وليه فمضى بعد جنايتها فقتلها فهو ضامن لها، لأنها لا ذنب لها وأما قول أبي هريرة فصحيح، ومن أصاب العجماء قاصدا لها غير مضطر فهو غارم.

وأما الرواية عن أبي بكر، وعلي، فمنقطعة، ولا حجة في منقطع لو كان عن رسول الله فكيف عمن دونه ثم لو صح لما كانت لهم فيه حجة وكم قصة خالفوا فيها أبا بكر وغيره حيث لا يجوز خلافه، أقرب ذلك ما أوردنا عن أبي بكر، وعمر، وعلي رضي الله عنهم من تقيئهم ما أكلوا أو شربوا مما لا يحل فخالفوا، فإنما هم حجة عندهم، حيث وافقوا أبا حنيفة لا حيث خالفوه، وهذا تلاعب بالدين. والعجب أنهم يقولون: إن الأسد، والسبع، حرام قتله في الحرم وعلى قاتله الجزاء، إلا أن يبتدئ المحرم بأذى فله قتله، ولا يجزيه فكم هذا التناقض، والهدم، والبناء ولقد كان يلزم المالكيين المشنعين بقول الصاحب إذا وافقهم والقائلين بأن المرسل والمسند سواء أن يقولوا بهذا، ولكنه مما تناقضوا فيه.

قال علي: لا يخلو من عدت البهيمة عليه فخشي أن تقتله أو أن تجرحه، أو أن تكسر له عضوا أو أن تفسد ثيابه من أن يكون مأمورا بإباحة ذلك لها، منهيا عن الأمتناع منها ودفعها، وهذا مما لا يقولونه، ولو قالوه لكان زائدا في ضلالهم، لأن الله تعالى يقول: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} وهذا على عمومه، أو يكون مأمورا بدفعها عن نفسه منهيا عن إمكانها من روحه، أو جسمه، أو ماله، أو أخيه المسلم، وهذا هو الحق لما ذكرنا. فإذا هو مأمور بذلك ولم يقدر على النجاة منها إلا بقتلها فهو مأمور بقتلها، لأن قتلها هو الدفع الذي أمر به ومن فعل ما أمر به فهو محسن وإذ هو محسن فقد قال تعالى: {ما على المحسنين من سبيل}.


1266 - مسألة: ولا ضمان على صاحب البهيمة فيما جنته في مال أو دم ليلا أو نهارا لكن يؤمر صاحبه بضبطه، فإن ضبطه فذاك، وإن عاد ولم يضبطه بيع عليه، لقول رسول الله : العجماء جرحها جبار وهو قول أبي حنيفة، وأبي سليمان وقال مالك، والشافعي: يضمن ما جنته ليلا، ولا يضمن ما جنته نهارا وهو قضاء شريح، وحكم الشعبي. واحتجوا في ذلك بحديث ناقة البراء بأن رسول الله قضى أن على أهل الحوائط حفظها بالنهار، وعلى أهل الماشية ما أصابت بالليل.

قال علي: لو صح هذا لما سبقونا إلى القول به، ولكنه خبر لا يصح، لأنه إنما رواه الزهري عن حرام بن محيصة عن أبيه ورواه الزهري أيضا عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف أن ناقة للبراء.

فصح أنه مرسل لأن حراما ليس، هو ابن محيصة لصلبه إنما، هو ابن سعد بن محيصة، وسعد لم يسمع من البراء، ولا أبو أمامة، ولا حجة في منقطع ولقد كان يلزم الحنفيين القائلين: إن المرسل والمسند سواء أن يقولوا به، ولكن هذا مما تناقضوا فيه. واحتجوا أيضا بأغرب من هذا كله: وهو ما روينا من طريق عبيد بن عمير، والزهري، ومسروق، ومجاهد، في قول الله تعالى: {وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما}، وأن سليمان قضى في ذلك في غنم أفسدت حرث قوم بأن دفع الغنم إلى أهل الحرث، لهم صوفها وألبانها حتى يعود العنب أو الحرث كما كان.

قال أبو محمد: وهذا عجب من عجائب الدنيا والذي لا نشك فيه أن بين هؤلاء المذكورين وبين سليمان عليه السلام ما في رياح ومهامه فيحاء، ولو رووا لنا ذلك عن رسول الله ما قامت به حجة لأنه مرسل. ثم لو صح لكان المحتجون به أول مخالفين له، لأنهم لا يحكمون بهذا الحكم، فيا لله كيف ينطق لسان مسلم بأن يحتج على خصمه في الدين بحكم لا يحل عنده أن يؤخذ به وحسبنا الله. وعجب آخر من الشافعي: وهو أنه لا يرى القول بالمرسل ثم أباح هاهنا الأموال بمرسل لا يصح أصلا.

وأما بيع ما تعدى من العجماء فلقول الله تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى} ومن البر والتقوى حفظ الزروع والثمار التي هي أموال الناس فلا يعان على فسادها، فإبعاد ما يفسدها فرض، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالبيع المباح، وها هنا آثار عن الصحابة رضي الله عنهم قد خالفوها.

روينا من طريق عبد الرزاق، عن ابن جريج أخبرني عبد الكريم أن عمر بن الخطاب كان يقول: برد البعير، والبقرة، والحمار، والضواري، إلى أهلهن ثلاثا إذا حظر الحائط ثم يعقرن. قال ابن جريج: وسمعت عبد العزيز بن عبد الله يذكر عن عمر بن الخطاب أنه كان يأمر بالحائط أن يحظر ويسد الحظر من الضاري المدل ثم يرد إلى أهله ثلاث مرات ثم يعقر.

ومن طريق يحيى بن سعيد القطان، حدثنا أبو حيان يحيى بن سعيد التيمي قال: أخبرني مكاتب لبني أسد أنه أتى بنقد من السواد إلى الكوفة فلما انتهى إلى جسر الكوفة جاء مولى لبكر بن وائل فتخلل النقد على الجسر فنفرت منها نقدة فقطرت الرجل في الفرات فغرق فأخذت فجاء مواليه إلى موالي فعرض موالي عليهم صلحا ألفي درهم، ولا يرفعون إلى علي فأبوا فأتينا علي بن أبي طالب فقال لهم: إن عرفتم النقدة بعينها فخذوها، وإن اختلطت عليكم فشرواها.

قال أبو محمد: إن في الحنفيين، والمالكيين، العجب إذ يحتجون في إبطال السنن الثابتة في أن البيعين لا بيع بينهما حتى يتفرقا برواية شيخ من بني كنانة أن عمر قال: البيع عن صفقة أو خيار ثم يردون هذه الرواية عن عمر بن الخطاب وهذه الأخرى عن علي فهلا قالوا: مثل هذا لا يقال بالرأي ولكن هذا حكم القوم في دينهم فليحمد الله أهل السنن على عظيم نعمته عندهم.


1267 - مسألة: ومن كسر إناء فضة أو إناء ذهب فلا شيء عليه، وقد أحسن لنهي رسول الله عن ذلك، وقد ذكرناه في " الوضوء " " والأطعمة " " والأشربة".

وكذلك من كسر صليبا أو أهرق خمرا لمسلم ; أو لذمي. وقال الحنفيون: إن أهرق خمرا لذمي مسلم فعليه قيمتها، وإن أهرقها ذمي فعليه مثلها.

قال أبو محمد: وهذا باطل، ولا قيمة للخمر، وقد حرم رسول الله بيعها وأمر بهرقها، فما لا يحل بيعه، ولا ملكه فلا ضمان فيه، فإن قالوا: هي أموال أهل الذمة. قلنا: كذبتم وما جعلها الله تعالى مذ حرمها مالا لأحد، ولكن أخبرونا: أهي حلال لأهل الذمة أم هي حرام عليهم فإن قالوا: هي لهم حلال كفروا ; لأن الله تعالى قد أخبر فيما نعاه عليهم أنهم لا يحرمون ما حرم الله ورسوله، ولا يدينون دين الحق. ولا يختلف مسلمان في أن دين الإسلام لازم للكفار لزومه للمسلمين، وأن رسول الله مبعوث إليهم كما بعث إلينا، وأن طاعته فرض عليهم كما هي علينا فإن قالوا: بل هي عليهم حرام. قلنا: صدقتم فمن أتلف مالا لا يحل تملكه فقد أحسن، ولا شيء عليه، واحتجوا برواية رويناها من طريق سفيان الثوري عن إبراهيم بن عبد الأعلى الجعفي عن سويد بن غفلة أن عمر بن الخطاب قيل له: عمالك يأخذون الخمر، والخنازير في الخراج فقال له بلال: إنهم ليفعلون فقال عمر: لا تفعلوا ولوهم هم بيعها.

ومن طريق أبي عبيد عن كدام الأنصاري عن إسرائيل عن إبراهيم بن عبد الأعلى عن سويد بن غفلة أن بلالا قال لعمر بن الخطاب: إن عمالك يأخذون الخمر والخنازير في الخراج فقال: لا تأخذوها منهم، ولكن ولوهم أنتم بيعها وخذوا أنتم من الثمن.

قال أبو محمد: هذا لا حجة فيه ; لأن حديث سفيان وهو الصحيح ليس فيه ما زاد إسرائيل وإنما فيه " ولوهم بيعها ". وهذا كقول الله تعالى: {نوله ما تولى} وإسرائيل ضعيف. ثم لو صح فلا حجة في أحد دون رسول الله . وإن من العجب أن يخالفوا عمر رضي الله عنه في تفريقه بين ذوي المحارم من المجوس ونهيه لهم عن الزمزمة ثم يقلدون هاهنا رواية ساقطة مخالفة للقرآن، والسنن وإن كانت الخمر من أموالهم فإن الصليب والأصنام عندهم أجل من الخمر، فيجب على هؤلاء القوم أن يضمنوا من كسر لهم صليبا أو صنما حتى يعيده سالما صحيحا وإلا فقد تناقضوا روينا من طريق أبي داود نا قتيبة بن سعيد نا الليث، هو ابن سعد عن يزيد بن أبي حبيب عن عطاء بن أبي رباح عن جابر بن عبد الله أنه سمع رسول الله يقول عام الفتح وهو بمكة: إن الله حرم بيع الخمر، والميتة، والخنازير، فيا ليت شعري كيف يستحل مسلم أن يبيح ثمن بيع حرمه الله تعالى أم كيف يستحل مسلم أن يقول: إنها مال من أموال أهل الذمة تضمن لهم حاشا لله من هذا.


1268 - مسألة: ومن كسر حلية فضة في سرج، أو لجام، أو مهاميز، أو سيف، أو تاج، أو غير ذلك، أو حلي ذهب لأمرأة، أو لرجل يعده لأهله، أو للبيع: كلف إعادته صحيحا كما كان لما ذكرنا قبل، فإن تراضيا جميعا على أن يضمن له ما بين قيمته صحيحا ومكسورا: جاز ذلك ; لأنه مثل ما اعتدى به، وجائز أن يتفقا من ذلك في حلي الذهب على ذهب، وفي حلي الفضة على فضة، وله أن يؤخره به ما شاء ; لأنه ليس هو بيعا وإنما هو اعتداء بمثل ما اعتدى به عليه فقط وبالله تعالى التوفيق.

محلى ابن حزم - المجلد الثالث/كتاب الأستحقاق والغصب
كتاب الاستحقاق والغصب (مسألة 1259 - 1261) | كتاب الاستحقاق والغصب (مسألة 1262 - 1268) | كتاب الاستحقاق والغصب (مسألة 1269)