محلى ابن حزم - المجلد الثاني/الصفحة التاسعة

ابن حزم - المحلى المؤلف ابن حزم
كتاب الأعتكاف (مسألة 629 - 636)


كتاب الأعتكاف

629 - /218 مسألة /218 : ويعمل المعتكف في المسجد كل ما أبيح له من محادثة فيما لا يحرم ، ومن طلب العلم أي علم كان ، ومن خياطة ، وخصام في حق ، ونسخ ، وبيع وشراء ، وتزوج وغير ذلك لا يتحاش شيئا ، لأن الاعتكاف : هو الإقامة كما ذكرنا ، فهو إذا فعل ذلك في المسجد فلم يترك الاعتكاف وهو قول أبي حنيفة ، والشافعي ، وأبي سليمان ؟ ولم ير ذلك مالك ، وما نعلم له حجة في ذلك ، لا من قرآن ولا من سنة لا صحيحة ولا سقيمة ، ولا قول صاحب ، ولا قول متقدم من التابعين ، ولا قياس ، ولا رأي له وجه ؟ وأعجب من ذلك منعه طلب العلم في المسجد وقد ذكرنا قبل : { أن رسول الله كانت عائشة رضي الله عنها ترجل شعره المقدس وهو في المسجد } ، وكل ما أباحه الله تعالى فليس معصية ، لكنه إما طاعة وإما سلامة ؟

630 - /218 مسألة /218 : ولا يبطل الاعتكاف شيء إلا خروجه عن المسجد لغير حاجة عامدا ذاكرا ، لأنه قد فارق العكوف وتركه ، ومباشرة المرأة في غير الترجيل ، لقول الله تعالى : { ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد } . وتعمد معصية الله تعالى - أي معصية كانت ، لأن العكوف الذي ندب الله تعالى إليه هو الذي لا يكون على معصية ، ولا شك عند أحد من أهل الإسلام في أن الله تعالى حرم العكوف على المعصية فمن عكف في المسجد على معصية فقد ترك العكوف على الطاعة فبطل عكوفه وهذا كله قول أبي سليمان ، وأحد قولي الشافعي ؟ وقال مالك : القبلة تبطل الاعتكاف وقال أبو حنيفة : لا يبطل الاعتكاف مباشرة ولا قبلة إلا أن ينزل ، وهذا تحديد فاسد ، قياس للباطل على الباطل ، وقول بلا برهان ؟

631 - /218 مسألة /218 : ومن عصى ناسيا ، أو خرج ناسيا ، أو مكرها ، أو باشر ، أو جامع ناسيا ، أو مكرها - : فالاعتكاف تام لا يكدح كل ذلك فيه شيئا ، لأنه لم يعمد إبطال اعتكافه وقد صح عن النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم { رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه } .

632 - /218 مسألة /218 : ويؤذن في المئذنة إن كان بابها في المسجد أو في صحنه ، ويصعد على ظهر المسجد ، لأن كل ذلك من المسجد ، فإن كان باب المئذنة خارج المسجد بطل اعتكافه إن تعمد ذلك ؟ وهو قول مالك ، والشافعي ، وأبي سليمان . وقال أبو حنيفة : لا يبطل ؟ وهذا خطأ ؛ لأن الخروج عن المسجد - قل أو كثر - مفارقة للعكوف وترك له ، والتحديد في ذلك بغير نص باطل ، ولا فرق بين خطوة وخطوتين إلى مائة ألف خطوة - وبالله تعالى التوفيق .

633 - /218 مسألة /218 : والاعتكاف جائز في كل مسجد جمعت فيه الجمعة أو لم تجمع ، سواء كان مسقفا أو مكشوفا ، فإن كان لا يصلى فيه جماعة ولا له إمام : لزمه فرضا الخروج لكل صلاة إلى المسجد تصلى فيه جماعة إلا أن يبعد منه بعدا يكون عليه فيه حرج فلا يلزمه . وأما المرأة التي لا يلزمها فرض الجماعة فتعتكف فيه ؟ ولا يجوز الاعتكاف في رحبة المسجد إلا أن تكون منه . ولا يجوز للمرأة ، ولا للرجل : أن يعتكفا - أو أحدهما - في مسجد داره ؟ برهان ذلك - : قول الله تعالى : { وأنتم عاكفون في المساجد } فعم الله تعالى ولم يخص - : فإن قيل : قد صح عن رسول الله { جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا } ؟ قلنا : نعم ، بمعنى أنه تجوز الصلاة فيه ، وإلا فقد جاء النص والإجماع بأن البول والغائط جائز فيما عدا المسجد . فصح أنه ليس لما عدا المسجد حكم المسجد . فصح أن لا طاعة في إقامة في غير المسجد . فصح أن لا اعتكاف إلا في مسجد ، وهذا يوجب ما قلنا ؟ وقد اختلف الناس في هذا - : فقالت طائفة : لا اعتكاف إلا في مسجد النبي . كما روينا من طريق عبد الرزاق عن معمر عن قتادة ، أحسبه عن سعيد بن المسيب قال : لا اعتكاف إلا في مسجد النبي . قال أبو محمد : إن لم يكن قول سعيد فهو قول قتادة ، لا شك في أحدهما . وقالت طائفة : لا اعتكاف إلا في مسجد مكة ومسجد المدينة فقط . كما روينا من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء قال : لا جوار إلا في مسجد مكة ، ومسجد المدينة ، قلت له : فمسجد إيليا ؟ قال : لا تجاور إلا في مسجد مكة ، ومسجد المدينة ؟ وقد صح عن عطاء : أن الجوار هو الاعتكاف . وقالت طائفة : لا اعتكاف إلا في مسجد مكة ، أو مسجد المدينة ، أو مسجد بيت المقدس . كما روينا من طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن واصل الأحدب عن إبراهيم النخعي قال : جاء حذيفة إلى عبد الله بن مسعود فقال له : ألا أعجبك من ناس عكوف بين دارك ودار الأشعري ؟ فقال له عبد الله : فلعلهم أصابوا وأخطأت ، فقال له حذيفة : ما أبالي ، أفيه أعتكف ، أو في سوقكم هذه ، إنما الاعتكاف في هذه المساجد الثلاثة : مسجد الحرام ، ومسجد المدينة ، والمسجد الأقصى ؟ قال إبراهيم : وكان الذين اعتكفوا فعاب عليهم حذيفة - : في مسجد الكوفة الأكبر ؟ ورويناه أيضا من طريق عبد الرزاق عن ابن عيينة عن جامع بن أبي راشد قال : سمعت أبا وائل يقول : قال حذيفة لعبد الله بن مسعود : قوم عكوف بين دارك ودار أبي موسى ، ألا تنهاهم ؟ فقال له عبد الله : فلعلهم أصابوا وأخطأت ، وحفظوا ونسيت ، فقال أبو حذيفة : لا اعتكاف إلا في هذه المساجد الثلاثة : مسجد المدينة ، ومسجد مكة ، ومسجد إيلياء ؟ وقالت طائفة : لا اعتكاف إلا في مسجد جامع ؟ روينا هذا من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء ، وهو أول قوليه ؟ وقالت طائفة : لا اعتكاف إلا في مصر جامع ؟ كما روينا من طريق ابن أبي شيبة عن وكيع عن سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي قال : لا اعتكاف إلا في مصر جامع وقالت طائفة : لا اعتكاف إلا في مسجد نبي ؟ كما روينا من طريق ابن الجهم : ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ثنا عبيد الله بن عمر وهو القواريري - ثنا معاذ بن هشام الدستوائي ثنا أبي عن قتادة عن سعيد بن المسيب أنه قال : لا اعتكاف إلا في مسجد نبي وقالت طائفة : لا اعتكاف إلا في مسجد جماعة ؟ كما روينا من طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري ، ومعمر ، قال سفيان : عن جابر الجعفي عن سعد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي بن أبي طالب ، وقال معمر : عن هشام بن عروة ويحيى بن أبي كثير ، ورجل ، قال هشام : عن أبيه ، وقال يحيى : عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف ، وقال الرجل : عن الحسن ، قالوا كلهم : لا اعتكاف إلا في مسجد جماعة ؟ وصح عن إبراهيم وسعيد بن جبير وأبي قلابة : إباحة الاعتكاف في المساجد التي لا تصلى فيها الجمعة ، وهو قولنا ، لأن كل مسجد بني للصلاة فإقامة الصلاة فيه جائزة فهو مسجد جماعة ؟ وقالت طائفة : الاعتكاف جائز في كل مسجد ، ويعتكف الرجل في مسجد بيته روينا ذلك عن عبد الرزاق عن إسرائيل عن رجل عن الشعبي قال : لا بأس أن يعتكف الرجل في مسجد بيته وقال إبراهيم ، وأبو حنيفة : تعتكف المرأة في مسجد بيتها ؟ وقال أبو محمد : أما من حد مسجد المدينة وحده ، أو مسجد مكة ومسجد المدينة ، أو المساجد الثلاثة ، أو المسجد الجامع فأقوال لا دليل على صحتها فلا معنى لها هو تخصيص لقول الله تعالى : { وأنتم عاكفون في المساجد } . فإن قيل : فأين أنتم عما رويتموه من طريق سعيد بن منصور : نا سفيان هو ابن عيينة - عن جامع بن أبي راشد عن شقيق بن سلمة قال : قال حذيفة لعبد الله بن مسعود : قد علمت أن رسول الله قال : { لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة أو قال مسجد جماعة } ؟ قلنا : هذا شك من حذيفة أو ممن دونه ، ولا يقطع على رسول الله بشك ، ولو أنه عليه السلام قال : " لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة " لحفظه الله تعالى علينا ، ولم يدخل فيه شكا . فصح يقينا أنه عليه السلام لم يقله قط فإن قيل : فقد رويتم من طريق سعيد بن منصور : نا هشيم أنا جويبر عن الضحاك عن حذيفة قال : قال رسول الله  : { كل مسجد فيه إمام ومؤذن فالاعتكاف فيه يصلح } . قلنا : هذه سوأة لا يشتغل بها ذو فهم ، جويبر هالك ، والضحاك ضعيف ولم يدرك حذيفة . وأما قول إبراهيم ، وأبي حنيفة ، فخطأ ، لأن مسجد البيت لا يطلق عليه اسم مسجد ، ولا خلاف في جواز بيعه ، وفي أن يجعل كنيفا ؟ وقد صح أن أزواج النبي اعتكفن في المسجد ، وهم يعظمون خلاف الصاحب ، ولا مخالف لهن من الصحابة ؟ فقال بعضهم : إنما كان ذلك لأنهن كن معه عليه السلام ؟ فقلنا : كذب من قال هذا وافترى بغير علم ، وأثم ؟ واحتج أيضا بقول عائشة : لو أدرك رسول الله ما صنع النساء لمنعهن المساجد . وقد ذكرنا في كتاب الصلاة بطلان التعلق بهذا الخبر ، وأقرب ذلك بأنه لا يحل ترك ما لم يتركه النبي ولا المنع مما لم يمنع منه عليه السلام - : لظن أنه لو عاش لتركه ومنع منه ، وهذا إحداث شريعة في الدين ، وأم المؤمنين القائلة هذا لم تر قط منع النساء من المساجد فظهر فساد قولهم - وبالله تعالى التوفيق .

634 - /218 مسألة /218 : وإذا حاضت المعتكفة أقامت في المسجد كما هي تذكر الله تعالى ، وكذلك إذا ولدت ، فإنها إن اضطرت إلى الخروج خرجت ثم رجعت إذا قدرت ؟ لما قد بينا قبل من أن الحائض تدخل المسجد ، ولا يجوز منعها منه إذ لم يأت بالمنع لها منه نص ولا إجماع - وهو قول أبي سليمان ؟ روينا من طريق البخاري : نا قتيبة نا يزيد بن زريع عن خالد الحذاء عن عكرمة عن عائشة أم المؤمنين قالت : { اعتكفت مع رسول الله امرأة من أزواجه مستحاضة ، فكانت ترى الحمرة والصفرة ، فربما وضعت الطست تحتها وهي تصلي } .

635 - /218 مسألة /218 : ومن مات وعليه نذر اعتكاف : قضاه عنه وليه ، أو استؤجر من رأس ماله من يقضيه عنه ، لا بد من ذلك ؟ لقول الله تعالى : { من بعد وصية يوصي بها أو دين } . ولقول رسول الله  : { لو كان على أمك دين أكنت قاضيه عنها ؟ فدين الله أحق أن يقضى } . ولما روينا من طريق مالك عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن عبد الله بن عباس { أن سعد بن عبادة استفتى رسول الله فقال : إن أمي ماتت وعليها نذر لم تقضه ؟ فقال رسول الله  : اقضه عنها } وهذا عموم لكل نذر طاعة ، فلا يحل لأحد خلافه . وقد ذكرنا في باب هل على المعتكف صيام أم لا ، قبل فتيا ابن عباس بقضاء نذر الاعتكاف . وروينا من طريق سعيد بن منصور : نا أبو الأحوص نا إبراهيم بن مهاجر عن عامر بن مصعب قال : " اعتكفت عائشة أم المؤمنين عن أخيها بعد ما مات " ؟ وقال الحسن بن حي : من مات وعليه اعتكاف : اعتكف عنه وليه وقال الأوزاعي : يعتكف عنه وليه إذا لم يجد ما يطعم قال : ومن نذر صلاة فمات : صلاها عنه وليه ؟ قال إسحاق بن راهويه : يعتكف عنه وليه ويصلي عنه وليه إذا نذر صلاة أو اعتكافا ثم مات قبل أن يقضي ذلك . وقال سفيان الثوري : الإطعام عنه أحب إلي من أن يعتكف عنه ؟ قال أبو حنيفة : ومالك ، والشافعي : يطعم عنه لكل يوم مسكين ؟ وقال أبو محمد : هذا قول ظاهر الفساد ، وما للإطعام مدخل في الاعتكاف وهم يعظمون خلاف الصاحب إذا وافق تقليدهم ، وقد خالفوا ههنا عائشة ، وابن عباس ، ولا يعرف لهما في ذلك مخالف من الصحابة رضي الله تعالى عنهم وقولهم في هذا قول لم يأت به قرآن ولا سنة صحيحة ولا سقيمة ، ولا قول صاحب ولا قياس ، بل هو مخالف لكل ذلك - وبالله تعالى التوفيق . ومن عجائب الدنيا قول أبي حنيفة : من نذر اعتكاف شهر وهو مريض فلم يصح فلا شيء عليه . فلو نذر اعتكاف شهر وهو صحيح فلم يعش إثر نذره إلا عشرة أيام ومات ؟ فإنه يطعم عنه ثلاثون مسكينا ، وقد لزمه اعتكاف شهر . قال : فإن نذر اعتكافا ؟ لزمه يوم بلا ليلة . فإن قال علي اعتكاف يومين لزمه يومان ومعهما ليلتان . وقال أبو يوسف : إن نذر اعتكاف ليلتين ؟ فليس عليه إلا يومان وليلة واحدة ، كما لو نذر اعتكاف يومين ولا فرق . فهل في التخليط أكثر من هذا ؟ ونسأل الله العافية ؟

636 - /218 مسألة /218 : ومن نذر اعتكاف يوم أو أيام مسماة ، أو أراد ذلك تطوعا - : فإنه يدخل في اعتكافه قبل أن يتبين له طلوع الفجر ، ويخرج إذا غاب جميع قرص الشمس ، سواء كان ذلك في رمضان أو غيره ؟ ومن نذر اعتكاف ليلة أو ليال مسماة أو أراد ذلك تطوعا - : فإنه يدخل قبل أن يتم غروب جميع قرص الشمس ، ويخرج إذا تبين له طلوع الفجر ، لأن مبدأ الليل إثر غروب الشمس ، وتمامه بطلوع الفجر ، ومبدأ اليوم بطلوع الفجر ، وتمامه بغروب الشمس كلها ، وليس على أحد إلا ما التزم أو ما نوى ؟ فإن نذر اعتكاف شهر أو أراده تطوعا - : فمبدأ الشهر من أول ليلة منه فيدخل قبل أن يتم غروب جميع قرص الشمس ، ويخرج إذا غابت الشمس كلها من آخر الشهر ، سواء رمضان وغيره . لأن الليلة المستأنفة ليست من ذلك الشهر الذي نذر اعتكافه أو نوى اعتكافه . فإن نذر اعتكاف العشر الأواخر من رمضان : دخل قبل غروب الشمس من اليوم التاسع عشر . لأن الشهر قد يكون من تسع وعشرين ليلة ، فلا يصح له اعتكاف العشر الأواخر إلا كما قلنا ، وإلا فإنما اعتكف تسع ليال فقط ، فإن كان الشهر ثلاثين ؟ علم أنه اعتكف ليلة زائدة ، وعليه أن يتم اعتكاف الليلة الآخرة ليفي بنذره ، إلا من علم بانتقال القمر ، فيدخل بقدر ما يدري أنه يفي بنذره . والذي قلنا - من وقت الدخول والخروج - هو قول الشافعي ، وأبي سليمان . وروينا من طريق البخاري : نا عبد الله بن منير سمع هارون بن إسماعيل ثنا علي بن المبارك ثنا يحيى بن أبي كثير سمع أبا سلمة بن عبد الرحمن بن عوف أن أبا سعيد الخدري قال له { اعتكفنا مع رسول الله العشر الأوسط من رمضان ، فخرجنا صبيحة عشرين } . وهذا نص قولنا - : ومن طريق البخاري : نا إبراهيم بن حمزة هو الزبيدي - حدثني ابن أبي حازم ، والدراوردي ، كلاهما عن يزيد هو ابن عبد الله بن الهاد - عن محمد بن إبراهيم عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي سعيد الخدري قال { كان رسول الله يجاور في رمضان العشر التي في وسط الشهر ، فإذا كان حين يمسي من عشرين ليلة ويستقبل إحدى وعشرين رجع إلى مسكنه ، ورجع من كان يجاور معه } . وهذا نص قولنا ، إلا أن فيه أنه عليه السلام كان يبقى يومه إلى أن يمسي وهذا يخرج على أحد وجهين - : إما أنه تنفل منه عليه السلام . وإما أنه عليه السلام نوى أن يعتكف العشر الليالي بعشرة أيامها ؟ وهذا حديث رواه مالك عن يزيد بن عبد الله بن الهاد عن محمد بن إبراهيم ، فوقع في لفظه تخليط وإشكال لم يقعا في رواية عبد العزيز بن أبي حازم وعبد العزيز بن محمد الدراوردي إلا أنه موافق لهما في المعنى ؟ وهو أننا روينا هذا الخبر نفسه عن مالك عن يزيد بن عبد الله بن الهاد عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي سعيد الخدري { أن رسول الله كان يعتكف العشر الأوسط من رمضان ، فاعتكف عاما حتى إذا كان ليلة إحدى وعشرين - وهي الليلة التي يخرج من صبيحتها من اعتكافه - قال : من كان اعتكف معي فليعتكف العشر الأواخر ، فقد رأيت هذه الليلة ثم أنسيتها ، وقد رأيتني أسجد في ماء وطين من صبيحتها ، فالتمسوها في العشر الأواخر ، والتمسوها في كل وتر ، فمطرت السماء تلك الليلة ، وكان المسجد على عريش ، فبصرت عيناي رسول الله على جبهته أثر الماء والطين من صبح إحدى وعشرين } . قال أبو محمد : من المحال الممتنع أن يكون عليه السلام يقول هذا القول بعد انقضاء ليلة إحدى وعشرين ، وينذر بسجوده في ماء وطين فيما يستأنف ، ويكون ذلك ليلة إحدى وعشرين التي مضت ، فصح أن معنى قول الراوي ، " حتى إذا كان ليلة إحدى وعشرين " أراد استقبال ليلة إحدى وعشرين ، وبهذا تتفق رواية يحيى بن أبي كثير مع رواية محمد بن إبراهيم ، كلاهما عن أبي سلمة ، ورواية الدراوردي ، وابن أبي حازم ، ومالك ، كلهم عن يزيد بن عبد الله بن الهاد عن محمد بن إبراهيم التيمي - : وروينا من طريق البخاري : نا أبو النعمان هو محمد بن الفضل - نا حماد بن زيد نا يحيى هو ابن سعيد الأنصاري - عن عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة أم المؤمنين قالت : { كان النبي يعتكف في العشر الأواخر من رمضان ، فكنت أضرب له خباء فيصلي الصبح ثم يدخله } . قال أبو محمد : هذا تطوع منه عليه السلام ، وليس أمرا منه ومن زاد في البر زاد خيرا . ويستحب للمعتكف والمعتكفة أن يكون لكل أحد خباء في صحن المسجد ، ائتساء بالنبي وليس ذلك واجبا - وبالله تعالى التوفيق .

محلى ابن حزم - المجلد الثاني/كتاب الأعتكاف
كتاب الأعتكاف (مسألة 624 - 628) | كتاب الأعتكاف (مسألة 629 - 636)