محلى ابن حزم - المجلد الثاني/الصفحة الثالثة والثمانون
كتاب الحج
919 - مسألة : ومكة أفضل بلاد الله - تعالى - ، نعني الحرم وحده وما وقع عليه اسم عرفات فقط . وبعدها مدينة النبي عليه السلام نعني حرمها وحده . ثم بيت المقدس ، نعني المسجد وحده - هذا قول جمهور العلماء . وقال مالك : المدينة أفضل من مكة ، واحتج مقلدوه بأخبار ثابتة . منها : قوله عليه السلام : { إن إبراهيم حرم مكة ودعا لها ، وإني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة ، وإني دعوت في صاعها ومدها بمثل ما دعا به إبراهيم لأهل مكة } . قال أبو محمد : هذا لا حجة لهم فيه ؛ لأنه لا دليل فيه على فضل المدينة على مكة أصلا ، وإنما فيه : أنه عليه السلام حرمها كما حرم إبراهيم مكة ودعا لها كما دعا إبراهيم لمكة فقط ، وهذا حق ، وقد دعا عليه السلام للمسلمين كلهم كما دعا لأبي بكر ، وعمر ، ولأصحابه رضي الله عنهم فهل في ذلك دليل على فضلنا عليهم أو على مساواتنا في الفضل ؟ هذا ما لا يقوله ذو عقل . وقد حرم عليه السلام : الدماء ، والأعراض ، والأموال ، وليس في ذلك دليل على فضل ؛ واحتجوا بخبر آخر صحيح : أنه عليه السلام كان يقول : { اللهم بارك لنا في تمرنا وبارك لنا في مدينتنا وبارك لنا في صاعنا ومدنا ، اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك وإنه دعا لمكة ، وإني أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك به لمكة ومثله معه } . وبخبر صحيح فيه : { اللهم اجعل بالمدينة ضعفي ما جعلت بمكة من البركة } وهذا لا حجة فيه في فضل المدينة على مكة وإنما فيه الدعاء للمدينة بالبركة ، ونعم ، هي والله مباركة ، وإنما دعا إبراهيم لمكة بما أخبر به - تعالى - إذ يقول : { فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات } . ولا شك في أن الثمار بالمدينة أكثر مما بمكة . ولا شك في أن النبي عليه السلام لم يدع للمدينة بأن تهوي أفئدة الناس إليها أكثر من هويها إلى مكة ؛ لأن الحج إلى مكة لا إلى المدينة . فصح أن دعاءه عليه السلام للمدينة بمثل ما دعا به إبراهيم لمكة ومثله معه إنما هو في الرزق من الثمرات وليس هذا من باب الفضل في شيء . ومنها قوله عليه السلام : { المدينة كالكير تنفي خبثها وينصع طيبها ، وإنما تنفي الناس كما ينفي الكير خبث الحديد } ولا حجة فيه في فضلها على مكة ؛ لأن هذا الخبر إنما هو في وقت دون وقت ، وفي قوم دون قوم ، وفي خاص لا في عام . برهان ذلك أنه عليه السلام لا يقول إلا الحق ، ومن أجاز على النبي عليه السلام الكذب فهو كافر ؛ وقال الله - تعالى - : { ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم } . وقال - تعالى - { : إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار } . فصح أن المنافقين أخبث الخلق بلا خلاف من أحد من المسلمين وكانوا بالمدينة ، وكذلك قد خرج : علي ، وطلحة ، والزبير ، وأبو عبيدة بن الجراح ، ومعاذ ، وابن مسعود ، عن المدينة ، وهم من أطيب الخلق رضي الله عنهم بلا خلاف من مسلم حاشا الخوارج في بغضهم . فصح يقينا لا يمتري فيه إلا مستخف بالنبي عليه السلام أنه عليه السلام لم يعن بالمدينة تنفي الخبث إلا في خاص من الناس ، وفي خاص من الزمان لا عام . وقد جاء كلامنا هذا نصا كما روينا من طريق مسلم نا قتيبة بن سعيد نا عبد العزيز يعني الدراوردي عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال في حديث { ألا إن المدينة كالكير يخرج الخبث لا تقوم الساعة حتى تنفي المدينة شرارها كما ينفي الكير خبث الحديد } . ومن طريق أحمد بن شعيب نا إسحاق بن إبراهيم هو ابن راهويه - نا عمر بن عبد الواحد عن الأوزاعي عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك " أن رسول الله عليه السلام قال : { ليس بلد إلا سيطؤه الدجال ، إلا المدينة ، ومكة ، على كل نقب من أنقاب المدينة الملائكة صافين يحرسونها فينزل بالسبخة فترجف المدينة ثلاث رجفات يخرج إليه منها كل منافق وكافر } وهذا نفس قولنا وليس في هذا كله أنها أفضل من مكة لا بنص ، ولا بدليل . ومعنى قوله عليه السلام : { ما من بلد إلا سيطؤه الدجال إلا مكة والمدينة } إنما هو سيطؤه أمره وبعوثه لا يمكن غير هذا ، وسكان المدينة اليوم أخبث الخبث ، وإنا لله وإنا إليه راجعون على مصيبتنا في ذلك ؛ فبطل تمويههم بهذا الخبر . ومنها : قوله عليه السلام : { يفتح اليمن فيأتي قوم يبسون بأهليهم ومن أطاعهم ، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون } وذكر مثل هذا حرفا حرفا في فتح الشام ، وفتح العراق . وقوله عليه السلام : { يأتي على الناس زمان يدعو الرجل ابن عمه وقريبه : هلم إلى الرخاء ، هلم إلى الرخاء ، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون ، والذي نفسي بيده لا يخرج أحد منهم رغبة عنها إلا أخلف الله فيها خيرا منه } . قال أبو محمد : إنما أخبر عليه السلام بأن المدينة خير لهم من اليمن ، والشام ، والعراق ، وبلاد الرخاء ، وهذا لا شك فيه ، وليس فيه فضلها على مكة ، ولا ذكر لمكة أصلا . وأما إخباره عليه السلام أيضا بأن المدينة خير من هذه البلاد لهم فإنما هو أيضا في خاص لا عام وهو من خرج عنها طلب رخاء ، أو لعرض دنيا ؛ وأما من خرج عنها لجهاد ، أو لحكم بالعدل ، أو لتعليم الناس دينهم فلا ، بل الذي خرجوا له أفضل من مقامهم بالمدينة . برهان ذلك خروجه عليه السلام عنها للجهاد وأمره الناس بالخروج معه والوعيد على من تخلف بالمدينة لغير عذر هذا ما لا شك فيه ، وكذلك بعثته عليه السلام أصحابه إلى اليمن ، والبحرين ، وعمان للدعاء إلى الإسلام ، وتعليم القرآن ، والسنن ، وهو عليه السلام يقول : { الدين النصيحة } فبلا شك أنه قد نصحهم في إخراجهم لذلك ، فصح قولنا : وبطل أن يكون لهم متعلق في هذا في دعواهم فضل المدينة على مكة . وأما قوله عليه السلام : { لا يخرج أحد منهم رغبة عنها } فهذا الحق وعلى من يرغب عن المدينة لعنة الله فما هو بمسلم ، وكذلك بلا شك من رغب عن مكة وليس في هذا فضل لها على مكة . ومنها : قوله عليه السلام : { أمرت بقرية تأكل القرى } وهذا إنما فيه : أن من المدينة تفتح الدنيا وليس في هذا فضل لها على مكة وقد فتحت خراسان ، وسجستان ، وفارس ، وكرمان ، من البصرة ، وليس ذلك دليلا على فضل البصرة على مكة . ومنها : قوله عليه السلام : { إن الإيمان يأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها } وهذا ليس فيه فضلها على مكة وإنما هو خبر عن وقت دون وقت بلا شك . وبرهان ذلك أنه عليه السلام لا يقول إلا الحق وهو اليوم بخلاف ذلك فوا حزناه ووا أسفاه وما الإسلام ظاهرا إلا في غيرها ونسأل الله إعادتها إلى أفضل ما كانت عليه بعده عليه السلام . وقد جاء هذا الخبر بزيادة كما رويناه من طريق مسلم نا محمد بن رافع نا شبابة بن سوار نا عاصم هو ابن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب - عن أبيه عن جده عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله ﷺ : { إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ وهو يأرز بين المسجدين كما تأرز الحية إلى جحرها } ففي هذا أن الإيمان يأرز بين مسجد مكة ، ومسجد المدينة . ومنها : حديث أنس { أن رسول الله عليه السلام كان إذا قدم من سفر فنظر إلى جدرات المدينة أوضع راحلته من حبها } وهذا ليس فيه إلا أنه عليه السلام كان يحبها . ونعم هذا حق وليس فيه أنه كان يحبها أكثر من حبه مكة ، ولا أنها أفضل من مكة . ومنها : قوله عليه السلام : { لا يكيد أحد أهل المدينة إلا انماع كما ينماع الملح في الماء } . ومنها : قوله عليه السلام { : لا يريد أحد أهل المدينة بسوء إلا أذابه الله في النار ذوب الرصاص ، أو ذوب الملح في الماء ، ومن أخاف أهل المدينة أخافه الله ، وعليه لعنة الله ، والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا } . وقوله عليه السلام مثل هذا فيمن أحدث فيها حدثا أو آوى محدثا وهذا صحيح ، وإنما فيه الوعيد على من كاد أهلها ولا يحل كيد مسلم ، فليس فيه أنها أفضل من مكة . وقد قال - تعالى - عن مكة : { ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم } فصح الوعيد على من ظلم بمكة كالوعيد على من كاد أهل المدينة . ومنها : قوله عليه السلام : { لا يثبت أحد على لأوائها وشدتها إلا كنت له شفيعا أو شهيدا يوم القيامة } فإنما في هذا الحض على الثبات على شدتها وأنه يكون لهم شفيعا وليس في هذا دليل على فضلها على مكة . وقد صح أنه عليه السلام يشفع لجميع أمته . وقد قال عليه السلام : " العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما ، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة " وهذا لا يكون إلا بمكة فهذا أفضل من الشفاعة التي يدخل فيها كل بر وفاجر من المسلمين . ومنها : قوله عليه السلام { : اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد } فليس في هذا دليل على فضلها على مكة وإنما دعا عليه السلام بهذا كما ترى في أحد الأمرين : إما أن يحببها إليهم كحبهم مكة ، وإما أشد من حبهم مكة ، والله أعلم أي الأمرين أجيب به دعاؤه عليه السلام ، وحب البلد يكون للموافقة والألفة وليس في هذا فضل على مكة . ومنها : قوله عليه السلام : { لقاب قوس أحدكم من الجنة أو موضع قيد - يعني سقوطه - خير من الأنباط وما فيها } . وقوله عليه السلام : { بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة ومنبري على حوضي } وأرادوا أن يثبتوا من هذا أن مكة من الدنيا فموضع قاب قوس من تلك الروضة خير من مكة فليس هذا كما ظنوه ، ولو كان كذلك لكانت مصر ، والكوفة ، وراؤنا : خيرا من مكة ، والمدينة . وروينا عن مسلم نا محمد بن نمير نا محمد بن بشر نا عبيد الله هو ابن عمر - عن خبيب بن عبد الرحمن عن حفص بن عاصم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله عليه السلام : { سيحان ، وجيحان ، والفرات ، والنيل ، كل من أنهار الجنة } وهذا ما لا يقوله مسلم : أن هذه البلاد من أجل ما فيها من أنهار الجنة ، خير من مكة ، والمدينة . قال أبو محمد : وهذان الحديثان ليس على ما يظنه أهل الجهل من أن تلك الروضة قطعة منقطعة من الجنة ، وأن هذه الأنهار مهبطة من الجنة ، هذا باطل وكذب ؛ لأن الله - تعالى - يقول في الجنة { إن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى } فهذه صفة الجنة بلا شك وليست هذه صفة الأنهار المذكورة ولا تلك الروضة ، ورسول الله عليه السلام لا يقول إلا الحق . فصح أن كون تلك الروضة من الجنة إنما هو لفظها ، وأن الصلاة فيها تؤدي إلى الجنة ، وأن تلك الأنهار لبركتها أضيفت إلى الجنة ، كما تقول في اليوم الطيب : هذا من أيام الجنة ؛ وكما قيل في الضأن : إنها من دواب الجنة ، وكما قال عليه السلام : { إن الجنة تحت ظلال السيوف } فهذا في أرض الكفر بلا شك وليس في هذا فضل لها على مكة ، ثم لو صح ما ادعوه وظنوه لما كان الفضل إلا لتلك الروضة خاصة لا لسائر المدينة وهذا خلاف قولهم . فإن قالوا : ما قرب منها أفضل مما بعد . قلنا : يلزمكم على هذا أن الجحفة ، وخيبر ، ووادي القرى أفضل من مكة ؛ لأنها أقرب إلى تلك الروضة من مكة ، وهذا لا يقولونه ، ولا يقوله ذو عقل ، فبطل تظننهم ، ولله الحمد . وسبحان من جعل هؤلاء القوم يتأولون الأخبار الصحاح بلا برهان مثل { البيعان بالخيار حتى يتفرقا } ومثل { لا صلاة لمن لا يقيم صلبه في الركوع والسجود } وغير ذلك ، ثم يأتون إلى الأخبار التي قد صح البرهان من القرآن ، ومن ضرورة الحس على أنها ليست على ظاهرها فيريدون حملها على ظاهرها ، إن هذا لعجب لا نظير له ؛ فبطل تعلقهم بهذا الخبر ، ولله الحمد . وقد روينا من طريق أحمد بن شعيب أخبرني إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني نا موسى بن داود عن حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن رسول الله عليه السلام قال : { الحجر الأسود من الجنة } فهذا بمكة فالذي بمكة من هذا كالذي للمدينة ، إذ في كل واحدة منهما شيء من الجنة . ومنها : قوله عليه السلام : { صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام } . قال أبو محمد : تأولوا هم أن الصلاة في مسجد المدينة أفضل من الصلاة في مسجد مكة بدون الألف ، وقلنا نحن : بل هذا الاستثناء ؛ لأن الصلاة في المسجد الحرام أفضل من الصلاة في مسجد المدينة . قال علي : فكلا التأويلين محتمل . نعم ، تأويل ثالث وهو إلا المسجد الحرام فإن الصلاة في كليهما سواء ، ولا يجوز المصير إلى أحد هذه التأويلات دون الآخر إلا بنص آخر ، وبطل أن يكون في هذا الخبر بيان في فضل المدينة على مكة - وبالله - تعالى - التوفيق . ومنها : قوله عليه السلام : { على أنقاب المدينة ملائكة لا يدخلها الطاعون ولا الدجال } وهذا ليس فيه فضلها على مكة ؛ لأنه عليه السلام قد أخبر أن مكة لا يدخلها الدجال أيضا ؛ والله - تعالى - يصرفه عنها كما يصرفه عن المدينة والملائكة تنزل على المصلين في كل بلد كما أخبر عليه السلام : " أنه يتعاقب فينا ملائكة بالليل والنهار " . ومنها : قوله عليه السلام { هي طيبة } ونعم ، هي والله طيبة ، وليس في هذا فضل لها على مكة أصلا . فهذا كل ما احتجوا به من الأخبار الصحاح ما لهم خبر صحيح سوى هذه ، وكلها لا حجة في شيء منها على فضل المدينة على مكة أصلا على ما بينا - والحمد لله رب العالمين . واحتجوا عمن دون رسول الله عليه السلام بالخبر الصحيح أن عمر قال لعبد الله بن عياش بن أبي ربيعة : أنت القائل : لمكة خير من المدينة ؟ فقال له عبد الله : هي حرم الله وأمنه ، وفيها بيته ، فقال له عمر : لا أقول في حرم الله وأمنه شيئا ، أنت القائل : لمكة خير من المدينة ؟ فقال له عبد الله : هي حرم الله وأمنه ، وفيها بيته ؟ فقال له عمر : لا أقول في حرم الله وأمنه شيئا ؛ ثم انصرف . قال أبو محمد : هذا حجة عليهم لا لهم ؛ لأن عبد الله بن عياش لم ينكر لعمر أنه قال ما قرره عليه بل احتج لقوله ذلك بما لم يعترض فيه عمر ، فصح أن عبد الله بن عياش - وهو صاحب - كان يقول : مكة أفضل من المدينة وليس في هذا الخبر عن عمر : لا أن مكة أفضل ، ولا أن المدينة أفضل ؛ وإنما فيه تقريره لعبد الله على هذا القول فقط ، ونحن نوجدهم عن عمر تصريحا بأن مكة أفضل من المدينة . حدثنا يوسف بن عبد الله بن عبد البر النمري نا سعيد بن نصر نا قاسم بن أصبغ نا محمد بن وضاح نا حامد بن يحيى البلخي نا سفيان بن عيينة عن زياد بن سعد نا سليمان بن عتيق قال : سمعت عبد الله بن الزبير يقول : سمعت عمر بن الخطاب يقول : " صلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في مسجد النبي عليه السلام " وهذا سند كالشمس في الصحة ، فهذان صاحبان لا يعرف لهما من الصحابة مخالف ، ومثل هذا حجة عندهم . ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن عبد الكريم الجزري عن سعيد بن المسيب قال : من نذر أن يعتكف في مسجد إيليا فاعتكف في مسجد النبي عليه السلام بالمدينة أجزأ عنه ، ومن نذر أن يعتكف في مسجد النبي عليه السلام فاعتكف في المسجد الحرام أجزأ عنه . فهذا سعيد فقيه أهل المدينة يصرح بفضل مكة على المدينة . قال أبو محمد : واحتجوا بأخبار موضوعة يجب التنبيه عليها والتحذير منها . منها : خبر رويناه { أن النبي عليه السلام قال في ميت رآه : دفن في التربة التي خلق منها } ، قالوا : والنبي عليه السلام دفن بالمدينة فمن تربتها خلق وهو أفضل الخلق فهي أفضل البقاع . وهذا خبر موضوع ؛ لأن في أحد طريقيه محمد بن الحسن بن زبالة وهو ساقط بالجملة ، قال فيه يحيى بن معين : ليس بثقة وهو بالجملة متفق على اطراحه - ثم هو أيضا عن أنيس بن يحيى مرسل ولا يدرى من أنيس بن يحيى والطريق الأخرى من رواية أبي خالد وهو مجهول عن يحيى البكاء وهو ضعيف - ثم لو صح لما كانت فيه حجة ؛ لأنه إنما كان يكون الفضل لقبره عليه السلام فقط ، وإلا فقد دفن فيها المنافقون ، وقد دفن الأنبياء عليهم السلام من إبراهيم ، وإسحاق ، ويعقوب ، وموسى ، وهارون ، وسليمان ، وداود عليهم السلام ، وغيرهم بالشام ، ولا يقول مسلم : إنها أفضل من مكة . ومنها { افتتحت المدائن بالسيف وفتحت المدينة بالقرآن } وهذا أيضا من رواية محمد بن الحسن بن زبالة المذكور بوضع الحديث ، وهذا من وضعه بلا شك ؛ لأنه رواه عن مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة عن النبي عليه السلام ، ومثل هذا الشارع العجيب لا يجوز أن يسلك إليه إلا مثل هذه المزبلة ، وهذا إسناد لا ينفرد بمثله إلا ابن زبالة دون سائر من روى عن مالك من الثقات - ثم لو صح لما كانت فيه حجة في فضلها على مكة ؛ لأن البحرين وأكثر مدائن اليمن كصنعاء والجند وغيرها لم تفتح بسيف إلا بالقرآن فقط وليس ذلك بموجب فضلها على مكة عند أحد من المسلمين . ومنها { ما على الأرض بقعة أحب إلي أن يكون قبري فيها منها } وهذا من رواية الكذاب محمد بن الحسن بن زبالة عن مالك عن يحيى بن سعيد مرسل - ثم لو صح لما كانت فيه حجة في فضلها على مكة ؛ لأن رسول الله عليه السلام كره للمهاجرين وهو سيدهم أن يرجعوا إلى مكة ليحشروا غرباء مطرودين عن وطنهم في الله - تعالى - حتى إنه عليه السلام رثا لسعد بن خولة أن مات بمكة ولم يجعل للمهاجرين بعد تمام نسكه أن يبقى بمكة إلا ثلاث ليال فقط ؛ فإذا خرجت مكة بهذه العلة عن أن يدفن فيها النبي عليه السلام فالمدينة أفضل البقاع بعدها بلا شك .