محلى ابن حزم - المجلد الثاني/الصفحة الخامسة والسبعون
كتاب الحج
878 - مسألة : وأما المتعمد لقتل الصيد وهو محرم فهو مخير بين ثلاثة أشياء أيها شاء فعله ؟ وقد أدى ما عليه إما أن يهدي مثل الصيد الذي قتل من النعم وهي : الإبل ، والبقر ، والغنم - ضأنها ، وماعزها - وعليه من ذلك ما يشبه الصيد الذي قتل مما قد حكم به عدلان من الصحابة رضي الله عنهم ، أو من التابعين رحمهم الله ، وليس عليه أن يستأنف تحكيم حكمين الآن وإن شاء أطعم مساكين ؛ وأقل ذلك ثلاثة ، وإن شاء نظر إلى ما يشبع ذلك الصيد من الناس ، فصام بدل كل إنسان يوما . برهان ذلك - : قول الله تعالى : { فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما } . فأوجب الله تعالى التخيير في ذلك بلفظة " أو " وأوجب من المثل ما حكم به ذوا عدل منا . فصح أن الصاحبين إذا حكما بمثل في ذلك فقد صار فرضا لازما لا يحل تعديه ؛ وكذلك الصاحب والتابع إن لم يوجد فيه حكم صاحبين ؛ وكذلك حكم التابعين إن لم يوجد في حكم صاحب ، وأوجب تعالى طعام مساكين ، وهذا بناء لا يقع على أقل من ثلاثة في اللغة التي بها نزل القرآن ، ويقع على ثلاثة فصاعدا إلى ما لا يقدر على إحصائه إلا الله عز وجل ؛ فكان إيجاب عدد أكثر من ثلاثة قولا على الله تعالى بلا برهان ، وهذا لا يجوز ووجب إطعام الثلاثة بنص القرآن لا أقل ، فإن زاد فهو تطوع خير . ونحن نشهد بشهادة الله عز وجل ونقطع بأنه تعالى لو أراد أن يلزم في هذا عددا محدودا من المساكين لا يوجبه ظاهر الآية أو صفة من الإطعام لا يقتضيه وظاهر الآية لما أغفله عمدا ولا نسيه ، ولبينه لنا في كتابه أو على لسان رسوله ﷺ كما بين عدد المساكين في كفارة قتل الخطأ ، وكفارة العود للظهار ، وكفارة الأيمان ، وكفارة الوطء في رمضان ، وكفارة حلق الرأس للأذى في الإحرام ، فإذا لم ينص تعالى هنا على عدد بعينه ولا على صفة بعينها فنحن نشهد بشهادة الله الصادقة أنه لم يلزم في ذلك غير ما اقتضاه ظاهر الآية بيقين لا مجال للشك فيه ، ولا يمكن سواه - والحمد لله رب العالمين - وقال بعض الناس : كقولنا إلا أنه قال : ما أطعمهم وأي مقدار أطعمهم أجزأه . قال أبو محمد : وهذا باطل ؛ لأن الله تعالى قال : { طعام مساكين } فلو حمل على ظاهر اللفظ لأجزأ إطعام حبة برة لمسكين ، أو حبة خردلة ، أو وزن حبة صبر ، أو شحم حنظل ، وهذا باطل - لأن الله تعالى قال : { الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف } . وذكر تعالى عن إبراهيم أنه ذكر عن ربه عز وجل في حمده إياه هو { يطعمني ويسقيني } فإنما أراد عز وجل بذلك بلا شك ما أمسك الحياة وطرد الجوع مما يحل أكله لا مما يحرم ولا مما هو وعدمه سواء ، فصح يقينا أنه يشبع ثلاث مساكين مما يحل أكله - وهكذا نقول في الإطعام في كفارة قتل الخطأ ، وأما سائر ما فيه الإطعام فقد جاء مقدار ما يطعم فيه منصوصا وهي : أربعة مواضع فقط ، الإطعام في وطء الأهل في نهار رمضان عمدا ، والإطعام في الظهار ، والإطعام في كفارة الأيمان ، والإطعام في حلق الرأس للمريض المحرم قبل محله - وبالله تعالى التوفيق . وأما قولنا في الصيام : فإن الإشارة بلفظة ذلك إنما تقع في اللسان العربي الذي به نزل القرآن على أبعد مذكور ، وكان الصيد في هذه الآية أبعد مذكور فلزم بذلك عدله صياما ، ولا يكون عدله أصلا إلا كما ذكرنا . وأما من قومه قيمة ، ثم قوم القيمة طعاما ، ثم رأى عدل ذلك صياما فلم يوجب عدل الصيد وإنما أوجب عدل قيمته وليس هذا في الآية فبطل القول به [ جملة ] . ثم نسأل من قال بتقويم الهدي دراهم ، أو طعاما ؛ أي الهدي تقوم ؟ وقد يختلف قيم النوق ، والبقر ، والغنم ، فأي ناقة تقوم ؟ أم أي بقرة تقوم ؟ أم أي شاة ؟ وهذا إلزام مضمحل بلا برهان . ثم نقول لمن قال بتقويم الصيد : متى تقومه ؟ أحيا أم مقتولا ؟ فإن قالوا : مقتولا ؟ قلنا : هو عندكم جيفة ميتة ، ولا قيمة للميتة ؛ ثم هو أيضا منكم قول بلا برهان . وإن قالوا : بل يقوم حيا ؟ قلنا : وما برهانكم على ذلك وقيمته حيا تختلف فيكون حمار وحش يرغب فيه الملوك حيا فيغالون به فإذا ذكي لم يكن له كبير قيمة ، ثم في أي المواضع يقوم ؟ فإن قالوا : حيث أصيب ؟ قلنا : فإن أصيب بفلاة لا قيمة له فيها أصلا ؟ وكل ما قالوه فبلا دليل . قال أبو محمد : واختلف الناس هاهنا في مواضع ، أحدها التخيير - : فقال قوم : هذا على الترتيب ولا يجزئه إلا الهدي فإن لم يجد فالإطعام فإن لم يجد فالصيام - : روينا هذا من طريق سعيد بن منصور نا جرير بن عبد الحميد عن منصور عن الحكم بن عتيبة عن مقسم عن ابن عباس قال : إذا أصاب المحرم الصيد فإن كان عنده جزاء ذبحه ، فإن لم يكن عنده جزاء قوم جزاؤه دراهم ؛ ثم قومت الدراهم طعاما فصام مكان كل نصف صاع يوما ، وإنما جعل الطعام للصائم ؛ لأنه إذا وجد الطعام وجد جزاؤه . ورويناه أيضا عن إبراهيم النخعي ، وعطاء ، ومجاهد ، وميمون بن مهران - وهو قول زفر ، وسفيان الثوري . وروينا من طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن الليث عن مجاهد عن ابن عباس كل شيء في القرآن " أو " فهو مخير وكل شيء { فمن لم يجد } فهو الأول فالأول . وروينا التخيير أيضا : عن عطاء ، ومجاهد ، وإبراهيم ، والزهري ، وقتادة ، وهو قول أبي حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، وأحمد ، وأبي سليمان . وإذا تنازع الناس فالمرجع إلى القرآن ، وحكم القرآن التخيير ، ولقد كان يلزم من قاس قاتل الصيد خطأ على العامد في إيجاب الكفارة ، أو على قاتل الخطأ أن يقيس حكم كفارة الصيد على كفارة القتل فيجعلها على الترتيب كما كفارة القتل على الترتيب وإلا فقد تناقضوا ؟ ومنها استئناف التحكيم فإن الرواية جاءت عن طاوس : أنه يستأنف الحكم ويحكمان بحكم يومهما ولا ينظران إلى حكم من مضى ، فإن مالكا ، وابن أبي ليلى ، والحسن بن حي ، والثوري قالوا : لا بد له من استئناف تحكيم حكمين ، ثم اختلفوا فقال مالك : الخيار إلى المحكوم عليه لا إلى الحكمين ؛ ويقول لهما : لا تحكما علي إلا بالإطعام إن شاء أو بالصيام إن شاء ، أو بالجزاء إن شاء . وقال ابن أبي ليلى ، وسفيان الثوري ، والحسن ، وابن حي : الخيار في ذلك إلى الحكمين لا إلى المحكوم عليه . وقال مالك : لا يجوز للحكمين أن يحكما بغير حكم من مضى . قال ابن حي : إن كان حكم اليوم أكثر من حكم من مضى ؛ حكم بحكم اليوم ، وإن كان حكم اليوم أقل من حكم من مضى : حكم بحكم من مضى . وقال أبو حنيفة ، والشافعي ، أبو سليمان : لا يستأنف الحكم اليوم . قال الشافعي ، وأبو سليمان : إنما هو ما حكم به السلف لا يجوز تجاوزه . قال أبو محمد : والله تعالى أوجب ما حكم به في ذلك ذوا عدل منا فإذا حكم اثنان من السلف فقد أوجب الله تعالى الطاعة لما حكما به فاستئناف تحكيم آخرين لا معنى له ؛ لأنه لم يوجبه قرآن ، ولا سنة ، ولا إجماع - : فهو عمل فارغ فاسد لا فائدة فيه أصلا . ثم قول مالك : إن الخيار إلى المحكوم عليه خطأ مكرر ، إذ لو وجب تحكيم حكمين لا تجب طاعتهما فيما حكما به مما جعل الله تعالى إليهما الحكم به لكان ذلك عملا فاسدا . فإن موهوا بالحكمين بين الزوجين فلم يجعل الله تعالى قط إليهما فرقة ولا إيجاب غرامة ، وإنما جعل تعالى إليهما الإصلاح ليوفق الله تعالى بينهما فقط . ومنها أن بعض من ذكرنا رأى التحكيم في الإطعام ، والصيام ، وهذا خطأ ؛ لأن الله تعالى لم يوجب التحكيم في ذلك إلا في الجزاء بالهدي فقط هذا هو نص الآية ، ثم القائل بهذا قد خالف ما جاء عن ابن عباس ، وغيره من الحكم في الإطعام ، والصيام فتناقض . ومنها مقدار الإطعام ، والصيام - : فعن ابن عباس كما ذكرنا آنفا أن يقوم الجزاء من النعم دراهم ، ثم تقوم الدراهم طعاما فيصوم بدل كل نصف صاع يوما ؛ وعن ابن عمر أيضا كذلك ، وكلاهما لا يصح عنهما ، فدل هذا على أن الإطعام يكون لكل مسكين نصف صاع . عن ابن عباس أيضا قول آخر وهو إن قتل نعامة ، أو حمار وحش فبدنة من الإبل فإن لم يجد أطعم ثلاثين مسكينا ، فإن لم يجد صام ثلاثين يوما والإطعام مد مد فقط ، فإن قتل أيلا أو نحوه فبقرة ، فإن لم يجد أطعم عشرين مسكينا ، فإن لم يجد صام عشرين يوما ، فإن قتل ظبيا فشاة ، فإن لم يجد فإطعام ستة مساكين ، فإن لم يجد صام ثلاثة أيام . قال أبو محمد : ما نعلم عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم قولة غير هذه التي ذكرنا . وروينا عن مجاهد : أن يحكم في ذلك بهدي فإن لم يجد قوم الهدي طعاما ، ثم قوم الطعام صياما لكل مسكين مدان ، ومكان كل مسكين صوم يوم . وعن إبراهيم نحو هذا . وعن الحسن مثله أيضا . وعن عطاء يقوم الجزاء طعاما ، ثم يصوم بدل كل مد يوما ، فإن وجد الطعام قبل أن يفرغ من الصوم أطعم . وروينا عنه أيضا بدل كل نصف صاع صيام يوم . عن ميمون بن مهران : أن صيام يوم بدل كل مسكين يوما . وعن أبي عياض - وهو تابعي - روى عن معاوية قال : أكثر الصوم في ذلك واحد وعشرون يوما . وصح عن سعيد بن جبير أنه قال : الصوم في فدية الصيد من ثلاثة أيام إلى عشرة أيام ما نعلم عن تابع في هذا غير ما ذكرنا . وقال الليث : لا يتجاوز في ذلك بالصوم ستين يوما . وقال أبو حنيفة : يقوم الصيد دراهم فيبتاع بها طعاما فيطعم كل مسكين نصف صاع من بر أو صاعا من تمر أو صاع شعير أو زبيب ، أو يصوم بدل كل مسكين يوما ، وهو قول الثوري . وبه قال مالك ، إلا أنه قال : يطعم [ لكل مسكين ] مدا مدا أو يصوم بدل كل مد يوما ، وقولهم بتقويم الصيد لا نعلمه قبلهم عن أحد وإنما قال من ذكرنا قبل بتقويم الهدي وهو الجزاء . وقال الشافعي : يقوم الجزاء لا الصيد دراهم ، ثم تقوم الدراهم طعاما فيطعم مدا مدا أو يصوم بدل كل مد يوما . وقال أبو ثور : الإطعام ثلاثة آصع لستة مساكين لكل مسكين نصف صاع ، والصيام ثلاثة أيام فقط . قال أبو محمد : أما ابن عباس فقد اختلفت أقواله في ذلك وليس بعضها أولى من بعض ، وكلها قد خالفها أبو حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، وهم يعظمون خلاف الصاحب إذا وافق تقليدهم ، لأن في أحد قوليه الترتيب وهم لا يقولون به . وفيه : أن يقوم الجزاء ، ولا يقول أبو حنيفة ، ولا مالك به . وفيه : عنه وعن ابن عمر مكان كل نصف صاع يوما ، ولا يقول مالك ، ولا الشافعي به - وأما قوله الثاني فكلهم مخالفون له جملة ، ولا يعرف فيما ذكرنا لابن عباس ، وابن عمر مخالف من الصحابة رضي الله عنهم . قال علي : لم نجد لشيء من هذه الأقوال برهانا من قرآن ، ولا سنة ، ولا حجة إلا فيهما ، ولا أفحش قولا ممن استسهل خلاف ابن عباس برأي نفسه أو برأي تابع قد خالفه غيره من التابعين ، ثم ينكر على من خالفه التزاما للقرآن ، ونحن راضون مسرورون بهذه القسمة من الله تعالى لنا ولهم لا أعدمنا الله تعالى ذلك بمنه [ وفضله ] آمين . والتابعون مختلفون كما ذكرنا فمن تعلق ببعض قولة لواحد منهم بلا نص في ذلك فقد خالفه نفسه وغيره من التابعين المذكورين في قولة أخرى في المسألة بعينها ، وإنما هم سبعة فقط مختلفون متنازعون : مجاهد ، وعطاء ، وإبراهيم ، والحسن ، وأبو عياض ، وسعيد بن جبير ، وميمون بن مهران . وأما قول أبي حنيفة ، وسفيان ، ومالك ، والشافعي ، فمع اختلافهم وتنازعهم فلا برهان لواحد منهم على صحة دعواه لا من قرآن ، ولا من سنة ، ولا من رواية سقيمة ، ولا من قول صاحب ، ولا قياس ، ولا من تابع موافق للواحد منهم في قوله كله في ذلك . وأما الليث فإنه قاس الصيام في ذلك على الصيام في قتل النفس ، ولقد كان يلزم من قاس إيجاب الكفارة في قتل الصيد خطأ على وجوبها في قتل المؤمن خطأ أن يقيس الصيام في هذه على الصيام في ذلك كما فعل الليث ، ولا سيما من لم يبلغ دية العبد والأمة إلى دية الحر والحرة ، ومن جعل للفرس سهما ، وقال : لا أفضل بهيمة على إنسان ، ثم فضل البهائم هاهنا على الناس في الصيام عن نفوسها . قال أبو محمد : والقياس كله باطل ، ولو كان حقا لكان هاهنا باطلا ؛ لأن الله تعالى أوجب في جزاء الصيد مثلا من النعم أو إطعاما ولم يوجب شيئا من ذلك في قتل المؤمن خطأ بل أوجب هنالك دية . وعتق رقبة ولم يوجبها هاهنا ؛ فكيف يستجيز أحد قياس شيء على شيء قد فرق الله تعالى بين حكميهما . وأما أبو ثور فإنه قاس الإطعام ، والصيام في جزاء الصيد على الإطعام والصيام في فدية حلق المحرم رأسه للأذى يكون به والمرض . قال علي : وهذا قياس والقياس كله باطل ، ثم لو كان حقا لكان هذا منه عين الباطل ؛ لأن قاتل الصيد عاص لله تعالى فاسق آثم ، ثم متوعد أشد الوعيد ، وحالق رأسه لمرض به : مطيع محسن مأجور ، فكيف يجوز قياس أحدهما على الآخر وليس مثله ؟ ثم إن الله تعالى قد فرق بينهما فجعل في جزاء الصيد تحكيم حكمين ولم يجعل ذلك في حالق رأسه ، وهذا بين - وبالله تعالى التوفيق . وقد روينا عن إسحاق بن راهويه أنه ذكر له قول أحمد في مسألة فقال : أحسن ما كنت أظن أن أحدا يوافقني عليها ، فلم ينكر أبو يعقوب رحمه الله القول بما لا يعلم به قائل إذا وافق القرآن ، أو السنة لا كمن ينكر هذا - ثم يأتي بأقوال من رأيه مخالفة للقرآن والسنن لا يعرف أن أحدا قال بها قبله ، وفي قول كل من ذكرنا من أبي حنيفة ، ومالك ، والليث ، والشافعي ، ما لا يعرف أن أحدا قال به قبل كل واحد منهم من التقسيم الذي قسموه ، فمتبع القرآن ، والسنة أولى بالحق . ومنها : ما هو المثل الذي يجزئ به الصيد من النعم فإن الرواية جاءت كما روينا من طريق ابن أبي شيبة نا عائذ بن حبيب عن عطاء ، ومجاهد ، وإبراهيم قالوا جميعا : إذا أصاب المحرم صيدا حكم عليه بثمنه فاشترى به هديا فإن لم يجد قوم طعاما فتصدق به على كل مسكين نصف صاع ، فإن لم يجد صام لكل صاع يومين . وقد صح عن عطاء ، ومجاهد ، وإبراهيم غير هذا ، وهو أنهم قالوا : الجزاء بالمثل من النعم لا بالقيمة - وهكذا روينا عن عثمان ، وعمر ، وعلي ، وعبد الرحمن بن عوف ، وسعد بن أبي وقاص ، وجابر بن عبد الله ، وابن عباس ، ومعاوية ، وابن مسعود ، وطارق بن شهاب ، وعبد الله بن عمر ، وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم ، ولا مخالف لهم من الصحابة رضي الله عنهم في ذلك . وكذلك أيضا عمن ذكرنا من التابعين ، وعن شريح ، وسعيد بن جبير ، وغيرهم - وهو قول مالك ، وسفيان الثوري ، والشافعي ، وابن حي ، وابن أبي ليلى ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبي ثور ، وأبي سليمان ، وغيرهم . فأتى أبو حنيفة بقول لم يسمع بأوحش منه في هذا الباب ، وهو أنه قال : من قتل صيدا وهو محرم فإنه يقوم الصيد دراهم ، ثم يبتاع بتلك الدراهم ما بلغت من الهدي ولا يجزئ في ذلك إلا الجذع من الضأن فصاعدا والثني من الإبل ، والبقر ، والماعز ، فصاعدا . فإن وجد بتلك القيمة هديين أو ثلاثة أو أربعة : لزمه أن يهدي كل ذلك - هكذا يفعل في الظبي والنعامة ، وحمار الوحش ، والإبل ، والبقرة الوحشية ، والضب ، واليربوع والحمامة ، وغير ذلك . فإن لم يبلغ قيمة ذلك هديا ابتاع به طعاما فأطعم كما ذكرنا عنه قبل . فإن قتل فيلا لم يتجاوز بالهدي في جزائه شاة واحدة - وكذلك إن قتل قردا . ويجزئ الخنزير البري إن قتله ؛ فليت شعري كيف يقوم الخنزير ؟ وقال صاحبه زفر : يقوم الصيد فإن بلغت قيمة النعامة أكثر من بدنة لم يتجاوز بها بدنة واحدة ، فإن بلغت قيمة حمار الوحش ، وثور الوحش ، والأيل ، والأروي أكثر من بقرة لم يتجاوز بها بقرة واحدة ؛ فإن بلغت قيمة الثيتل والغزال ، والظبي ، والأرنب ، والوبر ، واليربوع ، والضب ، والحمامة ، والحجلة ، والقطاة ، والدبسي ، والحباري ، والكروان ، والكراكي ، والدجاجة الحبشية ، أكثر من شاة واحدة لم يتجاوز بها شاة واحدة ؛ فإن لم يبلغ شيء من ذلك ثمن هدي ابتاع به طعاما كما قال أبو حنيفة . وخالفهما أبو يوسف ، ومحمد بن الحسن ، فرأيا الجزاء بالمثل كما قال سائر الناس . قال أبو محمد : قول أبي حنيفة ، وزفر في غاية الفساد ، ومخالف للقرآن والسنة ؛ لأن الله تعالى قال : { فجزاء مثل ما قتل من النعم } يقول تعالى : فجزاء قيمة مثل ما قتل من النعم ، ولا تدل الآية على ذلك أصلا ولا تحتمله بوجه من الوجوه . وصح عن النبي ﷺ في الضبع : كبش ، ولم يجعل فيها قيمة ، وقد وجدنا قيمة الحمامة الهادية ، والمقلين المغرد يبلغ عشرات الدنانير ، فعلى قول أبي حنيفة يكون جزاء كل واحد منهما من الهدي أكثر من جزاء الحمار الوحشي - والنعامة من الهدي ، فهذا مع خلاف القرآن تخليط فاحش . ثم سائر تقسيمه المذكور فهو شيء لم يحفظ عن أحد من أهل الإسلام قبله ، وقد وقف أبو يوسف أبا حنيفة على أن هذا الباب قد رويت فيه آثار مؤقتة ؛ فلم يلتفت إلى ذلك وقال : إنما نتبع للقرآن ؟ قال أبو محمد : فوالله ما وفق في هذا لاتباع القرآن ، ولا لاتباع أحد من السلف ، وقد أطلقوا القول بأنه قد بلغهم ذلك عن ابن عباس ، وإبراهيم . قال أبو محمد : وهذا إطلاق فاسد إنما جاء عن إبراهيم ، وعطاء ، ومجاهد : أن يقوم الصيد فقط وجاء عنهم خلافه . وأما ابن عباس فلم يأت عنه إلا ما ذكرنا قبل فقط مما قد خالفوه كله - ولقد أقدم بعضهم فقال : القيمة أعدل ؟ قال علي : كذب الآفك الآثم - ولا كرامة - أن تكون القيمة أعدل من المثل من النعم الذي أمر الله تعالى به ، بل القيمة في ذلك جور وظلم ؛ وإنما هو أصل بنوه على أصل آخر لهم فاسد وهو أن يحكم فيما أتلف من أموال الناس مما لا يكال ، ولا يوزن بالقيمة لا بالمثل - وهذا رد منهم للخطأ على الخطأ ، وما الواجب في كل ذلك إلا المثل بنص القرآن والسنن . قال أبو محمد : فإذ قد بطلت هذه التخاليط فالواجب الرجوع إلى القرآن وما حكم به رسول الله ﷺ وما حكم به العدول من الصحابة ، والتابعين رضي الله عنهم كما أمر تعالى باتباعهم هاهنا - وبالله تعالى التوفيق .