محلى ابن حزم - المجلد السادس/الصفحة الثامنة والستون
كتاب الحدود
2224 - مسألة : شهد أربعة بالزنى على امرأة , أحدهم : زوجها
قال أبو محمد رحمه الله : اختلف الناس في هذا : فقالت طائفة : ليست شهادة ويلاعن الزوج :
كما روينا ، عن ابن عباس في أربعة شهداء شهدوا بالزنى على امرأة , وأحدهم زوجها قال : يلاعن الزوج , ويحد الآخرون وعن إبراهيم النخعي بمثله .
وبه يقول مالك , والشافعي , والأوزاعي في أحد قوليه. وقال آخرون : إن كانوا عدولا فالشهادة تامة , وتحد المرأة :
كما روينا عن الحسن البصري في أربعة شهدوا على امرأة بالزنى أحدهم زوجها قال : إذا جاءوا مجتمعين , الزوج أجوزهم شهادة. وعن الشعبي ، أنه قال في أربعة شهدوا على امرأة بالزنى أحدهم زوجها أنه قد جازت شهادتهم , وأحرزوا ظهورهم. وقال الحكم بن عتيبة في أربعة شهدوا على امرأة بالزنى أحدهم زوجها حتى يكون معهم من يجيء بها وبهذا يأخذ أبو حنيفة , والأوزاعي , في أحد قوليه
قال أبو محمد رحمه الله : فلما اختلفوا كما ذكرنا وجب أن ننظر فيما احتج به كل قائل منهم لقول , فوجدنا كلتا الطائفتين تتعلق بقول الله تعالى {والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم} وبقول رسول الله ﷺ : لهلال بن أمية البينة وإلا حد في ظهرك
فنظرنا في هذين النصين فوجدناهما : إنما نزلا في الزوج إذا كان راميا قاذفا , إلا إذا كان شاهدا , هذا نص الآية , ونص الخبر , فليس حكم الزوج إذا كان شاهدا لا قاذفا راميا , فوجب أن نطلب حكم شهادة الزوج في غيرهما. فوجدنا الله تعالى يقول {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم} فشرط الله تعالى على القاذف إن لم يأت بأربعة شهداء أن يجلد , ولم يخص تعالى أولئك الأربعة الشهداء أن لا يكون منهم زوجها وما كان ربك نسيا. ولو أراد الله تعالى أن لا يكون الزوج أحد أولئك الشهداء لبين ذلك ولما كتمه , ولا أهمله , فإذ عم الله تعالى ولم يخص فالزوج وغير الزوج في ذلك سواء بيقين لا شك فيه. فصح من هذا أن الزوج إن قذف امرأته فعليه حد القذف إلا أن يلاعن , أو يأتي بأربعة شهداء سواء , لأنه قاذف , ورام والقاذف والرامي : مكلف أن يخلص نفسه بأربعة شهداء ، ولا بد وهكذا الأجنبي ، ولا فرق , إذا قذف , فلا بد من أربعة غيره , فإن جاء الزوج شاهدا لا قاذفا , فهو كالأجنبي الشاهد ، ولا فرق , لا حد عليه ، ولا لعان أصلا , لأنه لم يرمها , ولا قذفها , فإن كان عدلا وجاء معه بثلاثة شهود , فقد تمت الشهادة , ووجب الرجم عليها , لأنهم أربعة شهود كما أمر الله تعالى وبه نأخذ.
وأما اشتراط الحكم بن عتيبة من أن يكون معهم من يأتي بهم , فلا معنى له , لأن الله تعالى لم يوجب ذلك , ولا رسوله ﷺ : ولا يخلو ذلك الخامس من أحد ثلاثة أوجه لا رابع لها : إما أن يكون قاذفا
وأما أن يكون شاهدا
وأما أن يكون متطوعا لا قاذفا ، ولا شاهدا. فإن كان قاذفا فمن الحرام والباطل أن يلزم الشهود أن يأتي قاذفا يتقدمهم , أو يأمر بقذف المحصنة والمحصن , ليتوصل بذلك إلى إقامة الشهادة. وإن كان ذلك الخامس شاهدا فهذا إيجاب لخمسة شهود وهذا خلاف القرآن , والسنة , والإجماع. وإن كان متطوعا لا قاذفا ، ولا شاهدا فهذا باطل , لأن الله تعالى لم يوجبه , ولا رسوله ﷺ فسقط قول الحكم في ذلك
قال أبو محمد رحمه الله : فالحكم في هذا على ثلاثة أوجه : إذا كان الزوج قاذفا فلا بد من أربعة شهود سواء وإلا حد أو يلاعن فإن لم يكن قاذفا لكن جاء شاهدا فإن كان عدلا ومعه ثلاثة عدول فهي شهادة تامة وعلى المشهود عليها حد الزنى كاملا. وإن كان الزوج غير عدل , أو كان عدلا وكان في الذين معه غير عدل أو لم يتم ثلاثة سواه والشهادة لم تتم فلا على المشهود , وليس الشهود قذفة , فلا حد عليهم , ولا حد على الزوج , ولا لعان , لأنه ليس قاذفا وبالله تعالى التوفيق :
2225 - مسألة : شهد أربعة بالزنى على امرأة , وشهد أربعة نسوة أنها عذراء
قال أبو محمد رحمه الله : اختلف الناس في هذا : فقالت طائفة : لا حد عليها ,
كما روينا عن الشعبي ، أنه قال في أربعة رجال عدول شهدوا على امرأة بالزنى وشهد أربع نسوة بأنها بكر , فقال : أقيم عليها الحد , وعليها خاتم من ربها
قال أبو محمد رحمه الله : هذا على الإنكار منه لأقامة الحد عليها.
وقالت طائفة : تحد كما حدثنا عبد الله بن ربيع ، حدثنا ابن مفرج ، حدثنا قاسم بن أصبغ حدثنا ابن وضاح ، حدثنا سحنون حدثنا ابن وهب عن الحارث بن نبهان في أربعة شهدوا بالزنى على امرأة , ونظر النساء إليها فقلن : إنها عذراء , قال : آخذ بشهادة الرجال , وأترك شهادة النساء , وأقيم عليهما الحد. وبإسقاط الحد عنها يقول أبو حنيفة , وأصحابه , إلا زفر , وبه يقول سفيان الثوري , والشافعي.
وقال مالك : وزفر بن الهذيل , وأصحابنا : تحد
قال أبو محمد رحمه الله : فلما اختلفوا كما ذكرنا , وجب أن ننظر في ذلك , فوجدنا من رأى إيجاب الحد عليها يقول : قد صحت البينة عليها بما يوجب الحد بنص القرآن , فلا يجوز أن يعارض أمر ربه تعالى بشيء وما نعلم لهم حجة غير هذا فعارضهم الآخرون بأن قالوا : بأن لا خلاف أنه إذا صح أن الشهود كاذبون أو واهمون فإن الشهادة ليست حقا : بل هي باطل , ولا يحل الحكم بالباطل , وإنما أمر الله تعالى بإنفاذ الشهادة إذا كانت حقا عندنا في ظاهرها , لا إذا صح عندنا بطلانها , وهذه قد صح عندنا بطلانها فلا يجوز الحكم بها
قال أبو محمد رحمه الله : قال الله تعالى : {كونوا قوامين بالقسط شهداء لله} فواجب إذا كانت الشهادة عندنا في ظاهرها حقا , ولم يأت شيء يبطلها أن يحكم بها , وإذا صح عندنا أنها ليست حقا ففرض علينا أن لا نحكم بها , إذ لا يحل الحكم بالباطل , هذا هو الحق الذي لا شك فيه. ثم نظرنا في الشهود لها أنها عذراء فوجب أن يقرر النساء على صفة عذرتها , فإن قلن : إنها عذرة , يبطلها إيلاج الحشفة ، ولا بد , وأنه صفاق عند باب الفرج , فقد أيقنا بكذب الشهود , وأنهم وهموا فلا يحل إنفاذ الحكم بشهادتهم. وإن قلن : إنها عذرة واغلة في داخل الفرج , لا يبطلها إيلاج الحشفة , فقد أمكن صدق الشهود , إذ بإيلاج الحشفة يجب الحد , فيقام الحد عليها حينئذ , لأنه لم نتيقن كذب الشهود ، ولا وهمهم وبالله تعالى التوفيق.
2226 - مسألة : كم الطائفة التي تحضر حد الزاني أو رجمه
قال أبو محمد رحمه الله : قال الله تعالى {وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين} قال : {ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين} .
فصح أن عذاب الزناة الجلد , ومع الجلد الرجم والنفي. ثم اختلف العلماء في مقدار الطائفة التي افترض الله تعالى أن تشهد العذاب المذكور فقالت طائفة : هي واحد من الناس , فإن زاد فجائز
وهو قول ابن عباس. كما روى الثوري ، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال : الطائفة رجل , وبهذا يقول أصحابنا.
وقالت طائفة : الطائفة اثنان فصاعدا.
كما روينا عن عطاء قال : اثنان فصاعدا .
وبه يقول إسحاق بن راهويه.
وقالت طائفة : ثلاثة فصاعدا ,
كما روينا ، عن ابن شهاب. وقال ابن وهب : سمعت شمر بن نمير يحدث عن الحسين بن عبيد الله بن ضميرة عن أبيه عن جده عن علي بن أبي طالب مثله سواء سواء أن الطائفة ثلاثة فصاعدا .
وبه يقول الشافعي في أحد قوليه.
وقالت طائفة : الطائفة نفر دون أن يحدوا عددا ,
كما روينا عن معمر عن قتادة أنه سمع وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين قال : نفر من المسلمين.
وقالت طائفة : الطائفة أربعة فصاعدا ,
كما روينا عن الليث بن سعد.
وقالت طائفة : الطائفة خمسة فصاعدا ,
كما روينا عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن.
وقالت طائفة : الطائفة عشرة , كما روي عن الحسن البصري ، أنه قال : الطائفة عشرة
قال أبو محمد رحمه الله : فلما اختلفوا كما ذكرنا وجب أن ننظر في ذلك فوجدنا جميع الأقوال لا يحتج بها إلا قول مجاهد , وابن عباس , وهو أن الطائفة : واحد فصاعدا فوجدناه قولا يوجبه البرهان من القرآن , والإجماع , واللغة.
فأما القرآن فإن الله تعالى يقول {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى} الآية , فبين تعالى نصا جليا أنه أراد بالطائفتين هنا الاثنين فصاعدا : بقوله في أول الآية ( اقتتلوا ) وبقوله تعالى {فإن بغت إحداهما على الأخرى} وبقوله تعالى في آخر الآية {فأصلحوا بين أخويكم}
وبرهان آخر وهو أن الله تعالى قال : {وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين} وبيقين ندري أن الله تعالى لو أراد بذلك عددا من عدد لبينه , ولاوقفنا عليه , ولم يدعنا نخبط فيه خبط عشواء , حتى نتكهن فيه الظنون الكاذبة , حاش لله تعالى من هذا وبالله تعالى التوفيق.
2227- مسألة : حد الرمي بالزنى وهو القذف قال الله تعالى {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة} إلى قوله {تعالى غفور رحيم} .
قال أبو محمد رحمه الله : ففي هذه الآية أحكام كثيرة يجب الوقوف عليها بأن تطلب علمها , وأن تعتقد , وأن يعمل بها بعون الله تعالى على ذلك : فمنها معرفة ما هو الرمي الذي يوجب الحكم المذكور في الآية , من الجلد , وإسقاط الشهادة , والفسق , وأن القذف من الكبائر , ومن المحصنات اللواتي يجب لرميهن الحكم المذكور في الآية من الجلد , وإسقاط الشهادة , والفسق , وعدد الجلد , وصفته ومن المأمور بالجلد ومتى يمتنع من قبول شهادتهم , وفي ماذا يمتنع من قبولها , وفسقهم , وما يسقط بالتوبة من الأحكام المذكورة وما صفة التوبة من ذلك ونحن إن شاء الله تعالى نذكر كل ذلك بعون الله تعالى بالبراهين الواضحة من القرآن , والسنن الثابتة في ذلك ، ولا حول ، ولا قوة إلا بالله.
2228 - مسألة : ما الرمي , والقذف
قال أبو محمد رحمه الله : ذكر الله تعالى هذا الحكم باسم " الرمي " في الآية المذكورة , وصح أن " القذف , والرمي " اسمان لمعنى واحد : لما ناه عبد الله بن ربيع ، حدثنا محمد بن معاوية ، حدثنا أحمد بن شعيب ، حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، هو ابن راهويه أنا عبد الأعلى ، هو ابن عبد الأعلى السلمي قال : سئل هشام ، هو ابن حسان عن الرجل يقذف امرأته فحدثنا هشام عن محمد يعني ابن سيرين قال : سألت أنس بن مالك عن ذلك وأنا أرى أن عنده من ذلك علما فقال : إن هلال بن أمية قذف امرأته بشريك ابن سحماء , وكان أخا البراء بن مالك , وكان أول من لاعن , فلاعن رسول الله ﷺ بينهما , ثم قال أبصروه , فإن جاءت به أبيض , نض العينين , فهو لهلال بن أمية , وإن جاءت به أكحل جعدا حمش الساقين فهو لشريك ابن سحماء. قال أنس : فأنبئت أنها جاءت به أكحل جعدا حمش الساقين.
حدثنا عبد الله بن ربيع أنا محمد بن معاوية عن محمد بن سيرين عن أنس بن مالك , قال : أول لعان كان في الإسلام أن هلال بن أمية قذف شريك ابن سحماء بامرأته فأتى النبي ﷺ فأخبر بذلك , فقال له النبي ﷺ أربعة شهداء وإلا حد في ظهرك وذكر حديث اللعان.
قال أبو محمد رحمه الله : فهذا أنس بن مالك حجة في اللغة وفي النقل في الديانة قد سمى الرمي : قذفا , مع أنه لا خلاف في ذلك من أحد من أهل اللغة , ولا بين أحد من أهل الملة.
وكذلك لا خلاف بين أحد من أهل الإسلام في أن " الرمي " المذكور في الآية المذكورة الموجب للجلد والفسق , وسقوط الشهادة هو الرمي بالزنى بين الرجال والنساء. ثم اختلف العلماء في الرمي بغير الزنى أيوجب حدا أم لا فقالت طائفة : لا حد إلا في الرمي بالزنى فقط , ولا حد في غير ذلك , لا في نفي عن نسب أب أو جد , ولا في رمي بلوطية , ولا في رمي ببغاء , ولا في رمي رجل بوطء في دبر امرأة , ولا في إتيان بهيمة , ولا في رمي امرأة أنها أتيت في دبرها , ولا في رميها ببهيمة , ولا في رمي بكفر , ولا بشرب خمر , ولا في شيء أصلا
وهو قول أصحابنا. وقال قائلون في بعض ما ذكرنا : إيجاب الجلد , ونحن نذكر إن شاء الله تعالى ما يسر الله تعالى لذكره من ذلك , وبيان الحق إن شاء الله تعالى وبه نستعين.