محلى ابن حزم - المجلد السادس/الصفحة الرابعة والخمسون


كتاب الحدود

2195 - مسألة : بكم من مرة من الإقرار تجب الحدود على المقر

قال أبو محمد رحمه الله : اختلف الناس في هذا , فقالت طائفة : بإقراره مرة واحدة تجب إقامة الحدود

وهو قول الحسن بن حي , وحماد بن أبي سليمان , وعثمان البتي ; ومالك , والشافعي , وأبي ثور , وأبي سليمان , وجميع أصحابهم

وقالت طائفة : لا يقام على أحد حد الزنى بإقراره حتى يقر على نفسه أربع مرات , ولا يقام عليه حد القطع , والسرقة حتى يقر به مرتين , وحد الخمر مرتين

وأما في القذف فمرة واحدة وهو قول روي عن أبي يوسف صاحب أبي حنيفة

قال أبو محمد رحمه الله : فلما اختلفوا كما ذكرنا نظرنا فيما احتجت به كل طائفة لقولها ,

فنظرنا في قول من رأى أن الحد لا يقام في الزنا بأقل من أربع مرات : فوجدناهم يحتجون بطريق مسلم ني عبد الملك بن شعيب عن الليث بن سعد ني أبي عن جدي ني عقيل بن خالد ، عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف , وسعيد بن المسيب كلاهما عن أبي هريرة أنه أتى رجل إلى رسول الله وهو في المسجد فناداه فقال : يا رسول الله إني قد زنيت فأعرض عنه , فتنحى تلقاء وجهه فقال : يا رسول الله إني قد زنيت فأعرض عنه حتى كرر ذلك أربع مرات , فلما شهد على نفسه أربع شهادات دعاه رسول الله فقال أبك جنون قال : لا , قال : فهل أحصنت قال : نعم , قال رسول الله اذهبوا به فارجموه

حدثنا عبد الله بن ربيع أنا محمد بن معاوية أنا أحمد بن شعيب أنا محمد بن حاتم بن نعيم أنا حبان ، هو ابن موسى أنا عبد الله ، هو ابن المبارك عن حماد بن سلمة عن أبي الزبير عن عبد الرحمن بن مضاض عن أبي هريرة أن ماعزا أتى رجلا يقال له : هزال , فقال : يا هزال إن الآخر قد زنى , قال : ائت رسول الله قبل أن ينزل فيك قرآن , فأتى رسول الله فأخبره أنه زنى فأعرض عنه , ثم أخبره فأعرض عنه , ثم أخبره فأعرض عنه أربع مرات فلما كان الرابعة أمر برجمه , فلما رجم أتي إلى شجرة فقتل

حدثنا عبد الله بن ربيع أنا محمد بن معاوية أنا أحمد بن شعيب أنا محمد بن حاتم بن نعيم أنا حبان ، و، هو ابن موسى أنا عبد الله بن المبارك عن زكريا أبي عمران البصري ، هو ابن سليم صاحب اللؤلئي قال : سمعت شيخا يحدث عمرو بن عثمان القرشي قال : أنا عبد الرحمن بن أبي بكر عن أبيه قال : شهدت النبي عليه السلام وهو واقف على بغلته فجاءته امرأة حبلى فقالت : إنها قد بغت فارجمها فقال لها النبي استتري بستر الله فذهبت ثم رجعت إليه وهو واقف على بغلته فقالت : ارجمها فقال لها النبي استتري بستر الله فرجعت ثم جاءت الثالثة وهو واقف على بغلته فأخذت باللجام فقالت : أنشدك الله إلا رجمتها , فقال : انطلقي حتى تلدي فانطلقت فولدت غلاما , فجاءت به النبي فكفله النبي عليه السلام ثم قال انطلقي فتطهري من الدم فانطلقت فتطهرت من الدم , ثم جاءت فبعث النبي إلى نسوة فأمرهن أن يستبرئنها وأن ينظرن أطهرت من الدم فجئن فشهدن عند النبي بطهرها , فأمر لها عليه السلام بحفرة إلى ثندوتها , ثم أقبل هو والمسلمون فقال بيده : فأخذ حصاة كأنها حمصة فرماها بها , ثم قال للمسلمين : ارموها وإياكم ووجهها , فرموها حتى طفيت , فأمر بإخراجها حتى صلى عليها

وروينا من طريق مسلم ، حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير , وأبو بكر بن أبي شيبة , كلاهما يقول : إن عبد الله بن نمير حدثه قال : أنا بشر بن المهاجر أنا عبد الله بن بريدة عن أبيه أن ماعز بن مالك الأسلمي أتى رسول الله فقال : يا رسول الله إني قد ظلمت نفسي وزنيت , وإني أريد أن تطهرني , فرده , فلما كان من الغد أتاه فقال : يا رسول الله إني قد زنيت , فرده الثانية فأرسل رسول الله إلى قومه فقال : أتعلمون بعقله بأسا أتنكرون منه شيئا فقالوا : ما نعلمه إلا وفي العقل من صالحينا فيما نرى , فأتاه الثالثة , فأرسل إليهم أيضا فسأل عنه , فأخبروه أنه لا بأس به , ولا بعقله , فلما كان الرابعة : حفر له حفرة ثم أمر به فرجم , فجاءت الغامدية فقالت : يا رسول الله إني قد زنيت فطهرني , وأنه ردها , فلما كان الغد قالت : يا رسول الله أتردني , لعلك تريد أن تردني كما رددت ماعزا , فوالله إني لحبلى , قال لها : لا , أما الآن فاذهبي حتى تلدي , فلما ولدت أتته بالصبي في خرقة قالت : هذا قد ولدته قال : فاذهبي فأرضعيه حتى تفطميه , فلما فطمته أتت بالصبي في يده كسرة خبز قالت : هذا يا رسول الله قد فطمته , وقد أكل الطعام , فدفع الصبي إلى رجل من المسلمين ثم أمر بها فحفر لها إلى صدرها , وأمر الناس فرجموها فهذا هو البيان الجلي من رسول الله لأي شيء رد ماعزا لأن الغامدية قررته عليه السلام على أنه رد ماعزا , وأنه لا يحتاج إلى ترديدها , لأن الزنى الذي أقرت به صحيح ثابت , وقد ظهرت علامته وهي حبلها فصدقها رسول الله بذلك , وأمسك عن ترديدها ولو كان ترديده عليه السلام ماعزا من أجل أن الإقرار لا يصح بالزنى حتى يتم أربع مرات لانكر عليها هذا الكلام , ولقال لها : لا شك إنما أردك كما رددت ماعزا لأن الإقرار لا يتم إلا بأربع مرات وهو عليه السلام لا يقر على خطأ , ولا على باطل فصح يقينا أنها صادقة , فإنها لا تحتاج من الترديد إلى ما احتاج إليه ماعز , ولذلك لم يردها عليه السلام بعد هذا الكلام وصح يقينا أن ترديده عليه السلام ماعزا إنما كان لوجهين : أحدهما ما نص عليه السلام من تهمته لعقله فسأل عليه السلام قومه المرة بعد المرة هل به جنون وسؤاله عليه السلام هل شرب خمرا

كما روينا من طريق مسلم أنا محمد بن العلاء ، أخبرنا يحيى بن يعلى بن الحارث المحاربي عن غيلان بن جامع عن علقمة بن مرثد عن سليمان بن يزيد عن أبيه قال : جاء ماعز بن مالك إلى رسول الله فقال له طهرني , قال : ويحك ارجع فاستغفر الله وتب , قال : فرجع غير بعيد , ثم جاء فقال : يا رسول الله طهرني فقال له مثل ذلك , حتى إذا كانت الرابعة قال له رسول الله  : فيم أطهرك قال : من الزنى , فقال رسول الله  : أبه جنة فأخبر أنه ليس بمجنون , فقال : أشرب خمرا فقام رجل فاستنكهه فلم يجد منه ريح خمر , فقال رسول الله  : أزنيت قال : نعم , فأمر به فرجم , وذكر باقي الخبر والوجه الآخر أن رسول الله اتهمه أنه لا يدري ما الزنى فردده لذلك وقرره : كما أنا عبد الله بن ربيع أنا محمد بن معاوية أنا أحمد بن شعيب أرنا سويد بن نصر أرنا عبد الله بن المبارك عن معمر عن يحيى بن أبي كثير عن عكرمة ، عن ابن عباس أن الأسلمي أتى رسول الله فاعترف بالزنى , فقال : لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت وبه إلى أحمد بن شعيب أخبرني عبد الله بن الهيثم عن عثمان البصري أرنا وهب بن جرير بن حازم قال : حدثني أبي قال سمعت يعلى بن حكيم يحدث عن عكرمة ، عن ابن عباس أن النبي قال لماعز بن مالك : ويحك لعلك قبلت , أو غمزت , أو نظرت قال : لا , قال : فنكتها قال : نعم , فعند ذلك أمر برجمه فقد صح يقينا أن ترديد النبي عليه السلام لماعز لم يكن مراعاة لتمام الإقرار أربع مرات أصلا , وإنما كان لتهمته إياه في عقله , وفي جهله ما هو الزنى فبطل تعلقهم بحديث ابن بريدة والحمد لله رب العالمين

وأما حديث أبي هريرة من طريق ابن مضاض , فإن ابن مضاض مجهول لا يدرى من هو وقد جاء عن أبي هريرة خبر صحيح ببيان بطلان ظنهم نذكره بعد تمام كلامنا في هذه الأخبار إن شاء الله تعالى , وهو : ما أنا عبد الله بن ربيع أنا محمد بن معاوية أنا أحمد بن شعيب ، أخبرنا إسحاق بن إبراهيم ، هو ابن راهويه أنا عبد الرزاق ، أخبرنا ابن جريج أخبرني أبو الزبير قال : إن عبد الرحمن بن الصامت ابن عم أبي هريرة أخبره أنه سمع أبا هريرة يقول : جاء الأسلمي إلى رسول الله فشهد على نفسه أربع مرات بالزنى يقول : أتيت امرأة حراما , وكل ذلك يعرض عنه رسول الله فأقبل في الخامسة فقال له : أنكحتها قال : نعم , قال : فهل تدري ما الزنى قال : نعم , أتيت منها حراما مثل ما يأتي الرجل من أهله حلالا , قال : فما تريد بهذا القول قال : أريد أن تطهرني فأمر به رسول الله أن يرجم فرجم , فسمع رسول الله رجلين من أصحابه يقول أحدهما لصاحبه : انظروا إلى هذا الذي ستر الله عليه فلم تدعه نفسه حتى رجم رجم الكلب , فسكت عنهما رسول الله ساعة فمر بجيفة حمار شائل برجليه , فقال : أين فلان وفلان فقالا : نحن يا رسول الله , فقال لهما : كلا من جيفة هذا الحمار , فقالا : يا رسول الله غفر الله لك من يأكل هذا فقال رسول الله  : ما نلتما من عرض هذا آنفا أشد من هذه الجيفة , فوالذي نفسي بيده إنه الآن في أنهار الجنة

قال أبو محمد رحمه الله : فهذا خبر صحيح , وفيه أن رسول الله لم يكتف بتقريره أربع مرات , ولا بإقراره أربع مرات , حتى أقر في الخامسة , ثم لم يكتف بذلك حتى سأله السادسة : هل تعرف ما الزنى فلما عرف عليه السلام أنه يعرف الزنى لم يكتف بذلك حتى سأله السابعة , ما يريد بهذا إلا ليختبر عقله , فلما عرف أنه عاقل صحيح العرض أقام عليه الحد وفي هذا الخبر بيان بطلان الرأي من الصاحب وغيره , لأنه عليه السلام أنكر عليهما ما قالاه برأيهما مجتهدين قاصدين إلى الحق فهذا يبطل احتجاج من احتج بما روي عن بريدة وبالله تعالى التوفيق

ومن طريق مسلم أنا أبو غسان المسمعي أنا معاذ يعني ابن هشام الدستوائي ني أبي عن يحيى بن أبي كثير ني أبو قلابة أن أبا المهلب حدثه عن عمران بن الحصين أن امرأة من جهينة أتت نبي الله وهي حبلى من الزنى فقالت : يا نبي الله أصبت حدا فأقمه علي فدعا نبي الله وليها فقال : أحسن إليها , فإذا وضعت فأتني بها , فأمر بها رسول الله فشكت عليها ثيابها , وأمر بها فرجمت , ثم صلى عليها , فقال له عمر : أتصلي عليها يا نبي الله وقد زنت قال : لقد تابت توبة لو قسمت بين أهل المدينة لوسعتهم , وهل وجدت أفضل من أن جادت بنفسها لله تعالى "

ومن طريق مسلم أنا قتيبة أنا الليث ، عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن أبي هريرة , وزيد بن خالد الجهني أنهما قالا إن رجلين من الأعراب أتيا رسول الله فقال أحدهما : يا رسول الله أنشدك الله إلا قضيت لي بكتاب الله فقال له الآخر وهو أفقه منه : نعم , فاقض بيننا بكتاب الله , وإيذن لي فقال رسول الله  : قل , فقال : إن ابني كان عسيفا على هذا فزنى بامرأته وذكر الحديث وفيه أن رسول الله قال له والذي نفسي بيده لاقضين بينكما بكتاب الله : أما الوليدة والغنم رد عليك , وعلى ابنك جلد مائة , وتغريب عام , واغد يا أنيس على امرأة هذا , فإن اعترفت فارجمها فغدا عليها فاعترفت , فأمر بها رسول الله فرجمت فوجدنا بريدة , وعمران بن الحصين , وأبا هريرة , وزيد بن خالد , كلهم قد روى عن رسول الله إقامة الحد في الزنى على : الغامدية , والجهينية , بغير ترديد , وعلى امرأة هذا المذكور بالأعتراف المطلق , وهو يقتضي ، ولا بد رجمها بما يقع عليه اسم اعتراف , وهو مرة واحدة فقط وصح أن كتاب الله يوجب ما قضى به رسول الله من إقامة الحد في الزنى بالأعتراف المطلق دون تحديد عدد , لقول رسول الله  : لاقضين بينكما بكتاب الله تعالى وأقسم على ذلك , ثم قضى بالرجم في الأعتراف دون عدد فصح أنه إذا صح الأعتراف مرة أو ألف مرة فهو كله سواء , وأن إقامة الحد واجب ، ولا بد وبالله تعالى التوفيق


2196 - مسألة : هل في الحدود نفي أم لا

قال أبو محمد رحمه الله : النفي يقع من الحدود في المحاربة بالقرآن , وفي الزنى بالسنة , وحكم به قوم في الردة , وفي الخمر , والسرقة "

قال أبو محمد رحمه الله : فنتكلم إن شاء الله تعالى في كل ذلك فصلا فصلا , فنقول وبالله تعالى التوفيق :

وقالت طائفة : نفيه سجنه

وقالت طائفة : ينفى أبدا من بلد إلى بلد قالت طائفة : نفيه هو أن يطلب حتى يعجزهم فلا يقدروا عليه كما أنا حمام ، أخبرنا ابن مفرج ، أخبرنا ابن الأعرابي أنا الدبري أنا عبد الرزاق أنا إبراهيم بن أبي يحيى عن داود بن الحصين عن عكرمة ، عن ابن عباس ، أنه قال : في المحارب إن هرب وأعجزهم فذلك نفيه وبه إلى عبد الرزاق ، عن ابن جريج عن عبد الكريم أو غيره , قال : سمعت سعيد بن جبير , وأبا الشعثاء جابر بن زيد يقولان : إنما النفي أن لا يدركوا , فإذا أدركوا , ففيهم حكم الله تعالى , وإلا نفوا حتى يلحقوا ببلدهم وعن الزهري ، أنه قال فيمن حارب : أن عليه أن يقتل , أو يصلب , أو يقطع , أو ينفى , فلا يقدر عليه وعن الضحاك في قوله تعالى {أو ينفوا من الأرض} قال : هو أن يطلبوا حتى يعجزوا

قال أبو محمد رحمه الله : وبهذا يقول الشافعي وقال آخرون : النفي حد من حدود المحارب , كما كتب إلي المرجي بن زروان قال : أنا أبو الحسن الرحبي أنا أبو مسلم الكاتب أنا عبد الله بن أحمد بن المغلس أنا عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبيه أنا أبو معاوية أنا حجاج عن عطية العوفي ، عن ابن عباس قال : إذا خرج الرجل محاربا فأخاف الطريق , وأخذ المال : قطعت يده ورجله من خلاف وإذا أخذ المال وقتل : قطعت يده ورجله من خلاف ثم صلب وإذا قتل ولم يأخذ المال : قتل وإذا أخاف الطريق ولم يأخذ مالا ولم يقتل : نفي

قال أبو محمد رحمه الله : فنظرنا فيما يحتج به من قال : إن النفي هو السجن فوجدناهم يقولون : إن الله تعالى قال : {أو ينفوا من الأرض} قالوا : والنفي في لغة العرب التي نزل بها القرآن : هو الإبعاد

فصح أن الواجب إبعاده من الأرض , قالوا : ولا يقدر على إخراجه من الأرض جملة , فوجب أن نفعل من ذلك أقصى ما نقدر عليه , لقول رسول الله  : إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ولقول الله تعالى {فاتقوا الله ما استطعتم} فكان أقصى ما نستطيع من ذلك إبعاده عن كل ما قدرنا على إبعاده منه من الأرض , وغاية ذلك السجن , لأنه ممنوع من جميع الأرض حاشا ما كان سجنه الذي لم نقدر على منعه منه أصلا , فلزمنا ما استطعنا من ذلك , وسقط عنا ما لم نستطع منه وإنما

قلنا : حتى يحدث توبة , لأنه ما دام مصرا على المحاربة فهو محارب , فإذ هو محارب فواجب أن يجزى جزاء المحارب , فالنفي عليه باق ما لم يترك المحاربة بالتوبة , فإذا تركها سقط عنه جزاؤها أن يتمادى فيه , إذ قد جوزي على محاربته

قال أبو محمد رحمه الله : ثم نظرنا في حجة من قال : ينفى أبدا من بلد إلى بلد أن قال : إننا إذا سجناه في بلد , أو أقررناه فيه غير مسجون فلم ننفه من الأرض كما أمر الله تعالى , بل عملنا به ضد النفي , والإبعاد , وهو الإقرار والإثبات في الأرض في مكان واحد منها وهذا خلاف القرآن , فوجب علينا بنص القرآن أن نستعمل إبعاده ونفيه عن جميع الأرض أبدا , حسب طاقتنا , أو غاية ذلك ألا نقره في شيء منها ما دمنا قادرين على نفيه من ذلك الموضع ثم هكذا أبدا , ولو قدرنا على أن لا ندعه يقر ساعة في شيء من الأرض لفعلنا ذلك , ولكان واجبا علينا فعله ما دام مصرا على المحاربة

قال أبو محمد رحمه الله : فكان هذا القول أصح وأولى بظاهر القرآن لما ذكر المحتج له من أن السجن إثبات , وإقرار لا نفي وما عرف قط أهل اللغة التي نزل بها القرآن وخاطبنا بها الله تعالى : أن السجن يسمى : نفيا , ولا أن النفي يسمى : سجنا , بل هما اسمان مختلفان , متغايران قال الله تعالى {فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا} الآية

وقال تعالى {ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين ودخل معه السجن فتيان} فما قال أحد لا قديم ، ولا حديث أن حكم الزواني كان النفي , إذ أمر الله تعالى بحبسهن في البيوت , ولا قال قط أحد : إن يوسف عليه السلام نفي إذ حبس في السجن فقد بطل قول من قال , بالسجن جملة وعلى كل حال فالواجب أن ننظر في القولين اللذين هما إما نفيه إلى مكان غير مكانه وإقراره هنالك أو نفيه أبدا , فوجدنا من حجة من قال : ينفى من بلد إلى بلد ويقر هنالك أن قالوا : أنتم تقولون بتكرار فعل الأمر بل يجزي عندكم إيقاعه مرة واحدة , وإذا كررتم النفي أبدا فقد نقضتم أصلكم

قال علي : وهذا الذي أنكروه داخل عليهم بمنعهم المنفي من الرجوع إلى منزله , فهم يقرون عليه استدامة تلك العقوبة , فقد وقعوا فيما أنكروا بعينه نعم , والتكرار أيضا لازم لمن قال بنفيه أو سجنه سواء سواء

قال أبو محمد رحمه الله : فنقول : إن المحارب الذي افترض الله تعالى علينا نفيه حربا على محاربته فإنه ما دام مصرا فهو محارب وما دام محاربا فالنفي حد من حدوده قال الله تعالى {ولم يصروا على ما فعلوا} فمن فعل المحاربة فبلا شك ندري أنه في حال نومه , وأكله , واستراحته , ومرضه : أنه محارب , كما كان لم يسقط عنه الأسم الذي وسمه الله تعالى به , وحق عليه الحد به هذا ما لا خلاف فيه , فهو بعد القدرة عليه في حال إصراره على المحاربة بلا شك , لا يسقط عنه الإثم إلا بتوبة أو نص أو إجماع فالحد باق عليه حتى يسقط بالتوبة أو يسقط عنه الحكم بالنص أو الإجماع فليس ذلك إلا بقطع يده ورجله من خلاف , بلا خلاف من أحد في أنه لا يجدد عليه قطع آخر , ويمنع النص من أن يحدث له حدا آخر على ما سلف منه

قال أبو محمد رحمه الله : ثم وجدنا من قال : بنفيه وتركه في المكان الذي ينفيه إليه قد خالف القرآن في أنه أقره في ذلك المكان , والإقرار خلاف النفي , فقد أقروه في الأرض فلم يبق إلا القول الذي صححناه

وهو قول الحسن البصري , وبه نقول فالواجب أن ينفى أبدا من كل مكان من الأرض , وأن لا يترك يقر إلا مدة أكله , ونومه , وما لا بد له منه من الراحة التي إن لم ينلها مات , ومدة مرضه , لقول الله تعالى {وتعاونوا على البر والتقوى} فواجب أن لا يقتل , وأن لا يضيع , لكن ينفى أبدا حتى يحدث توبة , فإذا أحدثها سقط عنه النفي , وترك يرجع إلى مكانه فهذا حكم القرآن , ومتى أحدث التوبة من قرب أو بعد سقط عنه النفي وبالله تعالى التوفيق.

محلى ابن حزم - المجلد السادس/كتاب الحدود
كتاب الحدود (مسألة 2167 - 2169) | كتاب الحدود (مسألة 2170 - 2171) | كتاب الحدود (مسألة 2172 - 2173) | كتاب الحدود (مسألة 2174 - 2175) | كتاب الحدود (مسألة 2176 - 2178) | كتاب الحدود (مسألة 2179 - 2180) | كتاب الحدود (مسألة 2181 - 2182) | كتاب الحدود (مسألة 2183 - 2186) | كتاب الحدود (مسألة 2187 - 2188) | كتاب الحدود (مسألة 2189 - 2192) | كتاب الحدود (مسألة 2193 - 2194) | كتاب الحدود (مسألة 2195 - 2196) | كتاب الحدود (مسألة 2197 - 2198) | كتاب الحدود (مسألة 2199) | كتاب الحدود (مسألة 2200 - 2202) | كتاب الحدود (مسألة 2203) | كتاب الحدود (تتمة 1 مسألة 2203) | كتاب الحدود (تتمة 2 مسألة 2203) | كتاب الحدود (تتمة 3 مسألة 2203) | كتاب الحدود (مسألة 2204 - 2207) | كتاب الحدود (مسألة 2208 - 2209) | كتاب الحدود (مسألة 2210 - 2212) | كتاب الحدود (مسألة 2213 - 2216) | كتاب الحدود (مسألة 2217 - 2220) | كتاب الحدود (مسألة 2221 - 2223) | كتاب الحدود (مسألة 2224 - 2228) | كتاب الحدود (مسألة 2229 - 2231) | كتاب الحدود (مسألة 2232 - 2235) | كتاب الحدود (مسألة 2236 - 2238) | كتاب الحدود (مسألة 2239 - 2243) | كتاب الحدود (مسألة 2244 - 2246) | كتاب الحدود (مسألة 2247 - 2255)