محلى ابن حزم - المجلد السادس/الصفحة الحادية والثمانون


كتاب السرقة

2280 - مسألة : اختلاف الشهادة في ذلك

قال أبو محمد رحمه الله : قال الشافعي , وأبو يوسف , ، ومحمد بن الحسن , وأبو ثور : إن اختلف الشاهدان , فقال أحدهما : سرق بقرة , وقال الآخر : بل ثورا أو قال أحدهما : سرق بقرة حمراء , وقال الآخر : بل سوداء أو قال أحدهما : سرق يوم الخميس , وقال الآخر : بل يوم الجمعة , فلا قطع عليه فإن قال أحدهما : سرق بقرة حمراء , وقال الآخر : بل سوداء فعليه القطع.

وقال مالك : إن قال : أحد الشاهدين : سرق يوم الخميس , وقال الآخر : بل يوم الجمعة , وقال اثنان : زنى يوم الخميس , وقال اثنان : بل يوم الجمعة , فقد بطل عنه حد السرقة , وحد الزنى. قال : فلو قال أحدهما : قذف زيدا يوم الجمعة , وقال الآخر : قذفه يوم الخميس أو قال أحدهما : شرب الخمر يوم الخميس , وقال الآخر : بل يوم الجمعة , فعليه حد القذف , وحد الخمر. وهذا كله تخليط , وإنما أوردناه لنري بعون الله تعالى من نصح نفسه , وأراد الله تعالى به خيرا , بطلان أقوالهم في التشبيه , الذي هو عندهم أصل لقياسهم الباطل , وأنه من ميزه لم يعجز أن يعارض عللهم بمثلها , أو بأقوى منها فنقول لجميعهم : أخبرونا عمن شهد عليه شاهدان بأنه سرق بقرة حمراء , وقال الآخر : بيضاء وعمن شهد عليه شاهدان بأنه قذف زيدا , وقال أحدهما : أمس , وقال الآخر : بل اليوم أو قال أحدهما : شرب خمرا أمس , وقال الآخر : بل اليوم أهذه الشهادة على سرقة واحدة أو على سرقتين مختلفتين وعلى قذف واحد , أم على قذفين متغايرين وعلى شرب واحد , أم على شربين مفترقين

فإن قالوا : بل على سرقة واحدة , وشرب واحد , وقذف واحد , كابروا العيان ; لأنه لا يشك ذو حس سليم في أن شرب يوم الخميس ليس هو شرب يوم الجمعة , وإنما هو شرب آخر ، وأن سرقة بقرة صفراء ليست هي سرقة بقرة سوداء , وإنما هي سرقة أخرى

وإن قالوا : بل هي سرقتان مختلفتان , وشربان مختلفان , وقذفان مختلفان متغايران قيل لهم : فأي فرق بين هذا وبين الشهادات بزنا مختلف , أو بسرقة ثور , أو بقرة , أو باختلاف الشهادة في المكان وهذا ما لا سبيل لهم منه إلى التخلص أصلا , لا بنص قرآن , ولا سنة صحيحة ، ولا إجماع , ولا قول صاحب , ولا قياس , ولا رأي سديد فسقط بيقين قول من فرق بين الأحكام التي ذكرنا , ولم يبق إلا قول من ساوى بينهما , فراعى الأختلاف في كل ذلك , أو لم يراع الأختلاف في شيء من ذلك

قال أبو محمد رحمه الله : فوجدنا من راعى الأختلاف في كل ذلك يقول : إذا اختلف الشاهدان في صفة المسروق , أو في زمانه , أو في مكانه فإنما حصل من قولهم فعلان متغايران , فإذ ذلك كذلك , فإنما حصل على فعل شاهد واحد , ولا يجوز القطع بشاهد واحد

وكذلك القذف , فلا يجوز إقامة حد قذف , ولا حد خمر , بشاهد واحد فهذه حجتهم , ما لهم حجة غيرها.

فنظرنا فيها فوجدناها لا تصح ; لأن الذي ينبغي أن يضبط في الشهادة , ويطلب به الشاهد , إنما هو ما لا تتم الشهادة إلا به , والذي إن نقص لم تكن شهادة , فهذا هو الذي إن اختلف الشاهد فيه بطلت الشهادة ; لأنها لم تتم.

وأما ما لا معنى لذكره في الشهادة , ولا يحتاج إليه فيها , وتتم الشهادة مع السكوت عنه , فلا ينبغي أن يلتفت إليه وسواء اختلف الشهود فيه , أو لم يختلفوا , وسواء ذكروه , أو لم يذكروه واختلافهم فيه كاختلافهم في قصة أخرى ليست من الشهادة في شيء , ولا فرق , فلما وجب هذا كان ذكر اللون في الشهادة لا معنى له , وكان أيضا ذكر الوقت في الشهادة في الزنا وفي السرقة , وفي القذف , وفي الخمر لا معنى له وكان أيضا ذكر المكان في كل ذلك لا معنى له , فكان اختلافهم في كل ذلك كاتفاقهم , كسكوتهم , ولا فرق ; لأن الشهادة في كل ذلك تامة دون ذكر شيء من ذلك , وإنما حكم الشهادة وحسب الشهود أن يقولوا : إنه زنى بامرأة أجنبية نعرفها , أولج ذكره في قبلها , رأينا ذلك فقط , وما نبالي قالوا : إنها سوداء , أو بيضاء , أو زرقاء أو كحلاء مكرهة , أو طائعة , أمس , أو اليوم , أو منذ سنة بمصر , أو ببغداد.

وكذلك لو اختلفوا في لون ثوبه حينئذ , أو لون عمامته.

وكذلك حسبهم أن يقولوا : سرق رأسا من البقر مختفيا بأخذه , ولا عليهما أن يقولا : أقرن , أو أعضب , أو أبتر , أو وافي الذنب أبيض أو أسود وهكذا في القذف , وشرب الخمر , ولا فرق.

فصح أن الشهادة في كل ذلك تامة مع اختلاف الشهود , وما لا يحتاج إلى ذكره في الشهادة , إذا اقتضت شهادتهم وجود الزنا منه , أو وجود السرقة , أو وجود القذف منه , أو وجود شرب الخمر منه فقط ; لأنهم قد اتفقوا في ذلك. وهذا هو الموجب للحد , فإنما أوجب الله تعالى الحد في كل ذلك بوقوع الزنا , ووجوب السرقة , أو القذف , وأثبت الأربعة الزنا فقد وجب الحد في ذلك بنص القرآن , والسنة ولم يقل الله تعالى قط , ولا رسوله لا تقبلوا الشهادة حتى يشهدوا على زنا واحد , في وقت واحد , في مكان واحد , وعلى سرقة واحدة لشيء واحد في وقت واحد , في مكان واحد وما كان ربك نسيا. وتالله , لو أراد الله تعالى ذلك لما أهمله , ولا أغفله حتى يبينه فلان وفلان , وحاش لله من هذا.

فصح أن ما اشترطوه من ذلك خطأ لا معنى له وبالله تعالى التوفيق : فليعلموا أن قولهم : لا نعلمه عن أحد من الصحابة ، رضي الله عنهم ، ولا نذكره عن تابع , إلا شيئا ورد عن قتادة .

وحدثنا حمام ، حدثنا ابن مفرج ، حدثنا ابن الأعرابي ، حدثنا الدبري ، حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن قتادة , في رجل شهد عليه رجل أنه سرق بأرض , وشهد عليه آخر بأنه سرق بأرض أخرى قال : لا قطع عليه. وقد صح عن بعض التابعين ممن نعلمه أعلى من قتادة خلاف هذا

كما حدثنا عبد الله بن ربيع ، حدثنا عبد الله بن محمد بن عثمان ، حدثنا أحمد بن خالد ، حدثنا علي بن عبد العزيز ، حدثنا الحجاج بن المنهال ، حدثنا حماد بن سلمة أنا هشام بن عروة بن الزبير عن أبيه , قال : تجوز شهادة الرجل وحده في السرقة

وقد ذكرنا مثل هذا عن عبيد الله بن أبي بكرة وإن كنا لا نقول به ولكن لنريهم أن تمويههم بأنها شهادة واحدة على فعل واحد : كلام فاسد وبالله تعالى التوفيق.


2281 - مسألة : القطع في الضرورة

قال أبو محمد رحمه الله : حدثنا حمام ، حدثنا ابن مفرج ، حدثنا ابن الأعرابي حدثنا الدبري ، حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن يحيى بن أبي كثير قال : قال عمر بن الخطاب : لا تقطع في عذق , ولا في عام السنة. وبه إلى معمر عن أبان : أن رجلا جاء إلى عمر بن الخطاب في ناقة نحرت , فقال له عمر : هل لك في ناقتين عشراوين , مرتعتين , سمينتين , بناقتك فإنا لا نقطع في عام السنة والمرتعتان : الموطأتان

قال أبو محمد : من سرق من جهد أصابه , فإن أخذ مقدار ما يغيث به نفسه فلا شيء عليه , وإنما أخذ حقه , فإن لم يجد إلا شيئا واحدا ففيه فضل كثير , كثوب واحد أو لؤلؤة , أو بعير , أو نحو ذلك , فأخذه كذلك فلا شيء عليه أيضا ; لأنه يرد فضله لمن فضل عنه ; لأنه لم يقدر على فضل قوته منه , فلو قدر على مقدار قوته يبلغه إلى مكان المعاش فأخذ أكثر من ذلك وهو ممكن لا يأخذه , فعليه القطع ; لأنه سرق ذلك عن غير ضرورة , وإن فرضا على الإنسان أخذ ما اضطر إليه في معاشه , فإن لم يفعل فهو قاتل نفسه , وهو عاص لله قال الله تعالى ، {ولا تقتلوا أنفسكم} وهو عموم لكل ما اقتضاه لفظه وبالله تعالى التوفيق.


2282 - مسألة : من سرق من ذي رحم محرمة

قال أبو محمد رحمه الله : اختلف الناس فيمن سرق من مال كل ذي رحم محرمة فقال مالك , وأبو حنيفة , والشافعي , وأحمد بن حنبل , وأصحابهم , وسفيان الثوري , وإسحاق : إن سرق الأبوان من مال ابنهما , أو بنتهما فلا قطع عليهما. قال الشافعي :

وكذلك الأجداد والجدات كيف كانوا لا قطع عليهم فيما سرقوه من مال من تليه ولادتهم. وقال هؤلاء كلهم حاشا مالكا , وأبا ثور : لا قطع على الولد , ولا على البنت فيما سرقاه من مال الوالدين , أو الأجداد , أو الجدات , قال مالك , وأبو ثور : عليهما القطع في ذلك. وقال الثوري , وأبو حنيفة , وأصحابه : لا قطع على كل من سرق مالا لأحد من رحمه المحرمة. وقال أصحابنا : القطع واجب على من سرق من ولده , أو من والديه , أو من جدته , أو من جده , أو من ذي رحم محرمة , أو غير محرمة. واتفقوا كلهم أنه يقطع فيما سرق من ذي رحمه غير المحرمة , وفيما سرق من أمه من الرضاعة , وابنته وابنه من الرضاعة , وإخوته من الرضاعة

قال أبو محمد : فلما اختلفوا كما ذكرنا , وجب أن ننظر في ذلك لنعلم الحق فنتبعه بعون الله تعالى

فنظرنا في قول من أسقط القطع عن الأبوين في مال الولد إذا سرقه فوجدناهم يحتجون بالثابت عن رسول الله من قوله أنت ومالك لأبيك قالوا : فإنما أخذ ماله. وقالوا : لو قتل ابنه لم يقتل به , ولو زنى بأمة ابنه لم يحد لذلك , فكذلك إذا سرق من ماله قال : وفرض عليه أن يعفف أباه إذا احتاج إلى الناس فله في ماله حق بذلك. وقالوا : له في ماله حق إذا احتاج إليه كلف الإنفاق عليه. وقالوا : قال الله تعالى {وبالوالدين إحسانا} .

وقال تعالى {أن اشكر لي ولوالديك} .

وقال تعالى {فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما} إلى قوله : {كما ربياني صغيرا} فليس قطع أيديهما فيما أخذ من ماله رحمة فهذا كل ما شغبوا به في كل ذلك وكل ذلك لا حجة لهم في كل شيء منه , بل هو عليهم , كما نبين إن شاء الله تعالى. أما ما ذكروا من القرآن فحق , إلا أنه لا يدل على ما ادعوا من إسقاط القطع فيما سرقوا من مال الولد , ولا على إسقاط الجلد , والرجم , أو التغريب إذا زنى بجارية الولد ، ولا على إسقاط الحد إذا قذف الولد ، ولا على إسقاط المحاربة إذا قطع الطريق على الولد. أما قوله تعالى {وبالوالدين إحسانا} فإن الله تعالى أوجب الإحسان إليهما , كما أوجبه علينا أيضا لغيرنا

قال الله تعالى {وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والجار ذي القربى} . فإن كانت مقدمة الآية حجة بوجوب الإحسان إلى الأبوين في إسقاط القطع عنهما إذا سرقا من مال الولد فهي حجة أيضا ، ولا بد في إسقاط القطع عن كل ذي قربى , وعن ابن السبيل , وعن الجار الجنب , والصاحب بالجنب إذا سرقوا من أموالنا وهذا ما لا يقولونه فظهر تناقضهم , وبطل احتجاجهم بالآية.

وأيضا فالأمر بالإحسان ليس فيه منع من إقامة الحدود , بل إقامتها عليهم من الإحسان إليهم , بنص القرآن , لقول الله تعالى : {إن الله يأمر بالعدل والإحسان} وقد أمرنا بإقامة الحدود , فإقامتها على من أقيمت عليه إحسان إليه , وإنها تكفير وتطهير لمن أقيمت عليه. وهم لا يختلفون في أن إماما لو كان له أب أو أم فسرقا , فإن فرضا عليه إقامة القطع عليهما. فبطل تمويههم بالآية جملة وصح أنها حجة عليهم.

وأما قوله تعالى {أن اشكر لي ولوالديك} فحق ومن الشكر إقامة أمر الله تعالى عليهما , وليس يقتضي شكرهما إسقاط ما أمر الله تعالى به فيهما والذي أمر بشكرهما تبارك اسمه هو الذي يقول كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين. فصح أمر الله تعالى بالقيام عليهم بالقسط , وبأداء الشهادة عليهم. ومن القيام بالقسط إقامة الحدود عليهم وبالله تعالى التوفيق. وهكذا القول في قوله تعالى {ولا تقل لهما أف ولا تنهرهما} الآية فليس في شيء من هذا إسقاط الحد عنهم في سرقة من مال الولد , ولا في غير ذلك والله تعالى يقول {أشداء على الكفار رحماء بينهم} ولم يكن وجوب الرحمة لبعضنا مسقطا لأقامة الحدود بعضنا على بعض. فبطل تعلقهم بالآيات المذكورات جملة.

وأما قول رسول الله  : أنت ومالك لأبيك فقد أوضحنا ذلك : أن ذلك خبر منسوخ , قد صح نسخه بآيات المواريث وغيرها. وأول من يحتج بهذا الخبر : فالحنفيون , والمالكيون , والشافعيون ; لأنهم لا يختلفون في أن الأب إذا أخذ من مال ابنه درهما وهو غير محتاج إليه فإنه يقضى عليه برده , أحب أم كره كما يقضى بذلك على الأجنبي ، ولا فرق , ولو كان مال الولد للوالد لما قضي عليه برد ما أخذ منه. فإذ قد صح أن هذا الخبر منسوخ , وصح أن مال الولد للولد لا للوالد , فقد صح أنه كمال الأجنبي ، ولا فرق

فإن قالوا : إن للوالدين حقا في مال الولد ; لأنهما إذا احتاجا أجبر على أن ينفق عليهما , وعلى أن يعف أباه , فإذ له في ماله حق , فلا يقطع فيما سرق منه : فهذا تمويه ظاهر ولم يخالفهم أحد في أن الوالدين إذا احتاجا فأخذا من مال ولدهما حاجتهما باختفاء أو بقهر أو كيف أخذاه فلا شيء عليهما , فإنما أخذا حقهما وإنما الكلام فيهما إذا أخذا ما لا حاجة بهما إليه إما سرا

وأما جهرا فاحتجاجهما بما ليس من مسألتهما تمويه. وهم لا يختلفون فيمن كان له حق عند أحد , فأخذ من ماله مقدار حقه , فإنه لا يقطع , ولا يقضى عليه برده فلو كان وجوب الحق للأبوين في مال الولد إذا احتاجا إليه مسقطا للقطع عنهما إذا سرقا من ماله ما لا يحتاجان إليه ، ولا حق لهما فيه , لوجب ضرورة أن يسقط القطع عن الغريم الذي له الحق في مال غريمه إذا سرق منه ما لا حق له فيه وهذا لا يقولونه. فبطل ما موهوا به من ذلك والحمد لله رب العالمين.

وأما قولهم : لو قتل ابنه لم يقتل به , ولو قطع له عضوا أو كسره لم يقتص منه , ولو قذف لم يحد له , ولو زنى بأمته لم يحد , فكذلك إذا سرق من ماله لم يحد فكلام باطل , واحتجاج للخطأ بالخطأ. بل لو قتل ابنه لقتل به , ولو قطع له عضوا أو كسره لاقتص منه , ولو قذفه لحد له , ولو زنى بأمته لحد كما يحد الزاني وقد بينا كل هذا في أبوابه في " كتاب الدماء , والقصاص وحد الزنا وحد القذف ".

قال أبو محمد رحمه الله : فإذ لم يبق لهم حجة أصلا , فالواجب أن نرجع عند التنازع إلى ما افترض الله تعالى على المسلمين الرجوع إليه {إذ يقول فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} الآية ففعلنا : فوجدنا الله تعالى يقول : {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} . ووجدنا رسول الله قد أوجب القطع على من سرق , وقال : إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام. فلم يخص الله تعالى في ذلك ، ولا رسوله ابنا من أجنبي , ولا خص في الأموال مال أجنبي من مال ابن وما كان ربك نسيا وبيقين ندري أن الله تعالى لو أراد تخصيص الأب من القطع لما أغفله ، ولا أهمله , قال تعالى {تبيانا لكل شيء}

فصح أن القطع واجب على الأب , والأم , إذا سرقا من مال ابنهما ما لا حاجة بهما إليه. ثم نظرنا في قول من احتج به من رأى إسقاط القطع عن الأبن إذا سرق من مال أبويه , وعن كل ذي رحم محرمة فوجدناهم يحتجون بقول الله تعالى {ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم} الآية إلى قوله تعالى : {أو صديقكم} . قال : فإباحة الله تعالى الأكل من بيوت هؤلاء يقتضي إباحة دخول منازلهم بغير إذنهم , فإذا جاز لهم دخول منازلهم بغير إذنهم لم يكن مالهم محرزا عنهم , ولا يجب القطع في السرقة من غير حرز. وقالوا أيضا : فإن إباحة الأكل من أموالهم تمنعهم وجوب القطع لما لهم فيه من الحق , كالشريك. قالوا :

وأيضا فإن على ذي الرحم المحرمة أن ينفق على ذي رحمه عند الحاجة , فصار له بذلك حق في ماله بغير بدل , فأشبه السارق من بيت المال. قالوا : ولما كان محتاجا إلى ما ينفقه عليه لأحياء نفسه كان ذلك لازما في جميع أعضائه , فلذلك يسقط القطع عن اليد

قال أبو محمد رحمه الله : فهذا كل ما موهوا به , ولا حجة لهم في شيء منه أصلا , على ما نبين إن شاء الله تعالى ,

فأما الآية فحق , ولا دليل فيها على ما ذكروا , بل هي حجة عليهم , وقد كذبوا فيها أيضا : أما كونها لا دليل فيها على ما ادعوه , فإنه ليس فيها إسقاط القطع على من سرق من هؤلاء لا بنص ، ولا بدليل وإنما فيها إباحة الأكل لا إباحة الأخذ بلا خلاف من أحد من الأمة فإذا قالوا : قسنا الأخذ على الأكل

قلنا لهم : القياس كله باطل , ثم لو كان حقا لكان هذا منه عين الباطل ; لأن القياس عند القائلين به قياس الشيء على نظيره في العلة أو في شبه بوجه ما , ولا يجوز عند أحد من الأمة لا مجيز قياس ، ولا مانع قياس الضد على ضده , ولا مضادة أكثر ومن التحريم والتحليل , وأنتم مجمعون معنا ومع الناس على أن الأخذ لعروض الأخ , والأخت , والعم , والعمة , والخال , والخالة , والأب , والأم , والصديق , من بيوتهم , ونقل ما فيها حرام , وأن الأكل حلال , فكيف استحللتم قياس حكم الحرام الممنوع على حكم الحلال المباح

وأما قولهم في الآية , وكذبهم فيها , قول هذا الجاهل المقدم " إن إباحة الله تعالى الأكل من بيوت هؤلاء يقتضي إباحة دخول منازلهم بغير إذنهم ". فليت شعري أين وجدوا هذا في هذه الآية أو في غيرها فيدخل الصديق منزل صديقه بغير إذنه هذا عجب من العجب , أما سمعوا قول الله تعالى {يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم} إلى قوله تعالى {فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم} . فنص الله تعالى على أنه لا يدخل بالغ أصلا على أحد إلا بإذن ودخل في ذلك : الأب , والأبن , وغيرهما , حاش ما ملكت أيماننا , والأطفال , فإنهم لا يستأذنون إلا في هذه الأوقات الثلاث فقط وبالله تعالى التوفيق.


2283 - مسألة : سرقة أحد الزوجين من الآخر

قال أبو محمد رحمه الله : اختلف الناس في هذا : فقالت طائفة : لا قطع في ذلك كما ، حدثنا حمام ، حدثنا ابن مفرج ، حدثنا ابن الأعرابي ، حدثنا الدبري ، حدثنا عبد الرزاق ، عن ابن جريج قال : بلغني عن الشعبي قال : ليس على زوج المرأة في سرقة متاعها قطع.

وقال أبو حنيفة , وأصحابه : لا قطع على الرجل فيما سرق من مال امرأته ، ولا على المرأة فيما سرقت من مال زوجها.

وقال مالك , وأحمد بن حنبل , وإسحاق , وأبو ثور : على كل واحد منهما القطع فيما سرق من مال الآخر من حرز.

وقال الشافعي ثلاثة أقوال : أحدها كقول أبي حنيفة. والآخر كقول مالك , والثالث أن الزوج إذا سرق من مالها قطعت يده , وإن سرقت هي من ماله فلا قطع عليها

قال أبو محمد : فلما اختلفوا كما ذكرنا نظرنا في ذلك : فوجدنا من لا يرى القطع يحتج : بما رويناه من طريق مسلم ، حدثنا محمد بن رمح ، حدثنا الليث بن سعد عن نافع ، عن ابن عمر عن النبي ، أنه قال : كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته فالأمير الذي على الناس راع وهو مسئول عن رعيته والرجل راع على أهل بيته وهو مسئول عنهم والمرأة راعية على بيت بعلها وولدها وهي مسئولة عنهم والعبد راع على مال سيده وهو مسئول عنه ألا كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته.

وهكذا رواه عبد الله بن عمر بن حفص وحماد بن زيد , وأيوب السختياني , والضحاك بن عثمان , وأسامة بن زيد , كلهم عن نافع ، عن ابن عمر عن النبي . ورواه سالم عن أبيه عن النبي وزاد فيه :

كما روينا بالسند المذكور إلى مسلم ثني حرملة ثني ابن وهب أخبرني يونس بن يزيد عن الزهري عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه أنه سمع رسول الله فذكر هذا الحديث. وزاد فيه والرجل راع في مال أبيه ومسئول عن رعيته. قالوا : فكل واحد من الزوجين أمين في مال الآخر , فلا قطع عليه كالمودع. وزاد بعض من لا يعبأ به في هذا الحديث زيادة لا نعرفها , ولفظا مبدولا , وهو المرأة راعية في مال زوجها والرجل راع في مال امرأته

قال أبو محمد رحمه الله : وكل هذا لا حجة لهم فيه أصلا. أما الخبر المذكور فحق واجب لا يحل تعديه , وهو أعظم حجة عليهم ; لأنه عليه السلام أخبر : أن كل من ذكرنا راع فيما ذكر , وأنهم مسئولون عما استرعوا من ذلك فإذ هم مسئولون عن ذلك فبيقين يدري كل مسلم أنه لم تبح لهم السرقة , والخيانة , فيما استودعوه وأسلم إليهم , وأنهم في ذلك إن لم يكونوا كالأجنبيين والأباعد ومن لم يسترع فهم بلا شك أشد إثما , وأعظم جرما , وأسوأ حالة من الأجنبيين , وأن ذلك كذلك , فأقل أمورهم أن يكون عليهم ما على الأجنبيين ، ولا بد فهذا حكم هذا الخبر على الحقيقة.

وأيضا فإنهم لا يختلفون أن على من ذكرنا في الخيانة ما على الأجنبيين من إلزام رد ما خانوا وضمانه , وهم أهل قياس بزعمهم , فهلا قاسوا ما اختلف فيه من السرقة والقطع فيها على ما اتفق عليه من حكم الخيانة , ولكنهم قد

قلنا إنهم لا النصوص اتبعوا ، ولا القياس أحسنوا

وأيضا فليس في هذا الخبر دليل أصلا على ترك القطع في السرقة , والقول في الزيادة التي زادوها سواء كما ذكرنا لو صحت ، ولا فرق.

وأما قولهم " إن كليهما كالمودع , وكالمأذون له في الدخول " فأعظم حجة عليهم ; لأنهم لا يختلفون أن المودع إذا سرق مما لم يودع عنده لكن من مال لمودع آخر في حرزه , وأن المأذون له في الدخول لو سرق من مال محرز عنه للمدخول عليه الإذن له في الدخول لوجب القطع عليهما عندهم بلا خلاف. فيلزمهم بهذا التشبيه البديع بالضد أن لا يسقطوا القطع عن الزوجين فيما سرق أحدهما من الآخر إلا فيما اؤتمن عليه , ولم يحرز منه , وإن لم يجب القطع على كل واحد منهما فيما لم يأمنه صاحبه عليه , وأحرز عنه , كالمودع والمأذون له في الدخول ، ولا فرق وهذا قياس لو صح : قياس ساعة من الدهر

قال أبو محمد رحمه الله : فبطل كل ما موهوا به من ذلك والحمد لله رب العالمين ثم نظرنا في ذلك في قول من فرق بين الزوج والزوجة , فرأى عليه القطع إذا سرق من مالها , ولم ير عليها القطع إذا سرقت من ماله. فوجدناهم يقولون " إن الرجل لا حق له في مال المرأة أصلا , فوجب القطع عليه إذا سرق منه شيئا ; لأنه في ذلك كالأجنبي ". فوجدنا المرأة لها في ماله حقوقا من : صداق , ونفقة , وكسوة , وإسكان , وخدمة , فكانت بذلك كالشريك ووجدنا رسول الله قد قال لهند بنت عتبة إذ أخبرته أن أبا سفيان لا يعطيها ما يكفيها وولدها , فقال لها عليه السلام خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف. قالوا : فقد أطلق رسول الله يدها على مال زوجها تأخذ منه ما يكفيها وولدها , فهي مؤتمنة عليه كالمستودع , ولا فرق. قالوا : والزوج بخلاف ذلك ; لأن الله تعالى قال : {وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا} الآية.

وقال تعالى {فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا} فبين الله تعالى تحريم القليل من مالها والكثير عليه

قال أبو محمد رحمه الله : أما قولهم إن لها في ماله حقوقا من صداق ونفقة , وكسوة , وإسكان , وخدمة. وأن رسول الله أطلق يدها على ماله حيث كان من حرز أو غير حرز , لتأخذ منه ما يكفيها وولدها بالمعروف إذا لم يوفها وإياهم حقوقهم فنعم , كل هذا حق واجب , وهكذا نقول. ولكن لا يشك ذو مسكة من حس سليم أن رسول الله لم يطلق يدها على ما لا حق لها فيه من مال زوجها , ولا على أكثر من حقها , فإذ لا شك في ذلك , فإباحة الله تعالى ورسوله لأخذ الحق والمباح ليس فيه دليل أصلا على إسقاط حدود الله تعالى على من أخذ الحرام غير المباح.

ولو كان ذلك , لكان شرب العصير الحلال مسقطا للحد عنه , إذا تعدى الحلال منه إلى المسكر الحرام , ولا فرق بين الأمرين , فإذ ذلك كذلك فلها ما أخذت بالحق , وعليها ما افترض الله تعالى من القطع فيما أخذت بوجه السرقة للحق الواجب حكمه , وللمباح حكمه , وللباطل المحرم حكمه ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه. وهي في ذلك كالأجنبي سواء سواء يكون له حقوق عند السارق , فمباح له أن يأخذ حقه ومقدار حقه من مال الذي له عنده الحق من حرز , أو من غير حرز نعم , ويقاتله عليه إن منعه , ويحل له بذلك دمه , وهو مأجور في كل ذلك , فإن تعمد أخذ ما ليس له بحق , فإن تعمد أخذه بإفساد طريق فهو محارب , له حكم المحارب , وإن أخذه مجاهرا غير مفسد في الأرض فله حكم الغاصب , وإن أخذه مختفيا فله حكم السارق , والمحارب. هذا والزوجة في مال زوجها كذلك ; لأن الله تعالى لم يخص إذ أمر بقطع السارق والسارقة , إلا أن تكون زوجة من مال زوجها , ولا يكون زوج من مال زوجته وما كان ربك نسيا. فصح يقينا أن القطع فرض واجب على الأب والأم إذا سرقا من مال ابنهما , وعلى الأبن والبنت إذا سرقا من مال أبيهما , وأمهما , ما لم يبح لهما أخذه. وهكذا كل ذي رحم محرمة , أو غير محرمة , إذا سرق من مال ذي رحمه , أو من غير ذي رحمه , ما لم يبح له أخذه. فالقطع على كل واحد من الزوجين إذا سرقا من مال صاحبه ما لم يبح له أخذه كالأجنبي ، ولا فرق إذا سرق ما لم يبح وهو محسن إن أخذ ما أبيح له أخذه من حرز , أو من غير حرز وبالله تعالى التوفيق.


2284 - مسألة : هل يقطع السارق في أول مرة أم لا

قال أبو محمد رحمه الله : حدثنا حمام ، حدثنا ابن مفرج ، حدثنا ابن الأعرابي ، حدثنا الدبري ، حدثنا عبد الرزاق ، عن ابن جريج أخبرني عبد ربه بن أبي أمية : أن الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة حدثه , وابن سابط الأحول أن النبي أتي بعبد قد سرق فقيل يا رسول الله هذا عبد سرق وأخذت معه سرقته , وقامت البينة عليه فقال رجل : يا رسول الله هذا عبد بني فلان , أيتام , ليس لهم مال غيره , فتركه , قال : ثم أتي به الثانية سارقا , ثم الثالثة , ثم الرابعة , كل ذلك يقول فيه كما قيل له في الأول , قال : ثم أتي به الخامسة , فقطع يده , ثم أتي به السادسة , فقطع رجله , ثم السابعة , فقطع يده , ثم الثامنة , فقطع رجله. قال الحارث : أربع بأربع , فأعفاه الله أربعا وعاقبه أربعا

قال أبو محمد رحمه الله : هذا مرسل ، ولا حجة في مرسل. ولقد كان يلزم الحنفيين , والمالكيين , القائلين بأن المرسل كالمسند , أن يقولوا به , لا سيما وهم يقولون بوجوب درء الحدود بالشبهات , ولا شبهة أقوى من خبر وارد يعملون بمثله , إذا اشتهوا وتالله , إن هذا الخبر على وهيه لارفع أو مثل خبر ابن الحبشي الذي خالفوا له ظاهر القرآن , وأيمن من خبر المسور الذي أسقطوا به ضمان ما أتلف بالباطل من مال المسروق منه , وخالفوا به القرآن في إيجابه تعالى الأعتداء على المعتدي بمثل ما اعتدى به , وأباحوا به المال بالباطل وبالله تعالى التوفيق

قال أبو محمد رحمه الله : فقطع السارق واجب في أول مرة بعموم القرآن كما ذكرنا وحسبنا الله ونعم الوكيل.

محلى ابن حزم - المجلد السادس/كتاب السرقة
كتاب السرقة (مسألة 2266 - 2267) | كتاب السرقة (مسألة 2268 - 2274) | كتاب السرقة (مسألة 2275 - 2279) | كتاب السرقة (مسألة 2280 - 2284) | كتاب السرقة (مسألة 2285 - 2287) | كتاب السرقة (مسألة 2288 - 2291) | كتاب السرقة (مسألة 2292) | كتاب السرقة (مسألة 2293 - 2298)