مذكراتي عن الثورة العربية الكبرى/السفر إلى باريس


السفر الى باريس :

ولم تطل إقامة الأمير في حلب إذ وصلت اليه برقية من والده الملك حسين ليمثله في مؤتمر فرساي ، ضاحية باريس الشهيرة . فاعتذر فيصل بادىء ذي بدء عن قبول هذه المهمة لأنه ليس لديه نصوص العهود المعطاة لوالده من بريطانيا بشأن استقلال البلاد العربية التابعة لتركيا بعد انتهاء الحرب ، فأرسل اليه الملك حسين يقول له بأن نصوص هذه العهود موجودة في وزارة الخارجية البريطانية فلا حاجة لارسال نسخة عنها له كأن هذه الامور السياسية الهامة تحل بسهولة ، والعهود والمراسلات السياسية لا يمكن مخالفتها أو تحوير مفهومها – وقد وقعت المخالفة فعلاً عندما طالب فيصل رئاسة الوزراء، لدن وصوله الى لندن بتنفيذ العهود المقطوعة للعرب – أي ان تحقيق ما تم الاتفاق عليه بريطانيا ، ، هو في نظر الحسين من الامور المسلم بها شأن عهد يعطيه هو ، ولا يدور في 6 خلده أبدأ عدم البر به شأن معاملات أمراء ورؤساء شيوخ العرب فاضطر فيصل القبول المهمة . وأناب عنه أخاه زيد لرئاسة الدولة • وغادر الامير حلب في 18 تشرين الثاني الى طرابلس عن طريق حمص ، وما كان استقبال الفيحاء له بأقل من غيرها من المدن السورية روعة ، وأضافه فيها عبد الحميد كرامي مفتيها وزعيمها الكريم ، وكانت الخطب التي القيت ترمي الى أن طرابلس جزء لا يتجزأ من سوريا وانها ميناؤها الطبيعية وقد أنابت الامير عنها في تحقيق ذلك ووصل الأمير لبيروت في 19 تشرين الثاني سنة 1918 واستقبله الشعب البيروتي ورجالاته بحفاوة بالغة ، وكان قائد الفيلق الحادي والعشرين البريطاني الجنرال بولفين في مقدمة مستقبليه . وأبلغه أنه أعد له قصر سرسق الكبير الذي يسكنه لينزل به ، وهرعت رجالات دمشق لبيروت لوداعه وزود حكومة دمشق بتعليماته ثم أبحر الامير من بيروت في 1918/۱۱/٢٢ على مركب حربي بريطاني صغير اسمه غلوسستر وبصحبته رئيس مرافقيه نوري السعيد ورئيس دیوانه رستم حيدر وكاتبه الخاص فائز الغصين ومرافقه الخاص أخي ، وكاتب هذه المذكرات بوصفه طبيبه الخاص ومستشاره ولما كانت القيادة الحليفة العليا في سوريا بريطانية فهي التي قامت بتدبير رحلة الأمير وفق تعلمات لندن ، فلم يرق ذلك لفرنسا واحتجت لدى الملك حسين على عدم أخذ رأيها في ذلك تحسين وعند وصول سموه الى مرسيليا في ۱۹۱۸/۱۱/٢٦ ، استقبل استقبالاً رسميا من قبل السلطات المدنية والعسكرية فيها ، إلا اننا لاحظنا أن الحكومة الفرنسية وضعت الخطة لاستقباله بصفته أميراً حجازياً ونجل ملك الحجاز الذي اشترك في الحرب مع الحلفاء ، جاء ليزور فرنسا . وبما ان انكلترا هي التي اضطلعت بمهمة سفر الأمير ، فبطبيعة الأمر لم يستشر مثل فرنسا المسيو جورج بيكو في ذلك لأن الجنرال آلنبي هو القائد الأعلى للحلفاء في سورية . ومع ذلك لم يرق لفرنسا هذا التصرف فأبلغت ممثلها في جده الكولونيل كوس ، الملك حسين ، استغراب فرنسا لهذا العمل وعدم إمكان اعتبار نجله مفوضاً بمهمة سياسية الى فرنسا . وكانت الصحف الفرنسية تلقبه بالامير الحجازي ، منكرة عليه الاعتراف بأنه جاء الى مؤتمر السلام ليشترك فيه كقائد عربي حليف دخل سورية دخول الظافرين على رأس جيشه مع الجيش البريطاني ، وأن له اليد الطولى في انتصارات الجنرال آلنبي في جبهة فلسطين إذ كان يحمي جناح جيشه الأيمن . وقد اعترف له بذلك القائد الانكليزي بصر احه تامة . وتناست فرنسا ، وصحفها من وراء مطامعها ، أن القوى العربية من القوة بحيث ی ۹۱ . كانت تؤلف ما يقرب من ثلث الجيش العثماني المخصص للحرب في جبهة فلسطين والحجاز ، كما أن من خطورة ثورة الحسين انها جعلت الجيش التركي في بلاء مستطير وتلقاء جم من العراقيل لأنه راح يحارب وكأنه في بلاد عدوه ، الأمر الذي شعرت به القيادة الالمانية وأشارت الى خطره وصعوبة اجراء الحركات العسكرية في مثل واقعه ، بل هي نصحت بالانسحاب من فلسطين قبل الهجوم البريطاني الكبير في ٩/١٩ ١٩١٨ الي خط أقرب للحدود التركية لتلافي الخطر.

وكانت الخطة التي سلكتها الحكومة الفرنسية إحاطة الأمير بجميع مظاهر التكريم والتبجيل بغية التأثير في نفسه وسيراً على السياسة التي تتبعها في شمال افريقية . ثم إقصاؤه عن الاشتراك في مؤتمر الصلح في فرساي ممثلا للعرب بالمؤتمر . فأعد لسموه صالون خاص أقله وحاشيته الى ليون ليزور الجبهة الغربية ، فاستقبل في ليون في ٢٧ تشرين الثاني 1918 استقبالاً عسكريا ، وكانت جنود الخيالة بأبواقها تحييه من المحطة حتى فندق ترمينوس الكبير الذي نزل به.

وقد التحق بالأمير في ليون الكولونيل بريمون ممثل الحكومة الأفرنسية في جده لمثل حكومته لدي فيصل وحده ، عوضاً عن لورانس الذي التحق بالأمير في مارسيليا كممثل للحلفاء . فأغضب ذلك فرنسا فأبلغته العدول عن مرافقة الامير ، في ليون ، واستعاضت عنه بيريمون .

وكان سمو الامير بارتدائه الملابس العربية ، وعلى رأسه الكوفية والعقال ، وبوجهه السموح المستطيل يوحي الى كل من يشاهده بنبالته وسمو وجاهته ، ويستميل اليه الافئدة والقلوب ، بل ان كثيراً رجال الغرب المرموقين راح يشبهه بالسيد المسيح وواصل موكب الامير سفره من ليون مساء 30 تشرين الثاني الى أن بلغ بلغور في الصباح ، وكان بين مستقبليه السيد قدور بن غبريط . ووصل الى استراسبورغ في السادسة مساء وقد زار الأمير أثناء الطريق جبهة القتال في فردون ، وكان الضباط الفرنسيون الذين عهد اليهم أن يرافقوه يشرحون له تفاصيل المعارك الطاحنة وما أبلاه الجيش الافرنسي في مقاومة الالان بقيادة الماريشال بيتان ، وان المدينة التي أصبحت أطلالاً لاكبر شاهد على ذلك.

والواقع ان مدينة ستراسبورغ عبارة عن قلعة جميلة لا مثيل لها في حينها من حيث التحصينات القوية ، فالمدافع الضخمة لم تكن تشاهد من على سطح الارض وانما كانت أفواهها هي البارزة فقط استعداداً اصب الحمم ، وهي محفوظة في أبراج فولاذية متحركة . وكان سكان المدينة جميعاً تقريباً لا يتكلمون إلا الألمانية . وقد شاهدت في أحد المقاهي جوقة موسيقية تعزف ألحانا شجية وعند انتهاء العزف عرفت ( مارش المارسيلييز ) فلم ينهض لتحيته واحترامه أحد ، فما كان من العسكريين الموجودين هناك الا أن أعملوا فيهم الركل بالاقدام اكراها لهم على القيام احتراماً لنشيدهم القومي.

ومما لاحظت أيضا أن بعض سكان المدينة كان ينظر نظرة الاستغراب الى بالعي المأكولات والفواكه الفرنسيين ، اولئك الذين تحولوا من القرى الافرنسية المجاورة لبيع سلعهم في الميادين العامة . ثم ما ينتجه عملهم من اطراح بعض الفضلات من المأكولات على الأرض ، مما لا عهد للسكان بمثله

وفي ستراسبورغ قلدت الحكومة الافرنسية سمو الامير وسام جوقة الشرف الاكبر باحتفال عسكري مهيب كان يترأس عليه الجنرال غورو . ومن ستراسبورغ دعي سمو الامير لزيارة فيسبادن وهي من أجمل مدن الاستحمام الالمانية, ومنها الى فرنكفورت . وكانت خطة قيادة الجيوش الحليفة التي يرأسها المارشال فوش هي اطالة اقامة الامير في مدن الجبهة وفقا لتعليمات وزارة الخارجية الأفرنسية ليكون بعيداً عن باريس التي سيفتتح بها مؤتمر السلم ، وما قدم الامير إلا ليشترك به ويطالب بحقوق العرب في استقلالهم وفقا للعهود التي قطعت لجلالة والده الملك حسين ، مباديء الرئيس ولسون الامريكي وجريا وكان الأمير قد انتبه لا دير حوله من مؤامرة ، وذلك من خلال أحاديث الكولونيل لورنس قبيل مغادرته افرنسا بناء على طلب من وزارة الخارجية الفرنسية . . . أدرك أن الحكومة الفرنسية غير راغبة في اشتراكه بمؤتمر الصلح مندوباً عن جلالة ملك الحجاز الذي حارب في صفوف الحلفاء ، وأن بريطانيا لا تشاركها هذا الرأي ، وإن كانت الشبهة تدور بها هي نفسها في تحقيق ما وعدت به العرب ، الأمر الذي حدا بلورنس أن يعيد الى الحكومة الافرنسية والى حكومته ج الاوسمة التي كان يحملها احتجاجاً على اخراجه من فرنسا أولاً ثم على عدم تحقيق ما كان يمني به فيصل والملك الحسين من نتائج اشتراك العرب في الحرب مع الحلفاء ونيلهم حقوقهم كاملة

واتجه فيصل الى الحكومة البريطانية يستوضحها عن عة نوايا فرنسا فوصل اليه الرد مؤيداً ، وذلك الى فرنكفورت التي كان يحتلها الجيش البريطاني . وللحال قرر السفر الى باريس رغم ان برنامج زيارته لما ينته بعد ، وكان من المقرر أن يكون الامير ضيفا أيضا في منطقة الاحتلال الامريكية على الجنرال برشنع قائد القوات الاميركية في ألمانيا ، لكنه اعتذر مغيراً برنامج الزيارة ، واكتفى بتناول الغداء على مائدته . ولم ينظر الجنرال الى ذلك بعين الرضى سما وهو عسكري كبير ولا يعرف ما يحاك من مؤامرات السياسة لاحباط مطالب العرب التي كان بمثلها سه الأم مير فيصل وطلب الأمير من الكولونيل ريمون ابلاغ قراره بالشخوص لباريس حالاً للحكومة الافرنسية مضيفته ، فاستجاب الكولونيل لرغبة الامير ، وأبلغه في اليوم الثاني نص البرقية الآنية : لقد حدد رئيس الجمهورية مقابلة الامير في 7 كانون الأول عند الساعة الخامسة ، واتخذت كافة الاسباب لوصوله بسرعة الى باريس حسب رغبته وتمت مقابلة الأمير ومعيته لرئيس الجمهورية بالميعاد المحدد . ولكن من المؤسف أن يكون كلنصو قد اتفق مع لويد جورج على التنازل لبريطانيا عن كون الموصل منطقة نفوذ اقتصادي فرنسي وفقاً لاتفاق سایكس – بيكو لقاء تأييد بريطانيا مطالب فرنسا في سورية ، قبيل ذلك التاريخ . فكان هذا الاتفاق ضربة قاصمة لأماني العرب الوطنية كما سيأتي ذكره وحجز لسمو الأمير في باريس جناح خاص في فندق الكونتننتال . وكان أول ما فكرت به في باريس هو التحري عن صديقي وزميلي في جمعية الفتاة السيد عوني عبد الهادي الذي لم يتمكن من مغادرة باريس قبل اعلان الحرب العامة ، وانقطع اتصاله بالوطن ، فذهبت توأ الى و البنسيون ، الذي كنت اساكنه فيه وهو يحمل رقم 6 بشارع الاستراباد ، ۰ ۹۵