مذكراتي عن الثورة العربية الكبرى/جمال باشا في سوريا


جمال باشا في سورية

ومنذ اليوم الذي غادر فيه جمال باشا الأستانة إلى دمشق طفق يشير بخطبه وشتى تصريحاته، إلى ضرورة تعزيز الصالات بين العرب والترك، والى حسن نوايا الحكومة العثمانية تلقاء البلدان العربية، وقد وقعت هذه التصريحات وتلك الخطب موقعها الطيب في نفوس العرب. ولذا ما كاد جمال باشا يصل إلى دمشق حتى استقبلناه بقلوب ملؤها الحماس، مأخوذين بمظاهره الودية حيال قضيتنا من ناحية ومخافتنا على بلادنا من ناحية أخرى أن تذهب فريسة الاستعمار الغربي فيما اذا كتب النصر الحلفاء.

وقد جاء في أول خطاب ألقاه في العاصمة الأموية ما جعلنا نركن الى حسن نواياه اذ قال : « أؤكد لكم أن الأماني التركية والاماني العربية لا تتعارضان مطلقا، فالترك والعرب ليسوا سوى اخوان في غايتهم الوطنية، وان هذين الشعبين مقضي عليهما بالفناء في اللحظة التي تخاذلان فيها». ولما انتهى من خطابه أنشد الشباب العربي بعض الاناشيد الوطنية الحماسية كنشيد «نحن جند الله شبان البلاد » فاستاء جمال باشا من هذه المطاهر العربية وتناسي ما كان قاله في خطابه ؛ ورغم اضطراره إلى السفر مع حملة قنال السويس وتوجيه معظم جهوده الانجاح هذه الحملة، فقد أصدر أمره بحل كتيبة تدريب الضباط العرب، أي كتيبة ضباط الاحتياط في دمشق.

ولما أن باءت الحملة بالفشل، ونزل بها ما نزل، وأصبح مقر قيادة الجيش الرابع في القدس، حل محله في دمشق فخري باشا قائد الفيلق (۱۳) « الموصل»، باسم وكيل قيادة الجيش الرابع. وكان رئيس أركان حربه ياسين باشا الهاشمي وهو من خيرة الضباط العرب النابهين، فقررت الجمعية الاتصال به ودرس اتجاهاته توطئة لادخاله في عداد أعضائها وكلفت بذلك السيد عبد الغني العريسي. وقد تمكن السيد العريسي من الاتصال بضابط من ضباط أركان حربه، وهو مجيد بك وعقد معه أواصر الصداقة فكان هذا الضابط واسطة الاتصال ياسين باشا.

وعلى الاثر قررت الجمعية قبوله عضوا فيها وقد حلفتُه اليمبن مع عبد الغني العريسي وجعلناه همزة الوصل بين جمعية الفتاة وجمعية العهد التي كان ينتسب اليها معظم ضباط العرب القوميين، وعقب ذلك انضم رضا باشا الركابي للجمعية فتوسعت بذلك أعمالها ممتدة، حتى لقد دخل في عداد أعضائها نسیب بك الأطرش ونواف الشعلان نظرا لسمعتهما الوطنية الطيبة والاستعانة بقوى البر عند الاقتضاء، وقد أبلغت الجمعية الركابي والأمير طاهر الجزائري أن يتقدما إلى فائز الغصين بالسفر لمضارب الشعلان والعودة بالأمير نواف لدمشق. فلي فائز الغصين الطلب وسافر الى مارب الشعلان قرب تدمر وقوبل مقابلة حسنة، وعلى اثر دلك وشى الواشون بسفره الى تدمر، فما كان السلطات التركية إلا أن أعتقلته بعد عودته في ۲۳ تموز سنة ١٩١٥ وسيق الى عاليه ومنها نفي الى ديار بكر. ولقد قدمت له الجمعية مبلغا من المال ليستعين به بواسطة أحد أعضائها القدامى السيد رشيد الحسامي، وذلك عند مقابلتهما في القطار أثناء السفر من بعلبك إلى حلب. إلا انه تمكن من النجاة بنفسه من ديار بكر فقصد إلى البصرة سيرا على الاقدام و منها سافر إلى الحجاز حيث عين سكرتيرًا خاصًا لسمو الأمير فيصل، وقد اجتمعت الهيئة الادارية للفتاة عقب توقیف فائز الغصين ورأت أن الخطر اصبح يهدد الأمير عارف التهاني وعبد الغني المريسي، كما أن صدور الأمر بإرسال توفيق البساط وابراهيم هاشم من ضباط الاحتياط مع زملائهم العرب إلى جهة الدردنيل يعني خسارتها لنشاطهم، فقر القرار على تكليفهم بأن يتواروا عن الابصار ثم يواصلوا سفره إلى الحجاز، وقد اتصلت لهذه الغاية بواسطة سلم بن يوسف عبيد من قرية جرمانا وهو احد أقارب الدكتور عبد العزيز كنفاني والمعروف جيدا من قبل نسیب بك البكري بالمغوش شیخ خلخلة، واتفقنا على أن يؤاويهم بالقرية المذكورة بادىء بدء، وكأن أخي ذكي اذ ذاك قائمقام السويداء ، الأمر الذي سهل مهمتي هذه ، فغادروا دمشق إلى خلخلة في ۱۹۱٥/۷/۲۳ وكنت على اتصال دائم بهم أكفل لهم جميع حاجاتهم، وكان ختمي عند عبد الغني العريسي يوقع به بعض أوراق الجمعية عوضا عن ختم الجمعية بصفته سكرتير هيئة الادارة، وذلك زيادة في الاحتياط، فيها عن اعادته إلي قبل سفره حيث تركه في بذلته عند تغيير ملابسه بالملابس البدوية، فوقع بيد الشرطة وأرسل لديوان حرب عاليه مع ماوجد من المستندات عند عبد الغني المريسي، فكان علي أن أسافر لتدارك الأمر. ولما كنت طبيبًا للدرك برتبة رئيس لم يصعب علي ذلك، وقد تمكنت بواسطة أحد أصدقائي الضباط من استرداده و بذلك أمنت شر هذا الخطر الذي كان يترصدني.

وجاءني بعد حين عمر حمد أحد اخواننا في الجمعية من بيروت ينوي الهرب تخلصًا من ملاحقة السلطات له بسبب انتسابه الجمعية اللامركزية. فسهلت له سبيل الوصول إلى اخواننا في خلخلة . وبعد أن مكث الجميع فيها مدة دبروا أمر سفرهم للحجاز للعمل مع الحسين بن علي. ولما كان ابراهيم هاشم مصابًا بالملاريا لم يتمكن من مرافقهم بل قصد متنكرًا بلدته نابلس وبقي مختفيا فيها الى انتهاء الحرب.

أما الباقون فسلكوا طريق الصحراء إلى أن وصلوا الى تبوك فزين لهم شيح عرب الفقير سلوك طريق السكة الحديدية فأخذوا برأيه وركبوا القطار الا أنهم بدلا من يتواروا عن الأنظار جلسوا أمام نوافذ القطار، وحدث أن ضحك الأمير عارف الشهابي فرآه طبيب في المحطة كان يعرف الأمير عارف، لكنه اشتبه بسن الأمير الذهبية، وهي من غير المتعارف به في تلك الجهات، فسعى إلى أن تعرف عليه، ثم اخبر السلطات الحكومية، فألقوا القبض عليهم وساقوم إلى ديوان حرب عاليه العرفي.

وحمل إلي هذا الخبر خفية نسيب البكري في احدى الليالي وعندي نخبة من ضباط أركان حرب جمال باشا يسهرون ويسمرون، وأصانعهم بغية الجسر عن نوايا جمال باشا وجططه نحو العرب، فكان لهذا الخبر أثره العظيم في نفسي.

ولم يلبث موقف جمال باشا من العرب أن تبدى واضحًا جليًا إذ كشف النقاب عن حقيقة نواياه نحوهم، رغم اعترافه الصريح في مذكراته بأنهم أظهروا عظيم التضحية والاخلاص خلال الهجوم على قنال السويس، ولكن هذه التضحية وهذا الاخلاص لم يجديا شفيعا لديه، بل راح یکید کیده للايقاع بالعرب من غير هوادة أو رحمة.

وكان أول ما فعل أنه أمر باعتقال عبد الكريم الخليل وذلك في أواخر حزيران ۱۹۱٥ بعد أن استدعاه من الاستانة ليساعده على تعزيز الروابط بين العرب والترك. وقد تم هذا الاعتقال بحجة أنه تآمر مع رضا الصلح على نفخ نار الثورة في جبل عامل، وكان ذلك اثر وشاية لا تستند إلى حقيقة ؛ ثم أمر باعتقال رضا الصلح وصالح حیدر ومسلم عابدين ونايف تلاو و محمد المحمصاني ومحمود المحمصاني و عبد القادر الخرسا ومحمود العجم وسليم الاحمد عبد الهادي ونور الدين القاضي وعلي الأرمنازي،فأحيلوا جميعا الى ديوان حرب عاليه العرفي. وفي ۲۱ آب ۱۹۱٥ سيقوا إلى المشانق ما عدا الصلح ( وسليم العبد الهادي المتواري ) فكانوا أول قافلة من قوافل الشهداء، بأمر من جمال باشا ودون مصادقة الارادة السلطانية الواجبة في مثل هذه الأمور، ولم يكن من ذنب لجميع الذين شنقوا الا أنهم ينتمون إلى حزب اللامركزية، هذا مع العلم بأنه لم يكن في برنامج الحزب المذكور ما يوجب تعريص المنتسب اليه المسؤولية ؛ واذا اعتبرنا أن سبب شنقه هو انتسابهم للجمعية اللامركزية بمصر –وقد أيد جمال باشا حجته بنشر المنشورات التي كانت تصدر عن حقي العظم―فان حزب اللامركزية بمصر كان حزبا معترفا به من الدولة، وهذه المنشورات كانت تصدر عن حقي العظم نفسه الجمعية اللامركزية، فعلى م يتحمل اذن اعضاؤها تبعات ما لم يقوموا به ؟

وعلى أثر هاتيك المأساة الدامية لم يرعني ذات ليلة الا أن بابي بقزع ثم طلب الي مقابلة سيدة محجبة، خرجت اليها فاذا هي سيدة محترمة تجلببت بالسواد، جاءت تخاطبني بصوت راعش حزين قائلة انها شقيقة المرحوم صالح حیدر. و كنا مرتبطين بصلة الحوار حينما كان والدي قائد المنطقة بعلبك في عهد طفولتي، وربط عائلتينا صداقة حميمة فأثر في موقفها أما تأثير ولا سيما حين فاجأتني بأن أخاها قد ذهب ضحية الواجب، وهي تود أن تكون هذه المأساة خاتمة المصائب، ولذلك ترجو أن نعمل على ابادة الأوراق التي من شأنها إدانة أحد من الشباب البلاد،وبالنظر لثقتي بشرفها وشرف عائلتها فقد قابلت طلبها بكل ارتياح ورجوتها أن تقصدإلى بيروت لتتصل بشقيقة المرحومين محمد و محمود المحمصاني كما تأخذا اوراق الجمعية و مستنداتها من المكان المودعة فيه، وهو قبر ولي بالقرب من بيت المحمصاني، ثم احراق هذه الوثائق و إنبائي بنتيجة الأمر، ولم تتأخر عن الشخوص ليلا الى بيروت وانفاذ ما رجوتها به بكل دقة، وقد لمست من شقيقة المرحومين محمد و محمود الحمصاني كل مساعدة وعطف. ولو وقع أي تقصير في هذه المهمة، لكان الشنق بلا ریب نصيب معظم الاعضاء العاملين في الحقل الوطني إلا أن شجاعة هاتين السيدتين المثكولتين وحسن نيتهما كان من أشرف الاعمال الوطنية وآية رائعة من الإخلاص والقيام بالواجب.

وقد كان لهذه المآسي القاسية والسياسة الطاغية التي لجأ إليها جمال باشا دوي وأي دوي في العالم العربي،اذ ثارت الخواطر واضطربت الأفكار وأدرك العرب أنهم تلقاء سياسة جائرة ترمي إلى القضاء على أمانيهم والتعسف بهم لاخفات صوتهم.

ولما كان القضاء إعداما على أمثال هؤلاء الشهداء الذين يمثلون صفوة شباب العرب ونخبهم، ومنهم من ينتمي إلى جمعيتنا أمثال محمد المحمصاني ومحمود المحمصاني وصالح حیدر، ولما كان هذا الحكم قد أظهر النيات التركية نحو العرب فقد قررت الجمعية القيام بدعاية واسعة النطاق لاطلاع العالم العربي على حقيقة نوايا الاتحاديين، فسعينا جهدنا و بكل ما أوتينا من حول وقوة لتحقيق هذه الغاية. ولقد انتهت تفاصيل هذه الفجائع إلى مسامع شريف مكة الحسين بن علي، فوقعت من نفسه موقعا أليما وحزن لها حزنا عظيما، وكان ابنه علي قد عثر على وثائق كان يحملها وهيب باشا قائد الجيش العثماني في الحجاز وهو يرافقه مع متطوعة الحجاز في طريقهما إلى القنال للاشتراك في الحملة ،فوقف الامير من محتوياتها على ما ينبئ بالقضاء على امتیازات والده تدريجيا ثم الغاء الامارة ؛ فاعتذر إذ ذاك عن مرافقة وهيب باشا في الحملة قبل اعداد عدته، عائدًا أدراجه إلى مكة حيث أطلع والده على كنه الأمور، فأيقن شريف مكة أن الخطر محدق بامارته وباالعرب جميعًا. وكانت قد اتصلت بمسامعه دعايتنا فصادفت أرضا خصبة من لدنه و تألف من هذه الأسباب مجتمعة ما ألف في ضميره خطوط السياسة الجديدة التي ينبغي أن يسير عليها.

ولما كانت البلدان الحجازية تعتمد في معاشها على طريق البحر الأحمر وطريق الخط الحجازي، وكانت الحرب قد أفضت إلى أن يفرض الانكليز الحصار البحري على بلاد الدولة العثمانية. ولما كانت سورية لم يعد في مقدورها امداد الحجاز بالمؤن لان الحكومة العثمانية وضعت يدها على كافة المنتجات الزراعية لاعاشة الجيش، كما أن الحج قد توقف وهو مورد هام للحجاز. من أجل هذا كله، أصبحت حالة الحجاز مهددة بخطر المجاعة ؛ فراح شريف مكة يجهد الفكر في استنباط مخرج من هذا المأزق الحرج. وقد وجد في مراجعة الانكليز إياه بدعوته للانضمام إلى صفوف الحلفاء منفذا لمجانية الخطر الداهم، ثم الوسيلة الوحيدة للخروج ببلاده من الموقف الدقيق الذي آلت اليه، فرضي، على كره، مفاوضة الانكليز في شهر يوليو ۱۹۱٥؛ الا ان ابنه الامير فيصل كان على جانب عظيم من الحذر والتيقظ، لا يطمئن إلى نوايا الحلفاء، ولذا التمس من والده السماح له بالسفر إلى الأستانة عله يجد من رجال الدولة العثمانية ما يضمن الحفاظ على حقوق العرب وكيان الحجاز المهدد.

توجه الأمير الى دمشق فوصلها في ايلول ۱۹۱٥. وكنا، أعضاء الفتاة، نبذل قصارى الجهد لمجابهة الخطر الداهم، فأجمعنا الرأي على الإفادة من الفرصة السانحة لنا بوجود الأمير فيصل بين ظهرانينا. ولما كان قد حل ضيفا على عطا باشا البكري، وكان ابنه نسيب من اخواننا، اتصلتا به بسهولة، ودرسنا فكرة ادخاله في عداد أعضاء الجمعية، فوجدنا فيه تربة خصبة، وهو ما كنا نتمناه، فسلكناه في عقد أعضاء الجمعية ورجونا منه التوسط لدى السلطات العليا للافراج عن المعتقلين الوطنيين العرب في عاليه.

وقد رغب الأمير فيصل معرفة مدى قوة الحركة العربية في سورية، فاجتمع أولا بالشيخ بدر الدين، ثم بياسين باشا الهاشمي رئيس أركان حرب وكالة قيادة الجيش الرابع، ورضا باشا الركابي، وسأل عن المساعدة التي تحتاجها سورية لتشترك بالحركة التحريرية العربية عند الاقتضاء، فما كان من ياسين باشا الهاشمي إلا أن أجابه بأن سورية لا تحتاج إلا إلى عزم الحسين على ترؤس الحركة التحريرية العربية ؛ فكان لهذا الموقف الحازم، موقف الهاشمي، أثر عميق في نفس فيصل، لأنه موقف شخص يملك صفة التكلم باسم قوى الجيش المرابط في سورية وهو الذي يتألف بأكثريته من العرب.

وقد سلمته الجمعية المصوَّر الذي يعين حدود البلاد العربية الجغرافية في آسيا وهي التي يجب أن يدور السعي على أساسها لنيل الاستقلال، وسرعان ما أرسل بجميع ما وقف عليه الى والده الحسين، ثم توسط لدى جمال باشا كي يعدل عن سياسة البطش برجالات العرب على غير جدوى.

وتابع السير الى الاستانة حيث اجتمع بالصدر الأعظم وأنور وطلعت وكشف لهم عن الوثائق التي عثر عليها مع وهيب باشا، وأضاف فأبان لهم بصراحة مضار سياسة الضغط التي بنحوها جمال باشا تلقاء العرب، فكان لمحادثته صداها وأثرها، وقد وعدوه خيرا، و بعثوا للحال الى جمال باشا يوصونه بفيصل، كما انهم حولوا وهيب باشا عن الحجاز بعد أن بعثوا مكانه غالب باشا. على أن هذا كله لم يفد في تغيير الخطة التي كان يتبعها جمال باشا في سورية. واذا كان قد جامل الأمير فيصل لدن عودته إلى دمشق فا ذاك إلا أملا" بأن رافقه على رأس فرقة حجازية في حملته الثانية على القنال.

وفي هذه الأثناء كان في عاليه فريق جديد من المعتقلين العرب وهم : شفيق المؤيد والأمير عمر ورفيق رزق سلوم وعمر حمد وعبد الغني العريسي وعارف الشهابي وتوفيق البساط وسيف الدين الخطيب والشيخ احمد طبارة وسليم الجزائري و جلال البخاري وأمين لطفي و سليم الاحمد عبد الهادي وفايز الخوري ورضا الصلح ورياض الصلح، وقد سعی الأمير ما استطاع الافراج عنهم باذلًا كل ما لديه من الوسائل الفعالة سواء في الاستانة أو في دمشق، ولكنه خاب سعيا وذهبت مجهوداته أدراج الرياح، فاضطر لمراجعة والده، فأبرق الحسين إلى أنور باشا ينذره بأن الحرب الحاضرة تستلزم مساهمة العرب فيها بكل قواهم لأن بلاده من أهم ميادين القتال، وان ارضاء الشعب العربي يستلزم منح سورية النظام اللامركزي الذي ننشده، واعلان العفو العام عن المتهمين السياسيين الموقوفين في عاليه، وابقاء امارة مكة كما هي، اذ أن الوثائق التي عثر عليها مع وهيب باشا تجعل مستقبلها في خطر، فاذا اتبعت الحكومة العلية هذه الخطة الرشيدة، فجميع العرب بدو وحضرة لا يتأخرون عن حشد قوام للدفاع عن الوطن. وقد تعهد الحسين في هذه البرقية بأن يكون أولاده قادة للقوى العربية في ميادين العراق وفلسين، الا أن أنور باشا لم يوافق على هذه المطالب، وأسرع فأبلغ الشريف بأن لا بد أن ينال الموقوفون في عاليه عقابهم.

وعلى الاثر غادر فيصل دمشق إلى الحجاز في كانون الأول ۱۹۱٥ ليرفع إلى والده نتائج مساعيه في الاستانة وما وقف عليه في دمشق، وفي كانون الثاني ١٩١٦عاد إلى دمشق على رأس كوكبة يبلغ عددها الخمسين من المتطوعين حلوا بالقابون في دار عطا باشا البكري، وهذه الكوكبة مقدمة أفرقة متطوعي الحجاز إلى حملة القنال.

وفي شباط ۱۹۱۲ رافق فيصل جمال باشا وأنور باشا إلى المدينة المنورة لتفتيش قوى الجيش المرابطة فيها وقوى المتطوعين، ثم عاد معهما الى دمشق. وقد كلفه بعض الاشراف القبض على أنور وجمال وهما في معسكر المتطوعين الا أن فيصل أبى ذلك وقال انهما في ضيافتنا، وعاد معهما إلى دمشق. و بعد برهة قصيرة طلب منه جمال باشا أن يكتب لأخيه كي يضع حدا لاعتداءاته على سلطة محافظ المدينة المنورة و ليدعوه للقدوم إلى دمشق للسفر على رأس حملة متطوعي الحجاز الى القنال، و بذلك يكون الأخان رهينتين في يد جمال باشا.

ولما لم يعد في الامكان القيام بثورة منتجة في دمشق بعد أن شتت جمال القوى العسكرية العربية التي كانت معسكرة فيها، فقد أصبح هم فيصل أن نجو بنفسه إلى الحجاز، وعندما طلب منه جمال باشا استقدام أخيه، اتخذ من ذلك ذريعة فطلب من جمال باشا أن يسمح له بالسفر المدينة ليعود مع أخيه والمتطوعة إلى دمشق ومنها إلى جهة القنال، وقد تألف وفد القيام بهذه المهمة وهي استقبال المتطوعين الحجازبين، برئاسة فيصل وعضوية كاظم بك مفتش منزل الجيش الرابع و آسف بك المستشار العدلي والشيخ عبد القادر الخطيب والسيد نسيب البكري، وقصد الجميع المدينة المنورة بالسكة الحديدية في منتصف شهر مایس و استقبلوا بكل حفاوة وانضم فيصل إلى أخيه واعتذر إلى أعضاء الوفد عن تعذر عودته معهم لأنه لم يعط قرار بعد بسفر المتطوعين عن طريق السكة الحديدية إلى دمشق او عن طريق الصحراء الى القنال. و بذلات نجا بنفسه.

وفي تلك الأثناء وصل فخري باشا وکیل قائد الجيش الرابع إلى المدينة للاشراف على الحالة وقيادة القوى الموجودة فيها وهي من خيرة القوى التركية وقد عززت بقوى أخرى بحجة ارسالها إلى اليمن. وخشي الشريف حسين توالي وصول النجدات الى المدينة ثم احتلال الحجاز عسكريا وسلبه امتیازاته، فأنهى محادثاته مع انكلترا بسرعة وأعلن الثورة العربية بتاريخ ٢ حزيران ۱۹۱٦

وقد أعقب توقيف عبد الخليل اعتقال أمين لطفي قائد الحامية في الاسكندرون، وهو من المتصلين بعبد الكريم إذ اشيع أنه اتفق معه على قطع الاتصال بين الأناضول وسورية اذا ما قامت حركة تحريرية فيها. وقد اتخذ جمال باشا هذه الحوادث ذريعة لاتباع سياسة البطش القاسية، فراح يبعد المثقفين والضباط والقطعات العربية في الجيش العثماني إلى جهات أخرى. فأرسل جميع ضباط الخدمة المقصورة من خريجي المدارس العالية إلى جهة جناق قلعة، و فيلق الموصل الى القفقاس، وياسين باشا الهاشمي الى جهة الكاربات، فلم يعد بإمكاننا القيام بأي عمل يذكر بعد تشتيت قوانا بسبب ما عثر عليه من المنشورات الصادرة عن حقي العظم باسم الجمعية الثورية العربية، وعدم احتیاط عبد الكريم الخليل.

ولما كان اسمي قد تردد كثيرا على ألسنة بعض الموقوفين في عاليه من غير أن يذكر أحد حقيقة أعمال جمعيتنا، فقد قرر استدعاني رئيس الهيئة التحقيقية بديوان حرب عاليه، فاوقفت يوم الاثنين في ۳ كانون الثاني ۱۹۱٦ وكان ذلك من قبل قائد درك المرکز طاهر افندي واودعت غرفة ضابط الدرك في سراي دمشق يومين كاملين. ولما جاء والدي يزورني عامله القائد المذكور معاملة فظة، قاسية. فأثر ذلك فيه كثير، وكان من أمراء الجيش القدماء، فوقع عن سلم السراي، وكان هذا الحادث سببا في مرضه ثم انتقاله لدار البقاء بتاريخ ١٥شباط سنة ۱۹۱٦ وانا في سجن عاليه. وقد أبلغت وفاته بعد حين بواسطة جميل الألثي رفيقي في السجن.

ولما كنت رتبة يوزباشي في الجيش فقد نقلت الى عاليه بعد يومين مصون الكرامة. وأودعت الغرفة المجاورة لغرفتي شفيق باك المؤيد وسليم بك الجزائري، و كان الأول قد أرسل لحيته ووقف أوقاته على تلاوة القرآن وحفظه، والثاني وهو النحيف جسما لا يفتأ يوقد الفحم في مدفأة من طين اتقاء للبرد القارس. وقد أبلغت لدن وصولي إلى السجن أن من المحظور على السجين أن يتحدث مع غيره من السجناء، وكل من تسول له نفسه خرق هذا الحظر تعرض للرمي بالرصاص. فلما ولجت غرفتي كان همي الوحيد الاتصال باخواني الموقوفين وخاصة من كان منهم ينتمي الى جمعيتنا علَّنا نتمكن من ايجاد مخرج من الموقف الذي انتهينا اليه، ولئلا تكون افاداتنا متضاربة.

وحدث إذ ذاك أن أصيب شقيق جمال باشا مرض ضمن اختصاصي وكان الأطباء الاختصاصيون نادرين إن لم يكن في حكم المفقودين، فدعيت لحسن الحظ إلى معالجته والطب لمرضته، فكان لا بد من تحويلي من غرفتي الى مكان آخر، فنقلت إلى مقر قيادة سرية المحافظة على المسجونين، وقواد هذه السرية وجندها من خيرة الرجال الذين يعتمد عليهم جمال باشا، لأنهم من متطوعي اتراك بلغاريا، وكان القائد علمهم نوري بك مناط ثقة جمال باشا، وهو في الوقت نفسه من أغنياء ديوان الحرب العربي، ومساعده حسني بك من الروملي الشرقية. وهكذا مهدت لي الظروف سبيل الاجتماع برئيس الهيئة الاتهامية شكري بك إن شاء أيضا أن أعالجه بعد النتيجة الحسنة التي انتهت إليها معالجتي الشقيق جمال باشا. وقد خصص في سرير في غرفة منام نظيف بك مترجم ديوان الحرب العرفي، وهو شاب أديب لم يتجاوز الخامسة والعشرين من عمره، تخرج من المدرسة السلطانية في استانبول، إلا أنه مولع أما ولع باللهو شأن أمثاله في سنه الشباب الطائش. ولا أكتم أني جاريته في مجرى هواه على ما اقتضاني ذلك من نفقات كنت أديمها راضيًا اتقاء للمغبة السيئة التي تترصدني واخواني المتهمين. وكانت جلساتنا الطويلة المستمرة تدور في الأغلب حول أعماله وما يتصل بشؤون المسجونين مما يهمني الوقوف عليه.

وكان من هذه المناسبات أن هيأت لي سبل اكتناه نوايا جمال باشا نحو المعتقلين، كما افدت الاطلاع على التهم الموجهة اليهم، وعلى الافادات التي كانوا يتقدمون بها. فتوفيق البساط لم ينبس ببنت شفة برغم تعذيبه وضربه. ومثله عرف الشهابي لم يستطيعوا أن يعرفوا منه شيئا. أما عبد الغني العريسي فقد كتب صفحات مستفيضة، فوجب علي الاتصال به تحذيراً وتنبيهاً. ولكن كيف السبيل للوصول اليه ودون ذلك موانع كثيرة ؟. لقد اصطنعت الحيلة، فذهبت الى البناء الذي يحتويه، متذرعا بحجة وجود حمام جيد هناك، و بعد رشوة الخفير قابلته وأطلعته على ما انتهى إلي عنه فكان جوابه بانه لم يكتب شيئا له صلة بأعمال جمعيتنا، وكل ما كتبه وقف على مؤتمر باريس والجمعية الاصلاحية في بيروت، مما هو مدون و منشور في الصحف. وانه لم يعمد الى ذلك إلا بغية تضليل المحققين واستمناح شفقتهم لاسيما وانهم استشاطوا غضباً أمام تكتم توفيق البساط. وقابلت على الاثر توفيق رزق سلوم وسيف الدين الخطيب وها قد ذكرا اسم جمعيتنا مؤولاً، وعلى هامش افاداتهما. ولكن المحقق - ولله الحمد - لم يعر هذا الذكر اية اهمية بعد أن استروح من كلامهما أن الجمعية إن هي إلا جمعية الطلاب في باريس ليس لها اثر سياسي في الأعمال التي تحققون عنها. ولا شك في أن افادة العريسي قد كان لها أثرها القوي في ابعاد الظنون عن جمعيتنا. إلا أن المحققين استغلوا اقوال و حكموا عليه بالاعدام، نظرا لجهلهم ما كان منشوراً منها في بطون الصحف. ولما كان توفيق الناطور قد أصيب بقذيفة نارية اثر محاولته التحدث إلى أحد المعتقلين، فقد خشيت أن يؤثر هذا الحادث على أعصابه فيبوح بما يعلمه عن جمعيتنا، ولذا عزمت على الاتصال به رغم العقبات التي تعترض سبيلي في هذا الاتصال. وكانت حيلتي أني اتصلت بنقیب الخبراء مظهر الشوق إلى مشاهدة المستشفى العسكري. وسرعان ما قبل طلي ملبياً وبخاصة بعد أن شاهد بين يديه بعض القطع الذهبية التي رضخت بها اليه. وهكذا توجهت برفقته الى المستشفى في الصباح الباکر لنكون في منجاة من رقابة الضباط. ولما دخلت الى غرفة توفيق الناطور أمسكت بصحيفة معالجته متظاهرة بأني أدقق فيها، موهما بذلك من حولي، وقلت له : أن عقبى من يبوح بأسرار الاعمال الوطنية هو الشنق لا محالة، ولن ينجيه البوح من الموت، فحذار حذار من الضعف. ثم خرجت من غير أن يعلق بي أثر من الريبة.

واتصل بي ايضا من خلال محادثاتي مع من كنت بينهم من أعضاء ديوان الحرب – أن الأمير عادل أرسلان، وكان في ذلك الحين قائمقام عاليه، عرضة لخطر الانتقام من الترك، لاتصاله السابق برجالات العرب العاملين لقضيتنا. ولكن تأخير اعتقاله كان بسبب وجود شقيقه بالقرب من جمال باشا، فأسرعت اليه متخذا نفس الطريقة التي اتخذتها لدن زيارتي التوفيق الناطور – الصباح الباكر والرشوة – ووقفته على الحقيقة، كما رجوت منه اتخاذ الحيطة والحذر، وتبلیغ ذلك إلى أخيه. وفي هذه الأثناء – أي في شباط ۱۹۱٦ – وصل أنور باشا إلى دمشق كما يعد العدة لحملة تمد منها القوى العثمانية التي تقاتل الانكليز في العراق، ولتفتيش القطعات الجارية في سورية والحجاز. ولما كان أخي تحسين ملحقاً بأركان حرب فخري باشا وکیل قائد الجيش الرابع فقد مر بعاليه مع هيئة أركان الحرب، وزارني خلسة، وهذه الزيارة الوحيدة من نوعها إذ لم يسأل عني أحد منذ اعتقلت، لأن أخي زكي الذي كان قائمقاماً في السويداء قد اقصي الى الاناضول مع جميع العائلة، ولان والدي انتقل الى دار البقاء. ولقد علمت من أخي تحسين أن «شوبان أو غلو زكي، أحد الضباط المتنفذين في هيئة أركان حرب جمال باشا، ومن الذين كانوا يترددون علي فيما مضى بصورة مستمرة سيوصي بي خير أعضاء دیوان حرب عاليه. وهكذا تمت جميع اجراءات ديوان الحرب من غير أن أدعى للتحقيق. وحدث انني اجتمعت بكمال بك مستنطق ديوان الحرب، وذلك قبل يومين من الافراج عني، فكان ما قال لي :

« إننا نحكم بالشنق على كل من يؤتي به إلى هنا كي لا يبقى في بلاد العرب من يفكر بالانتقاض على الدولة العثمانية. أما أنت فقد غدوت صديقنا، وأعتقد أنك من الذين سيفرج عنهم إذ لا خطر منك، فاذا ما دعيت للسؤال، فعليك أن تتظاهر بالبساطة واستنكار كل ما يعزی اليك ». وعلى هذا الأساس جرى استنطاقي صورياً بتاریخ ۱۹۱٦/۳/١٤ و بعد يومين لا أكثر بلغت قرار منع المحاكمة فغادرت عاليه إلى دمشق عقب الإفراج عمن لم يحكموا بالاعدام، ورحت أسعى جهدي لإنقاذ من أستطيع من سيحكم عليهم بالاعدام. وأول من قصدت كان واصل المؤيد حيث طلبت اليه العمل على انقاذ شقيق المؤيد الذي أبعدت أسرته الى الاناضول كما أبعد من سورية عدد كبير من الأسر النافذة الكلمة لاضعاف في الحركة الوطنية.

وعلى أثر الإفراج عني حضر شكري بك رئيس ديوان حرب عاليه إلى دمشق، فلم أجد بداً من دعوته إلى حفلة ساهرة. وقد استثمرت عواطفه رحمة وعطفاً لإنقاذ اخواني، ولكنه أجابني، والدمع يترقرق في عينيه، بأن ليس في وسعه تلبية طلبي لأن جمال باشا مصر كل الإسرار على أكبر عدد ممكن من المعتقلين، وبخاصة أولئك الذين يخشى أن يقوموا بحركة من الحركات في سبيل قضية بلادهم، وانه لم يتمكن من حمله على العدول عن رأيه رغم المحاولات الكثيرة في هذا السبل.

وهكذا قضي على هاتيك النفوس البريئة أن تمضي إلى بارئها ضحية طغيان جمال باشا. فلم تشرق شمس ٦ مايو سنة ۱۹۱٦ حتى كان حكم الاعدام قد نفذ بالقافلة الثانية ؛ فسيق من كتب عليهم أن يعدموا في بیروت من عاليه تواً إلى دائرة شرطة المدينة المذكورة وكانوا ينشدون الاناشيد الوطنية، وأول من حملته أعواد المشنقة كان سعید عقل و بترو باولي وجرجي حداد. ثم أعقبهم من اخواننا الأكرمين عارف الشهابي وعبد الغني العريسي وعمر حمد، وكانوا يرددون أنشودة :

نحن أبناءالألى
شادوا مجداً و عُلی
نسل قحطان الأبي
جد كل العرب

وعندما صعد عمر حمد منصة المشنقة صاح في وجه السلطة الحكومية ان هذا الذي ترتكبه الحكومة الآن سيقوض أسس الدولة ويكون سبباً في خرابها. ثم خاطب الحاضرين قائلا : أني أموت فداء الأمة العربية غير خائف ولا وجل، فليسقط الخونة و ليحيا العرب. وصاح عبد الغني العريسي والحبل يوضع في عنقه قائلاً: أن الدول تبني على الجماجم، وان جماجمنا هي أساس استقلال بلادنا. ثم أعدم الشيخ أحمد طبارة ومحمد الشنقيطي. وعندما جاء دور توفيق البساط التفت نحو المشنوقين وكان عددهم أحد عشر شابا، ثم صاح بصوت جهوري، وعلى محياه ابتسامة مرة : ألا مرحبا بارجوحة الابطال، مرحبا بارجوحة الشرف، مرحبا بالأعمدة التي يستند اليها استقلال الأمم، مرحبا بالموت في سبيل الوطن، ثم رفس كرسي المشنقة برجله وفاضت روحه الطاهرة إلى باريها. و كانت خاتمة المأساة شنق سليم الجزائري وأمين لطفي.

أما الذين سيقوا من عاليه إلى دمشق فهم شفيق المؤيد وعبد الوهاب الانكليزي وشكري العسلي و عبد الحميد الزهراوي والأمير عمر الجزائري ورفيق رزق سلوم. وقد أعدموا جميعاً في ساحة الشهداء صباح ٦ مایو أي في اليوم الذي اعدم فيه اخوانهم في بيروت.

وأبت علي السلطة العسكرية إطالة الاقامة في دمشق، فأمرتني بالسفر الى بئر السبع لأكون بعيداً عن سوريا، وبعد أن لبثت في بئر السبع مدة قصيرة قابلت الرئيس في فوج سكة حديد الحجاز السيد مغربية، فكلفني بأن أنتقل الى طبابة الفوج المذكور على أن يكفل لي جميع أسباب الراحة. وسرعان ما قبلت. ولما كان رئيس الأطباء في بئر السبع ألمانياً ولا علم له بخطط جمال باشا فقد وافق على نقلي، وهكذا أصبح مركزي في وادي الصرار إذ كان العمل قائما لتمديد السكة الحديدية حتى القنال تحت رئاسة المهندس الألماني الكبير مایسن باشا. وقد كان بين المهندسين الذين يعملون هناك المهندس المصري أحمد عبود، فتوثقت ما بيننا عرى الصداقة، وفي خلال وجودي في هذه المنطقة، وكانت الحرارة فها شديدة تكاد لا تطاق، هاجمتنا الطائرات البريطانية ملقية علينا حمم قنابلها. ولما لم تجد أدنى مقاومة فقد تنهابطت إلى مسافة قريبة من الأرض ثم أصلتنا من رشاشاتها نيراناً حامية، وقد أصابتني شظية في ذراعي الأمن، فنقلت على الاثر بصالون رئيس المهندسين الخاص إلى المستشفي بدمشق. وبعد أن تماثلت للشفاء واستوفيت بعض الراحة علمت بأن السيد شكري القوتلي قد أوقف في خان الباشا، فكان هذا النبأ مثل وقع الصاعقة عليه، إذ كنت أعلم بأن شكري باشا الأيوبي بطل قضية الخان المذكور، الذي اوقف في يونيو ۱۹۱۹، كان غاية في السذاجة، ولذلك لم تقبل جمعية الفتاة ادخاله بين أعضائها رغم الحاح السيد نسيب البكري، كما كنت أعلم بأن السيد نسيب البكري رضي العمل معه وأوصاه بالالتجاء إلى السيد شكري القوتلي اذا ما اضطرته الحال إلى الفرار من دمشق، ومن أجل هذا قوي لدي الاعتقاد بأن سبب توقیف شكري القوتلي انما هو اعترافات الايوبي بعد تعذيبه تعذيبا لا يطاق.

ثم عدت وفي نفسي من الأسي لا يعلمه إلا الله، الى قطعتي، وكانت تعسکر يومئذ في ( بير بيرين ) بعد ( عوجة الحفير ) باتجاه القنال مواصلة العمل لايصال سكة الحديد الى القنال.

وفي أثناء ذلك زار جمال باشا وأركان حربه تلك المنطقة، فاجتمعت بأحد ضباطه المقربين ويدعى جوبان اوغلو زكي. وكان في جملة ما أخبرني أنهم عثروا بين أوراق عبد الحميد الزهراوي، بعد أن أخلي سبيلي من عالیه، برقية بتوقيعي نيابة عن شباب دمشق المثقف راجياً تمسكه مقررات مؤتمر باريس مع التهنئة بعضويته في مجلس الاعيان وهي العضوية التي ستكون ولا شك مقدمة لنا على تحقيق مطالبنا الوطنية. وقد عزموا على استئناف توقيف، لولا أنه قال للقائمين على شؤون ديوان الحرب : «اذا كنتم تجدون ما يدعو لاعدامه فأوقفوه ؛ أما أن تأتوا به هم تخلون سبيله فليس هذا بالرأي المصيب». ولذا عدلوا عن استعادتي إلى عاليه.

وعلمت كذلك وأنا في بيربيرين أن عزة دروزة وفوزي القاوقجي، وكان من ضباط الجيش، موجودان في عوجة الحفير وكانت هيئة ادارة جمعية الفتاة قررت قبولها عضوين فهما، فقصدت الحفير وحلفتهما المين المعتادة. وبالنظر لمكي من الحصول على كمية كبيرة من الديناميت إذ كان لدي قطعتنا الشيء الكثير منها فقد رأيت أن أسلمها لفوزي القاوقجي علنا نحتاج اليها في يوم من الايام. وفي تلك الآونة كان الوقود الذي تحتاجه قاطرات السكك الحديدية مفقودة فاضطرت السلطات الاستعاضة بحلط الأحراش، وجاءنا الأمر بالانتقال إلى ( الشوبك ) على مقربة من «وادي موسى» لتمد فرعا للسكة الحد بابية من أحواش الشوبك الى معان. ولم يمض إلا القليل على وصولنا إلى مقر عملنا الجديد حتى أرسل في طلبي قائد فوجنا ثم أسرّ إلي بأنه تلقي الأمر بالقاء القبض علي ومصادرة جميع أوراقي، فما علي إلا أن أحتاط الأمر قبل التحقيق. ولما لم يكن لدي شيء مما ذكر فقد أجبته باني أشكره على لطفه ولكنني بريء، ولست بحاجة الى ابادة شيء من أوراقي. وهنا أمر بتوقيفي، فأوقفت في ۱۹۱٦/۱۰/٩ ثم نقلت محروسًا بشدة إلى معان، ومنها إلى دمشق حيث وصلتها في ۱۹۱٦/۱۰/١٤؛ و بينا أنا في طريقي مع الضابط المكلف بحراستي، رأيت في السنجقدار في مدخل الفندق المسمی و فندق دار الفرح إذ ذاك، صديقي وأحد أعضاء جمعية الفتاة مصطفى برمدا . فعزمت على الضابط أن تتناول طعام العشاء معا ، قبل أن يسلمني الى آمر الموقع . فوافق ولم يمانع لي و بينا نحن على المائدة سألت الأخ برمدا عما اذا كان حقا ما اتصل من أن والي دمشق قد توسط لدى السلطات العليا في الاستانة للحد من مظالم جمال باشا وان الوضع قد تغير بسبب ذلك ؟ فكان جوابه بأن الحالة ويا الأسف لم نزل على ما كانت ، وان مظالم جمال باشا وأوامره لا تزال نافذة لا راد لقضائها . ولم يكن محدثي يعرف حقيقة أمري ، فلم أشأ إزعاجه أكثر من ذاك . وبعد أن تم العشاء مضيت برفقة الضابط المكلف بالمحافظة علي ، الى قائد الموقع الذي أمر بنقلي الى تو سجن الضباط حيث أصبت قسطا من الراحة مدة ساعتين ، ثم تحولوا ی بي الى دائرة الشرطة حيث أخبرت بأن مديرها توفيق بك يرعب في مقابلتي . ولبثت في غرفة الكتاب حتى الساعة الثالثة بعد منتصف الليل وكانت الغاية من ذلك التأثير على أعصابي . وأخيراً أرسل في طلبي مدير الشرطة واذا هو يفاجئني بقوله : . ه لدينا معلومات أكيدة عن انك رئيس جمعية تهدد كيان الدولة - 6 59 - 6 ولما كانت النجاة بالصدق وجب أن تخبرني بكل ما تعرفه عن ذلك » . وللحال و بدون اكتراث أجبته بأن سوق الوشايات أصبحت رائجة فيجب أن لا يؤخذ ما يتقوله المغرضون . . . وظل الرجل فوق الساعة يحاول انتزاع ما يعينه على ادانتي ، ولكن على غير جدوى وهنا ما راعني إلا أنه يسألني عما اذا كنت مشاركا" للسيد شكري القوتلي في الاعمال السياسية ؟ فنفيت ذلك البتة . ثم استملى يقول : وهل تنكر أيضا صداقتك له واتصالك الدائم به ؟ فأجبته بأن ما يقول حق ، 6 ومرجعه صلتنا العائلية ، إلا انني في المدة الأخيرة قطعت ما بيني وبينه صداقة لاختلافنا في وجهة النظر . ومنذ ذلك العهد زال ما بيننا من وتمسكت بهذه الكلمات لا أزيد عليها حرفا . ولما تبلج الليل عن الصباح وهب الناس من رقادهم ولم أكن قد ذقت للكرى طعما ، أمر المدير بأن احمل الى خان الباشا . وهناك أودعت في احدى الغرف بالطابق العلوي ، موصدأ علي ، محالاً بيني وبين الاتصال بأحد . ولما كان البناء قديماً وليس للباب قفل محكم وانما يقفل بسلسلة من الحديد عليها قفل فقد كنت أتمكن من خلال الباب أن أرى ما يجري خارجاً ، فرأيت شكري باشا الايوبي وعبد الغني الرافعي وفارس الخوري وعمر الرافعي وسعدي المنلا وحميد باشا القلطقجي واخانا في الجمعية شكري القوتلي ، وكنت جد" تواق الى الاجتماع به ، وكانت الرغبة ذاتها تحفزه الى ذلك ولا انتصف الليل ، وتفقد ضابط الحرس جنوده ، عمدت الى الحارس ، وكان من جنود بلوك القادرية ذوي العائم الخضراء ، فرشوته على أن يهيء لي مقابلة شكري القوتلي الذي كان على نحوي يترقب الاجتماع بي يجد الحارس أية صعوبة في عقد اجتماعنا . فتقابلنا هو في الممر ، وأنا داخل الغرفة ، وابتدرته بقولي : « لقد قلت لمدير الشرطة في التحقيق الابتدائي انه حدث مؤخراً عداء عائلي فيما بيننا مما قسرنا على الانفصال ، فرجائي اليك أن تؤيد هذا القول . ولما كنا نحن الاثنين اعضاء الجمعية ، فعلينا أن نلقى وجه ربنا من غير أن تبدر ، ی فقط من منا كلة عن جمعيتنا وأعمالها . ولا شك بأن موتنا شرفاء خير من أن . • اعمالنا الوطنية ونكون سببا في اعدام غيرنا . فأيد رأيي نحين وندك صرح . الا انه قال : « والضرب والتعذيب والقسوة ؟ كيف يمكننا --- -- -تحملها ؟ » فأجبته : « نتحمل كل ما يمكننا تحمله ، ثم علينا بالانتحار عندما نستوثق من التخاذل وتحمل ما فوق الطاقة . ولنا بأخينا توفيق البساط اسوة ومثال . فقد انزلوا به من العذاب ما يزلزل الجبال ومع ذلك ظل قويا مستمسكا لا يتحلحل عن نفي التهم واعلان البراءة » . بانني محتفظ بموسى حلاقة في طيات معطفي وسأستخدمه لقص شرابيني ثم أخبرته موی عند مفصل اليد ، فأقر هذه الخطة وطلب أن أعطيه هذه الموسى ، فأحبته بأنها مدخري لا غنية عنها . فسألني : فكيف السبيل اذن الى الانتحار ؟ فأحبته : اذا أعجزك الحصول على حلاقة فما عليك إلا أن تصعد فوق درابزون المشى وتلقي بنفسك الى ارض الخـان فقال : واذا تهشمت أعضائي من غير أن أموت ، ثم استمروا في ، فتلك ولا شك الطامة الكبرى فقلت : ثق بأن ذلك أبعد تعذيبي مما تظن . ثم افترقنا على هذا الرأي ونمت ليلتي ملء جفوني بعد أن استوثقت من انني قمت بواجبي ، وما علي إلا أن أنتظر مصيري في اللحاق بغيري ممن سبقني من الاخوان لنيل الشهادة في ساحة المرحة ولما استيقظت وأرسلت النظر خارج غرفتي ، رأيت الدم يخرج من تحت باب الغرفة التي احتوت شكري القوتلي ، فهالني الأمر ، وأيقنت للحال بأنه استعمل ما اتفقنا عليه واني لأخفق الباب خفقا متداركا فيفتح الحارس فألفت نظره الى أن الدم يسيل من الغرفة المجاورة وانني كطبيب لا بد من أقوم . 6 بواجبي اسعافاً ا وهنا حصل هرج ومرج في السجن ، وارتبك لاجريح ضابط الحرس ، فلم يمانعني أحد اسعاف شكري القوتلي الذي كان قطع شرايين يده ، فوضعت عليها قطعة كبيرة من القطن وربطتها باحكام . رباط الحرب الذي يدخره كل ضابط وجندي ، فاستعاض بعض وعيه ربه ونصحت له بأن يتظاهر مثل المشرف على الموت ليمكن انقاذه من سجنه . فلبى وهو يقول لي بانه كتب ورقة تركها تحت الوسادة يذكر فيها انه ماض للقاء لا خوفا على حياته بل خوفا من اهانته بالتعذيب كما جرى الغيره وانه هو بريء والله على ما ذكره شهید . . . فتركت الورقة مكانها . وبعد ساعة وصل طبيب البلدية فؤاد الساطي وجراحهـا أبوه محمد علي الساطي ، فربطنا له الشرايين المقطوعة وتحمل ذلك دون أن يظهر عليه أي أثر للحياة ، وبعد ذلك نقل الى المستشفى 6 . وكان لهذا الحادث أثر سيء عند جمال باشا لانه ادرك أن الحراسة غير كافية ، فأمر بنقل ( سرية ) القادرية القائمة على الحراسة في خان الباشا وجعل مكانها السرية الخاصة المرتبطة به والتي كانت مكلفة بحراسة موقوفي عاليه . وقد تفقد قائدها حسني بك المسجونين واحداً واحداً عند تسلمه العمل ، الى أن رآني فحياني تحية الصداقة القديمة . وفي المساء دعاني الى غرفته حيث تناولنا معا الطعام . وكان مما قال لي : أنا واثق من براءتك . إلا انني أستغرب كيف أدخلوا اسمك في جميع القضايا السياسية العربية . وعلى كل فلن يكون عليك بأس ان شاء الله . وبعد بضعة أيام دعيت ثانية لغرفته ، وكان هناك شقيق جمال باشا الذي عالجته وأنا في سجن عاليه ، فاستشارني بأمر مرضه ، وأكد لي بأنه رئيس ديوان الحرب العرفي فخر الدين بك خيراً . وعند استجوابي كان التحقيق بدور معي على محاولة السيد القوتلي الانتحار ، وكيف وقع في الصباح الذي تلا دخولي إلى السجن وكانت أجوبتي منحصرة في انني أجهل كل شيء ، إذ كنت مسجونا سجناً منفرداً سيوسي بي - ۹۲ . وغير مسموح لي الاتصال بأحد . وحمدت الله على أن التحقيق لم يطل . وكان مستشار الجيش العدلي في دمشق إذ ذاك جودت البغدادي ، وهو جاري أعرفه ويعرفني جيداً فبذل غاية وسعه لمعاونتي . 6 من ی وفي 10 كانون الأول صدر القرار بتخلية سبيلي ، فحرصت على البقاء في دمشق مركز الحركة العربية بعد أن أعلن التعريف حسين الثورة . وقد فاتحت بذلك الدكتور كنعان شبان نابلس النابهين وكان مساعداً لمدير الصحة العسكرية في دمشق اذ ذاك ، الدكتور حسن ابراهيم باشا ، فوافقت القيادة على أن أعين طبيبا لمستشفى الأمراض الزهرية في دمشق . ولما كان الامير فيصل قد احتل العقبة في آب فقد أصبح اتصالنا به ميسوراً عن طريق جبل الدروز لأن قوافل المهربين كانت لا تنقطع عن العقبة بسبب قلة بل انعدام وجود السكر والارز وما شاكلها من المواد الغذائية وغيرها من المنسوجات الضرورية في البلاد . ومما ورد في الاحصاءات أن سورية والعراق فقدنا سنة 1917 وحدها ما لا يقل عن مئة وخمسين الف نسمة بسبب المجاعة والامراض مما دفع بعض النساء الى التهام جثث الاطفال ، فحكم على إحدى النساء بالموصل واخرى في طرابلس الشام بالاعدام بسبب ذلك ، ولم يشفع لها بؤسهما الذي كان العامل الحقيقي على ما أقدمتا عليه أن استقر في المقام في دمشق 26 همي الوحيد تبين الخطاط B و بعد ی التي تضعها السلطة العسكرية في محاربة الأمير فيصل ، وارشاده الها كما يتحاشاها . وقد اضطررت في احدى الليالي الى السفر لدرعا بقطار عسكري فوق أكياس ، والبرد قارس ، لاستلام رسالة أرسلها لنا الامير فيصل . فقطعت الطريق وقد استغرق اثنتي عشرة ساعة اذ كان - ۹۳ المكلف وقود القطار من الحطب . وقد حظيت بكل مساعدة لمعرفة خطط السلطة العسكرية من ياسين الجابي أحد أفراد هيئة أركان حرب جمال باشا الصغير الذي خلف جمال باشا الكبير في سورية بعد مغادرته لهـا في خريف 1917 . وبعد استقرار فيصل في ( أبي الاسل" ) وضبطه مرتفعات سمنة التي تشرف على معان وتخريب رجاله لكثير من محطات سكة حديد الحجاز ، غدا الاتصال بين سورية والامير أسهل منه قبلا ً . وفي تلك الاثناء نقلت القطعة التي يترأس عليها ياسين باشا الهاشمي الى جبهة فلسطين قرب عمان ، الا أنها أصبحت تركية ، فأرسلت له الملازم بالخدمة سليم عبد الرحمن لاستشارته فيها يمكن عمله ، فأبدى غاية التحفظ ولم يزد على القول بأن الامر أصبح بيد فيصل ، فقررنا آنئذ استشارة فيصل باللحاق به ، فجاءني الرد بأنه اذا لم يعد بإمكاننا القيام بأي عمل ايجابي في دمشق فلنلتحق به في ( أبي اللسل ) . وهكذا عمدت الى تهيئة أمر حملة لتلك الغاية وكان كل ما بقي معي من مال اذ ذاك ألفي ذهبة عثمانية ، فوضعتها تحت أمر اخواني لتنظيم الحملة المذكورة ، وهي مؤلفة مني ومن قائدها أخي تحسين قدري الذي طلبت اليه العودة لدمشق من جبهة فلسطين ، فوافاني متنكراً ونزل من القطار بين الكسوة والقدم واختفى في بيت مربية أولاد أحمد مختار مردم بك ( والد صديقي خليل بك ) الى يوم سفرنا ، ومن رفيق التميمي وسليم عبد الرحمن ورستم حيدر والملازم الاول محمود المغربي وخليل السكاكيني وسعيد الباني والعسلية الثلاثة الذين كانوا في انتظارنا بالحبل واستعنت بسليم ابن يوسف عبيد من جرمانا الهيئة الخيل والسلاح والعتاد والمتطوعين الذين نحتاج اليهم . وبلغت التكاليف التي تكبدناها حدا باهظاً بسبب - ٦٤ - ( سرية العمل . وفي أواسط يونيو قصدنا متفرقين بساتين جرمانا بغوطة دمشق . . . وبعد حين جمعنا شملنا وغيرنا زينا ، وغادرنا مكاننا تحت جناح الليل قاصدين الى خلخلة ، مارين بغير اكتراث بالمخفر الذي يعترض طريقنا اذ كان في وسعنا الاستيلاء عليه ولكننا لم يعترضنا أحد ولبثنا يومين في خلخلة ندعو الى ضرورة انضواء العرب تحت راية الامير فيصل . ومنها قصدنا في طريقنا الى القرية المجاورة ( الحلبية) . ولما كان شيخها تظاهر بالصداقة للسلطة التركية ، فقد تحاشى الاجتماع بنا ولم يضفنا ، فأوجس زملائي أن يتكاثر علينا أهل القرية فيتعذر علينا الدفاع ، ثم يسلموننا للحكومة التي كانت قد أعلنت على انها تمنح لمن يأتي بأحدنا حياً أو ميتا مكافأة قدرها ( ٥٠٠ ) ليرة ذهبية . فرأيت أن لا خلاص لنا إلا بالاقدام ورباطة الجأش ، وهنا تقدمت من ابن الشيح زاعما انني صديق حميم لسليم الاطرش ، وكان بحكم حاكم الجبل في نظر أهاليه ، كما انني أخ النسيب الاطرش ، ولم أقم بهذه الرحلة إلا بعد الاتفاق معهما بهذه المعاملة الشاذة التي لا يليق أن يعامل بها الضيوف . فتغير الوضع ا ، وانني على استعداد لمغادرة القرية واخبارها . . ی آنند ، وذبحت لنا ذبيحة ، وأنانا منشد القرية ينشد على ربابته أناشيد في تمجيدنا . ولما لاح الصباح غادرنا القرية قاصدين عنزة ، قرية حسين الاطرش ، إلا اننا بتنا ليلة في الطريق قبل الوصول إليها ، وكنا نلقى كل ترحاب ممن نصادفهم ، كما ان لقاء حسين لنا كان لقـاء كرما ، ثم واصلنا السفر الى ( القوية ) مقر سلطان الاطرش ، ورغم تغيبه ، فاننا بتنا في المضافة ، وأصبحنا آمنين على أنفسنا . ومكثنا يومئذ -90هناك بضعة أيام لاستكمال عدتنا ، واستأجرنا بعض الادلاء والمتطوعين من عرب السردية . واجتمعنا بعبد اللطيف العسلي ولطفي العسلي وحكمة العسلي . ولما أن استوفينا ما أردنا من العدة وكان عديدنا قد غدا وفيراً بانضمام الكثير ممن يرغب الالتجاء الى مصر ، الى أقاربهم من اللبنانيين ، ومن الارمن ممن كانوا مختبئين في جبل الدروز والذين أعلن فيصل أخذهم تحت حمايته ، وكان بينهم عدد من النساء أيضا . فسارت القافلة بتنظيم عسكري بطريق البادية ، وبتنا بالخلاء ، ثم حللنا بالازرق للارتواء ، فباغتنا عن بعد غزو ، إلا انه لم يجرؤ على مهاجمتنا . وفي أثناء انحدارنا خطة الدفاع نحو أحد الوديان أراد سعيد الباني أن يسرع ويتقدم غيره ، راجيا أن تكون النساء في المقدمة . ولم أكد أتم كلامي حتى انطلقت علينا عدة طلقات نارية ، فاتجه عندئذ نحوي وقال لي : هذا هو السبب الذي كنت من أجله أود الاسراع في النزول . وللحال اتخذت حاميتنا ، وفتحت النار بشدة على المهاجمين ، وأحضرت أنا آلات الاسعاف ، وكان رستم حيدر مكلفاً بجلب الماء للجرحى اذا ما اصيب أحد ، الا ان تنظيمنا شبه العسكري ووفرة النيران التي قابلنا بها المهاجمين إذ كان لدينا رشاش ، كل اولئك جعلهم يرتدون بسرعة . ثم واصلنا السفر بعدها الى بير بيرين مقر ( عودة ابو تايه ) شيخ الحويطات وهناك رأينا على بئرها قطعة Buxton العسكرية الانكليزية معتلية الجمال عائدة بخيبة من التجربة التي أرادت القيام بها لتخريب خط السكة الحديدية بين جبهة فلسطين ودرعا ، وغاية ما وسعها عمله هو الاستيلاء على محطة المدورة شمال معان بحماية رجال فيصل . واقد تنا ليلتنا هذه ضيوفا على ابو تايه حتى اذا اشرق الصباح نا نجتاز السكة الحديدية ر - ۶۶ - 6 قرب معان قاصدين - أبا الاسل" ، أمام معان مقر الامير فيصل ، وكان أول من صادفنا من قواد جيشه النظامي جودة الايوبي ، وكنا آنئذ ننشد الاناشيد الحماسية التي نظمها ولحنها لنا خليل السكاكيني ومطلعها : من أيها المولى العظيم ملكك الملك العظيم فخر كل العرب ملات دك النبي الخ . . . وبعد أن تناولنا عنده المرطبات ودعناه قاصدين مقر الامير ، وكان وصولنا اليه عند المساء عقب الغروب . فاستقبلنا سكرتيره الخاص فايز الغصين ونسيب السكري وها من اخواننا في الجمعية ، وفايز المؤيد وأخوه أحمد ، ولاحال نصبت الخيام لمبيتنا . وما هي إلا استراحة قصيرة حتى طلب فيصل مقابلتي ، ورحب بي ببشاشته المعهودة ثم رأى أن يعين رستم حيدر رئيسا لديوانه ، ورفيق التميمي رئيسا لديوان أخيه الامير زيد ، وتحسين قدري مرافقا خاصا له . ولقد حسرت له عن الحالة الالية التي انتهت اليها سورية ، ونفور الاهلين من مظالم جمال باشا وسوء الادارة في البلاد ، وتحينهم الفرص للانضمام تحت لوائه ، الامر الذي لم يعد خافيا على الحكام في الاستانة ، فسحبوا جمال باشا لتخفيف حدة التوتر في سورية وتخفيف شدة انتقاد حلفائهم على سوء تصرفهم في البلاد العربية . وفكروا بتكليف المارشال لمان فون ساندرس الذي كان قد عين قائداً عاماً لجيوش تركيا في سورية ، بالاشراف على شؤون سورية الادارية ايضا . فاعتذر بسبب الانحلال الذي بدأ يظهر في الادارة التركية في هذه البلاد ، ونفور الاهلين من الحكم القائم . وبعد اجتماعات متعددة علمت أن هناك تذمراً بين الالمان ۶۷ قادة فيصل بعد أن اتصلت بهم أخبار عقد اتفاق سيكس – بيكو الذي تمت مذاكرات توقيعه في ١٦ مايس سنة ١٩١٦ والذي يتنافى مع العهود المعطاة الى الشريف حسين . وقد نشر الروس نصه بعد انسحابهم من الحرب ، وهاهي أهم بنوده :

المادة الاولى – ان فرنسا وبريطانيا العظمى مستعدان أن تعترفا وتحميا دولة عربية مستقلة أو حلف دول عربية تحت رئاسة رئيس عربي في المنطقتين ( أ ) [ داخلية سورية ] و ( ب ) [ داخلية العراق ] المبينتين في الخريطة الملحقة بهذا ، ويكون لفرنسا في منطقة (أ) ولانكلترا في منطقة ( ب ) حق الأولوية في المشروعات والقروض المحلية ، وتنفرد فرنسا في منطقة ( أ ) وانكلترا في منطقة (ب) بتقديم المستشارين والموظفين الاجانب بناء على طلب الحكومة العربية او حلف الحكومات العربية ·

المادة الثانية – يباح لفرنسا في المنطقة الزرقاء [ سورية الساحلية و يدخل ضمنها لبنان ] ولانكلترا في المنطقة الحمراء [ شقة العراق الساحلية من حدود بغداد حتى خليج فارس ] انشاء ما ترغبان فيه من شكل الحكم مباشرة او بالواسطة او من المراقبة بعد الاتفاق مع الحكومة او حلف الحكومات العربية ·

المادة الثالثة – تنشأ ادارة دولية المنطقة السمراء [ فلسطين ] يعين شكلها بعد استشارة روسيا وبالاتفاق مع بقية الحلفاء وممثلي شريف مكة

المادة الرابعة – تنال انكلترا ما يأتي : ۱ – ميناء حيفا وعكا ۲ تضمين مقدار محدود من ماء دجلة والفرات في المنطقة ( 1 ) المنطقة ( ب ) . . . الخ من أجل هذا راح فيصل يفكر بمفاوضة رجال الدولة العثمانية ثانية بغية توحيد العمل الحربي معهم اذا ما ضمنوا للعرب ، بالاتفاق مع حلفائهم ، ا ومع انه بد من الاقدام ما وعد الانكليز به الشريف حسين ، فيبقى العرب دوما حلفاء للدولة العثمانية وعلى اتفاق تام معها ، كل ذلك فكر به فيصل ولو انه لم يكن يعتقد بان الحكمة ستكون رائد رجال الاتحاد والترقي . هذا كان من المرجح لديه انهم سيرفضون مطلبه ، فلم يكن على هذه الخطوة ارضاء المتذمرين من أنصاره بعد أن اتصل به آن جمال باشا الصغير الذي خلف أحمد جمال باشا في قيادة الجيش الرابع ، يرغب في اتباع خطة المسالمة العرب . ولم أر بدأ من ماشاة الامير في رأيه لانني لم أكن مطلعا على حقيقة الوضع السياسي إذ ذاك ، فأرسل فيصل اقتراحاً بما تقدم الى جمال باشا الصغير الذي كانت القوات التركية المحاربة لجيش فيصل في معان تابعة له طالبا منه الجواب بسرعة إذ أن البريطانيين العام قد قرب ميعاده ، فرفعه هذا بدوره الى القائد العام ، فحبذه لمان فون ساندرس ، إلا انه لم يحرز رضى السلطات العليا في الاستانة . فرفع فيصل نتيجة مساعيه الى والده الذي أراد أن ينتهز الفرصة ليحصل من بريطانيا على تأكيد أكثر صراحة بتعهدها تأمين استقلال العرب بالحدود المرسومة ، وهي المقدمة له من الفتاة . وقد هجوم ، هدد بالانسحاب من المعركة اذا لم يوافق البريطانيون على ذلك ، فكان جوابهم الماطلة والتسويف وبالنظر لقرب قيام الانكليز بهجومهم العام في جبهة فلسطين وعدم م (ه) 3 - 69 --- ، تمكنهم من عرقلة خط رجعة الجيش التركي بقواهم الخاصة فانهم أناطوا هذا الأمر الهام بالامير فيصل الذي كان يتشوق الى سورية ونجدة مواطنيه فيها ، فرحب بالأمر ، وأعد حملة من خيرة جنوده المدربين تحت قيادة نوري السعيد على أن يرأسها بنفسه . وهكذا غادرت الحملة أبا اللسل في 31 اغسطس 1918 قاصدة الأزرق وفي طريقها ارسلت السكة الحديدية الكائن بين المفرق والزرقاء بقصد مفرزة دمرت جسر عرقلة تموين الجيش العثماني المرابط في جبهة السلط وعمان . فبلغت الازرق في ١٢ ايلول . وقد بارح الامير فيصل أبا اللسل بالسيارة وكنت معيته . وتوقفنا في مضارب الحويطات ليستصحب شيخها عودة أبو تابه ورجاله ، ولكن الشيخ تردد كثيراً بحجة احتياج أهله للزاد وقاسي فيصل كثيراً من الصعوبة حتى تمكن من تدبير المبلغ الذي رضي . فأخذناه وابنه محمد معنا الى الازرق وعكف الامير على مخابرة مشايخ جبل الدروز وحوران معلنا قدومه لسورية لتخليص البلاد من المظالم والاهوال التي حلت بها طالباً اليهم الانضمام اليه . وكنت أقوم بوظيفة كتابة المخابرات . وقد حدث أثناء ذلك حادث غريب إذ أن محمد بن عودة أبو تايه عطلش فلم ير أحد أليق مني ليأتيه بالماء لان الفقيه وهو الوحيد الذي يعرف القراءة والكتابة بين البـدو هو أقل شأنا من الجميع . فأسرعت وأحبته الى طلبه لأن الوقت كان وقت عمل لا وقت ارشاد الجهلاء ، لكن فيصل لم يوافق على ذلك وقال لي : « على هؤلاء أن يعلموا بانك لست فقيها لدى قبيلة بدوية بل انني اعتبرك كأخ لي » . وأفهم ذلك كان حاضراً وفي اليوم التالي وصلت الحملة العسكرية الى الازرق . ثم وصلت P 6 -- ۷۰ – ی الى الازرق بيارق وآل نوري الشعلان لتكون تحت أمرة الامير وبعد استراحة الحملة يومين في الازرق اتجهت الى حوران . و بعد سفرها تحرك ركاب الامير في السيارات من الازرق ونزلنا في حوران قرب ( أم السراب ) وقد تجمعت جموع الرولة والحويطات بأطراف مقمر الامير ووافته مشايخ حوران مسامة ، إلا انهم التزموا خطة الحذر . وقد اندفع من بينهم بوطنية جائثة شيخ قرية طفس طلال حريدين يشجعهم ويلقي الحماس بين صفوفهم . وفي 16 سبتمبر 1918 وصلت الحملة الى حوران فرجوت الامير أن يسمح لي بمرافقتها مع نوري السعيد فوافق على ذلك . وخربت الحملة في 17 منه مخفر تل عوار الكائن على بعد ثماني كيلومترات شمالي درعا ، ثم خربت طريق السكة الحديدية ، واتجهت إلى المزيريب حيث خربت محطتها واتصلت بطلال حريدين بغية تسهيل تخريب جسر السكة الحديدية الكبير الكائن قرب تل شهاب . وكاد هذا الأمر الخطير يتم لولا أن قطاراً وصل في اللحظة الأخيرة وبه قوة كبيرة مسلحة بالمدفعية والرشاشات المحافظة عليه . لذلك عادت الحملة باتجاه درعا قاصدة محطة نصيب جنوب درعا لعرقلة تموين وقطع خط رجعة الجيش المرابط في جبهة السلط - عمان ، فدمرتها وواصلنا السفر إلى أم السراب واستمرت أعمال تخريب قضبان السكة الحديدية . وفي ٢٤ منه عامت قيادة الحملة ان الهجوم البريطاني الكبير على جبهة فلسطين قد نجح وتمزق الجيش التركي وأخذت كل قواته تتراجع فخفت الحملة لقطع خط رجعتها وأسرت ما عثرت عليه من القوات المتراجعة من عمان أن تركت قوة في نصيب لمنع اصلاح خط السكة الحديدية ، قررت قيادة الحملة قطع خط رجعة القوى الاساسية التركية المتراجمة عن طريق سكة . و بعد

- ۷۱ اعتداء الترك حديد حيفا ، فاتجهت نحو الشمال فوصلت في صباح ٢٧ منه الى الشيخ سعد ، واجتمعت فيها بالقوى البدوية التي تجمعت حول نوري الشعلان وعوده أبو تايه وكان يرأسها الشريف ناصر . ولم يطل مقامنا فيها حتى أتانا رسل أهل قرية طفس يستجيرون بالحملة لتصد عنهم الذين مروا بقريتهم ، وكانت القوة المعتدية عظيمة ولديها قيادة منظمة تحت رقابة فنية ألمانية ، وهي تود سلوك طريق طفس ، نوی ، دمشق . ولما كنا نجهل امكانيات هذه القوة ولم نسترح من عناء السفر ، فلم قابل طلب قرية طفس بحاس ، بل ان نوري الشعلان ندد بالحورانيين لعدم قيامهم بواجبهم أمام طلال حريدين قائلا : « على مشايخ حوران أن يدافعوا عن أموالكم وأعراضكم وأن يعملوا مثلما نعمل نحن ، . فارتد طلال الى قريته مع بعض المتطوعة البدو الذين رافقوه وقاوم المعتدين بكل حمية وشجاعة حتى سقط شهيداً في ساحة الشرف . ثم خف قسم كبير من قوتنا لتخليص أهل القرية من القتل والتمثيل وصبت نيران مدافعها الرشاشة على المعتدين الذين هالتهم هذه المفاجأة فأسرعوا بالاتجاه نحو 6 علمنا درعا ۔ شیخ مسكين ـ دمشق . وعندها عدنا الى الشيخ سعد . ثم أن القوى البريطانية تتجه نحو درعا فقصدناها قبل طلوع فجر يوم ٢٨ ايلول و وكنت مع لورنس أول من دخل البلدة . واتصلت الحملة في درعا بالقوات البريطانية . ثم غادرنا درعا قاصدين دمشق حيث بتنا في قرية غباغب وقبل فجر أول تشرين الاول دخل الشريف ناصر دمشق مع رجال القبائل الذين كانوا تحت لواء نوري الشعلان ومتطوعي الدروز الذين انضموا الى الشريف ناصر بقيادة سلطان باشا الاطرش . وأعقب ذلك دخول الحملة النظامية بقيادة نوري السعيد ثم الخيالة الاسترالية - ۷۲ و بلغ مجموع القوات التركية التي أسرها العرب أكثر من (٢٥) الف جندي ، كما ان عدداً قد يزيد على هذا أخرج من صفوف القتال بسبب . المرض وانهاك القوى والاصابة أثناء المعارك . فلو أن جمال باشا وحكومة الاتحاديين سلكا مسلكا حكيماً العرب لكان تعذر على الانكليز اختراق جبهة فلسطين بقوة لا تزيد كثيراً على الـ (٢٥) الفا يقابلها عدد لا يقل عنها من الجنود الاتراك ، والسكان في الامكان أن ينضم الى القوى التركية أيضاً ما لا يقل عن هذا العدد من خيرة الجنود الاتراك الذين كانوا يقاتلون العرب ما بين المدينة ومعان ، ولا كان بإمكان الجيش الانكليزي الهجوم وجناحه الايمن غير مؤمن . ولقد أظهر العرب كل ما في وسعهم من نية حسنة لتفادي هذا المصير المشؤوم ، لكن تعنت الاتحاديين أوصلهم الي هذه النتيجة . هذا ولا شك أن العرب أو لم يقوموا بثورتهم المباركة لما أمكن الحيلولة دون انتصار الحلفاء وتسلم الاتراك وحلفائهم بدون قيد أو شرط ولكانت بلادهم مسرحاً لاستعار هولاً مما عانوه بعد انتهاء الحرب العالمية الاولى أشد a وعندما دخلنا دمشق كانت الاعلام العربية ترفرف على مؤسساتها الرسمية إذ اننا كنا كلفنا رضا باشا الركابي وشكري باشا الايوبي بتشكيل حكومة وطنية في دمشق دون انتظار دخولنا بعد أن لم يعد في امكان القوي التركية المقاومة . إلا أن رضا باشا لم يكن في دمشق إذ عينته القيادة العثمانية قائداً عاماً للاستحكامات التي فكروا باقامتها حول المدينة للدفاع عنها . فاضطلع بذلك شكري باشا الايوبي ورفع العلم العربي بعد ظهر 30 سبتمبر على دار الحكومة وكان طيب القلب فوحد مساعيه الامير سعيد الجزائري وأخيه عبده وقبل تقدمهما عليه . وعندما بلغت مع . السراي كان لورنس قد وصل إليها فدهشنا من ذلك لأن المذكورين لم يكونا من الوطنيين الذين يعملون مع فيصل وانما كانا يعملان مع رجال الحكومة العثمانية ولها صلة بفرنسا . فلم نتحمل هذا الوضع بعد الانتصار الباهر الذي نلناه ورغب لورنس في تنحيتهما عن التدخل في شؤون الحكم فوافقته على ذلك ، فدخلنا هو السراي الكبير لمفاتحة الشريف ناصر بما تقدم ، إلا اننا فوجئنا بصياح وعربدة بالغرفة المجاورة بين عودة أبو تايه وسلطان الاطرش فخرجنا حالاً لإصلاح ذات البين فما كان من الأمير سعيد إلا أن كلف الشريف ناصر بأخذ قسط من الراحة في داره وغادر السراي . وكانت تلك خطة مدبرة لتفادي العاصفة إذ لم يكن من الحكمة أن يترك الشريف ناصر السراي في الوضع الحرج الذي كانت دمشق مسرحا له في تلك الساعات العصيبة وترغب بأخذ ، عوضاً عن الاضطلاع بمهام ترتيب شؤون الحكومة قسط من الراحة وكانت قوات الحملة العربية قد استلمت المباني الرسمية كما ان مقدمة الجيوش البريطانية قد وصلت اليها . فألح العقلاء على الشريف ناصر بالعودة حالاً الى السراي فعاد ومعه الامير سعيد وأخوه فتفاهمنا 6 الشريف ناصر وابلغ الامير سعيد لزوم التزامه بيته إلا أنه لم يرتدع بسهولة فحنق عليه لورنس وقال له : ان هذا ما يرتأيه من بيدهم الامر وان لم ترعو فان الشريف ناصر سيأمر القوى التي بامرته بالقاء القبض عليك ويحب تعلم بان القوى البريطانية أيضاً، مستعدة لمساعدة القوى العربية لتأمين الهدوء والنظام في المدينة . فخرج حانقا . وفي هذا اليوم السعيد كان الفرح يغمر سكان مدينة دمشق والاعلام العربية التي كنا أعددناها من قبل ترفرف في انحائها . وكان همنا الوحيد في ذلك أن - 74 - 6 اليوم تأمين الأمن ومنع رجال القبائل الذين رافقونا من أن يعمدوا الى السلب والنهب اللذين تعودوا عليهما في حياة البادية ، فطلبت الى كبير مراقبي الشرطة ان يبلغ جميع أفراده بالاستمرار على أعمالهم كالسابق وان يقوموا بواجباتهم فأجابني بان ذلك يتطلب سرعة تنقله وليس لديه ما يركبه فسلمته حصائي وقام بهذه المهمة على أحسن وجه ، لكن الحصان المسكين بعد أن أعيد إلي قضى نحبه من شدة الارهاق . وكانت دوريات الجند في الشوارع الرئيسية تسهل مهمة الشرطة وقد وصل رضا الركابي بالوقت المناسب للسراي واستلم رئاسة الحكم وفقاً للقرار الذي كان تبلغه . وفي 11/3/ غادر فيصل حوران ودخل دمشق فاستقبل بحفاوة لا نظير لها وحل ضيفا في دار محمود بك البارودي في الشابكلية وبعد دخول فيصل دمشق استأذنه لورنس بالسفر وعاد الى بلاده . وكانت الحرب لم تزل قائمة ، لذلك صدر أمر الجنرال اللنبي قائد قوات الحلفاء بإحالة ادارة سوريا الى سموه بصفته قائداً من قواد الحلفاء وكان رضا باشا الركابي بالاتفاق مع هيئة ادارة الفتاة قد تسلم الإدارة فيها لتخليصها من الفوضى بعد عودته لدمشق ، عقب دخول الجيش العربي ثم الانكليزي لها وانسحاب الجيش العثماني . وكان أول ما قام به اعلانه بان الجيش العربي بقيادة الأمير فيصل العليا سيعدم كل من يجرؤ على الاخلال بالأمن ، وأمر بنصب مشنقة أمام دار الحكومة ، فاستتب النظام في دمشق للحال إذ كان أول واجب نسعى لتحقيقه ، استتباب الأمن وعودة أمور الدولة الى مجاريها الطبيعية وفي ه تشرين الثاني 1918 أصدر الامير بيانا عين بموجبه الركابي هو ( -Yo حاكما عسكريا لسوريا وأقر آلني هذا التعيين الذي كان قائماً . وهذا نص البلاغ المذكور : الى أهالي سوريا المحترمين : أشكر جميع السوريين على ما أبدوه من العطف والمحبة وحسن القبول لجيوشنا المنصورة والمسارعة للبيعة باسم مولانا السلطان أمير المؤمنين الشريف حسين نصره الله ثم ابلغهم المواد الآتية : 1 – تشكلت في سورية حكومة دستورية عربية مستقلة استقلالاً مطلقاً لا شائبة فيه باسم مولانا السلطان شاملة جميع البلاد السورية . ۲ – قد عهدت الى السيد رضا باشا الركابي بالقيادة العامة للحكومة حسين المذكورة نظراً لثقتي باقتداره ولياقته تتألف ادارة عرفية لرؤية المواد التي يحيلها القائد اليها . بناء عليه أرجو جو من الاهالي الكرام المحافظة على الهدوء والسكون والطاعة للحكومة الجديدة والانقياد لأوامرها والاصغاء لتبليغاتها . وأبلغكم بأني سأكون تجاه جميع الأفراد المنضوين تحت لواء الحكومة العربية كأب شفوق كما اني سأكون شديد العقاب على من يجرأ على مخالفة أوامرها والعبث بقوانينها وايقاع العراقيل في سبيل سيرها ورقها . لذلك فاني آمل من أهالي سوريا الذين برهنوا على محبتهم بترحيبهم بنا أن يكونوا مثالاً حسناً للطاعة والسكون حتى يثبتوا للعالم أجمع أنهم أمة لائقة للاستقلال قادرة على ادارة شئونها بنفسها . وليعلم جميع الناس أن حكومتنا العربية قد تأسست على قاعدة العدالة والمساواة فهي تنظر الى جميع الناطقين بالضاد على اختلاف مذاهبهم وأديانهم نظراً واحداً لنا pa --- ۷۶ --لا تفرق في الحقوق بين المسلم والمسيحي والموسوي فهي تسعى بكل ما لديها من الوسائل لتحكيم دعائم هذه الدولة التي قامت باسم العرب وتستهدف اعلاء شأنهم وتأسيس مركز سياسي لهم بين الأمم الراقية . والله نسأل أن يوفقنا جميعا الى ما فيه خير العرب واعلاء كلمتهم والسلام . في ٢٧ ذي الحجة سنة 1336 الشريف فيصل وصدر الأمر بعودة جميع الموظفين الى أعمالهم كالمعتاد . إلا أن عدد رجال الأمن لم يكن كافيا فصدر الأمر بتعيين محمد علي التميمي أحد موظفي العدلية الاداريين بدمشق لمديرية الشرطة . وعينت لجنة ی لانتقاء أفراد الشرطة من المشهود لهم بالخلق الحسن والسمعة الطيبة فانضممت الى تلك اللجنة لأن المصلحة كانت تقضي بالاسراع في العمل وتعيين عدد كاف من رجال الأمن إذ ان فيصل كان يرغب في أن يطارد الجيش العربي الجيش العثماني المنهزم لاخراجه من حدود سورية قبل أن يتمكن من جمع فلولة في الشمال ، وفي تنظيم فرقة بدوية محلية تنضم الى الجيش النظامي العربي فتواصل حركاتها في الشمال . وقد علمنا في تلك البرهة أن ياسين الهاشمي قد وصل الى دمشق فلول حيشه المنهزم في السلط ، وجرح في الطريق جرحاً بسيطاً في وجهه ، والتجأ الى أحد المنازل في الميدان ، فأسرعنا الى زيارته ، وانضم الى هيئة الفتاة الادارية التي كانت تجتمع بانتظام ، وتقرر الخطة الواجب اتباعها الأمور الهامة ، وتنفذها بواسطة الأمير والركابي اللذين ها من أعضائها . وفي 6 تشرين الاول عين الامير شكري الايوبي حاكما للساحل -- ۷۷ ا السوري بعد أن أخلى الترك بيروت في 1 تشرين الاول 1918 وأعلنت المدينة انضمامها للحكومة العربية وحذت حذوها المدن الساحلية الأخرى فقصد شكري الأيوني الى بيروت معاونه رفيق التميمي الذي عين ليساعده في تسيير الأمور السياسية والادارية ، وكان جميل الالشي رئيس اركان حربه ، فرفع الايوبي العلم العربي على السراي في بيروت في 7 تشرين الأول وكان الاتراك قد جلوا عنها باتجاه رياق ، ومنها الى حمص وأخلوا حمص في ١٢ منه ليشكلوا خط دفاعهم في حلب . ثم قصد الى لبنان وأعلن في بعبدا باسم فيصل اعادة امتيازاته التي ألناها الاتراك الى سابق عهدها ، وعين حبيب باشا السعد متصرفاً على لبنان . إلا ان فرنسا احتجت على ذلك احتجاجاً شديداً ، وطالبت بريطانيا بتنفيذ اتفاق سيكس ـ بيكو الذي يطلق يدها في ادارة الساحل السوري ومن ضمنه ولاية بيروت ولبنان . وأسرعت فأرسلت القوة العسكرية التي كانت اعدتها ، وانزلتها في الثامن من تشرين الاول 1918 في بيروت التي كانت محتلة بقوى بريطانية فقط ، فأصدر الجنرال آلنبي في و منه أمراً بتعيين ( الكولونيل دى بياباب ) الافرنسي حاكما على المنطقة الغربية من بلاد العدو المحتلة بالنيابة عن الحلفاء ، كما اصدر امره بانزال العلم العربي عن دوائر الحكومة فانزل باحترام عسكري ، ولم يرفع مكانه سلام آخر وقيل ان هذه الاجراءات ليست أكثر من تدابير عسكرية الى ان بيت في مصير البلاد بعد انتهاء الحرب وبقي الالشي ورفيق التميمي ضابطي ارتباط للجيش العربي في بيروت بعد أن عاد الايوبي لدمشق . وقد زار الجنرال آلنبي فيصل في دمشق وأطلعه على الخطة التي ۷۸ هي ستتبع في ادارة البلاد الى ان يعقد الصلح مع الترك ويتقرر مصيرها نهائيا . وخلاصة هذه الخطة انشاء حكومة عسكرية عربية تبدأ من حدود الحجاز وتضم شرقي الاردن ودمشق وحمص وحماه وحلب ويكون على رأسها الأمير فيصل باسم القيادة الحليفة ومرجعه الاورد آلنبي . وعين الكولونيل كورنواليس مثلا ً لالنبي والكولونيل كوس ممثلا ً للفرنسيين لدى الامير لتأمين حسن التفاهم دان . أما الساحل السوري فسيديره باسم الجيش الحليف ضابط فرنسي وفلسطين ضابط بريطاني وهو الميجر جنرال ارثر موني . وقيل ان هذا الوضع لن يطول كثيراً وسينتهي بعد عقد الصلح مع الترك . لكن وضع الساحل وفلسطين الذي ابلغ الأمير لم يرضه فوجد الأمير نفسه امام مصاعب عظيمة في سورية بسبب اشتباك المصالح الدولية بشأنها وعزم فرنسا وانكلترا على تنفيذ ما تم الاتفاق بينهما بخصوص الساحل السوري وفلسطين وكان الامير فيصل وأهل البلاد جميعاً لا يقبلون بغير الاستقلال والوحدة ولا يريدون بهما بديلا ، الأمر الذي جعل مهمة الأمير شاقة مترعة بالمصائب والاشواك ثم ان هذه الخطة لم تترك للسوريين أي ميرة في الوظائف والاعمال العامة على غيرهم من اهل بقية البلاد العربية كالفلسطينيين والعراقيين . هذا ولم يتأخر الاقطاعيون واكثر من ينعتون انفسهم بأبناء الذوات الذين يستندون على التزلف للحكام عن استغلال هذا الوضع لتأمين منافعهم وتقوية نفوذهم على حساب الشعب ، فسعوا س لتفريق وحدة الامة احوج ما تكون اليها للوقوف في ۷۹ وجه التيارات والمطامع الاجنبية التي تتجاذب الوطن متذائبة لاستعاره بعد تمزيق وحدته وكان الجنرال فون ساندرس باشا يبذل قصارى الجهد لجمع شتات ما تبقى من الجيوش التركية المتراجعة بادىء ذي بده في رياق فلم يتوفق . لكنه توصل بعد ذلك الى تأليف قوتين كل منهما تعد خمسة آلاف مقاتل ، وأمر احداها وكانت بقيادة مصطفى كمال باشا بصد القوى الحليفة في مشارف المعرة ، وتجمعت الثانية في شمال حلب . وفي 19 تشرين الاول دخلت القوات الانكليزية وفي مقدمتها قوة عربية غير نظامية الى حماه ولكنها لم تتمكن من التقدم إذ لاقت مقاومة عنيفة من القوات التي تحت قيادة مصطفى كمال ، فاستنجدت قوة العقيب البريطانية بفيصل ، فأسرعت الحملة العسكرية العربية بقيادة علي جودة المعاونتها مع جموع المتطوعين العرب ، فدخلت حماه ثم تمكنت القوى العربية بمساندة السيارات المدرعة الحليفة في ٢٣ منه من التغلب على القوى التركية في تلول المعرة وابو الضهور بقيادة تحسين علي بسبب مرض علي جودة واضطراره للبقاء في حماه ، وزاد عدد القوة العربية بما انضم اليها من عرب الشمال وفي ٢٤ تشرين الأول كانت حلب تعج بالعرب المسلحين الذين ينتظرون الهجوم ليشتركوا به . وفي ٢٥ منه هاجمت قوى الامير التي استلم قيادتها نوري السعيد حلب وبرغم المقاومة التي أبدتها قوى مصطفى كمال فقد تغلبت عليها القوات العربية واستولت على دار الحكومة مساء ٢٥ تشرين الأول بعد أن انضم اليها كل من تمكن من حمل السلاح من أهل المدينة ، الأمر الذي اضطر مصطفى كمال الى اخلاء مدينة حلب ومشارفها بسرعة فدخلتها على الأثر القوى البريطانية أي في ٢٦ منه . وكانت - ۸۰ € الدولة العثمانية قد عقدت الهدنة الحلفاء وساد الاعتقاد بأن حالة الحرب قد انتهت مع الترك ولم يكن احد يعتقد ان الصلح معهم لن يتم إلا بعد أربع سنوات . وفي هذه المدة ظلت سوريا معتبرة جزءاً من اراضي العدو المحتلة . وقد استلام الجيش العربي زمام الأمور في حلب وفي 30 منه كان استاد مصطفى كمال القيادة الالان في كليكيا وعين الامير شكري باشا الايوني حاكما موقتا لحلب من ا وهكذا تم الاستيلاء على سوريا ، وانضم لخدمة الحكومة كافة الموظفين العرب الذين وجدوا فيها أو تمكنوا من الوصول اليها من سوريين وفلسطينيين وعراقيين وكل الضباط العرب الذين كانوا في خدمة الجيش التركي وانسحبوا منه ، فارتأي ياسين باشا بالاتفاق رضا باشا حل جيش الشمال الذي دخل دمشق ظافراً تحت ضغط الظروف بقيادة فيصل بعد جهاد مرير ، واجراء تشكيلات جديدة للجيش ، فعين الامير ياسين باشا الهاشمي رئيساً للشورى العسكرية ، ودخل جميع الضباط في خدمة الجيش ، وشكلت ثلاث فرق : فرقة في حلب ، وواحدة في دمشق ، واخرى في درعا . وعين جميع الموظفين العرب القادمين الى سورية في وظائف الدولة التي شغرت بمناسبة نزوح الموظفين الاتراك من البلاد . ولما لم يبق وظيفة لقائد الجيش العمالي جعفر باشا العسكري الذي حارب بامرة فيصل من الحجاز الى العقبة الى قبيل دخول دمشق اذ كان مجازاً في مصر في تلك الايام للتداوي والاستجمام ، فقد صدر الأمر بعد وصوله لدمشق بتعيينه حاكما لحلب محل حاكمها الموقت وسمي نوري باشا السعيد رئيساً لمرافقي الامير بعد أن تتوج جهاده ورفاقه 6 - ۸۱ بالتوفيق باستلامه زمام الأمور في حلب وعمله لتعود أعمال الدولة فيها الى حالتها الطبيعية وان انتهاءنا لهذه النتيجة السعيدة جعلنا نخفف من قيود قبول الاعضاء في الفتاة . وارتأينا أن كل من كان يليق لاستلام عمل هام في الدولة الناشئة يستحق أن يكون عضواً من أعضائها . وبذلك أصبح أكثر المتربعين في الوظائف الرئيسية في الحكومة أعضائها . وبالنظر لكثرة الاعضاء رؤي أن يقسموا إلى قسمين : فمن دخل في الفتاة قبل دخول الجيش العربي لدمشق اعتبر عضواً أساسيا وله الحق معرفة جميع من الاعضاء ، وان ينتخب الهيئة الادارية في كل سنة وقوامها سبعة أعضاء وكانوا اذ ذاك ياسين باشا الهاشمي وشكري القوتلي ورستم حيدر وعزة دخل 6 دروزة ورفيق التميمي وتوفيق الناطور والدكتور قدري ومن ؟ في الفتاة بعد دخول الجيش العربي دمشق اعتبر عضواً عاديا . ثم لم نكتف بذلك بل رأينا أن يكون لنا مظهر خارجي يعمل كحزب سياسي في البلد . فأسسنا حزب الاستقلال ، وأنيط أمر الاشتغال به توجهات الهيئة الادارية ، بتوفيق الناطور ، وانتخب سكرتيراً مساعداً للحزب المحامي سعيد الغزي ، فنتج عن حسن التفاؤل الذي ساد الموقف نتيجة لم تكن مفيدة للوطن سيما بعد أن تقوض الحكم الوطني في سورية سنة ١٩٢٠ . إذ لم تعد هنا أي رابطة قوية تربط أعضاء الفتاة في الوقت الذي كان يجب أن نضالها بتضحية واتحاد كالسابق . فأثر هذا أهل . استمر الوضع على من لم يكن منتسبا للجمعية من اعتادوا الوجاهـة - ۸۲ 441 من ن كان يرغب في الوظائف ولم ينلها بسبب العهدة بها لمن ، ه و الشام وعلى من أحق منه من شباب العرب فتشكلت جبهة ضعيفة تناوى الحكم القائم ، لكن فيصل وجد في المثقفين من أبناء الشعب تقديراً ومساعدة . وفي 7 تشرين الثاني 1918 صدر تصريح انكليزي - فرنسي يطمئن أهل البلاد على مستقبلهم بعد القلق الذي ساورهم نتيجة لعدم تحقيق رغباتهم وهذا نصه : و ان السبب الذي من أجله حاربت فرنسا وانكلترا في الشرق تلك الحرب التي أهاجتها مطامع الالمان ، انما هو لتحرير الشعوب التي رزحت اجيالاً طوالاً تحت مظالم الترك تحريراً تاماً نهائياً واقامة حكومات وادارات وطنية ، تستمد سلطتها من اختيار الاهالي الوطنيين لها اختياراً حراً . ولقد أجمعت فرنسا وانكلترا على أن تؤيدا ذلك بأن تشجعـا وتعينا على اقامة هذه الحكومات والادارات الوطنية في سورية والعراق المنطقتين اللتين أتم الحلفاء تحريرها وفي الاراضي التي ما زالوا يجاهدون في تحريرها ، وأن تساعد هذه الهيئات وتعترف بها عندما تؤسس فعلا ً ، وليس من غرض افرنسا وانكلترا ان تنزلا أهالي هذه المناطق الى الحكم الذي تريدانه ولكن همهما الوحيد أن يتحقق مونتهما ومساعدتهما المفيدة عمل هذه الحكومات والادارات التي يختارها الأهلون من ذات أنفسهم ، وأن تضمن لهم عدلاً منزها يساوي بين الجميع ويسهل عليهم ترقية الامور الاقتصادية في البلاد باحياء مواهب الاهالي الوطنيين وتشجيعهم على نشر العلم ووضع حد للخلاف القديم الذي قضت به السياسة التركية الاغراض التي ترمي اليها الحكومتان المتحالفتان في هذه تاك هي الاقطار المحررة » . وقد أراد بعض من لا يفقهون المعاني المستترة خلف البيانات السياسية --- ۸۳ - • الرنانة العذبة من مدعي الوجاهة أن يعدوا هذا التصريح مستنداً رسميا واعترافا بنيل البلاد العربية المنفصلة عن تركيا استقلالها . الا انني ، نظراً لاقامتي مدة طويلة في باريس واطلاعي على طراز المساعدات التي يعلنون انهم يسدونها للمغرب الأقصى والجزائر وتونس والتي لم يكن من شأنها إلا استعداد أهالي تلك الاقطار ، فقد اعتبرت هذا التصريح كارثة قاصمة ، لأنه اشتمل على المعونة والمساعدة من انكلترا وفرنسا للحكومة العربية التي وضعنا أسسها في دمشق لا الاعتراف باستقلالها التام . وقد ذكرت في هذه الاثناء ذلك الاعلان الذي نشر في محطات السكك الحديدية والترام في باريس يوم كنت فيها . وقد جاء فيه وجوب استصلاح الاراضي الزراعية في الجزائر من واردات الحكومة المحلية وكان من شروط شراء هذه الأراضي أن يكون الراغب افرنسيا مستعمراً ، أي لا يحق لاحد من الجزائريين أن يتملك ما هو بحاجة اليه من . هذه الأراضي . فأين العدل ؟ وهل هذا غط المساعدة التي يعلنون عنها وعنون بإسدائها على أهل تلك البلاد ؟ لذلك بحثت و الفتاة ، هذا الأمر وقررت أن تعلن أن البلاد متمسكة باستقلالها التام ووحدتها وفقاً للأسس التي قامت عليها ثورة الحسين العربية الكبرى ، وأيدتها البلاد كلها في قرارهـا هذا رغم تقولات الجبهة المعارضة الضعيفة وكان الأخ شكري القوتلي يعضدني بشدة لاسكات صوت جبهة الذوات المعارضة ، إذ كنا نحن الاثنان من هيئة الفتاة الإدارية اللذان يسعهما الاضطلاع بذلك بنجاح

  • * *

C وبعد أن استقرت الامور في العاصمة رغب الامير في زيارة حلب - ٨٤ عاصمة الشمال برفقة نخبة من شباب دمشق الوطنيين فغادروا دمشق الى زحلة ومنها الى بعلبك فحمص فحاه ووافوا الامير في معرة النمان من إذ لم تكن السيارات حينئذ متوفرة حتى يسافروا سوية ، وقد غادر الامير فيصل دمشق بالسيارة في 4 تشرين الثاني وبمعيته الدكتور أحمد قدري ومرافقاه فزار حمص ثم حماه حيث حل فيها ضيفا على آل العظم القديم ، وكان استقباله على طول الطريق استقبالاً شعبيا حافلاً بمظاهر التأييد وعرفان الجميل . ولحظ سموه في حماه شعاع نهضة شعبية أهم مظاهرهـا الاهتمام بنشر التعليم بين أبناء الشعب ، فاستنهض همم الاهلين لجمع التبرعات ونشر العلم ، فجمع في جلسة واحدة أربعة آلاف ذهبة ، ووعد الاهلون الامير بجمع ثمانية آلاف جنيه أخرى لسد هذا النقص تيمنا بزيارته لمدينتهم . وفي مساء الخامس من تشرين الثاني وصل الامير لمعرة النعمان فاستقبل أيضاً بالهتافات والزغاريد ، وأعد السيد الحراكي لسموه سماطاً عظيماً ، وقضى ليلته في ضيافته . وفي اليوم الثاني دخل حلب تواكبه هذه النخبة الممتازة من الشباب الدمشقي ، فاستقبلته الشهباء بشيبها وشبابها ونسائها وأطفالها وكانت الهتافات والزغاريد تشق عنـان السماء والورود والرياحين الملقاة على الامير علا الطرقات وشرع الأمير فيصل في تنظيم ادارة شؤون عاصمة الشمال وتوثيق عرى المحبة ، والعمل على الوثوق من اعتمادهم عليه . وقد أقيم له في 11 تشرين الثاني 1918 اجتماع حافل لاظهار تعلق الحلبيين به ولتلقي توجيهاته في نادي العرب الفسيح فألقى فيصل في الاجتماع أول خطاب سياسي ممتع له وهذا نصه ... خرج الاتراك من بلادنا ونحن الآن كالطفل الصغير ليس لنا بعد المقدمة م (6)

- ۸۵ - ، 6 الشعب لا يفقه ة حكومة ولا جند ولا معارف ، والسواد الأعظم من معنى الوطنية والحرية ، ولا ما هو الاستقلال حتى ولا شيء يذكر من كل هذه الأمور ، ذلك نتيجة ضغط الاتراك على عقول وأفكار الامة . لذا يجب أن نفهم هؤلاء الناس قدر نعمة الاستقلال ونسعى ، إن كنا أبناء أجدادنا ، لنشر أواء العلم ، لأن الأمم لا تعيش إلا بالعلم والنظام والمساواة ، وبذلك تحقق آمالنا وآمال حلفائنا ی أنا ، وليس لي فضل على عربي ولو بمثقال ذرة . اتني وفيت عمر بي الحربي كما وفى والدي واجبه السياسي فانه تحالف وتعاهد مع أمم متمدنة بدأت توفي بعهودها ولا تزال تساعدنا على تشكيل حكومة فعلينا ابراز هذه الامنية الى حيز الوجود بكمال الحزم والعزم واجي منتظمة هیم لأن البلاد لا يمكنها أن تعيش بحالة فوضى ، أي بلا حكومة . وهذا ی واجب في ذمة الأمة وأهل البلاد ، ونبرأ الى الله مما يحصل لهذه أنا ومن معي سيف مسلول بيد العرب يضربون به البلاد بعد اليوم من يريدون أحض اخواني العرب على اختلاف مذاهبهم بالتمسك بأهداب الوحدة والاتفاق ونشر العلوم وتشكيل حكومة نبيض بها وجوهنا لاننا اذا 6 فعلنا كما فعل الاتراك نخرج من البلاد كما خرجوا لا سمح الله ، وان فعلنا ما يقضي به الواجب يسجل التاريخ أعمالنا بمداد الفخر . انني أقل الناس قدراً وأدناه علماً لا مزية لي إلا الاخلاص اني اكور ما قلته في جميع مواقفي بأن العرب هم عرب قبل موسى وان الديانات تأمر باتباع الحق والاخوة على الارض . وعيسى ومحمد ، -17وعليه فمن يسعى لايقاع الشقاق بين المسلم والمسيحي والموسوي فما هو العربي إننا عرب قبل كل شيء وأنا أقسم لكم بشرفي وشرف عائلتي وبكل مقدس ومحترم عندي بانه لا تأخذني في الحق لومة لائم ، ولا أحجم عن مجازاة من يتجرأ على التفرقة ، فلا أعتبر الرجل رجلا إلا اذا كان خادما لهذه التربة ی عندنا والحمد الله رجال أكفاء كثيرون ولكنهم مقيمون خارج الديار وفي بلاد الاتراك ، وسيأتون قريبا ان شاء الله فيصلحون الخلل الموجود هنا ، ولا يجدر أن نتقاعس عن العمل ريثما يأتون ، فما لا ندرك كله لا يترك جله ، ويلزم علينا أن نبتدىء بدون أن ننظر للمرء من حيث شرف عائلته وخصوصيته بل ننظر الى الرجل الكفء وجيها كان أو وضيعا إذ لا شرف إلا بالعلم . الانسان يخطىء فاذا أخطأت سامحوني وبينوا لي مواطن خطئي . وبما أن أغلب الأفراد يجهلون قدر نعمة الاستقلال كما بينت لـكم فلا يبعد أن يحصل في بعض المحلات ما يخل بالأمر فالحكومة مجبرة على تطبيق معاملاتها على القانون العسكري العرفي مدة الحرب ربما يتم تشكيل حكومة منتظمة أرجو اخواني أهل البلاد أن ينظروا الى الحكومة نظر الولد البار ويعلموا أن الحكومة مشرفة للوالد الشفوق ويساعدوها جهد طاقتهم على أعمال الافراد والموظفين ان الحكومة في طورها الجديد بحاجة لايجاد قوة تحفظ كيانها . -AY - 6 ( فكل من يعبث بأوامرها ويخل بمقرراتها يستهدف ايدها القوية ، ولأجل حفظ الاستقلال ليس لي إلا أن أدعو أهل البلاد الاهتمام الزائد بتكوين حكومة ثابتة الاركان متينة الجانب الدرك والشرطة ها قوام البلاد وبدونهما لا تنتظم أحوال الحكومات . لذلك أطلب من الجميع وخصوصا الشبان أن ينتظموا بهما وأن لا يتأخر خدمة وطنه وبلاده بدون نظر لموقعه العائلي بقيامه بتلك ا الخدمة أحدهم عن ان الشرطة وظيفة شريفة عالية وان الانسان يتولى كل عمل في داخليته وبيته حتى لنجد رب البيت يكنس داره بيده ولا رى بذلك استخفافا . وستكون القوانين السابقة مرعية الاجراء الى أن سن القوانين من قبل المجلس الأعلى ، أي مجلس الأمة . الحكومة الحاضرة تحفظ الأمن والنظام رينا تتعين هيئات الحكومة الجديدة العرب نحل وشعوب مختلفة باختلاف الاقليم ، فالحلبي ليس كالحجازي والشامي ليس كالمني ، ولذا قرر والدي أن يجعل البلاد مناطق تطبق عليها قوانين خاصة متناسبة مع أطوار وأحوال أهلها . فالبلاد الداخلية يكون لها قوانين ملائمة لموقعها ، والبلاد الساحلية أيضا يكون لها قوانين طبق رغائب أهلها كان من الواجب علينا أن نبتدى. أولاً يجمع الهيئة التي تسن هذه ( ( . القوانين ، ولكن العرب الذين هم في البلاد الخارجية هم أعلم منا بالقوانين الأكثر ملاءمة للبلاد ، ولذلك نرجيء هذا الأمر الى وقت اجتماع هؤلاء ، وفي أقرب وقت يصلون ان شاء الله ان الذين استدعيتهم من الخارج رجال قديرون على وضع قوانين صالحة ملائمة لروح البلاد - ۸۸ وطبائع أهلها . وسيكون اجتماعهم في دمشق أو غيرها من البلاد العربية لعقد مؤتمر ، وسأنظر بأعجل وقت بشؤون الاوقاف والكنائس ورد حقوقها المغصوبة من قبل الاتراك وأعطي كل ذي حق حقه .

وأطلب من اخواني أن يعتبروني كخادم للبلاد ، إنكم قد أعطيتموني البيعة بمنتهى الاخلاص والرضى فأقابلها بالقسم العظيم أني لا أفتر عن نصرة الحق ورد الظلم وعمل كل ما يرفع من شأن العرب . وأرعب الى الاهالي أن يؤازروني بالعمل في خدمة اجتماعية الى أن يلتهم مجلس الأمة فأقول حينئذ هذه بضاعتكم ردت اليكم .

ان حلب خالية من المدارس فأتمنى لها مستقبلا علميا باهرا كما كانت عليه بالتاريخ وأرجو أخيراً صرف الهمة والنشاط لأمرين مهمين : (۱) حفظ النظام العام . (۲) ترقية المعارف . فوالله لا يمتاز أحد عندي إلا بفضله وعرفانه .


عند مروري من حماه استنهضت همة الأهالي بكلمات وجيرة للعناية بالعلم وافتتاح المدارس . وبجلسة واحدة تبرع بضعة أشخاص بأربعة آلاف جنيه ، ووعد الآخرون بابلاغها حتى (۱۲) الف جنيه . وسأستدعي حضرات الاهالي بحفلة خاصة للعناية بهذا المشروع الهام ، مشروع العلم روح البلاد . نسأل الله تعالى أن يوفقنا لخدمة البلاد ونفع العباد ويمتع الامة بالحياة الرغيدة والسلام .

السفر الى باريس :

ولم تطل إقامة الأمير في حلب إذ وصلت اليه برقية من والده الملك