مصطلح التاريخ (الطبعة الثالثة)/الباب التاسع: الاجتهاد


البَـابُ التَّــاسِعُ


الاجتِهَــاد


وقد تتوفر الحقائق المفردة في ناحية من نواحي الماضي وتُعدم في الناحية الأخرى. فيجتهد المؤرخ في تلافي ما قد يقع من فراغ. والاجتهاد في اللغة كما قال أبو حامد الغزالي: «هو عبارة عن بذل الجهود واستفراغ الوسع في فعل من الأفعال. ولا يستعمل إلا فيما فيه كلفة وجهد. فيقال اجتهد في حمل حجر الرحا. ولا يقال اجتهاد في حمل خردلة. لكن صار اللفظ في عرف العلماء مخصوصاً ببذل المجتهد وسعه في طلب العلم بأحكام الشريعة. والاجتهاد التام أن يبذل الوسع في الطلب بحيث يحس من نفسه بالعجز عن مزيد الطلب1».

وقد يقع مثل هذا الفراغ في علم من العلوم الطبيعية. فيتلافاه العلماء بالتجربة والاختبار وإعادة المشاهدة. فلا ينفكون عن ذلك حتى يتم لهم ما أرادوا. فيضيفونه إلى سائر المعلومات ويسدون الثلم. أما المؤرخ فإنه بعيد عن المشاهدة عديم التجربة. فيضطر والحالة هذه أن يجتهد في الأمر فيتذرع بالمنطق. ويعمل أحياناً بما نريد أن نسميه الاجتهاد السلبي وأحياناً أخرى بالاجتهاد الإيجابي.

والاجتهاد السلبي هو ما عبَّر عنه المناطقة بقولهم «السكوت حجة» ومعناه أن يتمكن المؤرخ من القول بأن كذا وكذا لم يحدث لأَن الأصول خالية منه. وهو أمر خطير للغاية. فقد يكون السكوت حجة وقد لا يكون. ولا بد من التأكد من أمور ثلاثة قبل التذرع بمثل هذه الحجة. وهي ما يأتي:

١) أن يكون المؤرخ على يقين جازم من أمر اطلاعه على جميع الأصول.
٢) أن لا يعتريه شك في أن ما لديه من الأصول هو جميع ما دوَّنه السلف في الموضوع الذي يبحث. وأنه لم يضع منها شيء. فإنه بضياع الأصول يضيع التاريخ معها. وليس من حق المؤرخ إذا فقدت الأصول أن يقطع برأيٍ ما. وهكذا فإن التذرع بمثل هذه الحجة هو أشد خطراً في التاريخ القديم مما هو في التاريخ المعاصر. وذلك لأَن إمكانية الضياع في الأصول القديمة هي أشد بكثير منها في الأصول المعاصرة.
٣) أن يتأكد من استحالة السكوت في الأصول عن الموضوع الذي يدرس. فقد تسكت الأصول عن أمور شتى تكون قد وقعت في الماضي وذلك لأسباب منها جهل الراوي لها ومنها قلة اعتنائه بها ومنها تحذير الحكومة نشرها. فإذا ما سكنت الأصول مثلاً عن فسق وزير من الوزراء لا يجوز للمؤرخ أن يستنتج أنه كان شهمًا فاضلاً أو أنه كان غير فاسق.

وهكذا فإن حجة السكوت لا تتم إلا إذا اقترن بالراوي حالتان لا تنفصلان: أولاهما أن تكون الوقائع التي يمكن أن يكون قد سكت عنها وقائع يهتم بها اهتماماً شديداً، والثانية أن يكون الراوي قد صمم على تدوين جميع الأخبار التي أحاط علماُ بها.

ومما اختبرناه من هذا القبيل، أننا منذ أعوام عديدة، بينما كنا نقلب صفحات بدائع الزهور في وقائع الدهور لابن أَياس، للوقوف على أخبار الفتح العثماني، لم نجد ذكراً فيها لتخلي المتوكل على الله، آخر الخلفاء العباسيين، عن حقوقه في الخلافة للسلطان سليم العثماني. فرأينا أن نتابع البحث قليلاً لنتأكد من هذا الأمر. ولا سيما والحكومة التركية كانت قد أثارت البحث في هذا الموضوع بعد خلع آل عثمان وإعلان الجمهورية.

فأعدنا النظر في كلام ابن إياس. وقرأنا فيه ثانيةً «أخبار واقعة مرج دابق واحتلال حلب ودمشق وغزة وواقعة الريدانية ودخول العثمانيين القاهرة وخروجهم منها ورجوعهم ظافرين للقسطنطينية. قرأنا هذا كله ولم نجد ذكراً للخلافة فيه ولا لتخلي المتوكل عنها. ولم يكن ابن إياس ممن يعتنف الأمور فيأتيها بغير علم ولا ممن يغفل عن الحوادث ولا سيما إذا كانت ذات شأن. فإنك لو قرأت ما كتبه من أخبار سنة ١٥١٦ و١٥١٧ عن السلطان سليم وعن علاقته بالمتوكل ظننت أنه كان يتعقب خطواتهما ويسأل عنهما كل وارد وصادر. تراه يذكر ما تحادثا به في حلب بعد معركة مرج دابق. وما دار بينهما في القاهرة بشأن ابن العداس وبشأن زوجة السلطان طومان باي وبشأن القاضي شمس الدين وحيش. وتراه يصف خروج الخليفة من مصر وذهابه إلى القسطنطينية ووصوله إليها وسكناه فيها، ويدوّن الأَدعية التي تليت في مصر بعد فتحها. تقرأ كل هذا ولا تجد شيئاً في تخلي المتوكل على الله عن الخلافة. ثم طلبنا مخطوطة ابن زينل الرمَّال في السلطان سليم والجراكسة، وكتاب النجوم الزاهرة في ولادة القاهرة لبدر الدين المنهاجي، فلم نجد فيهما ذكراً لهذا التخلي.

وبعد أن فرغنا من مطالعة الأصول العربية رجعنا إلى روايات الأتراك أنفسهم، وقرأنا مجموعة فريدون، واطلعنا على كتاب السلطان سليم نفسه إلى ابنه سليمان بتاريخ كانون الثاني سنة ١٥١٧، وكتب شاه شروان الشيخ إبراهيم، ومظفر شاه الثاني، وكلاهما معاصر لهذه الحوادث، فلم نجد ما يؤيد التخلي. ومما هو جدير بالذكر، أن أحمد فريدون بك يذكر ستة عشر لقباً للسلطان مراد الثالث، ولكنه لا يذكر بينها إمارة المؤمنين. ولم نرَ في نقوش السلطان سليم وابنه سليمان، في بيروت والقدس والقاهرة، ولا في النقود التي صكت في عهدهما، ما يثبت التخلي عن الخلافة.

وبعد أن أتممنا جميع ما تقدم، كتبنا إلى صديقنا المرحوم أحمد زكي باشا نستشيره في الأمر. فأصدر، رحمه الله، حكماً مبرماً نفى فيه أمر التخلي بناء على سكوت المصادر. أما نحن فإننا ترددنا في الأمر كثيراً وذلك لسببين أولهما أنه لا يمكننا أن نجزم بأن ما رجعنا إليه من المصادر هو جميع الموجود منها، وثانياً لأَنه من الممكن أن يكون خبر التخلي دوّن في أصل أَو أصول فقدت فيما بعد. وجل ما في إمكان المؤرخ أن يفعله في هذا الصدد هو السكوت عن التخلي لأَن المصادر ساكتة عنه.

وبواسطة الاجتهاد الإيجابي يحاول المؤرخ أن يستنتج أمراً معيناً عن الماضي من مجرد تثبته من أمر آخر تنص عليه الأصول. وذلك لأنه يرى ارتباطاً وثيقاً بين مثل هذين الأمرين في الحاضر الذي يعيش فيه. وكثيراً ما يلجأ مؤرخو العصور القديمة إلى مثل هذا الاجتهاد إما لقلة الأصول أو لجهلهم قواعد المصطلح. فترى الواحد منهم يجزم بأن بلدة من البلدان هي يونانية أو فينيقية لأن اسمها يوناني أو فينيقي. ويستند في ذلك إلى ارتباط الاسم بالمسمى في الوقت الحاضر.

والواقع أن هذا الاجتهاد لا يصح إلا في أحوال منطقية معينة. فلا بد من كلية معترف بصحتها. كأن نقول مثلاً أن اللغة التي ينتمي إليها اسم بلد من البلدان هي دائماً لغة الشعب الذي أسس هذا البلد. ولا بد من جزئية صحيحة أيضاً. كأن يقال إن البلد الفلاني كان يحمل اسماً يونانياً أو فينقياً. فتلزم النتيجة بطبيعة الحال. فكل ما صدق على حد صدق على كل ما يصدق عليه ذلك الحد إيجاباً أو سلباً.

وليس على المؤرخ في مثل هذه الظروف إلا أن يذكر القواعد التي وضعها منذ أكثر من ألفي سنة أرسطو الفيلسوف والتي يعرف بها القياس الصحيح. وهي ما يأتي:

١) أنه لا بد للقياس من ثلاثة حدود لا أكثر ولا أَقل.
٢) أنه لا بد للقياس من قضيتين هما مقدمتاه وثالثة تلزم عنهما وهي النتيجة.
٣) أَنه لا بد من أَن يكون الحد الأوسط كلي المصدوق ولو في إحدى المقدمتين.
٤) أنه لا يكون في النتيجة حد كلّي المصدوق ما لم يكن كذلك في إحدى المقدمتين.
٥) أنه لا نتيجة من سلبيتين.
٦) أنه إن كانت إحدى المقدمتين سالبة فالنتيجة سالبة. ولا نتيجة سالبة إن لم تكن إحدى المقدمتين سالبة.

وهنالك ملاحظات عمومية تشمل النوعين من الاجتهاد أهمها ما يأتي:

١) أن إثبات الحقائق التاريخية شيء والاجتهاد فيها شيء آخر. فلا بد من فصل الحقائق الثابتة عن الحقائق المستنبطة وإظهار ذلك بصورة جلية واضحة أَمام القارئ.
٢) على المؤرخ أن يحذر كل الحذر من الاستنتاجات التي لا تصدر عن وعي وروية. وليس عليه في مثل هذه الظروف إلا أن يعطي حكمه شكلاً منطقياً حتى يتأكد من وقوعه في الخطإ.

  1. المستصفى في أصول الفقه ج٢ ص ١٠١