مصطلح التاريخ (الطبعة الثالثة)/الباب الثامن: الربط والتأليف


البَـابُ الـثَّامِنُ


الرَّبط والتَّأليف


وبعد التثبت من صحة الروايات يشرع المؤرخ في التأليف وربط الروايات المختلفة. فينتفي البعض منها ويصرف النظر عن البعض الآخر ثم ينسق ما انتفى منها فينظمه ويجعله وحدةً متجانسةً متآلفة ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.

توطئة عامة: ويحسن بالمؤرخ المستجد أن يذكر بادئ ذي بدءٍ أن ربط الحقائق التاريخية وتأليفها يختلف عن الربط والتأليف في العلوم الطبيعية فعلماء الطب والحيوان مثلاً يشاهدون الجسد بتمامه أولاً فيدرسونه درساً إجمالياً وافياً. ثم يشرّحونه فيقسمونه إلى الأجزاء التي يتركب منها. وبعد التدقيق التام في هذه الأجزاء والتعرُّف إلى وظائفها وأعمالها يستطيعون أن يقابلوا فيما بينها ويتعرفوا إلى العلاقات التي تربط بعضها إلى بعض. فيدونون هذه الحقائق المفردة التي يتوصلون إليها. ثم يعودون إلى ربطها وتأليفها. فيتبعون خطة عينتها الطبيعة تكون ماثلة أمامهم. بل إنهم يستطيعون أن يتناولوا مجموعةً واحدةً يقابلونها على مجموعة أخرى باعتبار كل من المجموعتين وحدةً قائمةً بنفسها. وكأنهم بذلك أتموا مقابلة كل واحد بكل آخر. فيرون نقط التشابه بين هذا وذاك. ويصنفون هذه الوحدات على أساس التشابه بينها. وهذا درس علمي حقيقي قوامه التحليل أولاً ثم الربط والتأليف بين أجزائه ثم المقابلة والاستدلال القياسي.

على أن ظروف المؤرخ في الواقع تختلف كل الاختلاف عما تقدم فحقائقه المفردة هي غير الحقائق المفردة في العلوم الطبيعية. إذ جل ما يمكنه الاعتماد عليه، في مثل هذه الظروف، هو كلام الغير عن وقائع الماضي لا الوقائع نفسها. وليس بإمكانه أن يشاهد المجموع الذي تفرَّعت عنه مفردات الحقائق. كما وأنه يجهل الأسس التي كانت تربط مثل هذه الحقائق لتؤلف منها الكل. وإذًا فمن العبث أن نربط الحقائق المفردة في التأريخ كما يربط علماء الطبيعة حقائقهم. وعلينا والحالة هذه أن نستنبط طريقة خصوصية لربط الحقائق المفردة نتذرع بها للوصول إلى اليقين أو ما يقارب اليقين.

ولنذكر أن الحقائق المفردة التي تثبتنا من صحتها تكون إما آثاراً حقيقية تخلفت عن السلف كالأهرام في مصر مثلاً، أو وقائع السلف كعمل معين أو قول معروف، أو دوافع معنوية كانت مكنونة في صدور الناس أفراداً وجماعات. وبعبارة أخرى، إن ما تثبتنا من صحته من الحقائق المفردة يكون واحداً من ثلاثة: إمَّا أثراً ملموساً أو عملاً محدوداً أو دافعاً نفسياً معيناً ولو كانت العلوم النفسية والاجتماعية قد ماشت العلوم الطبيعية في تقدم أساليبها وأبحاثها ونتائجها لما كان عسيراً علينا اليوم أن نهتدي بشكل علمي جازم إلى معرفة الأعمال والدوافع الماضية التي أشرنا إليها، وربما كنَّا لا نفرق التاريخ عن العلوم الجازمة. أما وحالة العلوم الاجتماعية والنفسية لا تزال قاصرة، فلا يبقى سوى تخيل الماضي وفرض استمرار بعضه وتكراره في الحاضر. فنقول مثلاً بعامل الجوع في الماضي ونتوقع تأثيره في ظروف معينة كما نفعل في الحاضر. وننظر في الإقليم وأثره في المجتمع كما يتبين لنا بعض ذلك من الظروف الحاضرة. ونفرض التعاون بين الأفراد في بعض الأزمنة الغابرة لدرء الأخطار كما يفعل بنو جنسهم في هذه الأيام وهلم جراً. ولولا هذا لما جرؤ البعث على القول بأن بعض التاريخ يعيد نفسه. نعم بعضه لا كله. ولو كان التاريخ يعيد نفسه لما أقدم العلماء على درسه وتعميم فوائده. وإذاً فهنالك فروق بين الماضي والحاضر لا بد من تبيانها أيضاً والانتباه إليها.

ولهذا يترتب على المؤرخ عند بدء العمل في ربط الحقائق المفردة وتأليفها أن يتخيل لنفسه من مظاهر المجتمع الحاضر ما يفترض وجوده في الماضي. ثم ينظم حقائقه المفردة حول أساس ما تخيل وجوده بالقياس وإذا فعل هذا فسرعان ما يرى أن الحقائق المفردة تتوفر في بعض النواحي وتعدم في البعض الآخر. فيحدث هذا فراغاً في بعض الأحيان لا بدَّ من تلافيه. ولدى الانتهاء من هذه المرحلة يبدأ في المقابلة والمقارنة بين الحقائق التي تكتلت حول مواضيعه فينتقل إلى تعليلها وإيضاحها وإصدار الأحكام العامة عنها. وليس في وسعنا بهذه المناسبة إلا أن نلفت النظر إلى وجوب التعاون بين عدد من المؤرخين لأجل البحث في موضوع تاريخي واحد. وذلك لأن ما يتطلبه مصطلح التاريخ من شتى أنواع البحث والتنقيب قد لا يتمكن شخص واحد من القيام بأعبائه. وأقل ما يجب الالتفات إليه هو التمحيص والتدقيق في استنتاجات المؤرخين المعاصرين وأساليبهم في البحث قبل قبول أقوالهم والاعتماد عليها.

الانتقاء: ولا مفر من المفاضلة بين الحقائق المفردة والاستمساك ببعضها وصرف النظر عن البعض الآخر. فإنها تكثر في غالب الأحيان فتربو على الألوف وعشرات الألوف. ويضطر المؤرخ إما لضيق وقته أو لقلة مورده أن ينتقي مما تجمَّع لديه من الحقائق ما يؤثره على غيره. فيجدر به أن يتبع خطة معينة في الانتقاء.

ولا نرى في مثل هذه الظروف أفضل من تنسيق الحقائق المفردة على أساس أهميتها لفهم ما جرى. هذا ولا نرى مبرراً لما وقع من المشادة بين المؤرخين المعاصرين في أمر الانتقاء. ولعل القارئ يعلم أنه قام في ألمانية في القرن الماضي من قال بوجوب الاعتناء بتاريخ الحضارة وصرف النظر عن الحروب والحوادث السياسية، وأنه قام في الوقت نفسه من استمسك بالتاريخ السياسي ونوَّه بمنافعه. ومثل هذا جرى أيضاً في فرنسا وإيطالية وأميركة وبلاد الإنكليز. والواقع أن الطرفين كانا محقين في بعض ما ذهبا إليه، وأنهما تطرفا في القول في آن واحد. ففي تاريخ الحضارة ما لا يستغنى عنه لفهم الماضي، وفي تاريخ الحروب والحوادث السياسية ما لا بد من إيضاحه لتفهم الأحوال والظروف التي نعيش فيها ما جرى.

ومثل المؤرخ في هذا هو مثل طبيب يحاول شفاء مريض له. فأول ما يفعل لتشخيص المرض هو تفهم تاريخ الحادثة. فمن سؤال عن سير الحرارة، إلى آخر عن حركة الأمعاء، فنوع الأكل، وما شاكل ذلك من الأسئلة عن الماضي التي تعين الطبيب في فهم الحاضر.

على أنه لا بد للمؤرخ من الترفع عن السياسة وأحزابها وعن الفلسفة ومذابحها ليتمكن من معرفة الحقيقة كما كانت لا كما يردها أن تكون.

التنظيم والتأليف: وبعد المفاضلة والانتقاء يبدأ المؤرخ بالتنسيق والتنظيم. فيجد أنه بإمكانه أن ينظر إلى كل حقيقة من حقائقه المفردة من ناحيتين مختلفتين. فإذا نظر إليها من حيث وقوعها في زمن محدود وتعلقها بشخص معين، رآها فريدةً في بابها لا تشاركها في ذلك حقيقة من الحقائق. وإذا ذكر أن الناس جميعهم خلق الله، وأنهم كثيراً ما يتشابهون في أغراضهم وحاجتهم وأعمالهم، قال بالتشابه بين الحقائق التاريخية المفردة وبتكرار وقوعها.

وهكذا فإن بعض المؤرخين الذين ينظرون إلى الحقائق المفردة من الناحية الأولى فيرونها مجموعة من الحقائق الفريدة في بابها يستمسكون بالتنظيم القصصي ويؤثرونه على غيره. والبعض الآخر ينظر إلى التشابه بين الحقائق المفردة وإلى تكرار وقوعها فيهتم بعادات الجماعات في الماضي وعُرفهم ومؤسساتهم وما إلى ذلك من المظاهر المشتركة بين الأقوام والجماعات. والواقع أنه بإمكان المؤرخ أن يعتبر حقائق مجموعة من الوقائع الفذة فينظمها بموجب تسلسلها الزمني ويقدم لقرائه قصة كسائر القصص. وبإمكانه أيضاً أن يحصر عمله في التشابه ووقوع التكرار فينظم حقائقه بموجب محتوياتها. وإليك الآن مثالاً لهذا النوع ننقله لك عن كتاب الأستاذ سنيوبوس الذي أشرنا إليه واعتمدنا عليه غير مرة1:

تنظيم الحقائق التاريخية بموجب محتوياتها

١) الأحوال المادية
أ) درس الجسد
١: النظر في أجناس البشر وعلم التشريح والفيزيولوجيا وغير ذلك
٢: النظر في التكاثر وما يقع تحته من دروس في الزواج والتوالد والوفيات وما إلى ذلك.
ب) درس المحيط
١: المحيط الطبيعي والنظر في شكل الإقليم ومناخه ومياهه وتربته ونباته وحيوانه.
٢: المحيط المصطنع والنظر في الفلاحة والتشجير وإنشاء الطرق وغير ذلك.
٢) العادات العقلية
أ) اللغة وما يتفرَّع منها.
ب) الفنون من يدوية وغيرها.
ج) العلوم.
د) الفلسفة والأخلاق.
هـ) الدين.
٣)العادات التي تتعلق بالمادة.
أ) الحياة المادية والطعام واللباس والمنزل.
ب) الحياة الخصوصية والعناية بالجسد وعوائد الاجتماع ووسائل التسلية.
٤) العادات التي تتعلق بالاقتصاد.
أ) الإنتاج والزراعة والتعدين وما شاكل ذلك.
ب) الصناعة والمواصلات.
ج) التجارة.
٥) المؤسسات الاجتماعية.
أ) العائلة وتشكيلها.
ب) التعليم.
ج) الطبقات الاجتماعية.
٦) المؤسسات العمومية.
أ) الحكومة والمؤسسات السياسية.
ب) الكنيسة والمؤسسات الدينية.
ج) المؤسسات الدولية والسياسية العامة والحرب والقوانين التجارية الدولية.

وليس في وسعنا قبل الانتهاء من هذا الموضوع إلا أن نلفت النظر إلى ما يلي:

١) أنه لا يستغني في تنظيم الحقائق المفردة بموجب مضمونها عن اتباع التسلسل الزمني وذلك لإظهار تطور الحقائق التي ندرس. كما وأنه لا يستغني عن الالتفات إلى مثل هذه المواضيع التي وردت في الجدول في أعلاه إذا ما أراد المؤرخ أن ينظم حقائقه المفردة على أساس القصة.

٢) إن اتباع الأسلوب القصصي في التأريخ يتطلب شيئاً أكثر من ترتيب الحقائق المفردة بموجب زمن وقوعها. ولو اكتفينا بذلك وحده لأصبح التاريخ مجرد ضم الحقائق بعضها إلى بعض. فلا بد للمؤرخ في مثل هذه الظروف من النظر في الأسباب والمسببات وإظهار العلاقات المنطقية التي تربط حقائق الماضي بما قبلها وما بعدها. وذلك لأجل تبيان التطور في التاريخ.

٣) إن للظروف أحكاماً والمؤرخ مربوط بقرائه. فقد يؤثر القصة في مخاطبة الجمهور. وقد ينظم حقائقه على أساس مضمونها إذا هو خاطب طبقة معينة من طبقات القراء. وقد يرى في ترتيب حقائقه على أساس جغرافي ما يضمن له نجاحاً باهراً في بعض الظروف.

٤) على أنه لا بد من التصريح بأفضلية الأسلوب القصصي في غالب الأحيان. وذلك لأن وقائع الماضي حدثت على هذا الشكل. فإذا ما حاول المؤرخ أن يرويها كما وقعت فإنه يكون أقربَ للحقيقة، والتاريخ علم من هذه الناحية وكعلم يتطلب الحقيقة كما هي لا كما نريدها أن تكون.


  1. ص ٢٣٤-٢٣٥ من الطبعة الإنكليزية