معالم السنن/الجزء الرابع/10

​معالم السنن​ للإمام الخطابي
 


10/16م ومن باب من ترد شهادته

1430- قال أبو داود: حدثنا حفص بن عمر حدثنا محمد بن راشد حدثنا سليمان بن موسى عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله رد شهادة الخائن والخائنة وذي الغِمر على أخيه ورد شهادة القانع لأهل البيت وأجازها لغيرهم.

قال الشيخ: قال أبو عبيد لا نراه خص به الخيانة في أمانات الناس دون ما فرض الله على عباده وائتمنهم عليه فإنه قد سمى ذلك كله أمانة فقال تعالى {يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون} 1 فمن ضيع شيئا مما أمر الله أو ركب شيئا مما نهاه الله عنه فليس بعدل لأنه قد لزمه اسم الخيانة.

وأما ذو الغمر فهو الذي بينه وبين المشهود عليه عداوة ظاهرة فرد شهادته للتهمة.

وقال أبو حنيفة شهادد على العدو مقبولة إذا كان عدلا. والقانع السائل والمستطعم وأصل القنوع السؤال، ويقال إن القانع المنقطع إلى القوم لخدمتهم ويكون في حوائجهم كالأجير والوكيل ونحوه.

ومعنى رد هذه الشهادة التهمة في جر النفع إلى نفسه لأن التابع لأهل البيت ينتفع بما يصير إليهم من نفع وكل من جر إلى نفسه بشهادته نفعا فهي مردودة كمن شهد لرجل على شراء دار وهو شفيعها، وكمن حكم له على رجل بدين وهو مفلس فشهد للمفلس على رجل بدين ونحوه.

ومن رد شهادة القانع لأهل البيت بسبب جر المنفعة فقياس قوله أن يرد شهادة الزوج لزوجته لأن ما بينهما من التهمة في جر النفع أكثر، وإلى هذا ذهب أبو حنيفة.

والحديث أيضا حجة على من أجاز شهادة الأب لابنه لأنه يجر به النفع لما جبل عليه من حبه الميل إليه ولأنه يملك عليه ماله، وقد قال عليه السلام لرجل أنت ومالك لأبيك، وذهب شريح إلى جواز شهادة الأب للابن وهو قول المزني وأبو ثور وأحسبه قول داود.

11/17م ومن باب شهادة البدوي على أهل الأمصار

1431- قال أبو داود: حدثنا أحمد بن سعيد الهمداني أخبرنا ابن وهب أخبرني يحيى بن أيوب ونافع بن يزيد عن ابن الهاد عن محمد بن عمرو عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله يقول لا تجوز شهادة بدوي على صاحب قرية.

قال الشيخ: يشبه أن يكون إنما كره شهادة أهل البدو لما فيهم من الجفاء في الدين والجهالة بأحكام الشريعة ولأنهم في الغالب لا يضبطون الشهادة على وجهها ولا يقيمونها على حقها لقصورعلمهم عما يحيلها ويغيرها على جهتها.

وقال مالك لا تجوز شهادة البدوي على القروي لأن في الحضارة من يغنيه عن البدوي إلا أن يكون في بادية أوقرية. والذي يشهد بدويا ويدع جيرته من أهل الحضر عندي مريب.

وقال عامة العلماء شهادة البدوي إذا كان عدلا يقيم الشهادة على وجهها جائزة.

12/18م ومن باب الشهادة في الرضاع

1432- قال أبو داود: حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن ابن أبي مليكة قال حدثني عقبة بن الحارث وحدثنيه صاحب لي عنه وأنا لحديث صاحبي احفظ، قال تزوجت أم يحيى بنت أبي أهاب فدخلت علينا امرأة سوداء فزعمت أنها ارضعتنا جميعا فأتيت النبي فذكرت ذلك له فأعرض عني فقلت يا رسول الله إنها لكاذبة، قال وما يدريك وقد قالت ما قالت دعها عنك.

قال الشيخ: قوله وما يدريك تعليق منه القول في أمرها، وقوله دعها عنك إشارة منه بالكف عنها من طريق الورع لا من طريق الحكم، وليس في هذا دلالة على وجوب قبول قول المرأة الواحدة في هذا وفيما لا يطلع عليه الرجال من أمر النساء لأن من شرط الشاهد من كان من رجل أو امرأة أن يكون عدلا وسبل الشهادات أن تقام عند الأئمة والحكام وإنما هذه امرأة جاءته فأخبرته بأمر هو من فعلها وهو بين مكذب لها ولم يكن هذا القول منها شهادة عند النبي فتكون سببا للحكم والاحتجاج به في إجازة شهادة المرأة الواحدة في هذه وفيما أشبهه من الباب ساقط.

واختلف في عدد من تقبل شهادته من النساء في الرضاع. فقال ابن عباس شهادة المرأة الواحدة تقبل فيما لا يطلع عليه الرجال. وأجاز شهادة القابلة وحدها في الاستهلال، وقد روي عن الشعبي والنخعي.

وقال عطاء وقتادة لا تجوز في ذلك أقل من أربع نسوة وإليه ذهب الشافعي.

وقال مالك تجوز شهادة امرأتين وهو قول ابن أبي ليلى وابن شبرمة.

13/19م ومن باب شهادة أهل الذمة في الوصية في السفر

1433- قال أبو داود: حدثنا زياد بن أيوب حدثنا هشيم أخبرنا زكريا عن الشعبي أن رجلا من المسلمين حضرته الوفاة بدَقوقاء هذه ولم يجد أحدا من المسلمين يشهده على وصيته فأشهد رجلين من أهل الكتاب فقدما الكوفة فأتيا أبا موسى الأشعري فأخبراه وقدما بتركته ووصيته فقال الأشعري هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في عهد رسول الله فأحلَفَهما بعد العصر بالله ما خانا ولا كذبا ولا بدلا ولا كتما ولا غيرا وأنها لوصية الرجل وتركته فأمضى شهادتهما.

قال الشيخ: فيه دليل على أن شهادة أهل الذمة مقبولة على وصية المسلم في السفر خاصة وممن روي عنه أنه قبلها في مثل هذه الحالة شريح وإبراهيم النخعي وهو قول الأوزاعي.

وقال أحمد لا تقبل شهادتهم إلا في مثل هذا الموضع للضرورة.

وقال الشافعي لا تقبل شهادة الذمي من جه لا على مسلم ولا على كافر وهو قول مالك.

وقال أحمد لا تجوز شهادة أهل الكتاب بعضهم على بعض.

وقال أصحاب الرأي شهادة بعضهم على بعض جائزة والكفر كله ملة واحدة.

وقال آخرون شهادة اليهودي على اليهودي جائزة ولا تجوز على النصراني والمجوسي لأنها ملل مختلفة ولا تجوز شهادة أهل ملة على ملة أخرى. هذا قول الشعبي وابن أبي ليلى وإسحاق بن راهويه، وحكي ذلك عن الزهري قال وذلك للعداوة التي ذكرها الله بين هذه الفرق.

1434- قال أبو داود: حدثنا الحسن بن علي حدثنا يحيى بن آدم حدثنا ابن أبي زائدة عن محمد بن أبي القاسم عن عبد الملك بن سعيد بن جبير عن أبيه عن ابن عباس قال خرج رجل من بني سهم مع تميم الداري وعدي بن بَدَّاء فمات السهمي بأرض ليس فيها مسلم، فلما قدما بتركته فقدوا جام فضة مخوَّصا بالذهب فأحلفهما رسول الله ثم وجد الجام بمكة فقالوا اشتريناه من تميم وعدي فقام رجلان من أولياء السهمي فحلفا لشهادتنا أحق من شهادتهما وإن الجام لصاحبنا قال فنزلت فيهم {يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت} الآية 2.

قال الشيخ: فيه حجة لمن رأى رد اليمين على المدعي والآية محكمة لم تنسخ في قول عائشة والحسن البصري وعمرو بن شرحبيل، وقالوا المائدة آخر ما نزل من القرآن لم ينسخ منها شيء ؛ وتأول من ذهب إلى خلاف هذا القول الآيه على الوصية دون الشهادة لأن نزول الآية إنما كان في الوصية، وتميم الدارى وصاحبه عدي بن بداء إنما كانا وصيين لا شاهدين والشهود لا يحلفون، وقد حلفهما رسول الله وإنما عبر بالشهادة عن الأمانة التي تحملاها وهو معنى قوله تعالى {ولا نكتم شهادة الله} 3 أي أمانة الله، وقالوا معنى قوله {أو آخران من غيركم} 4 أي من غير قبيلتكم وذلك أن الغالب في الوصية أن الموصي يشهد أقربائه وعشيرته دون الأجانب والأباعد، ومنهم من زعم أن الآية منسوخة والقول الأول أصح والله أعلم.

14/20م ومن باب إذا علم الحاكم صدق شهادة الواحد

يجوز له أن يقضي به

1435- قال أبو داود: حدثنا محمد بن يحيى بن فارس أن الحكم بن نافع حدثهم قال أخبرنا شعيب عن الزهري عن عمارة بن خزيمة أن عمه حدثه وهو من أصحاب النبي أن النبي ابتاع فرسا من أعرابي فاستتبعه النبي ليقضيه ثمن فرسه فأسرع رسول الله المشى وابطأ الأعرابي فطفق رجال يعترضون الأعرابي فيساومونه الفرس ولا يشعرون أن النبي ابتاعه فنادى الأعرابي رسول الله فقال إن كنت مبتاعا هذا الفرس وإلا بعته فقام النبي حين سمع نداء الأعرابي فقال أو ليس قد ابتعته منك، قال الأعرابي لا والله ما بعتكه فقال النبي بلى قد ابتعته منك فطفق الأعرابي يقول هلم شهيدا فقال خزيمة بن ثابت أنا أشهد أنك قد بايعته فأقبل النبي على خزيمة فقال بم تشهد فقال بتصديقك يا رسول الله فجعل النبي شهادة خزيمة بشهادة رجلين.

قال الشيخ: هذا حديث يضعه كثير من الناس غير موضعه وقد تذرع به قوم من أهل البدع إلى استحلال الشهادة لمن عرف عنده بالصدق على كل شىء ادعاه، وإنما وجه الحديث ومعناه أن النبي إنما حكم على الأعرابي بعلمه إذ كان النبي صادقا بارا في قوله وجرت شهادة خزيمة في ذلك مجرى التوكيد لقوله والاستظهار بها على خصمه فصارت في التقدير شهادته له وتصديقه إياه على قوله كشهادة رجلين في سائر القضايا.

5 1/21م ومن باب القضاء باليمين والشاهد

1436- قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة والحسن بن علي أن زيد بن الحباب حدثهم، قال: حدثنا سيف المكي قال عثمان عن سيف بن سليمان عن قيس بن سعد عن عمرو بن دينار عن ابن عباس أن رسول الله قضى بيمين وشاهد.

قال الشيخ: يريد أنه قضى للمدعي بيمينه مع شاهد واحد كأنه أقام اليمين مقام شاهد آخر فصار كالشاهدين. وهذا خاص في الأموال دون غيرها لأن الراوي وقفه عليها، والخاص لا يتعدى به محله ولا يقاس عليه غيره واقتضاء العموم منه غير جائز لأنه حكاية فعل والفعل لا عموم له فوجب صرفه إلى أمر خاص فلما قال الراوي هو في الأموال كان مقصورا عليه.

وقد رأى الحكم باليمين مع الشاهد الواحد أجلة الصحابة وأكثر التابعين. وفقهاء الأمصار، وأباه أصحاب الرأي وابن أبي ليلى، وقد حكي ذلك أيضا عن النخعي والشعبي.

واحتج بعضهم في ذلك بقوله عليه السلام البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه، وهذا ليس بمخالف لحديث اليمين مع الشاهد، وإنما هو في اليمين إذا كان مجردا وهذه يمين مقرونه ببينة فكل واحد منهما غير الأخرى فإذا تباين محلاهما جاز أن يختلف حكماهما.

1437- قال أبو داود: حدثنا أحمد بن عبدة حدثنا عمار بن شعيث بن عبد الله بن الزُّبَيب العنبري حدثني أبي قال سمعت جدي الزبيب يقول بعث رسول الله جيشا إلى بني العنبر فأخذوهم برُكْبة من ناحية الطائف فاستاقوهم إلى نبي الله فركبت فسبقتهم إلى النبي فقلت السلام عليك يا نبي الله ورحمة الله وبركاته أتانا جندك فأخذونا وقد كنا أسلمنا وخضرمنا آذان النعم فلما قدم بَلْعنبر قال لي نبي الله هل لكم بينة على أنكم أسلمتم قبل ان تؤخذوا في هذه الأيام، قلت نعم قال من بينتك قلت سمره رجل من بني العنبر ورجل آخر سماه له فشهد الرجل وأبى سمرة أن يشهد، فقال نبي الله قد أبى أن يشهد لك فتحلف مع شاهدك الآخر فقلت نعم فاستحلفني فحلفت بالله لقد أسلمنا يوم كذا وكذا وخضرمنا آذان النعم فقال النبي اذهبوا فقاسموهم أنصاف الأموال ولا تمسوا ذراريهم لولا أن الله تعالى لا يحب ضلالة العمل ما رزيناكم عِقالا. قال الزبيب فدعتني أمي فقالت هذا الرجل أخذ زِربيتي فانصرفت إلى نبي الله، يَعني فأخبرته فقال لي احبسه فأخذت بتلبيبه وقمت معه مكاننا ثم نظر إلينا نبي الله قائمين، فقال ما تريد بأسيرك فأرسلته من يدي فقام نبي الله فقال للرجل رد على هذا زِربية أمه التي أخذت منها قال يا نبي الله إنها خرجت من يدي قال فاختلع نبي الله سيف الرجل فأعطانيه فقال للرجل اذهب فزده آصعا من طعام، قال فزادني آصعا من شعير.

قال الشيخ: قوله خضرمنا آذان النعم أي قطعنا أطراف آذانها وكان ذلك في الأموال علامة بين من أسلم وبين من لم يسلم. والمخضرمون قوم أدركوا الجاهلية وبقوا إلى أن أسلموا ويقال إن أصل الخضرمة خلط الشيء بالشيء.

وضلالة العمل بطلانه وذهاب نفعه ويقال ضل اللبن في الماء إذا بطل وتلف.

وقوله ما رزيناكم عقالا اللغة الفصيحة ما رزأناكم بالهمز يريد ما أصبنا من أموالكم عقالا، ويقال ما رزأته زبالا أي ما أصبت منه ما تحمله نملة، والزربية الطنفسة.

وفي الحديث استعمال اليمين مع الشاهد في غير الأموال إلا أن إسناده ليس بذاك.

وقد يحتمل أيضا أن يكون اليمين قد قصد بها ههنا الأموال لأن الإسلام يعصم المال كما يحقن الدم.

وقد ذهب قوم من العلماء إلى إيجاب اليمين مع البينة العادلة. كان شريح والشعبي والنخعي يرون أن يستحلف الرجل مع بينته، واستحلف شريح رجلا فكأنه تأبى لليمين فقال بئس ما تثني على شهودي وهو قول سوار بن عبد الله القاضي. وقال إسحاق إذا استراب الحاكم أوجب ذلك.

16/22م ومن باب الرجلين يدعيان شيئا وليس بينهما بينة

1438- قال أبو داود: حدثنا محمد بن منهال الضرير حدثنا يزيد بن زريع حدثنا ابن أبي عروبة عن قتادة عن سعيد بن أبي بردة عن أبيه عن جده أبي موسى الأشعري أن رجلين ادعيا بعيرا أو دابة إلى النبي ليس لواحد منهما بينة فجعله النبي بينهما.

قال الشيخ: يشبه أن يكون هذا البعير أو الدابة كان في أيديهما معا فجعله النبي بينهما لاستوائهما في الملك باليد ولولا ذلك لم يكونا بنفس الدعوى يستحقانه لو كان الشيء في يد غيره.

1439- قال أبو داود: حدثنا محمد بن بشار حدثنا حجاج بن منهال حدثنا همام عن قتادة بمعنى إسناده أن رجلين ادعيا بعيرا على عهد النبي فبعث كل واحد منهما شاهدين فقسمه النبي بينهما نصفين.

قال الشيخ: وهذا مروي بالإسناد الأول، إلا أن الحديث المتقدم أنه لم يكن لواحد منهما بينة وفي هذا إن كل واحد منهما قد جاء بشاهدين فاحتمل أن يكون القصة واحدة، إلا أن الشهادات لما تعارضت تساقطت فصارا كمن لا بينة له وحكم لهما بالشيء نصفين بينهما لاستوائهما في اليد. ويحتمل أن يكون البعير في يد غيرهما، فلما أقام كل واحد منهما شاهدين على دعواه نزع الشيء من يد المدعى عليه ودفع إليهما.

وقد اختلف العلماء في الشيء يكون في يدي الرجل فيتداعاه اثنان ويقيم كل واحد منهما بينة فقال أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه يقرع بينهما فمن خرجت له القرعة صار له. وكان الشافعي يقول به قديما ثم قال في الجديد فيه قولان أحدهما يقضي به بينهما نصفين وبه قال أصحاب الرأي وسفيان الثوري.

والقول الآخر يقرع بينهما وأيهما خرج سهمه حلف لقد شهد شهوده بحق ثم يقضي له به.

وقال مالك لا أحكم به لواحد منهما إذا كان في يد غيرهما، وحكي عنه أنه قال هو لأعدلهما شهودا وأشهرهما بالصلاح.

وقال الأوزاعي يؤخذ بأكثر البينتين عددا، وحكي عن الشعبي أنه قال هو بينهما على حصص الشهود.

1440- قال أبو داود: حدثنا محمد بن منهال حدثنا يزيد بن زريع حدثنا ابن أبي عروبة عن قتادة عن خِلاس عن أبى رافع، عن أبي هريرة أن رجلين اختصما في متاع إلى النبي ليس لواحد منهمإ بينة، فقال النبي استهما على اليمين ما كان أحبا ذلك أو كرها.

قال الشيخ: معنى الاستهام هنا الاقتراع يريدا أنهما يقترعان فأيهما خرجت له القرعة حلف وأخذ ما ادعاه، وروي ما يشبه هذا عن علي رضي الله عنه قال حنش بن المعتمر أتي علي ببغل وجد في السوق يُباع، فقال رجل هذا بغلي لم ابع ولم أهب ونزع على قال بخمسة يشهدون، قال وجاء آخر يدعيه يزعم أنه بغله وجاء بشاهدين، فقال علي رضي الله عنه إن فيه قضاءً وصلحا وسوف أبين لكم ذلك كله، أما صلحه أن يباع البغل فيقسم ثمنه على سبعة أسهم لهذا خمسة ولهذا اثنان، وإن لم يصطلحوا إلا القضاء فإنه يحلف أحد الخصمين أنه بغله ما باعه ولا وهبه فإن تشاححتما أيكم يحلف أقرعنا بينكما على الحلف فأيكما قرع حلف قال فقضى بهذا وأنا شاهد.

17/26م ومن باب الرجل يحلف على علمه فيما غاب عنه

1441- قال أبو داود: حدثنا هناد بن السري حدثنا أبو الأحوص عن سماك عن علقمة بن وائل بن حجر الحضرمي عن أبيه قال جاء رجل من حضرموت ورجل من كندة إلى رسول الله فقال الحضرمي يا رسول الله إن هذا غلبني على أرض كانت لأبي، فقال الكندي هي أرضي في يدي أزرعها ليس له فيها حق فقال النبي للحضرمي ألك بينة قال لا، قال فلك يمينه، قال يا رسول الله أنه فاجر ليس يبالي ما حلف ليس يتورع من شيء، فقال ليس لك منه إلا ذلك.

قال الشيخ: فيه من الفقه أن المدعى عليه يبرأ باليمين من دعوى صاحبه، وفيه أن يمين الفاجر كيمين البر في الحكم.

وفيه دليل على سقوط التباعة فيما يجري بين الخصمين من التشاجر والتنازع إذا ادعى على الآخر الظلم والاستحلال ما لم يعلم خلافه.

18/29م ومن باب الحبس في الدين وغيره

1442- قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن محمد النفيلى حدثنا عبد الله بن المبارك عن وَبْر بن أبي دُليلة عن محمد بن ميمون عن عمرو بن الشريد عن أبيه عن رسول الله قال ليُّ الواجد يُحِل عرضه وعقوبته. قال ابن المبارك يحل عرضه أي يغلظ له، وعقوبته يحبس له.

قال الشيخ: في الحديث دليل على أن المعسر لا حبس عليه لأنه إنما أباح حبسه إذا كان واجدا والمعدم غير واجد فلا حبس عليه.

وقد اختلف الناس في هذا فكان شريح يرى حبس الملي والمعدم، وإلى هذا ذهب أصحاب الرأي.

وقال مالك لا حبس على معسر إنما حظه الإنظار. ومذهب الشافعي ان من كان ظاهر حاله العسر فلا يحبس، ومن كان ظاهر حاله اليسار حبس إذا امتنع من أداء الحق. ومن أصحابه من يدعي فيه زيادة شرط وقد بينه.

1443- قال أبو داود: حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي أخبرنا عبد الرزاق عن معمر عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أن النبي حبس رجلا في تهمة.

قال الشيخ: فيه دليل على أن الحبس على ضربين حبس عقوبة وحبس استظهار. فالعقوبة لا تكون إلا في واجب. وأما ما كان في تهمة فإنما يستظهر بذلك ليستكشف به عما وراءه. وقد روي أنه حبس رجلا في تهمة ساعة من نهار ثم خلى سبيله.

9 1/31م ومن باب القضاء

1444- قال أبو داود: حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا المثنى بن سعيد عن قتادة عن بشير بن كعب العدوي، عن أبي هريرة عن النبي قال إذا تدارأتم في طريق فاجعلوه سبعة أذرع.

قال الشيخ: هذا في الطرق الشارعة والسلُك النافذة التي كثر فيها المارة أمر بتوسعتها لئلا تضيق عن الحمولة دون الأزقة الروابع التي لا تنفذ ودون الطرق التي يدخل منها القوم إلى بيوتهم إذا اقتسم الشركاء بينهم ربعا وأحرزوا حصصهم وتركوا بينهم طريقا يدخلون منه إليها.

ويشبه أن يكون هذا على معنى الارفاق والاستصلاح دون الحصر والتحديد.

1445- قال أبو داود: حدثنا مسدد وابن أبي خلف قالا: حدثنا سفيان عن الزهري قال: قال رسول الله إذا استأذن أحدكم أخاه أن يغرز خشبة في جداره فلا يمنعه. فنكَسوا فقال مالي أراكم قد أعرضتم لألقينها بين أكتافكم.

قال الشيخ: عامة العلماء يذهبون في تأويله إلى أنه ليس بإيجاب يحمل عليه الناس من جهة الحكم، وإنما هو من باب المعروف وحسن الجوار، إلا أحمد بن حنبل فإنه رآه على الوجوب وقال على الحكام أن يقضوا به على الجار ويمضوه عليه إن امتنع منه.

1446- قال أبو داود: حدثنا سليمان بن داود العتَكي حدثنا حماد حدثنا واصل مولى أبي عيينة، قال سمعت أبا جعفر محمد بن علي يحدث عن سمرة بن جندب أنه كانت له عَضدُ من نخل في حائط رجل من الأنصار قال ومع الرجل أهله قال فكان سمرة يدخل إلى نخله فيتأذى به ويشق عليه فطلب إليه يبيعه فأبى، فطلب إليه أن يناقله فأبى فأتى النبي فذكر ذلك له فطلب إليه النبي أن يبيعه فأبى فطلب إليه أن يناقله فأبى، قال فهبه له ولك كذا وكذا أمرا رغبه فيه فأبى فقال أنت مُضار فقال رسول الله للأنصاري اذهب فاقلع نخله.

قال الشيخ: رواه أبو داود عُضدا وإنما هو عضيد من نخيل يريد نخلا لم تنسق ولم تطل، قال الأصمعي إذا صار للنخلة جذعة يتناول منه المتناول فتلك النخلة العضيد وجمعه عضيدات.

وفيه من العلم أنه أمر بإزالة الضرر عنه وليس في هذا الخبر أنه قلع نخله.

ويشبه أن يكون أنه إنما قال ذلك ليردعه به عن الأضرار.

1447- قال أبو داود: حدثنا أبو الوليد الطيالسي حدثنا الليث عن الزهري عن عروة أن عبد الله بن الزبير حدثه أن رجلا خاصم الزبير في شِراج الحرة التي يسقون بها فقال الأنصاري سرح الماء فأبى عليه الزبير، فقال النبي للزبير اسق يا زبير ثم أرسل إلى جارك، قال فغضب الأنصاري فقال يا رسول الله إن كان ابن عمتك. فتلون وجه رسول الله ، ثم قال اسق ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجَدْر، فقال الزبير فوالله إني لأحسب هذه الآية نزلت في ذلك {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما} 5.

قال الشيخ: شراج الحرة مجاري الماء الذي يسيل منها واحده شَرْج، ومنه قول الشاعر يصف دلوا:

قد سقطت في قصة من شرج... ثم استقلت مثل شدق العلج

وفيه من الفقه أن أصل المياه الأودية والسيول التي لا تملك منابعها ولم تستنبط بحفر وعمل الإباحه وأن الناس شرع سواء في الارتفاق بها، وأن من سبق إلى شيء منها فأحرزه كان أحق نه من غيره.

وفيه دليل على أن أهل الشرب الأعلى مقدمون على من هو أسفل لسبقه إليه وأنه ليس للأعلى أن يحبسه عن الأسفل إذا أخذ حاجته منه. فأما إذا كان أصل منبع الماء ملك لقوم وهم فيه شركاء أو كانت أيديهم عليه معا فإن الأعلى والأسفل فيه سواء، فإن اصطلحوا على أن يكون نوبا بينهم فهو على ما تراضوا به وإن تشاحوا اقترعوا فمن خرجت له القرعة كان مبدوءا به.

وقد اختلف الناس في تأويل هذا الحديث فذهب بعضهم إلى أن القول الأول إنما كان من رسول الله على وجه المشورة للزبير وعلى سبيل المسألة في أن يطيب نفسا لجاره الأنصاري دون أن يكون ذلك منه حكما عليه، فلما خالفه الأنصاري حكم عليه بالواجب من حكم الدين.

وذهب بعضهم إلى أنه قد كفر حين ظن برسول الله المحاباة للزبير إذ كان ابن عمته وإن ذلك القول منه كان ارتدادا عن الدين، وإذا ارتد عن الإسلام زال ملكه وكان فيئا فصرفه رسول الله إلى الزبير إذ كان له أن يضع الفيء حيث أراه الله تعالى.

وفيه مسند لمن رأى جواز نسخ الشيء قبل العمل به.

22 كتاب العلم

1/1م ومن باب فضل العلم

1448- قال أبو داود: حدثنا مسدد بن مسرهد حدثنا عبد الله بن داود قال سمعت عاصم بن رجاء بن حيوة يحدث عن داود بن جميل عن كثير بن قيس قال كنت جالسا مع أبي الدرداء في مسجد دمشق فجاءه رجل فقال با أبا الدرداء إني جئتك من مدينة الرسول لحديث بلغني أنك تحدثه عن رسول الله ما جئت لحاجة، قال فإني سمعت رسول الله يقول من سلك طريقا يطلب فيه علما سلك الله به طريقا من طرق الجنة وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضىً لطالب العلم وإن العالم ليستغفر له من في السموات والأرض والحيتان في جوف الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب وأن العلماء ورثة الأنبياء ؛ وأن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما ورَّثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر.

قال الشيخ: قوله إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم يتأول على وجوه أحدها أن يكون وضعها الأجنحة بمعنى التواضع والخشوع تعظيما لحقه وتوقيرا لعلمه كقوله تعالى {واخفض لهما جناح الذل من الرحمة} 6 وقيل وضع الجناح معناه الكف عن الطيران للنزول عنده كقوله ما من قوم يذكرون الله إلا حفت بهم الملائكة وغشيتهم الرحمة. وقيل معناه بسط الجناح وفرشها لطالب العلم لتحمله عليها فتبلغه حيث يؤمه ويقصده من البقاع في طلبه ومعناه المعونه وتيسير الننبعي له في طلب العلم والله أعلم.

وقيل في قوله وتستغفر له الحيتان في جوف الماء إن الله قد قيض للحيتان وغيرها من أنواع الحيوان بالعلم على ألسنة العلماء أنواعا من المنافع والمصالح والارفاق فهم الذين بينوا الحكم فيها فيما يحل ويحرم منها وارشدوا إلى المصلحة في بابها وأوصوا بالإحسان إليها ونفي الضرر عنها فألهمها الله الاستغفار للعلماء مجازاة على حسن صنيعهم بها وشفقتهم عليها.

2/3م ومن باب كتابة العلم

1449- قال أبو داود: حدثنا مسدد وأبو بكر بن أبي شيبة قالا: حدثنا يحيى عن عبيد الله بن الأخنس عن الوليد بن عبد الله بن أبي مغيث عن يوسف بن ماهك عن عبد الله بن عمرو قال كنت اكتب كل شيء أسمعه من رسول الله أريد حفظه فنهتني قريش وقالوا تكتب كل شيء تسمعه ورسول الله بشر يتكلم في الغضب والرضا فأمسكت عن الكتاب فذكرت ذلك إلى رسول الله فأومأ بأصبعه إلى فيه فقال اكتب فو الذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق.

1450- قال أبو داود: حدثنا نصر بن علي أخبرنا أبو أحمد حدثنا كثير بن زيد عن المطلب بن عبد الله بن حنطب قال دخل زيد بن ثابت على معاوية فسأله عن حديث فأمر إنسانا فيكتبه، فقال له زيد إن رسول الله أمرنا أن لا نكتب شيئا من حديثه فمحاه.

قال الشيخ: يشبه أن يكون النهي متقدما وآخر الأمرين الإباحة، وقد قيل أنه إنما نهى أن يكتب الحديث مع القرآن في صحيفة واحدة لئلا يختلط به ويشتبه على القارىء فأما أن يكون نفس الكتاب محظورا وتقييد العلم بالخط منهيا عنه فلا. وقد أمر رسول الله أمته بالتبليغ وقال ليبلغ الشاهد الغائب فإذا لم يقيدوا ما يسمعونه منه تعذر التبليغ ولم يؤمن ذهاب العلم وأن يسقط أكثر الحديث فلا يبلغ آخر القرون من الأمة، وللنسبان من طبع أكثر البشر والحفظ غير مأمون عليه الغلط، وقد قال لرجل شكى إليه سوء الحفظ استعن بيمينك، وقال اكتبوها لأبى شاه خطبة خطبها فاستكتبها وقد كتب رسول الله كتبا في الصدقات والمعاقل والديات أو كتبت عنه فعمل بها الأمة وتناقلتها الرواة ولم ينكرها أحد من علماء السلف والخلف فدل ذلك على جواز كتابة الحديث والعلم والله أعلم.

3/9م ومن باب كراهية منع العلم

1451- قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد أخبرنا علي بن الحكم عن عطاء، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة.

قال الشيخ: الممسك عن الكلام مُمَثَّل بمن ألجم نفسه كما يقال التقى ملجم وكقول الناس كلم فلان فلانا فاحتج عليه بحجة ألجمته أي أسكتته. والمعنى أن الملجم لسانه عن قول الحق والاخبار عن العلم والاظهار له يعاقب في الآخرة بلجام من نار.

وخرج هذا على معنى مشاكلة العقوبة الذنب كقوله تعالى {الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس} 7.

قال وهذا في العلم الذي يلزمه تعليمه إياه ويتعين عليه فرضه كمن رأى كافرا يريد الإسلام يقول علموني ما الإسلام وما الدين. وكمن يرى رجلا حديث العهد بالإسلام لا يحسن الصلاة وقد حضر وقتها يقول علموني كيف أصلي. وكمن جاء مستفتيا في حلال أو حرام يقول افتوني وارشدوني فإنه يلزم في مثل هذه الأمور أن لا يمنعوا الجواب عما سألوا عنه من العلم، فمن فعل ذلك آثما مستحقا للوعيد والعقوبة وليس كذلك الأمر في نوافل العلم التي لا ضرورة بالناس إلى معرفتها.

وسئل الفضيل بن عياض عن قوله طلب العلم فريضة على كل مسلم، فقال كل عمل كان عليلت فرضا فطلب علمه عليك فرض،، وما لم يكن العمل به عليك فرضا فليس طلب علمه عليك بواجب.


هامش

  1. [الأنفال: 27]
  2. [المائدة: 106]
  3. [المائدة: 106]
  4. [المائدة: 06 1]
  5. [النساء: 65]
  6. [الإسراء: 24]
  7. [البقرة: 275]


معالم السنن - الجزء الرابع للإمام الخطابي
معالم السنن/الجزء الرابع/1 | معالم السنن/الجزء الرابع/2 | معالم السنن/الجزء الرابع/3 | معالم السنن/الجزء الرابع/4 | معالم السنن/الجزء الرابع/5 | معالم السنن/الجزء الرابع/6 | معالم السنن/الجزء الرابع/7 | معالم السنن/الجزء الرابع/8 | معالم السنن/الجزء الرابع/9 | معالم السنن/الجزء الرابع/10 | معالم السنن/الجزء الرابع/11 | معالم السنن/الجزء الرابع/12 | معالم السنن/الجزء الرابع/13 | معالم السنن/الجزء الرابع/14 | معالم السنن/الجزء الرابع/15 | معالم السنن/الجزء الرابع/16 | معالم السنن/الجزء الرابع/17